علي الوردي : (56) رائد النزعة الشكّية في الثقافة العراقية

ومن السمات المنهجية والأسلوبية المهمة للوردي هو النزعة الشكّية أو التشكيكية . هذه النزعة هو الذي أدخلها في الخطاب المعرفي العراقي . قبله كان كل كاتب يتحدّث عن مسلّمات وحقائق نهائية واستنتاجات ختامية لا تهتز . وأعتقد أن سبب ذلك – وكما يرى الوردي - هو طغيان المنطق الصوري (الأرسطوطاليسي) القديم على طريقة التفكير في المجتمع ، والتي من أول المناصرين والداعين إليها هم رجال الدين وقطاعات واسعة من المثقفين العائشين على فتاة موائد الطغاة كما يقول الوردي . وهذا المنطق قائم عادة على المسلمات وعلى الأفكار المطلقة . مع الوردي جاء المنهج " الشكّي " إذا جاز التعبير ، والأسلوبية التي تقوم على الجدال المشكك وترحّب به ، لأنه لا توجد في عرفها حقائق مطلقة وأحكام نهائية . هنا كل شيء نسبي معرّض للتناول النقدي وللمراجعة التي لا تكتفي بمراجعة المظاهر بل – وهذا هو الأهم – هزّ ركائز الأسس والمسلّمات الجوهرية .  

يقول الوردي :

( وهناك في كتبي ناحية أخرى لم يرضَ عنها بعض القرّاء هي اتباع طريقة التشكيك ، حيث كنت أكثر من استعمال ( لعل ) و ( ربما ) و(ما أشبه) عند إبداء رأي من الآراء . إن هذه الطريقة مارستها في حياتي الجامعية واعتدت عليها طويلا حتى صار من الصعب التخلّص منها . وهي في الحقيقة مما يفرضها المنهج العلمي على كل كاتب وباحث في العصر الحديث ) (388) .

ثم يشير إلى مشكلة الكتّاب العراقيين الأساسية في هذا المجال حيث اعتادوا على طريقة الجزم والتأكيد وإصدار الأحكام القاطعة التي لا يجوز الشك فيها لأنهم يؤمنون بالمنهج " العقلي " الذي يعتقد أن العقل البشري قادر على اكتشاف الحقيقة المطلقة بتفكيره المجرّد . ولذلك تجد التعبيرات القطعية هي الغالبة على أسلوب مثل هؤلاء الكتّاب مثل : مما لاشك فيه ، مما لا يتنازع فيه إثنان ، من المسلم به ، من المعروف أن ، مما لاريب فيه ، لا مراء ، لا جدال أن ... وغيرها .

والوردي يؤمن أن نزعة التشكيك التي جاء بها السوفسطائيين كانت من أهم التهديدات للعقلية الأفلاطونية التي كانت سائدة في الحضارة اليونانية . يعد الوردي النزعة التشكيكية لدى السفسطة هي مصدر قوة ولكنها أخطأت عندما لم تطرح بديلا لشكوكها لأن الشك وحده لا يكفي للإصلاح ، ولا بد للمصلح الذي يشك في صحة نظام قديم أن يأتي بنظام أصلح منه . وبرغم ذلك علينا أن لا ننسى المبدأ القائل : ( أن الشك مبدأ اليقين ) . ولو درسنا تاريخ أي دعوة إصلاحية جديدة لوجدناها تنتشر بين الناس بعد أن يمر المجتمع بفترة من الشك والحيرة وهذه هي ما تُعرف أحيانا بفترة ( الإرهاص ) . والناس لا يستطيعون أن يعتنقوا دينا جديدا إلا بعد أن يشكوا قبل ذلك بصحة دينهم الذي وجدوا آباءهم عليه . ويصل إلى نتيجة مهمة جدا تقول أن المشككين يظهرون عادة قبل ظهور أحد الأنبياء العظام ، إذ هم يمهّدون بشكوكهم الطريق لدعوة هذا النبي . ويسند رأيه هذا بأمثلة منها دور جماعة ( الحنفاء ) الذين ظهروا في مكة قبل بعثة النبي محمد فأخذوا يثلبون عبادة الأوثان ويسخرون منها . ويرى بعض المستشرقين أن الإصلاح الديني في مكة بدأ على يد هؤلاء الحنفاء ، وجاء محمد بعد ذلك فانتزعه منهم ونسبه إلى نفسه ثم بنى عليه دعوته الإسلامية الكبرى .

ولكن الوردي يخالف آراء هؤلاء المستشرقين ويعدها باطلة لأن الحنفاء كانوا دعاة شك أكثر منهم دعاة يقين . وهم في هذا يختلفون عن النبي محمد اختلافا كبيرا . ومحمد لم يكن بالشاك أو الحائر مثلهم . وتظهر حيرة الحنفاء في مواقف كثيرة منها أن أحدهم شوهد وهو مستند على جدار الكعبة بظهره ويقول :

( اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به ولكني لا أعلمه ) .

ويبدو أن دور السوفسطائيين في المجتمع الأغريقي كان مماثلا لدور الحنفاء في المجتمع المكّي قبل البعثة المحمدية . ومن المهم الإشارة إلى أن لفظ ( الحنيفية ) مشتق من ( حنف ) أي مال . ومعنى الحنيفية في اللغة : الميل ، وقد نُسب إبراهيم إلى الحنيفية لأنه ( حنف إلى دين الله ) . وقيل ( الحنيف في الجاهلية من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن ، فلما جاء الإسلام كان الحنيف هو : ( المسلم ) .

ويقول محمد عابد الجابري : ( أن ما يميّز من وصفوا بـ ( الحنفاء ) قبل ظهور الإسلام ، في الروايات العربية ، هو الاعتزال للعبادة مع الميل إلى الزهد والتوحيد وانتقاد عبادة الأصنام ، الأمر الذي كان يثير عليهم غضب قريش وسكان مكة خاصة ، حيث كان العرب يحجّون إلى أصنامهم مع ما كان لذلك من رواج تجاري تستفيد منه قريش . ولهذا كانت قريش تضطهد هؤلاء الحنفاء فيضطرون إلى الإنتقال من مكان إلى آخر ، ومن قبيلة إلى أخرى ، يدعون إلى عقيدتهم . وتذكر المراجع الإسلامية أن من بين الحنفاء : قصي بن كلاب الجدّ الأعلى للنبي ( ص ) ، وجدّه المباشر عبد المطلب ، وقس بن ساعدة الأيادي ، وأمية بن أبي الصلت ، وسيف بن ذي يزن التميمي ، وورقة بن نوفل القرشي ، وزهير بن أبي سلمى ، وعبيد بن أبرص الأسدي وغيرهم ) (389) .

إذن فإن سمة الشك والتشكيك بما هو قائم ومسلّم به جاءت عن طريق قناعة منهجية لدى الوردي ترى أن الشك هو طريق اليقين .

ويشير الوردي إلى أن من صفات الباحث الموضوعي هو أنه مشكك من الطراز الأول . ويذكر كتابا في النقد الأدبي لعبد المتعال الصعيدي عاب فيه على طه حسين كثرة استخدام عبارات التشكيك في كتاباته ، ويعلّق على ذلك بالقول :

( لستُ أريد أن أدافع عن آراء طه حسين التي نقدها الصعيدي ، ولكني أعتقد أن طه حسين حين يبدأ أقواله بكلمة " أكاد أعتقد " وغيرها إنما هو أقرب إلى الأسلوب العلمي الحديث من خصومه الذين يأتون بالرأي القاطع المطلق ، ولا يحبّون أن يشككوا فيه" (399) .

( وكما قال فرنسيس بيكون منذ أربعمائة عام ( في 1605 ) في أطروحة له بعنوان ( تقدّم التعليم the advancement of learning- ) إذ قال :

( إن تسجيل الشكوك وعرضها له فائدتان  إحداهما فائدة مباشرة : فهي تحرسنا ( ضد الأخطاء ) ، والثانية تختص بدور الشكوك في بدء وتعزيز عملية البحث والتحقيق ، التي يمكن أن تؤدي إلى إغناء فهمنا . لاحظ بيكون أن القضايا التي ( كان يمكن أن تمر بنا ببساطة من دون تدخل ) .. تنتهي بأنها ( تحظى بمراقبة دقيقة وحريصة ) والسبب هو ( تخلل الشكوك )" (400) .

وسوم: العدد 665