المدينة المنورة في شعر حيدر الغدير

clip_image002_d0678.jpg

للمدينة المنورة شأن كبير عند الشاعر حيد الغدير، وهو مثل كل مسلم يكن لهذه المدينة الحب، ويشعر إليها بالشوق، ويمتاز عن غيره بقدرته على التعبير عن مشاعره المرهفة، وقد حدثنا بطرف من ذلك في مقاله الذي جعل عنوان: (أربعون صلاة، ص 62) من كتابه (صلاة في الحمراء) فيقول:

"أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق."

ويعدد دواعي هذا الحب لدى المسلم فيقول: "هذه المدينة السخية السنية الودود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها."

ويعدد بعد ذلك من هذه الأسباب: المسجد النبوي الشريف،والقبر الشريف الطاهر، والبقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين، وجبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وموقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة.وغيرها من الأماكن والذكريات ظلت تعمل عملها في قلب الشاعر ونفسه حتى جاء ذلك اليوم من موسم الحج عام 1418ه- 1998م، الذي تأججت فيه نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أنه تذكر الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار، وبراءة من النفاق، ونجاة من العذاب(

وقبــل الـسيف روحــي والبيــان

ويرى في الرسول النور الباقي مدى الدهر فيقول:

      ستبقى النـــورَ مـــا بقــي الزمـــانُ   ومــا زان الريــاضَ الأقحـــوان ومـــا طلعـــت علـــى الآفـــاق شمـــسٌ  

ومــا صـــدح المــؤذنُ والأذان

أما شانئو الرسول فإنهم إلى زوال، ولن يبقى لهم ولظلامهم من أثر إذا طلع الصباح، فيقول:

وأمـــا شانئوك فهـــم بغـــاثٌ   وفريـــة أحمـــقٍ هانـــت وهــانوا ســـتطويهم ضـــلالتهم ليغــــدوا   نفايـــاتٍ يطاردهـــا اللِّعــــان إذا طلــــع الـــصباح فلـــن يــــراهم   فهـــمْ وهــــمٌ تبـــدد أو دخـــانُ وإن سأل الأنامُ الدهرَ عنهم   أجاب: شراذمٌ كانوا فحانوا(

ويخاطب الشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنيا إياه (أبا الزهراء) مضمنا قصيدته شطرا من بائية أحمد شوقي، ويرى نفسه أقل من يقوم بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لفتة تأخذنا إلى أعماق الشاعر وإحساسه نحو عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه في ذات نفسه، وأن الوقوف في صف نصرته صلى الله عليه وسلم واجب بكل ما يمكن للمسلم القيام به، وهو يقتدي بذلك بسلفه الصالح من الأمة الإسلامية، فيقول:

      ((أبا الزهراء قد جـــاوزت قــــدري))    غـــداة دعـــتنيَ الحــــرب العَـــوانُ لنـــصرك فانتــــضيتُ دمـــي وروحـــــي   وطـــرتُ أقــــول: لا عـــاش الجبـــان وقبلـــي معـــشر كرُمــــوا وجلّــــوا   هــــم الخيــــل العِـــرابُ ولا حِـــران وأمتــــك الولــــود وأفتـــديها   يــــسير بهــــا إلى الــــسبق الرهــــان ومـــن كانـــت حميـــتهم مَـــضاءً   فـــزانتهم وزانوهــــا فكـــــانوا

ويعود إلى نفسه مرة أخرى ليرى أن ما قدمه من كلمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي دون ما يأمله، وأنى تبلغ كلماته مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أصاب بها الأمنية فإن لآلئها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا جيشان قلبه وروحه بالمعاني السامية التي نبعت من معنى النبوة والرسالة المحمدية ما انتظمت تلك الكلمات الحسان في سلك القبول والاستحسان، يقول الغدير:

أبـــا الزهــــراء دونـــك كــــل قـــول   فلـــي عــــذري إذا عجــــز البيـــان وإن حــــسُن القــــصيد فأنــــت مُهــــدٍ   لآلئـــه وهـــن مُنــــىً حِـــــسان كتبــــتُ قــــصيدتي بـــدمي وروحــــي   وكــان القلــــب يملـــي لا اللــسان وكــان مـــدادها غـــضبي وحــــبي   ودمعـــي، والوفـــاء لــيَ امتحــان وكنــــتُ بهــــا معنَّــــىً مـــستهاما   شــــغوفاً وهــــي عنــي الترجمـــــان عــــساي أنالهـــا في الحـــشر ذخـــرا   يكــــون لــــيَ الـــــشفيعَ فـــــلا أدان

ويكشف الشاعر عن مادة قصيدته ومدادها التي صاغها منها فإذا هي: دمه وروحه وقلبه، وغضبه وحبه، ودمعه ووفاؤه، وشوقه وشغفه، وهو إذ يبذل وسعه فإنه ينظر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، يرجو بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هو أحوج ما يكون إلى عمل صالح ذخر له في صحيفة أعماله.

ومثل أربعين صلاة التي سبق الحديث عنها يزور الشاعر المدينة فيقيم فيها أياما همه الأول فيها ألا تفوته صلاة في المسجد النبوي يقول عن هذه الزيارة في تقديم قصيدته التي بعنوان (بقيت مُنْية، ص 103 في ديوان من يطفئ الشمس): "أكرمني الله تعالى بعشرة أيام في المدينة المنورة، لم تفتني فيها صلاة واحدة في حرمها الشريف. إنها نعمة لا تقدر بثمن."  ويترجم مشاعره وأحاسيسه الإيمانية وحبه العميق فيقول:  

سكنت طيبة فؤادي فأضحى   حيث ولّى بحبها مُسْتهاما فهي فيه أشواقه زاهياتٍ   يرتدين العفاف والإسلاما جئتها ألبس الخشوع المصفّى   مثلما يلبس الفتى الإحراما

هذا الاندماج الروحي بين الشاعر وطيبة يشاركه الطبيعة حوله، فها هو الغمام يسكب غيثه قرى للشاعر، ويا له من قرى! فيقول:

جئتها للقِرى فكان قراها   ديمةً بلّت الثرى والأُواما أغرقتني بجودها جعلتني   فرحة جابت المدى والغماما   فهي تسقي أكوابها تتوالى   يتنافسن روعة وانتظاما وخوان النبيل يبقى نبيلاً   وعطايا الكرام تبقى كراما

وكما يندمج الشاعر والطبيعة من حوله تندمج المعاني، فيكاد يختلط الأمر علينا بين القرى الحسي المادي، والقرى الروحي، فما هي تلك الأكواب التي تتوالى؟ وما ذلك الخوان الذي مده له النبيل الكريم!؟ إنه الإحساس بالشبع الروحي، والري الوجداني العميق، يقول:

أتراني أنسى لها ما حبتني   وهو سَيْبٌ أفضاله تتنامى لا وربي فإن فيّ وفاءً   أُشْرِبته الضلوع جاماً فجاما

وهذا منه شكر النبيل الكريم الذي أكرمه، وحباه بسيب أفضاله. ويبدو أن هذه الأيام العشرة هي التي صلى فيها أربعين صلاة في المسجد النبوي، وكتب عنها مقالته: أربعون صلاة في كتابه": صلاة في الحمراء التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال.

ولكن الشاعر حيدر الغدير الذي زار المدينة مرة بعد أخرى، وأقام فيها مدة من الزمن بقي متعلقا بطيبة بأمنية أخيرة يرجو تحققها، ولعلها أمنية كثير من المؤمنين المحبين لطيبة لأجل من طابت به صلى الله عليه وسلم، إنه يتمنى أن تكون مقامه الدائم في رحلته الكبرى، أن يضم البقيع جسده، ملفعا بعفو الله سبحانه وتعالى، فيقول:

بقيت منية تجول بصدري   أن يكون البقيع فيها مقاما حينما أنطوي فيغدو ثراه   شارةً للرضا ويغدو وساما وأرى العفو سابغاً يتهادى   والبشارات تسبق الإكراما

أما إن فاتته هذه الأمنية الغالية الأخيرة، إذ لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت! فإن عزاءه أن روحه ساكنه هناك في البقيع وإن غدا جسده رماما، فيقول:

وإذا فاتني البقيع فروحي   في سناه وإن غدوت رِماما

إن تلك الأمنية التي بقي الشاعر الغدير متعلقا بها، تجعلنا ننظر إليه رجلا قد شمر للرحيل فأسرج فرسه، وجمع شتاته، وهذا يبدو لنا في قصيدته الأخرى التي عنونها: بـ ( جل المتاب، ص110 في ديوان من يطفئ الشمس) فنجده يقدم لها بما يؤكد هذا الشعور لدى قارئ قصائده هذه، يقول: "أكرمتني المدينة المنورة وهي دار الهجرة، ومأرز الإيمان، وموئل الجود، ومثوى الرسول الأعظم e، فاستضافتني أياماً لا تنسى، اجتهدت فيها أن أفوز بتوبة نصوح، وعساي ظفرت!" ونقول معه: عساه ظفر، وعسانا ظفرنا بمثل ما ظفر به!

ونجده في هذه القصيدة يعبر عن حبه للمدينة بطريقة جديدة، ففرحته فرحة طفل في العيد، وهو يتغنى بحبه لمدينة غناء يخرج بها عن المعتاد، فإذا كل ما حوله يتجاوب بغنائه وتغريده وإنشاده، فتزهر أغاريده مثل الربا، فيقول:

غنيت في حبها أحلى أناشيدي   وأزهرت كالربا فيها أغاريدي أتيتها خطوتي قلبي وباصرتي   وفرحتي فرحة الأطفال في العيد

وتشتد فرحته عندما يدخل الروضة الشريفة، فيرى جموع المتعبدين كل قد علم صلاته وتسبيحه، فتأخذه نشوة الشعور الإيماني، ويهتز وجدا وفرحا فلا يجد ما يعبر به سوى التهويل من فرحته بأسلوب التعجب من نفسه، فيقول واصفا هذا المشهد الإيماني:

يا فرحتي حينما عاينت روضتها   تختال في بردة الإيمان والجود الناس فيها من النعماء كوكبة   تدور ما بين تهليل وتمجيد وللتراتيل أصداء مطيبة   كأنها بينهم مزمار داود وللأذان امتدادات منورة   وديمة في الجبال الشم والبيد

ويدخل الشاعر الغدير بين جموع المؤمنين المبتهلين إلى الله الغفور الرحيم في الروضة الشريفة، ويقبل إلى ربه راجيا أن يقبله ويتوب عليه، ويتملكه الإحساس بالقرب والقبول من الرضا النفسي، والسمو الروحي، والطمأنينة الإيمانية، فيصف لنا بعض ما استطاع وصفه منها فيقول:

جل المتاب وجل الله قابله   وجل منه عطاء غير محدود أبدلت بالخوف أمناً والأسى فرحاً   والعسر يسراً إذ الرحمن مقصودي جعلته غايتي أسعى لها كلفاً   فعدت منه برضوان وتسديد حتى الخطايا التي ناءت بكلكلها     عليّ مثل أفاع فوق مزؤود غدون بالعفو إحساناً وتكرمة   فهن أوسمة للفوز في جيدي

إنها لحظات إيمانية ترتسم في أقدس بقعة على الأرض في قلب المسجد النبوي في الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة.

ولكن حيدر الغدير وقد انتهت مدة زيارته إلى المدينة يغادرها بجسمه ويترك فيها روحه ومشاعره وأحاسيسه ويعبر عن ذلك في مقدمة قصيدته: (حان الوداع، ص 137 في ديوان من يطفئ الشمس) فيقول: "أمضيت في طيبة أياماً كأنها الجنة، ثم ودعتها وأنا ظامئ." فكيف يودع الجنة من دخلها!؟ فيقول مصورا لحظة الورود أولا:

أتيتُ طيبةَ مثل الطائر الغرِد   أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي وأغسل العمر مما شان رحلته   من حمأة السوء أو من صولة اللدد أومتْ إليّ فأغرتني فطرت لها   على جناحين من توق ومن رشـد   عُلِّقتُها فغدوتُ المرءَ ذا ظفر   لمّا رآها تمنّى فارتقى فَهُدِي

هذا الشاعر الذي أتى طيبة طائرا غردا، راجيا البراءة والطهارة والعفو من الله سبحانه، وجد فيه بغيته، أو جل بغيته، فتعلق بها تعلق الظافر بما أراد، وحق له ذلك! فقد أقام كما قال عشرة أيام حافلة بكل ما يستمتع به المؤمن العابد المتبتل من الطمأنينة بذكر الله من صلاة ودعاء وقراءة قرآن، وتفكر وتدبر، ثم حان الوداع، حان وقت الخروج من هذا الجنة الروحية، فكيف خرج حيدر الغدير، وماذا قال في لحظة الوداع!؟

حان الوداع فكنت المرءَ تسكنه   بلابل الحزن من دانٍ ومبتعد يلمنني قائلاتٍ فِيمَ تتركها   وطيبةُ الماءُ سيّالاً وأنت صَد وأنت كالطير كان الماءُ بغيتَه   حتى إذا جاءه عجلانَ لم يَرد أطلْ بطيبةَ مكثاً فهي حانية   والعمر يلهث بين السعد والنكد وقد تعود، وقدْ لا، والدنى سفر   سمعتهن ففتّ القولُ في عضدي

فقد دخل في صراع مع نفسه، بين إقدام وإحجام، يوازن فيهما الربح والخسارة، فقد يبحث عن هذه السعادة فوجدها، فكيف يتركها؟ وخصوصا أن ما مضى من العمر أكثر مما بقي، ثم إنه قد يعود مرة أخرى، وقد لا يستطيع، وخيم عليه الحزن العميق في لحظة الفراق، يغالب عينه أن تسكب أمام الصحب ما يكشف سره، فيستعصم بحب الصبر، ولو بكى لم يلمه أحد، فيقول واصفا حالته في تلك اللحظات:

أطرقت في خجلٍ مفضٍ إلى وجل   وكدت أبكي، ولمْ، فالصبْر لي سندي وللمدامع أسواط ورب فتىً   جَلْدٍ ويبكي وإن عانى ولم يُرد وربما ابتسم المحزون وهو شَجٍ   وربما انهل دمع الفارس الحرد

وعاش لحظات من التناقض بين الظاهر المبتسم، والباطن الذي يتأجج بنار الحزن ولوعة الفراق لأحب مكان، يسكن فيه أحب الناس طرا إليه، على أمل العودة، فيخاطب طيبة خطاب الراجي الآمل، ويأخذ منه الجواب أن من صدق النية تحققت له الأمنية، يقول:

يا طيبة الخير هل لي العَوْدُ ثانيةً   قالت ــ وصدّقتها ــ كن صادقاً تَعُد

أما قصيدته (وساد ص 145 في ديوان من يطفئ الشمس) فهي رجع صدى لقصيدته (بقيت منية) التي عبر فيها أنه وقد حقق كل أو جل ما كان يأمله من زيارة المدينة المنورة، فإنه يتمنى أن يكون موته فيها، وهي أمنية مشروعة للمؤمن، وعنوان قصيدته (وساد) تشي بمجرد قراءته في هذا السياق: المدينة المنورة، وطيبة، وتوبة، والبقيع، أنه يرمي إلى تلك الأمنية التي بقيت..! يقول في مقدمة القصيدة: "زرت البقيع مرات لا أحصيها، لكن هذه القصيدة جاءت في الرياض، والبقيع بعيد مني مكاناً، قريب شعوراً."

وبتصريح الغدير أن القصيدة قيلت في الرياض بعد رجوعه من تلك الرحلة الموفقة المليئة بالهبات والعطايا الربانية الروحية في أعماقه، بهذا التصريح يؤكد ما قلته أنها رجع الصدى لقصيدة (بقيت منية)، وما قاله في المقطع الأخير من قصيدته (حان الوداع) من تعلقه الشديد بطيبة، وعزمه على العودة، فلنستمع إليه وهو يحاور ثرى البقيع في عالمه الروحي الإيماني:

سألتُ ثرى البقيع وقد أتينا   حماه وهَشَّ في صمتٍ إلينا نسيرُ إليه خاشعةً خطانا   كأنا للمساجد قد أوينا وقد طابتْ مرابعه اللواتي   هي الأم التي تحنو علينا نحدّثها فتفهمنا ونصغي   لها فتبوح إيماء وعينا وما فاهت وما فهنا بشيء   ولكنا فهمنا وارتوينا

إذا كان الشاعر الغدير وثرى البقيع قد فهم كل منهما ما قاله الآخر إيماء وعينا، من دون أن ينبس أحدهما بكلمة، فهل يا ترى فهمنا نحن من هذين الحكيمين ما أرادا، وهل استطعنا مشاركتهما في مشاعرهما؟ أغلب الظن أن نعم! لقد طلب الشاعر من ثرى البقيع موضعا يكون وسادة لرأسه في مستقره الأخير في هذه الحياة! وأجاب ثرى البقيع أنه لا ما نع لديه في استقبال محب مثله، غير أن الأمر فيه ليس إليه، فما تدري نفس بأي أرض تموت!. 

ولنستمع إلى ما قاله الشاعر الغدير لنعرف أننا لم نبعد الفهم عنهما، يقول معبرا على لسان ثرى البقيع:

لقد سكنتْ كرامُ الخلق عندي   ومَنْ مثل الصحابة قلْ وأينا تبارتْ في مودتهم رحابي   وقد أبصرنها شرفاً ودَيْنا ترابي المسك بل أعلى وأغلى   يقول الساكنون به اكتفينا فقبّله وأسكنه المآقي   ودع ليلى الحصان ودع بثينا ترابي فاتحٌ عفٌ وتالٍ   ومَنْ أنجبن سعداً والحسينا أنا الأرض الطهور فكن حفياً   إذا ما جئتها وامش الهوينى لقد أهدى المكارم لي نبيٌ   سحائبَ ما ونين وما انتهينا

فقال الغدير:

فقلت له وعمري في انقضاء   وقد أبصرتُ بي وهناً وأينا غداً آتيك هبْ لي فيك ركناً   فإن لنا وإن لم نرض حَيْنا

أما ثرى البقيع:

فقال بلغتَ سؤلك يا صديقي   تخيّرْ ما تشاء إذا التقينا

ويبلغ الشاعر في قصيدته هذه ذروة الحميمية مع تلك الأمنية التي يهرب منها كثير من الناس، ويقلقون من لحظات استقبالها وحلولها، بينما نرى في هذا الموقف الشاعر حيدر الغدير يحاور صديقا عزيزا محبوبا لديه، يتخاطب بالإشارة تارة وبالعبارة أخرى، وينصرف وقد أخذ وعدا أن ينال موضعا يتوسده في نومته الطويلة! فهل يا ترى إذا تجرأنا وطلبنا إليه أن يشفع لنا عند صديقه بأن يعطينا وعدا مثل الذي أعطاه إياه، هل يفعل!؟

ونقف مع أنشودته عن طيبة بعنوان: (يا شذا طيبة، ص 160 في ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، والتي قدم لها قائلا: "إذا جئت طيبة حيّاك شذاها، وهو سكينة راضية، وأفراح من نور، وصفاء ممتد، ولا غرابة ففيها سيد البشر، وكرام الصحابة، ومعالم التاريخ المجيد."

ويتغنى فيها بطيبة ومعالمها ومآثرها، في ثماني مقاطع يتألف كل مقطع من خمسة أشطر، يقول في مطلعها: 

يا شذا طيبة يا أغلى شذا   حبذا ريّاك فينا حبذا أنت للمسلم نعماه إذا   جاء يرجو الرفد أو يشكو الأذى

والأمــاني موعد في ذا وذا

ويذكر بعض الأماكن المشهورة في المدينة فيقول:

فيك سلع عز جاراً والعقيقْ   بين شطيه صديق وصديقْ يغنمان الأنس والأنس رحيق   وَهْو بالخلوة والطهر خليق

وهو للأسرار كالبحر العميق

ويختم أنشودته بالإشارة إلى ما سبق أن عبر عنه من أمنية فيقول:

يا شذا طيبة إن جئت الحمى   طالباً منه ومنك المغنما أجزلا لي الرفد يأتيني كما   يفعل الأجواد كي أحظى بما

عشت أرجوه مشوقاً مسلما

وفي رأيي أن لدى الشاعر سببين يدعوانه للإلحاح في بلوغ أمنيته أن يوسد في ثرى البقيع، الأول - كما قال هو- أن كل مسلم لديه هذا الحب للمدينة وهذه الرغبة في أن يموت ويدفن في البقيع، وهذه عقيدة لدى المسلمين عامة وخاصة، وإن كانوا يعلمون أن هذا لن يتحقق، لكن هذا العلم لا يمنع الدعاء بذلك وطلبه.

 والثاني خاص إذ رأى الشاعر عددا من أحبابه وأصدقائه وأحبابه يدفنون في البقيع من دون أن يسبق ذلك إرهاصات، أو إصرار وسعي منهم، ومن هؤلاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي ولد في حلب، وعاش في بلاد متباعدة من جدة في السعودية، إلى كراتشي في باكستان، إلى الرباط وشاطئ الهرهورة في المغرب، إلى تنويمه في المستشفى بالرياض، ثم إذا به يدفن في البقيع حيث يتمنى الغدير موضعا لوساده!!  والغدير قريب من الأميري، ولا أشك أن مثل هذا الحدث قد عمل عمله في نفسه فبات يلح على تحقق هذه الأمنية.

وقد سجل وفاة الأميري ودفنه في البقيع في قصيدة الرثاء التي حملت عنوانا دالا لما نحن فيه من البحث عن عوامل تأجج هذه الرغبة لديه، وهو (نم في البقيع، ص 19 من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقول فيها مخاطبا الشاعر عمر بهاء الدين الأميري

أأبا البراء وأنت رائد عصبة   وحداء قافلة تغذّ وتعنق سارت على حد السيوف كتائباً   للحق ترنو والأصالة تعشق نم في جوار الأكرمين يحفهم   ويحفك الرضوان والإستبرق

فقوله: (نم في جوار الأكرمين.. ) يبين لنا نظرة الشاعر إلى هذه البقعة المباركة، وهي ترشح الشاعر الغدير أن يغبط أستاذه وحبيبه في هذه النومة بجانب الأكرمين محفوفا بالرضوان والإستبرق إن شاء الله.

ويصرح باسم البقيع في آخر القصيدة قائلا في معنى البيت السابق نفسه:

نم في البقيع جوار جدك هانئاً   وإزاءك الأبرار فيه تحلقوا

ولو نظرنا إلى تواريخ هذه القصائد لوجدنا دلالة أكبر لصحة هذا الرأي، فإن قصيدة (نم في البقيع) في رثاء عمر الأميري، قالها في عام 1412هـ/ 1992م، وبعدها حديثه عن أربعين صلاة في عام1418هـ/ 1998م، وتأتي قصيدة (بقيت منية) في 18/10/1423هـ، الموافق 22/12/2002م، وبعدها بشهر كتب قصيدته (جل المتاب) في 19/11/1423هـ، الموافق 22/1/2003م، وتأتي قصيدة (حان الوداع) في 6/5/ 1425هـ، الموافق 20/9/2004م، وبعدها بسبعة أشهر تقريبا كتب قصيدته (وساد) في 13/1/1426هـ، الموافق 23/2/2005م، ويكتب بعد خمسة أشهر تقريبا أنشودته (يا شذا طيبة) في 20/6/1426هـ، الموافق 26/7/2005م، وبعد ستة أشهر أخرى أيضا كتب قصيدته (أبا الزهراء) في الدفاع والمنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويتأكد لي من هذا التتبع الرأي الذي ذهبت إليه في تأثره بدفن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري في ثرى البقيع في المدينة، فكان إذا زار المدينة تحرك لديه هذا الشعور الخاص المبني على اللهفة لدى كل مسلم في أن يكون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه والصالحين من ساكني (جنة البقيع) كما هو شائع في كثير من بلاد المسلمين، ونلاحظ تقارب الإحساس بهذا الشعور، وارتفاع وتيرة التعبير عنها نثرا وشعرا بشكل مطرد لتأخذ في المرحلة الأخيرة قصيدة كل ستة أشهر، وأحيانا كل شهر! ولا شك أن عامل تقدم السن له تأثيره في هذا الاتجاه أيضا.

 ويبقى لدي السؤال: لماذا لم يكتب حيدر الغدير قصائد في مدة إقامته بالمدينة المنورة؟ ولماذا غابت كثير من المعالم المهمة عن شعره رغم هذا الارتباط الروحي العميق، وهذه المعايشة النفسية إلى درجة التماهي!؟

أحد وما فيه وما حوله وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه"؛ ألا يستحق قصيدة؟

قباء وذكرياته وزيارة الرسول إياه كل سبت× ألا يستحق قصيدة؟

مسجد القبلتين ودلالته في ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام، وأثر ذلك في حياتنا المعاصرة؛ ألا يستحق قصيدة؟

سلع المعلم الذي لا يغيب عن قصيدة من قصائد المديح القديمة وارتباطه بالخندق؛ ألا يستحق قصيدة؟

إن في المدينة المنورة ذكريات كثيرة مثيرة لمشاعر المسلم وأشواقه وحنينه، فما بالك بشاعر مرهف الإحساس، دقيق الرصد، لما يعتلج في فؤاده من الحب العميق للرسول صلى الله عليه وصحبه من المهاجرين والأنصار ولطيبة التي طابت بهم!؟

([2]) هلكوا.

وسوم: العدد 685