محبرة الخليقة (66)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

سفرة المحبرة:

العودة المباركة إلى أحضان الموت

---------------------------------

(                  إن تكنْ خالقَ هذي الأرضِ

        يا ربُّ ، كما

                   قالَ الملاكْ ،

                   أين يداكْ ؟

                   كلّ

                   يومٍ ،

                   تدخلُ الأرضُ التي يدعونها مريمَ

        في مجزرةٍ . لا شيءَ

                   إلّا المجزرهْ !

                   لا

                   ولا سيرةَ إلّا

                   ما روتهُ المقبرهْ . ) 

قسم "سفرة المحبرة" هو القسم الختامي من ملحمة محبرة الخليقة ، يستهله الشاعر بالعودة إلى أرض الحقائق ، لكن عبر التصوير الشعري لحالة الخيبة العارمة التي تجتاح كل كيانه ، وهو يقف الآن على أرض المحطة الأخيرة ليراجع هذا السِفر الطويل الهائل والشاسع والمنهك الذي يسمونه تاريخ الخليقة .

انطلق بنا الشاعر من لحظة الخلق البدئية حيث الغمر وروح الله التي ترف على وجه الماء ، وسرنا مع الإنسان الشاعر في رحلته المريرة عبر دهور وعصور وقرون ؛ رحلة مرعبة مليئة بالمرارات ، والخسران ، والجراح ، والإنكسارات ، والصراعات المتأججة المخيفة ؛ صراعات تدور أصلاً في أعماق الإنسان المظلمة ، لتُسقَط على أرض الواقع السوداء فتزيدها عتمة وقتامة وخراباً ، حتى صرنا مقتنعين مع الشاعر بأنّ الإنسان هو داء هذه الأرض ، والكارثة أننا لا نستطيع إكمال العلاقة المزدوجة المتناقضة المتبادلة التقليدية ونقول : (ودواؤها) . إنه داء هذه الأرض الذي يفتك بروحها ، ويقطّع جسدها ، ويصلبها كلّ لحظة ، وها هو الشاعر الذي عاش قصّة خليقته في صراع مع الله وممثله الذي لا يرحم : الموت ، مشرعاً دروع أوالياته النفسية الدفاعية من شتى الأشكال ليذود عن ذاته المنجرحة سهام المثكل المسمومة التي لا تُخطيء ، يجد الآن – وفي ختام هذه القصّة ، وبعد أن جفّت المِحبرة ورُفعت الأقلام كما يُقال – في الموت ملاذاً .. صار الموتُ البغيض حلّاً :

(                 ليتَ ليْ راحةَ ميتٍ ،

                  في سريري

                  آهِ يا أرضُ !

                  أهذا من دماءٍ ؟ أمْ هيَ الأمواجُ

          ما يملأُ

                  أجرانَ البحورِ ؟

                  وجبالٌ ما أرى ؟ أمْ ذي عظامٌ أصبحتْ

          فيكِ جبالاً ، بعدما يا أرضُ ضاقتْ بعظامِ الناسِ

                  ليلاتُ

                  القبورِ ؟

                  آهِ يا دَيرَ الجنازاتِ ، وأجراسَ المنافيَ ،

          لوْ تعقلتِ ، لما شئتِ أيا أرضُ بيومٍ

                  أن تدوريْ . – ص 1691 ) .

الآن ، وعلى عتبة الختام بعد هذه الرحلة الملحمية اللاهثة والمنهكة والمزحومة بالأسئلة الكبرى ، تقف أقدام الشاعر على أرض صخرية صلبة من الخيبة التي تحكمها نتائج لا تساؤلات ؛ نتائج أقسى صلابة ، وأمضى فعلاً في الروح بالرغم من أنها تصدم أبسط بديهيات عقولنا وفي مقدّمتها : أينّ – ها قد عدنا إلى التساؤلات من جديد ! - تذهب جهود هذا المسكين الذي يسمّونه "الخير" ؟ ولماذا يطارده الشرُّ ويهزمه دائماً ؟ وأين راحت دعوات وتضحيات هذا الطابور الذي بلا بداية وبلا نهاية من الأنبياء والرسل والمصلحين والفلاسفة والشعراء والثوّار والمفكرين ما دمنا ننتقل من وضع بشريٍ سيّء إلى وضع أسوأ منه ؟ ولماذا برغم كل تلك التضحيات يختنق العالم بالشرور والمعاصي يوماً بعد آخر حتى صرنا لا نتساءل فقط "لماذا وُجدَ العالم ؟" ، بل نتساءل أيضاً "لماذا يكون العالم حافلاً بكل تلك الشرور؟" ؛ شرور يمسك بعضها بيد البعض الآخر لتضرب حصاراً منيعاً حول وجودنا ؛ شرور هي من الكثرة بحيث أنها لا يمكن أن تصدر إلا من الموجود الأوحد الذي يتحكم بوجوده وهو الإنسان ، وإلا إذا كان هذا الموجود "حيوان شرير" أو "حيوان خبيث" بالبنية والتعريف ؟ هذا الإستعداد الجبلّي هو الذي يجعله يقلب كل جهود الخير إلى شرّ ، وكلّما جاء أنبياء الله بالبشرى جعلها مراثي : 

(    أنبياءُ اللهِ ، روحُ الفيلسوفِ ، المصلحونَ ، الصاعدونَ

  إلى البياضِ ، الدمعُ ، ناياتُ المجاعاتِ ، الجراحُ ،

  الحكماءُ ، الدمُ ، قدّيسُ الحمامِ ، الشاعرُ العصفورُ ، نُساكُ

  المساكينِ ، أناشيدُ الرعاةِ ، الثورةُ ، الغفرانُ ، طاغورُ

  الخزامى ، ساكنو حرّيةِ الأسئلةِ الكبرى ، ملوكُ الشكِّ ،

  أسيادُ العذاباتِ لأجلِ الذاتِ أن تحيا بلا قيدٍ ونيرٍ ،

                                                  كلّهمْ ،

                                              يُعطونَ ورداً كلَّ

  يومٍ ، إنّما للملحٍ ، يأتونَ بشمسٍ ، إنما سوداءَ ، يُهدونَ

  قميصاً من حريرِ الغيمِ ، لكن للبراريْ ، يرفعونَ الصبحَ ،

  لكنْ فوقَ رمحٍ ، يفتحونَ البابَ لكنْ للصحارى .

                                                  كلهمْ ،

                                        يأتونَ بالبشرى ،

  فتزدادُ المراثيْ . - ص 1692) .

 لقد تسلّم الشاعر نصّ "الخلق" وقرأه واستمتع به وملك عليه لبّه وحواسه في كلّ شيء من مكوّناته إلّا الإنسان . كلّ شيء بسيط جميل أخّاذ وساحر حتى لو كان مركّباً من شجر وماء ونجوم وشمس وقمر وجداول وقمح وورد .. كلّ شيء يعكس هويّته إلّا الإنسان لغز الألغاز .. المحيّر .. خطوة واحدة ليصبح إلهاً .. وأقلّ منها ليصير وحشاً .. ما أعجبه . ولهذا لم يتركز جهد الشاعر النقدي في مراجعته لنصّ الكون الشعري إلّا على مكوّن الإنسان . فقد تصالح في النهاية وبروح شعرية حتى مع القوّة الخالقة الكبرى التي أججت حيّرته الحارقة واشعلت حرائق تساؤلاته الصاخبة والمعقّدة عن كنهها وسرّ تناقضات إرادتها وهي ترسم له مصيره . لتكن ما تكن . خالقاً ما .. قوّة ما .. أنتَ .. أو آخر .. أو سرّاً .. أو أيّ شيء . لقد تسلّم "النصّ" ؛ نصّ الخلق وقصة الخليقة ، وراجعه فاستطاب وانسحر وتماهى ، وخشع وسلّم لهذا الكون المُعجز برغم تساؤلاته ، ولهذه القصّة برغم حيرته بين البدء والمنتهى : من أين ؟ وإلى أين ؟ .. والأهم : لماذا ؟ . كلّ مكونات النص اثارت في نفسه إعجاباً ممزوجاً بالحيرة والتساؤلات . لكن مكوّناً واحداً أثار فيه الرعب والفزع مع التساؤلات ألا وهو : الإنسان .. حيّره ولم يعد يعرف كيف يتعامل معه ولا كيف يفهمه :

(                خالقٌ ما ،

                 قوّةٌ ما ،

                             ولأقلْ أنتَ ، أقلْ آخرُ ،

  سرٌّ ما ، أتاني نصّهُ الكونيُّ كيْ أقرأهُ مخطوطةً عنْ

  قصّةِ الخلقِ . قرأتُ

                 النصَّ ، فاستوقفنيْ الإنسانُ في أسرارهِ

  أكثرَ ما استوقفنيْ سرٌّ

                 سواهْ .

                 لا المداراتُ ، ولا الأنجمُ ، والافلاكُ ،

          لا الوحشُ ، ولا النبتُ ، ولا طيرُ البراري ،

                 والمياهُ .

                 إنّما الإنسانُ ما استوقفنيْ . طافتْ

          بيَ الرؤيا . ونقدي ليسَ إلّا ما أنا الآنَ

                 أراهُ .

                 كلُّ ما في النصِّ سهلٌ سرّهُ عنديْ

          سوى الإنسانِ .

                            منذ البدءِ ،

                                        عرشٌ ،

                                        ودمٌ ،

                                        جوعٌ ،

                                        وخوفٌ . – ص 1698 – 1700) .

ولا يقنع الشاعر بالتفسيرات التي صارت نمطية وجاهزة في تفسير خراب روح الإنسان ، من كبت غريزةٍ ، وتعطيل إشباعٍ ، وقمع حواسٍ .. وغيرها . إنّ سرّ فساد روح الإنسان يكمن في قتل حريّة الإنسان نفسه في كل شيء . وهذه هي مفارقة الكون الكبرى ، أن يُخلق كلّ شيءٍ فيه حرّاً - من ذرة التراب التافهة الصمّاء حتى الدودة العمياء - ويحيا حرّاً كما خُلق ، عدا الإنسان الأولى بالحريّة من كلّ شيء في الكون ، فهو تُصادر حريّته .. وتُقتل .. ويُقمع ، في حين أنه هو الأقدر على فهمها وتحمّل مسؤوليتها .

لقد تمرّد الناقد الأكبر على الله – جبراً وتكليفاً ، أو اختياراً – ورفض السجود وآثر حريّته مقابل لعنة حلّت عليه إلى يوم الدين ، ثمّ اقتدى به الناقد الأصغر الذي صار من بعد ذلك ناقداً أكبر أيضاً ، وهو الإنسان الشاعر ، الذي ارتكب الخطيئة الأولى ، في الفردوس وتحت أنظار الله . لقد انتزع الإنسان حرّيته مقابل أشرس فدية وأعظم تضحية : الفردوس ، واختار أن يشقى مع حريّته على الأرض مقابل أن يحيى مرفّهاً مع عبوديته في الفردوس . لقد انتزع حريّته بكل جسارة ، بل بصلافة ايضاً :

(أورست : إنّك ملك الآلهة يا جوبيتر ، ملك الأحجار والنجوم ، ملك أمواج البحر ، ولكنك لستَ ملكاً على الآدميين .

جوبيتر : ولكن إذا لم أكن أنا ملكاً عليكَ ، فمن الذي خلقك إذن ؟

-أنت خلقتني ، ولكن ما كان ينبغي أن تخلقني حرّا .

-إنّما وهبتك الحرية لتخدمني .

-هذا جائز ، ولكن هذه الحرية قد انقلبت عليك ، ولم يعد في وسعي ولا في وسعك أن تفعل شيئا .

-أخيراً ، هذا هو العذر !

-أنا لا أعتذر .. فلستُ السيد ولا العبد .. وإنما أنا عين حريّتي ) (118 سارتر الذباب) .

بهذه الروح الجسور والصلافة انتزع الإنسان حريّته ، ليأتي من ينتزعها منه ويصادرها ويقمعه . ومن هو هذا الذي جاء وانتزع حريّة الإنسان وكبّله بالقيود ؟ من الذي قتل حريّة الإنسان في الوردة والقمح وصلب حتى العصافير ؟ وباختصار – وحسب قاموس جوزف حرب الشعري والحياتي الرمزي – من الذي علّق الأبيض في مشنقة الأسود ؟ .. إنه الإنسان .. نعم الإنسان :

(                                              ليسَ ذا

  كبتَ الغريزهْ .

                  ليسَ ذا كبتَ الحواسِ الخمسِ . بل هذا

  صراعٌ قُتلتْ حريّةُ الفردِ به في كلّ شيءٍ

                                      رائعٍ .

                                             لا رائعٌ

  إلّا سلامُ القمحِ والوردةِ .

                   منذُ البدءِ والوردةُ ملحٌ ،

                                       ودمٌ .

                              والقمحُ ملحٌ ،

                                      ودمٌ .

              كلُّ خلاصٍ خارجَ الوردةِ ،

                                  والقمحِ ،

                                    عقيمُ .

              أيُّ خمرٍ سوف تأتيْ عندما تأتيْ

بلا عنقودها في آخرِ الصيفِ

                                     الكرومُ ؟ !

              كلُّ من نادى بحكمِ القمحِ والوردةِ

  لمْ يبقَ لهُ منْ فمهِ إلّا شفافٌ منْ رمادٍ .

  كلُّ منْ جاءَ برأيٍ أبيضٍ عُلّقَ بالأسودِ .

  لم يسلمْ من الصلبانِ عصفورٌ ، ولمْ يُمسكْ

  بمجذافٍ

             حكيمُ . – ص 1700 و 1701) .

ومن مجزرة إلى مجزرة ، صار قطار التاريخ يمضي مسرعاً بكل قوّته على سكّة عمياء لا قوّة تستطيع تغيير وجهتها أو التلاعب بمسارها أو إيقافها . وصار الإنسان مهموماً بخرابه هو نفسه ، حتى أصبح التعريف الملائم له هو أنه "حيوان مهموم" .. الهم هو ما يميّز الإنسان عن كل مكوّنات الكون .. الوحيد الذي ينام مهموماً ، ويصحو على الهم من جديد كل يوم .. بل كل لحظة . والمشكلة أنه مهموم بالهمّ الذي يصنعه بيديه حتى صار حين ينظر إلى ما حصل أو إلى ما كسبت يداه ، يشعر فوراً ، وبمرارة ، أنه هيهات لمثله الأعلى أن يُصبح هو وواقعه سيان ، أو هيهات لذاته العليا أن تتطابق تماما مع ذاته الواقعية . ويعمل "الهمّ" عمله في وجود الإنسان فيصطبغ الوعي البشري كلّه بصبغة "الهمّ" ، ويصبح الموجود البشري هو ذلك الموجود الزمني الذي يحمل دائماً عبء وجوده ، وينوء دائماً بحمل الماضي والحاضر والمستقبل . ولعل هذا هو ما أراد "هيدجر" أن يصوّره لنا بلغة طريفة حينما روى لنا الأسطورة اللاتينية التالية.

وسوم: العدد 665