"يترجمون" التراث العربي إلى العامية !

قرأت في عرض أقوال الصحف المصرية الذي يقدمه محمود القيعي في موقع " رأي اليوم" طرفا من رأي كاتب يحذر فيه من قيام بعض الجهات ذات النشاط الثقافي ب " ترجمة" التراث العربي في الأدب والفكر وغيرهما إلى العاميات العربية ، وذكر أنه تجري في بيروت خطوة في هذا المتجه . ليس لدينا معلومات عن الداعي العلني _ على الأقل _ إلى هذه الخطوة ‘ وإن كان في الإمكان التقدير أن الهدف المعلن هو تسهيل قراءة التراث للجيل الجديد من القراء الذي شح نصيبه كثيرا جدا من معرفة العربية الحالية ، فما البال بعربية التراث على إجمالها ؟ وبعيدا عن حسن النية أو سوئها ، الخطوة سيئة في كل جوانبها ، وأولها الجانب اللغوي والأسلوبي بما يحتويه من جماليات ومؤثرات تعبيرية ، ولا نعني هنا الفرق بين قدرة الفصيحة وقدرة العامية على البيان الدقيق الجميل ، نعني أن قيمة النص التراثي _ خاصة الأدبي شعرا ونثرا _ تتركز في لغته وفي صياغته أو تشكيله الأسلوبي . هذه الصياغة هي الوحيدة التي تنقل إلينا ما أراد صاحبه أن يقوله تحديدا ، مشحونا بحالته النفسية الانفعالية ولمحاته الذهنية ومرامي تخيلاته ، وأي إعادة صياغة للنص حتى بالفصيحة لن تنقل إلينا منه سوى " عظْمة " معنى صغيرة لا تأثير لها في نفوسنا وعقولنا . ماذا يبقى من قول عنترة :

ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني * وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها   * لمعت كبارق ثغرك المتبسم

إذا صيغ بالعامية اللبنانية أو غيرها من العاميات العربية ؟! ستختفي قوة بهاء التعبير بكل عناصرها ، ويختفي صوت عنترة من سمعنا ويختفي وجهه من مخيلتنا . وما ذا يبقى من مقامات الحريري إذا صيغت بأي عامية عربية ؟! ستختفي خصوبتها اللغوية ، ولطائفها الفنية ، ومنها أسجاعها التي جعلت جملها مقطوعات موسيقية محررة من أي تكلف مهما صغر ، موظفة في براعة نادرة لأداء المعنى المقصود كاملا واضحا . ولا نتحدث عن مصير كنوزها على مستوى المفردات ، وأشعارها المتدفقة في أريحية صوتية صافية تجلي ثراء موهبة الحريري الأدبية التي تمكنه من الانتقال في تلقائية سلسة من النثر البديع الآسر إلى الشعر البديع الساحر . وماذا عن الجانب الديني من التراث فقها وتفسيرا وحديثا لو ترجمت نصوصه إلى العامية العربية المتعددة ؟! سنبتلى بسيول من أهوال العبث والتحريف وإساءة الفهم والتضليل ، بإيجاز سيكون لدينا دين آخر  والعياذ بالله ، ثم ، وبعدما كان التراث موردا صافيا جامعا للعرب سينصرف أهل كل لهجة إلى مستنقعهم الجديد . ولا يغيب عن الخاطر أن في البلد العربي الواحد ضروبا من اللهجات ، وهذا يبين أن المستنقع سينتج مستنقعات . وستشتد الهجمة بعد ذلك أو أثناءه على اللغة الفصيحة الواحدة الحالية لإحلال العامية محلها ، ولا استبعاد لوصولها إلى القرآن في وقت ما ؛ فدعاة  العامية منذ ظهورهم في أواخر القرن التاسع عشر يترسمون ما حدث للاتينية في الغرب ، ويحاولون تطبيقه على اللغة العربية من منطلق يبدو في ظاهره الأولي علميا صرفا ، ومضمونه أن اللهجات تتحول لغات بمضي الزمن ، وأن هذا حدث للاتينية ؛ فلم لا ندعه يحدث للعربية مادام سنة طبيعية في اللغات بوصفها كائنات حية تتطور ؟! فالفرنسية والأسبانية والبرتغالية  والإيطالية أصلها لهجات لاتينية ، ثم صارت لغات مستقلة عنها ، وترجم إليها الإنجيل ليكون مفهوما لأهل هذه اللغات الذين تراجع فهمهم للاتينية حتى الانتهاء إلا في الكنيسة وعند بعض المتخصصين . ورفضت الكنيسة في البداية ترجمة الإنجيل إلى اللغات الجديدة رغم استبسال المترجمين لصياغة ترجمات ذات إيقاعات مستحبة في السمع وفي النفس ، ولكن تطورات الزمن فرضت الترجمات . وما زلنا في المقال لا نتحدث عن سوء النية الذي هو وارد بقوة. وانسيابا مع ابتعادنا عن التعرض له نقول إن صعوبة لغة التراث لا تصلح حجة لتحويل نصوصه إلى العامية ، كل معرفة تستدعي معاناة ، وحتى صعوبته اللغوية ليست بالمنعة التي توحي بها هذه الصفة ، وكثير من نصوصه يمكن فهمهما بقدر مناسب من معرفة العربية . ومن نصوصه الشعرية ما يفوق في سهولته نصوص شعراء مدرسة الإحياء ونصوص شعراء تالين زمنيا لهم ، ولنقارن بين نص لعنترة ونص لسامي البارودي رائد تلك المدرسة ! نص عنترة أسهل وأدنى منالا . وقد قام عدد من محبي التراث والغيورين عليه منذ عقود بتقديم نماذج منه في لغة قريبة سهلة يفهمها عامة القراء دون أن يمسوا لغة النص الأصلي مكتفين بتقديم مضمونه مثلما فعلوا مع بعض الحكايات الواقعية والمتخيلة والأخبار ذات الدلالات السلوكية الأخلاقية المرشدة إلى كرائم القيم الفردية والاجتماعية . ونثر المرحوم طه حسين عددا من قصائد أبي العلاء المعري تسهيلا لفهم مضمونها . وكل ذلك مقبول ، أما التحويل الكلي إلى العامية فخطر قاتل : سيلغي التراث ، ويقطع صلتنا بها ، ويقضي على الترابط الثقافي العربي الذي لم يعد أحد يهتم به ، ويعزز بسط العامية وتسيدها ، ويجعل البلدان العربية شبه بلدان أجنبية . 

وسوم: العدد 659