مقدمة ديوان الله أكبر للشيخ إبراهيم عزت

د. عبد السلام البسيوني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على حبيبي سيد الأولين والآخرين، وآله وصحبه

(1)

قبل أكثر من أربعين سنة كانت الساحة الدعوية المصرية تمور بالجماعات والتيارات التي حملت أفكاراً متلاطمة، وأحدثت نوعاً من الحراك الديني الفكري والاجتماعي والسياسي – سلباً وإيجاباً – لا نزال نجد آثاره، ليس في مصر وحده، بل في العالم كله. ولم يكن بد من أن تعثر في طريقك – مهما أردت استقلالاً – بشباب من السلفيين أو الإخوان أو التبليغيين أو الجمعية الشرعية أو أنصار السنة، أو الهجرة، أو غيرهم، يكلمك، أو يفيدك، أو يستنصحك، أو يستفزك، أو حتى يكفرك.

كما حفلت الساحة أيامها بأسماء علماء كبار مؤثرين من أمثال أساتذتنا الأجلة: ابن باز، والشنقيطي، والألباني، والقرضاوي، والغزالي، والشعراوي، وكشك، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد قطب، ومحمد بن إسماعيل، ومشتهري، وصفوت نور الدين, وغيرهم من الأعلام.

ومما تناهى لمسمعي آنذاك اسم رجل، كان يتكلم عنه من يتكلم بكثير من التوقير والإعزاز، هو الشيخ إبراهيم عزت عليه وعليهم رحمات الله ورضوانه، ويا طالما لهج الشباب بلطف منهجه، وحلاوة منطقه، وتفرد خطبه، ورفقه، وافتتان بعضهم به، واجتماعهم عليه في جامع أنس ابن مالك، رضي الله تعالى عنه.

وعلى اختلاف آراء الشباب وأنظارهم في بعض الأساتذة، لم أسمع من أحد منهم فيه قدحاً، ولا انتقاصاً، كعادة الشباب المتحمس كل زمان ومكان.

ولأنني كنت قد اختططت لنفسي منهج ألا أتعصب للافتةٍ، ولا جماعةٍ، ولا لشيخ، لكثرة ما رأيت الشباب يتعالمون، ويسيؤون، ويأكلون من لحوم العلماء وأعراضهم، لم تنهزني همتي لألقى الشيخ رحمه الله تعالى، أو لأتعرف إليه، ولم يدر بخلدي قط أنه سكنني، وتربع في قلبي، ورزقني الله حبه، من حيث لا أدري ولا يدري!

كنت آنذاك قد أحببت منشداً من الشام، دارت حوله أقاويل كثيرة، وكنت ولا أزال أعده واحداً ممن صنعوا – على غير توقع منه – نوعاً من الانبعاث واليقظة، والدافعية العجيبة في نفوس الشباب آنئذٍ، إذ جعلهم – بأناشيده – يتمثلون الكثير من المعاني الروحية والإسلامية العالية كالعزة والبذل وحب الله تعالى، خصوصاً وأنه كان ينتقي أناشيده من كتابات كبار شعراء ومفكري الأمة، أمثال عمر الأميري، وهاشم الرفاعي، ويوسف العظم، ومحمد منلا غزيل، وجمال فوزي، وعبد الحكيم عابدين، وسيد قطب، والرافعي، وإقبال، والقرضاوي، وحمام، والباقوري، وغيرهم.

ولفت نظري حينها أن بعض القصائد التي أنشدها، كانت فريدة في صياغتها، وفي لغتها، لأنها – على غير المألوف في النشيد الإسلامي – من شعر التفعيلة، وكانت قصصية الطابع، طويلة النفس، مشحونة بالعاطفة والشجن، لهذا كانت أشد جذباً لطبيعتي، التي تطرب للصورة والكلمة، من غيرها من القصائد.

ويشتعل الرأس شيباً، وتشغلنا الأيام، ويمر أكثر من ثلاثين عاماً، وألتفت حولي لأرى أنني وجيلي من أبناء الصحوة لا نزال منبهرين بصوت أبي مازن، الذي جسّد ظاهرةً فذة في زمنه وبعد زمنه، رغم خروج عشرات المنشدين بعده، ورغم اهتمامي بالإنشاد، وكتابتي لعدد كبير من القصائد التي أنشدت وأذيعت، وانتشرت عبر الكاسيتات، في منطقة الخليج، دون أن يهزني منهم أحد، أو يؤثر فيّ كما أثر!

ودائماً لأقدار الله تعالى تصاريف، وكان من أقداره تعالى السارة، أن زارنا في تلفزيون قطر الأخ الجميل البحاثة المتوقد المشاكس الدكتور أكرم رضا، وهمس في أذني بأمرين، أدخلا على نفسي بهجة عظيمة، أولهما أن أبا مازن موجود وبخير، وأنه قابله، وحاوره، وأثار ثانيةً موهبته، حتى إننا نستطيع الاتصال به، ونستمع له، من خلال (تنوير) برنامجنا التلفزيوني، الذي كان يعرض آنذاك في تلفزيون قطر.

وثاني الأمرين أنه مهتم بديوان الشيخ إبراهيم عزت رحمه الله، الذي أنشد بعضه أبو مازن، يريد أن يخرجه للنور، ويعيد طبعه في ثوب جديد.

وسألته في تعجب: وهل كان الشيخ إبراهيم عزت شاعراً؟ معقول؟!

وألقى د. أكرم – الله يسامحه – في وجهي ما جعلني أقفز: شاعر؟ انت ما تعرفش؟ دا انت نايم بأه! إنه الذي كتب: مصعب بن عمير/ وبعد/ اليوم عيد/ حبيبتي بلادي/ يا رسول الله/ جئنا/ ببابك لن أغادره، الله أكبر، وغيرها من الروائع!

ولا أخفي سراً إذا قلت إنني عندها قد ثارت في نفسي غيرة من الدكتور أكرم، وأبيت إلا أن أنازعه هذا الخير، وأشاركه شيئاً من أداء الواجب، وخدمة هذا الرجل المبارك، فهددته: (فيها لا أخفيها) فإما أن تعطيني فرصة خدمة الديوان، وضبطه، وتصحيحه، أو أشكوك للجامعة العربية وكوفي أنان، وحظابط كوندوليسا – وطبعاً النظام العالمي الجديد بيتلكك – فلما رأى جدية تهديداتي، وهو يعلم من هي مدام كوكي، ومن هو أنكل كوفي، خاف المسكين على نفسه من تورا بورا، وأبو غريب، واللي ما يتسماش الثالث، وقال: حلال عليك، وربنا يهنيكم ببعض!

وكانت فرصتي الماتعة، لأتعامل مع الشيخ الداعية المربي الشاعر الرباني المحلق الثابت الشفيف الرقيق المدهش الرائد السباق المتميز العاشق الفنان، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحداً.

(2)

اسمح لي قارئي المبارك أن أزعم أن هذا الشيخ عليه رحمات الله قد غذي الصحوة من جهات عدة: من الناحية الفنية العاطفية، ومن الناحية الشعرية الأدبية، ومن الناحية التربوية السلوكية، ومن الناحية المنجية الدعوية، وهذا ما لم يحظ به – مجتمعاً – كثير من الدعاة المعروفين!

واسمح لي قارئي المبارك أن أزعم أن هذا الشيخ عليه رحمات الله قد ترك فراغاً في العقل الوسطي المتوازن للصحوة، لم يملأه غيره، وأن مصر كانت في حاجة شديدة له ولأمثاله، لتخرج من دوامات الدم والعنف والقهر والطوارئ والمطاردات والمعتقلات، فقد كان الشيخ رحمه الله تعالى يعتمد الرفق منهجاً، والدفع بالتي هي أحسن أسلوب دعوة، ولعل هذا هو الدواء الأنجع، لمثل هذا الجنون الذي أضر بمصر وأهلها أيما إضرار.

واسمح لي قارئي المبارك أيضاً أن أزعم أنه ترك فراغاً في بنيان الشعر، يحتاجه صوت وتكنيكاً، ولا تزال قصائد كثير من مشاهيرهم تمر على السمع، فيزلقها لا يعيرها التفاتاً، لأنها مرت على الأذن ألف مرة من قبل، ألفاظاً وصوراً وبلاغة.

أما هذا الشاعر – ومن ستينيات القرن العشرين – فقد اختار لنفسه أسلوباً شعرياً، يعتمد الكلمة الراقية والقريبة، التي لا تحوجك لمعجم، والطرح القصصي الذي يشدك من المبتدأ للمنتهى، والصورة الفنية الجديدة على الذهنية الإسلامية، فهو الذي اخترع تعبيرات أنيقة، بليغة في فنيتها ومحتواها الشعوري، مثل:

* ونحن نرتدي الرضا.. ونصنع ابتسامنا من ذكره..

* حين تعصرُ اليدانِ صرخةً على القيود..

* النظرةُ المعقوفةُ الشعاع تقتل الأمانَ في العيون..

* شريكة الأسى بدا جناحُها الكسير..

* سترتدي الصقيعَ كي تقدمَ الحياةَ للرضيع..

* في الليلة التي بكى بها الحصى من شهقة الدماء..

* تَعذَّب الذبولُ في ملامح الزهور..

* الهولُ يا لقسوتِه: محافلٌ تضم ألف سوطْ.. والموت قادمٌ يدوس فوق موت..

* واهتز قلبي الذي قد هدهُ العذاب.. أحسستُ رعشةً بجسمي الذي يخاف غضبة الكلاب.. وجاء ضعفي الكريهُ جاء/ عرفته في كل لحظةٍ من الضنى قد عشتها/ أتى يقدم الرجاء! ونحو ذلك من التعبيرات.

ولا شك أن طرح مثل هذه المعاني سنة  67،66،65 لم يكن أمراً مألوفاً في قاموس الشعراء الإسلاميين، لذا كان هذا الرجل – في زعمي – رائداً سباقاً.

ولولا انشغاله الكثيف بالدعوة، ومُضي قدر الله تعالى فيه شاباً، لكان له والشعر شأن آخر، ولاستطاع أن يصنع مدرسة أدبية إسلامية المنهج، تنافس وتتفوق في فنياتها وتطورها، بل وتلغي كثيراً من المدارس التائهة، والشعراء (المنافيخ) الذين كانوا يظنون أن الإبداع لا يمكن أن يقارنه التزام ولا تدين، وأنه دائماً (حاوِدْ شمال)!

لذا فإنني أتمنى عليك قارئي المبارك – لتدرك كم كان إبراهيم عزت إضافة حقيقية للدعوة والشعر والأدب – أن تضعه في إطاره الدعوي – وشعره هذا كله في الستينيات، حين كان كثير من الإسلاميين الوعاة أسارى زنازين باردة ومظلمة وكئيبة – لترى كم كان شجاعاً في جهره بالحق، قوياً في يقينه، وفي آماله، وكم كان يبث في قلوب السائرين الثقة بالله تعالى، والثقة بالانتصار، والثقة بالمستقبل.

ضعه في مرحلته التاريخية، التي خرست فيها الألسنة، واكتظت بأهل الدين السجون، وعن التعبير الحر، وقصفت الأقلام، وحوصرت العقول، ولم يكن يسمح إلا بالتسبيح بحمد اتجاه واحد لا ثاني له، وتعظيم رجل أوحد، لا شريك له، وحيث هتف بعضهم معزوفات من الردح والتجريس الاشتراكي من نوع: (هانْزَمّرْلك كِدَهُه، ونطبلّك كِدَهُه، ونقول لك: يا عديم الاشتراكية)! ثم تأمل كم كان قلب الشاب إبراهيم عزت حديداً، وكم كان جنانه ثابتاً، وكم كان حراً، لا يقبل الضيم، عزيزاً بالذلة، مستعصماً بالله تعالى، مستعلياً بإيمانه، في مواجهة هيافة الاشتراكية، اللي بتزمر كِدّهه!

ضعه قارئي الكريم في مرحلته الشعرية، حين كان أكثر الإسلاميين يتهيبون التطوير، وينفرون من شعر التفعيلة، ويرونه مروقاً على الشعر، وخروجاً على اللغة والأدب، وأنك لكي تكون شاعراً ينبغي أن تكتب عن القليب والرشا، والليل الذي ينوء بكلكله، وعن القوام السمهري، والدعص والكثيب، وعيون المها/ البقر (ومش عارف ازاي تكون عيون البنات زي عيون البقر، وتنحب!) ثم يأتي هذا الشاب الإسلامي التوجه، ليتبنى أسلوباً في التعبير الشعري، كاد يتفرد به آنذاك شعراء اليسار، صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ومطر، والشرقاوي، والخميسي، وحجازي، وغيرهم..

ألم يكن – إسلامياً – رائداً واعداً، ومجدداً متفرداً؟!

(3)

تشكلت رؤية إبراهيم عزت الشعرية من خلال منابع كثيرة كان أهمها في رأيي أمرين:

أولها: تنقُّله بين عدة تيارات ومدارس دعوية، ما أكسبه نوعاً من السماحة، واللين، والبعد عن العصبية، والرغبة في تأليف القلوب، فقد نهل الشيخ أول ما نهل من بيته الصعيدي المحافظ، الذي أورثه نفحة من التصوف، ثم تنقله بين الشبان المسلمين والإخوان والتبليغ، ومن عمله مذيعاً ومعداً للبرامج الدينية والأدبية في الإذاعة المصرية – وهذا يحتاج إلى قراءة وثقافة – ما حباه رؤية متسامحة، وأفقاً متسعاً، ولساناً مقنعاً، وانتباهاً لكثير من المزالق والمطبات التي يسقط فيها من لم يجمع مثل هذه الخبرة.

وأنا مؤمن إيماناً جازماً أن من نوع مصادر تلقّيه، وفتح للحق عينيه، وبحث عن الصواب بإخلاص نية، دون تشنج، ولا تطاول، لا بد أن يستع أفقه، ويتسامح منهجه، وأعتقد أنه ما صار أمير المؤمنين البخاري عظيماً إلا لأنه درس على ألف وثمانين شيخاً، كما ورد في تراجمه.

ثانيهما: تعرضه لتعذيب شرس، طالما تحدث عنه في أثناء ديوانه، متنقلاً بين حالات نفسية، تجعلك تنحني له إكباراً، فلم يكن استعراضياً عنتري النزعة، يصنع أساطير حول نفسه أيام السجن والتعذيب، بل لم يستنكف أن يتقلب بنا في أحوال المعذب، من ضعف وقوة، ومن خور واستعلاء، لم يرَ بذلك بأساً، ولم يعده منقصة، وهذا ما يُكسب شعره صدقاً وواقعية مغلفة بصوره القوية:

انظر إليه، ونفسه تؤامره على نفسه ليتنازل ويلين، وضعفه البشري يبتزه ويضغط عليه ليطاوع ويخون, وآلام التعذيب تساومه على الإنحناء، وهو يقول:

واهتز قلبي الذي قد هداه العذابْ

أحسست رعشةً بجسمي الذي يخاف غضبةَ الكلاب

وجاء ضعفي الكريهُ جاء

عرفته في كل لحظة من الضنى قد عشتها

أتى يقدم الرجاء

تعلقت عيناه بالجواب

وفي الألم يتكرر المعنى تقريباً مع أحدهم: نعم أصبنا الضنى وهدَّنا الحَزَنْ

نعم بكت عيوننا

وضجت الجراحُ بالعَفَن والضرُّ مسنا

وعضنا بنابهِ الشجنْ

وفي رُغام ليلِنا الضريرِ شامخٌ فُتِن.. واستعِد معه ذكريات المسلمين الأوائل، الذين آدهم التعذيب، وأثلهم الاضطهاد الوحشي الأعمى، فجاؤوا يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنصر الله تعالى لهم، إنه يرفع شكواه لمولاه – مستعجلاً – لطول ما عانى وأوذي في الله:

سألت خالقي: لمن لمن تركتنا؟

سألت خالقي إلى متى؟

ستطعم الكلاب ما وهبتنا؟

الهول، يا لقسوته

محافلٌ تضم ألف سوط

والموت قادمٌ يدوس فوق موت!

ثم يستعلى – وهذه أغلب حالاته – على جراحاته، وعلى مصاعب الطريق، فيهتف:

عائدٌ أنا من حيثما أتيت

عائدٌ أنا لمسجدي

عائدٌ إلى الصلاةِ والركوعِ والسجود

عائدٌ إلى الطريق خلف أحمدَ الرسول

أُطلِق الخطى حثيثةً في إثرهِ

عرفت قصة الطريق كلها

وعائدٌ أنا برغهما كالفجر، كالصباح...

لذلك فإنك ستجد تنويعات نفسية ووجدانية عديدة، مبثوثة هنا وهنالك، عن التعذيب والجلادين، وعن صبره وتماسكه، وتثبيته لوالديه وأحبته – ثقة بموعود الله تعالى، ويقيناً بالظفر – ولن تخطئ عينك الثاقبة أيها القارئ الكريم هذه الملامح.

ويكاد يغلب على الديوان أيضاً – وربما كان هذه خَصِيصة تلاحظ في القصائد – الروح الدينية العالية، والحب العظيم لله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم – في غير تكلف ولا ادعاء – ويتجلى ذلك في ألفاظه وتعابيره، في عدد من القصائد، وحسبك أن تقرأ: ببابك، يوم الحبيب، يا رسول الله جئنا، دعاء، لتلحظ ذلك في غير ما عناء، وسيأتي!

(4)

من حيث التاريخ نلحظ أن أهم قصائد الشيخ رحمه الله انطلقت بين 1965، 1967م وهي سنوات مفصلية في تاريخ مصر المعاصرة، وأن أكثرها وأهمها من وجهة نظري كتب سنة 66، قبل النكسة بعام، وحين كان التعذيب وجباتٍ يومية توزع على المساجين بالحظ، أو بالهوى، أو بالقرعة! ومن حيث الموضوع نلحظ أن الشيخ رحمه الله بدأ الديوان بالأهم في وجدانه فالمهم، فوضع قصيدة الله أكبر في المقدمة، ثم قصيدة أمي، ثم أبي، ثم صغيرتي، ثم خاطبهم مجتمعين في قصيدة (زيارة) ثم بعد ذلك وضع القصائد بترتيب مختلف، استأثر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصائد حب من نوع خاص، فاقرأها لتكتشف أنه مسكون بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مفتون به إنساناً ومعلماً وقدوة ورسولاً – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – يعبر عن ذلك أحياناً في إيماءات صوفية النزعة، لكنها صوفية راشدة، بعيدة عن التكلف والإغراب، وعن الشذوذ والادعاء، فهو يأخذ من بعض المفاهيم رقتها، ومن بعض الألفاظ حميميتها، دون أن يجعلك تظن أنه (درويش، أو مجذوب) يلبس الخرقة، ويهذي في الشوارع، بل هو اليقظ دائماً، المحب دائماً، الطموح دائماً، الساعي للتغيير دائماً، حتى وإن استخدم ألفاظاً مثل: المقام والأعتاب والسوى والعشق والشوق والوجد والوصال والأنس والذوب والكأس والمريد، وحاول إن استطعت – ولن تستطيع – أن تجد هذه الألفاظ في موطن يجرح التوحيد، أو يغيِّب العقل، أو يسيء للعلم والأتباع، واقرأ معي هذه المواضع:

* يقول في قصيدة أمي:

* وفي أرجوزته: دعاء، نراه يقول:

* وفي قصيدته (كلنا مسافر) يقول:

* وفي قصيدة لحظة الوصال يقول:

بعضَ الندى أو قطرةً من المطر

تردُّ قصة الحياة

حتى يحين موعدي مع اللقاء

وعند ذاك سيدي سينتهي السؤال

نذوب سيدي في لحظة الوصال.

* وفي قصيدته (يوم الحبيب) تظهر هذه النفحة جلية، وإن خففت منها شكواه مرارةَ الواقع، وحرد الكفر، وكلب الباطل على الإسلام والمسلمين. انظر إليه يقول:

لا أعتقد أن في طرح الشيخ الرقيق المفعم بالحب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يمجه ذوق الموحد، أو يرده طبعه، بل إنه حذا حذو علماء أجلة كابن تيمية، وابن القيم، والحافظ الذهبي وغيرهم – عليهم رحمات الله تعالى – في استخدام مثل هذه الألفاظ بمقادير متوازنة، خصوصاً أننا في زمن نشكو فيه جفاء بعض الطباع، وغلظة بعض القلوب!

(5)

لقد فاجأتني قصائد الشيخ رحمه الله تعالى، واندهشت أنها له، ولفت نظري ما يتمتع به من نفس طويل، ولغة تسبق زمنه، تغلفها البساطة والوضوح، كأنها أشبه بسهل يمتنع على من لا يملك مثل ذوقه وشاعريته، يؤطر ذلك كله "رومانسية دعوية" إذا صح التعبير!

عش معي وانظر ما أروع الشاعرية، وما أبدع الصور، وما أرق الأداء، وما أحلى التعزي، وأجمل السلوان، في قصيدته زيارة:

على مشارفٍ تظل ألفَ يوم

ونحن نرتدي الرضا ونصنع ابتسامنا من ذكرهِ

ونرقُب الحياةَ من بعيدٍ

في جزيرةٍ ببحرهِ

تفتحت قلوبنا على نوافذ الخلود

تنفست زفراتُنا في واحةِ السجود

الكفُّ حينما يصيبُها الضنى تمد بالرحيق

حين تعصِر اليدان صرخةً على القيود

والعينُ حينما يشدها الشرود

تردها عينان عائدتان من حدائق الصمود

والقلب حينما يزوره الأسى

تضمه في بُردة الأمان بسمةُ الشهيد

الصبر يعرف الجميع

رافق الخطى على الطريق

والحقٌ بيننا وصية الصديق للصديق

ولم يكن التعزي وحده هو زاده بل لقد امتلك ما هو أقوى، وما هو أسدّ، لقد تحلى بالثقة الشديدة بالله، والهزءِ مما يعانيه في سجنه، وكانت فلسفته التي تهون كل شيء مما يعاني، رضاه بموعود الله تعالى:

* وفي قصيدته: فلنطلق ابتسامنا في ليلة العزاء: يقول في ثقة مستعلية:

* وفي قصيدته الألم يقول:

* ويقول في القصيدة نفسها

غدٌ لنا.. غد لنا

ونحن في مواقع الخلود ننتظر

فلتحكموا السُّفُن لأنَّ بحرنا عميقٌ

واستكثروا من زادنا الأصيل

فلم تزل بعيدةً نهايةُ الطريق

لكنّ نبعنا الرطيبَ مغدِقٌ

ولم يزل يبلل الظما ويطفئ الحريق!

ويرى أنه لا بد من تضحية، ومن عطاء لهذا الدين حتى ينهض ويستعيد مكانه ومكانته يقول في قصيدته الألم:

فلم تزل أقدارنا تقول: لا بد يا أحبتي من الألم ليسقطَ الكسيح

لينتهي تراقصُ الذبيح

ليختفي في قسوة النيران

مرهفُ الطلاء والخبث ليهتف الجميع:

الموت للعبث

ليستبد بالمراوغ القلق

ليهدأ الشهيدُ إن صدق!

* وفي قصيدته لا تذكر الحياة يقول:

لكن رعدةَ هناك خلف حمرةِ الشفق

تُنَبِّئُ الغريب عن أمل

فلنرتقب فلنرتقب!

(6)

ولقد اهتم الشيخ رحمه الله تعالى بتنويعات في قصائده، يقدم من خلالها رؤيته للواقع وللمستقبل، ولطبيعة الدعوة:

* فقد كان ذا أمل دائم في النصر، ثقة بالله تعالى، يقول في زيارة:

سنلتقي بإذنهِ في دارنا.. في كل دار

وسوف نقهر الضنى .. في جوفِ ليلٍ أو نهار

ونحن نرتدي الرضا ونصنع ابتسامنا من ذكره.. ونرقب الحياة من بعيد..

* وهو يدعو إلى اليقظة والانتباه للشعارات الخادعة، والألفاظ الحلوة التي تحمل في أثنائها الموت، وترفض النور والطهارة: انظر إليه في قصيدته: عذابنا، وهو يقول في سخرية سوداء ممرورة:

متى يموت قهرنا؟!

متى يثور سيدي بركاننا؟!

متى نلقب الأشياء بالذي يوافق الأسماء؟!

ونصنع الحقيقة المقدسة؟!

حقائقُ الحياة كلها مزيفة

الخير شرٌ مطبِقٌ فمزقوا رداءهُ

والشر في عوائه الكئيب – غادةٌ

يساق في أعقابها المديح

إياك أن تحب خضرة الزروع

ما أجمل السواد.. ما أرقَّ بومَهُ ينوح فوق دارنا!

ولتذبحوا الحمام..  ولتقتلوا الأطفال .. ولتحرقوا الأزهار كلها..

ولأنه يحب بلاده وناسه (كما يقول الصعايدة)، ولأنه يرى أن على المسلمين أن يرفضوا ما هم فيه من انكسار وهوان، فإنك تراه يستنخي ويستنهض أبناء الأمة، ويحرك عزائمهم، دون تيئيس، ولا كسر للهمم:

ومما يلاحظ في الديوان بقوة: إعلانه المتكرر استعداده للشهادة، وعدم مبالاته بها، رغم العناء والتعذيب وقساوة السجان، وبنبرة مستعلية، لتربح بيعتُه، وتُبارك تجارته:

* ففي قصيدة (زيارة) يقول:

لنطلق الخطى على الطريق.. أقولها وأعرفُ الثمن.. فلنرتدِ الكفن

فالموت في رحاب طاعته.. أحبُّ يا أحبتي من انحناءةٍ خفيفة بغير ساحته!

وفي قصيدة: فلنطلق ابتسامنا، يقول:

يا قرة العيون ساعةَ الجزاء.. سنشتري الخلود بالفناء

فلنطلق ابتسامنا في  ليلة العزاء.

وفي قصيدته (أبي) يقول:

ولتقبل العزاء بلا دموع

فالحاسدون في انتظار دمعنا.. كي يضحكوا من جُرحنا

وفي شهيرته (أسبح ربي) يقول:

بل إنه في (مرثيتي) يستشرف آفاق الشهادة، ويرى نفسه وهو في السياق، يحب أن يسمع اسم الله تعالى، وجلاده يصرف على أسنانه: كيف يموت بغير إذني؟ فيقول:

أَغمِضْ عينيَّ ولَقّنِّي اسم حبيبي.. فأنا سأموت

سأعود إليه فلا تبكِ واضحك حتى تملأ أصداءُ الفرحة كلَّ الكون

سأعود إليه.. فأنا المشتاقُ إلى لقياه

والحورُ أُراها يا صاحِ .. الحورُ تنادي سيدها

تخفي الطرفَ بطرفِ الثوب.. وأشمُّ مع العطر شذاها!

ولعل الله تعالى أكرمه بميتته التي ماتها، في رمضان (1404 – 1983) بعد الإفطار وصلاة المغرب، مسافراً معتمراً مغترباً، ناوياً الاعتكاف في الحرم الشريف، لعل في هذا إكراماً من الله تعالى له، وتوفيقاً ليلقى ربه الكريم – الذي كان يحب لقاءه – على عمل صالح، تماماً كما مات كشك، وجلال كشك، وصفوت نور الدين، والغزالي، عليهم جميعاً رحمات الله!

ولعل في هذا أجرأ شهادة يناله بتوفيق الله تعالى، ثم بنيته، وهذه الأعمال الكريمة مجتمعة، فاللهم إذا كنت حرمتنا لقاءه في الدنيا فاجمعنا به في الجنة، مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، أنا والدكتور أكرم وعلماءنا الأجلة وحضرتك أيها القارئ الكريم.

* والشيخ – بتوفيق الله إياه ثم بثقافته – يحسن توظيف التراث، وتنويع مصادره، ليصل إلى مقصوده، فهو يناجي أمه رحمها الله بلغة، ويخاطب صغيرته بأخرى، وإن جمع بين الخطابين كونهما من التراث الذي يمكن توظيفه للوصول للمقصود، انظر إليه وهو يخاطب أمه:

ثم ارجع البصر – حين يخاطب ابنته – تجد اللغة وقد اختلفت، والمضمون وقد رق، والمرجعية وقد تبدلت، تأمله في قصيدته زيارة، وهو يقول:

لا زلت تذكرينني؟!.. ولم تزل ودودةً ملامحُك؟!

أما أنا فلم تزل ببسمتي بقيةٌ أزفُّها لبسمتك

وحينما نُرَدُ يا صغيرتي لدارنا وتسألين عن هديتِك

ستسمعين يا أميرتي حكايةَ الشَّاطِرْ حسن

مضى ليقهرَ الغيلانَ في المدينة السوداء

وحينما التقى بالأعرج الحقودِ هدَّهُ بطعنةٍ من خنجره

واستخلص الحسناء

روى حقولَ قمحِنا بدمعِه .. وجاء بالدماء

ستعرفين قصة الحمامةِ البيضاء وقصة الطيور والغناء

وقصة الغرابِ والخرابِ .. والأسودِ والذئابِ والكلاب

لسوف تعرفين أن اسمك الحبيب بسمةٌ في ألف قلبْ.. يا بسمةً تُحَب.

وفي قصيدة صغيرتي يوظف القصص، في محاولة لتشكيل وعي طفلته، فيقول:

كي تفهمي صغيرتي: هل تذكرين حديقة التمساح والأسد؟

تلك التي ركبتِ فيها ذلك الجمل

يمضي بنشوتِك الحبيبة ناعماً.. وهو السعيد بما حمل

هل تذكرين صاحبَ العرين.. ذاك الي تزيد عنده الخُطى

ذاك الذي لا تَجْسُر الوحوش أن تنال ساحته

قد نِلْتِهِ صغيرتي .. قذفتِ من يديك ما أصاب هامتَهْ

العيب يا صغيرتي في قسوة الأغلال

لا عيبَ في الرجال

العيب فيمن يعشق انحناءةَ الرجال.

وبمناسبة اللغة وطواعيتها بحسب المخاطب، أزعم أنك لن تخطئ عينك – بقليل من التأمل – وجود مقدار من التناص واستلهام القرآن في مواضع عدة من الديوان:

** يقول في قصيدته الله أكبر:

** وفي أمي يقول:

** وفي قصيدته: وكان ملحداً ومات، يقول:

والنور في إصراره العجيب .. يعبر الدجى لفجرهِ

فلتخشعِ الأصواتُ للرحمن.. ولتُنصِتِ الأكوان

فالشيخ قد بدا يرتل القرآن.. يرتل القرآن.. القرآن..

وفي قصيدته الألم يقول:

** وفي رياض وعدِه الوفي نرتمي وإنه لحقٌ البيع رابحٌ.. ورابحُ!

فاستلهام القرآن هنا واضح في تضمينه مقاطع واضحة من سور هود وطه والرحمن سبحانه وتعالى، وكذا من السيرة العطرة الصحيحة قصة صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

(6)

ولعل من التأكيد وعدم التكرار أن أذكر هنا بحبيه الكبيرين:

حبه الأول وهو الحب الجارف لله تعالى، ونبرة التوحيد التي تبدو عالية في خطابه الشعري – ولا نزكيه على الله – فتأمل قوله:

وفي (مرثيتي) يعلن فرحته بلقاء الله تعالى:

أغمض عينيَّ ولقِّنِّي اسم حبيبي.. فالطائر يعزف تغريداً لا يطلقه إلى في لحن الرحيل!

وفي قصيدته القوية، التي تنضح حباً ورضاً بالله تعالى، يقول:

وفي رائعته (ببابك) يهتف:

وأما حبه الثاني فكان لوالديه رحمهما الله، إذ عاش الشيخ رحمه الله تعالى معاناتهما، وأحس بمشاعرهما المجروحة لبعده وحبسه، وعايش آلامهما ومواجعهما لفقده، انظر إليه وهو يتحدث عن والدته في قصيدته، لا تذكر الحياة:

لا تقل لي إنها تجففُ الدموعَ في السحر

تجيب للجميع باسمِه.. تقبِّل الطيوفَ لا ترى سواه

تسرق الخطى لموضعه.. تقبل الثياب

وسمعُهما معلَّقٌ بطرقةٍ بالباب وحيدةَ

وحولها الضياع وليلُها ويومُها التياع!

وأرجو أن يكون في هذا المقدار كفاية..

وفي الختام أرجو أن تسامحني قارئي الكريم: هل آذيتك بهذه القراءة العجلى، التي لم توف الشيخ حقه؟ أسألك بالله أن تسامحني إن وجدت تقصيراً، وإن أحسنت بأخيك ظناً – وأنت أهل لذاك – فادع له بظهر الغيب، لأنه أحوج ما يكون لدعائك، ولأن ملائكة الرحمن سترد عليك: ولك بالمثل، فلا تبخل علي وعلى نفسك.

أشكر لك صبرك، وأشكر أخي المبارك الجميل المتوقد د. أكرم رضا على هذه الفرصة العظيمة، التي منحنيها من غير كوندوليسا ولا كوفي ولا جوانتانامو، لأترحم بطريقتي على داعية جليل، وشاعر نبيل، وفارس مُجَلٍ، ولأسدد بعضاً من دينه في عنقي، الذي كان يستحق السداد منذ أكثر من ثلاثة عقود.

سبحانك الله وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

عبد السلام البسيوني

الدوحة القطرية 31/7/2005

وسوم: العدد 652