رواية "الهروب" والفنّ الرّوائيّ المتقن

clip_image002_cb24f.jpg

"سعادة الدّنيا تكمن في الجنون. بالجنون وحده تتجاوز الفكر البشريّ المحدود وقوانينه العقيمة، وتحلّق إلى ما هو أبعد بكثير مما وصل إليه معظم العقلاء." ص 345

عند قراءتك رواية الهروب لسليم دبور، والصادرة هذا العام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، تتأرجح على حبل الجنون وتهتزّ عليه بعنف؛ لتعيش مع شخصيّات اختارت الجنون، لتهرب بعيدا من واقع أقلّ ما يمكن وصفه أنّه مجنون. فالرّواية تصف بدقّة، عن طريق شخصيّاتها المجنونة وأحداثها الأكثر جنونا، فترة مهمّة من تاريخ الشّعب الفلسطينيّ بعد اتّفاق أوسلو، وتبيّن تعلّق البعض بخيوط السّلام الواهية، وانطلاء خدع الاحتلال وعملائه على الكثيرين، بينما وجد العقلاء أنفسهم تائهين في خضمّ هذا الوضع الآسن، لم يستطيعوا تقبّله؛ فهربوا منه ولم يجدوا ملجأ غير الجنون. ثم ينتقل الكاتب إلى فترة انتفاضة الأقصى حيث تبدّد وهم السّلام، وغاب القناع الذي غطّى وجه العدوّ ليعود لممارسة قمعه، والذي لم يتخلَّ عنه أبدا، بجلاء.

تبدأ الرّواية بصابر الذي قضى ست سنوات داخل مصحّة عقليّة، وقرّر الهروب منها إلى عالم العقلاء؛  ليجد نفسه يعيش في مصحّة عقلية أكبر منها، ويتمنّى في لحظة من اللحظات أن يعود إلى تلك المصحّة بعيدا عن المآسي التي رآها خارجها. صابر يشعر بارتباط كبير بتراب هذا الأرض؛ فنراه كلّ حين يتمرّغ فيه بعنف ويعفّر نفسه به، وينظر النّاس إليه كمجنون غير مدركين مكمن عشقه، وأنّ المجنون فعلا هو ذاك الذي يتبرّأ من هذا التّراب ويتحوّل إلى أداة للاحتلال.

يتنقّل صابر في ربوع الضفّة الغربيّة وفي مدينة رام الله، التي بدأ التّوسع العمرانيّ يغزوها مع قدوم السلطة الفلسطينيّة؛ ليكتشف بنفسه زيف السّلام مع الاحتلال، وحقيقة أولئك الذين انتشوا تحت ظلّه وأصبحوا سوطا في يد الأعداء مسلّطا على شعبهم، ونقلوا كلّ أنواع الفساد التي خبروها في الدّول العربيّة إلى الأرض الفلسطينيّة، ليجتمع الاحتلال والفساد وكأنّ الاحتلال وحده لم يكن كافيا!

ويبقى صابر، مع ذلك، يؤمن بالسّلام! ويأمل أنّ العدل سيتحقّق يوما ما، ويحسن الظنّ فيمن أوصل الشّعب الفلسطينيّ إلى هذه الحال، مع أنّ كلّ خطوة خطاها كانت تشير خلاف ذلك. فقد خسر قدمه في انفجار لغم، ثم طرق جميع أبواب السّلطة فلم يجد الوظيفة التي تقيته وتسد رمقه رغم مؤهلاته الجامعيّة، بينما تعجّ مكاتبها بكثير من الذين يسمّون مدراء دون أن يقوموا بأيّ عمل. ينتقد الكاتب أداء السّلطة الفلسطينيّة بشدّة تنمّ عن عمق الألم وخيبة الأمل، وبشكل تهكّمي ساخر فيقول: "أبو البرابير أصبح مديرا عاما." ويقول في في موضع آخر "أبو القرون (في إشارة إلى العملاء) أصبح نقيبا."

ويلجأ صابر إلى الحمير في كلّ مرحلة من مراحل الرّواية، فيفرّ من المصحّة العقليّة في شاحنة تحمل الحمير، ويجد حمارا دائما في كلّ تنقلاته، يستطيع سرقته بسهولة واستخدامه لأغراضة، ولا تختفي ظاهرة الحمير حتّى نهاية الرّواية. فماذا أراد الكاتب بهذا؟ فهل يرمز الحمار إلى الصّبر؟ أم يرمز الحمار إلى غباء أولئك الذين تشبّثوا بأهداب السّلام مع العدوّ، فأصبحوا وسيلة تسرق وتمتطى ثمّ تترك.

يصف الكاتب من خلال أحداث الرّواية الحياة أثناء انتفاضة الأقصى وصفا دقيقا شاملا، ويوظف الكثير من أحداث الرواية لذلك؛ فزفاف أيّوب مثلا وإحضار العروس من نابلس، وضّح المعاناة الشّديدة على حواجز الاحتلال الكثيرة في تلك الفترة، ومنع التّجوال الذي كان يفرض على مخيم الجلزون ومدينة رام الله وإغلاق المدرسة وغيرها من الأحداث كانت شاهدا صادقا على تلك الفترة، التي عانى فيها الفلسطينيّون معاناة لا يدركها إلا الذي اكتوى بنارها وعاصرها.

ويظهر الكاتب نظرة الفلسطينيّين إلى الأنظمة العربيّة وتخاذلها ودورها السّلبيّ في القضيّة الفلسطينيّة، من خلال الحوار الذي يدور بين صابر الذي يتشبّث ببعض الأمل فيها، وأيّوب الذي يفهم دورها جيّدا في صناعة ورعاية دولة الاحتلال. وكذلك أظهر دور الدّول الغربيّة وخاصّة الولايات المتحدة وسياساتها الظّالمة التي تدين الضّحية وتكافئ الجلّاد.

ويصف الكاتب أيضا حال سجون الاحتلال والتّعذيب الوحشيّ الذي يتعرّض له الأسرى الفلسطينيّون فيها. ويعرّج الكاتب على دور عملاء الاحتلال الهدّام، ودورهم في تصفية المقاومين والتّحقيق معهم في السّجون.

ويرسم الكاتب صورة حقيقيّة واقعيّة لحياة النّاس الاجتماعيّة في المخيّم والقرية والمدينة، ويبيّن التّفاعلات والعلاقات المتشابكة والمترابطة بين أبناء المجتمع الفلسطينيّ، خاصّة في ظلّ الحصار.

بنى الكاتب حبكته الرّوائية بإحكام، مستغلّا الصّداقة التي نشأت بين صابر وأيّوب، اللذين اختار اسميهما بعناية؛ فكلاهما يشير إلى الصّبر الذي لا مناص منه لمن يعيش على هذه الأرض. صابر وأيّوب مختلفان يتبنّيان وجهتي نظر مختلفة، فصابر يؤمن بالسّلام رغم إدراكه لخداع الاحتلال، ويرى بصيص أمل وخير في بعض رجال السّلطة الفلسطينيّة ويسعى ليطرق أبوابهم، بينما أيّوب يدرك حقيقة الاحتلال، ولا يثق بتاتا بما أنتجته خدعة السّلام معه. تحدث مشادّات بينهما، لكنّ الصداقة تطغى، ويشقّ الرّجلان طريقهما معا، يواجهان المصاعب ويتغلّبان على التّحدّيات، لا يفرّقهما اختلافهما في بعض الآراء، ويتّحد مصيرهما عندما يخسر أيّوب قدمه أيضا برصاصة متفجّرة، ويسير بقدم اصطناعيّة تماما مثل صابر، ثمّ يتخلّى أخيرا عن حياته في القرية؛ ليعيش في مخيّم للاجئين إلى جانب صديقه. هذه الصّداقة الفذّة، إشارة لطيفة من الكاتب لوحدة هذا الشّعب الذي يواجه جميع أبنائه نفس المحتلّ ويكتوون بسياطه، ولا يفرّق بينهم بسبب مكان سكنهم أو انتمائهم السّياسيّ، فهي دعوة للوحدة ونبذ الخلاف.

يعمد الكاتب، في روايته، إلى الجمل القصيرة المكثّفة واللغة الواضحة السّلسة، في سرد مباشر وحوار مقتضب بين الشّخصيات، وإلى الحوار الداخليّ. ويبني الرّواية كحكاية يرويها صابر لوالده الميّت، الذي يتخيّله شاخصا أمامه، ويبتدع هذا الأسلوب الجميل في التّحدث إلى رجل ميّت في رمز إلى هذه الأمّة العربيّة التي نحدّثها ونشكو لها حالنا، لكنّها لا تتحرّك، فهي ليست أكثر حياة من أبيه الميّت، الذي يحبّه ويشكو إليه همومه، لكنّه لا يستطيع أن يعينه في شيء.

وقد أبدع الكاتب عندما خلق شخصيّة جرعوش، الذي كان يتظاهر بالجنون، والذي كان الخيط الذي يربط أحداث الرّواية وشخصيّاتها، ويظهر دائما في الوقت المناسب ليجعل الأحداث أكثر منطقيّة.

هذه الرّواية جميلة مشوٌّقة يجد القارئ متعة بقراءتها، ولا ينتقل من صفحة إلى أخرى قبل أن يستفيد معلومة جديدة، ويعيش وجدانيا مع الأحداث، ولكن هناك بعض الأحداث غير المنطقيّة التي لم تخدم هذا العمل الأدبيّ الرّائع، منها: عودة الطّفل صابر إلى أبيه، وتقبّله العيش في المخيّم واندماجه في الحياة ضمن عائلة يحكمها الجنون برفقة جرعوش، الطّريقة التي تزوج فيها صابر حنان، والدة حنان المتديّنة الرّزينة تتحوّل فجأة إلى شخصية هزليّة، تريد أن تشاهد مسرحيّة كوميديّة خلال الحصار وأثناء انقطاع الكهرباء، إيداع مبلغ عشرة آلاف دولار في حساب أيّوب مع أنّ صديقه أغلق شركته، وهرب من الضّرائب الباهظة التي فرضتها السلطة الفلسطينيّة، عودة نضال وحصول صابر على مبالغ خياليّة، وتحويل هذه المبالغ إلى فلسطين وسحب مبلغ مليون دولار من أحد فروع البنك! ثمّ ابتياع المؤونة والغذاء بهذا المبلغ الضّخم وتوزيعه على أهالي المخيّم في غفلة من الاحتلال الذي كان يحاصره، وتحوّل صابر الذي عانى من الفقر إلى محسن كبير، وتخلّيه عن هذه الأموال بيسر منافٍ لطبيعة النّفس البشريّة.

ظهور المرأة في الرّواية ضعيف، لم يعط الأمّ والزّوجة الفلسطينيّة حقها، ولم يظهر معاناتها وبطولتها خلال الانتفاضة والحصار، حبّذا لو اهتمّ الكاتب بهذا الجانب بشكل أكبر. وأعتقد أنّ نهاية الرّواية لم تكن كبدايتها، فقد كانت نهايتها مسرحيّة تذكّرنا ببعض الأفلام التي تتسارع الأحداث في آخرها؛ لتنتهي نهاية يتوقّعها مشاهد ملّ من طول الفيلم. لكنّ هذا لا يضع من قيمة الرواية وغناها بالتّشويق والمتعة والمعلومة، فهي رواية رائعة بحقّ لا غنًى عن قراءتها.

وسوم: العدد 652