شعرية عشق الوطن في ديوان (هنتكلِّم) للمبدع محمد جودة

د. مصطفى محمد أبوطاحون

   من إقليم "أحمد عرابي" .. الثائر المغبون .. وفي بلاد "سليمان الحلَبي" الشهيد المنحور، نبتَ الشاعر المبدع محمد جودة ، الذي صدر له هذا العام ديوان شعر عاميٍّ، عنوانه (هنتكلم) ومن عتبة الديوان الرئيسة، تبدو للكلمة أهميتها بالنسبة للمبدع جودة، فهي أداته وسلاحه، لأداء رسالته التي انتدب نفسه لها في تلك اللحظة التاريخية الفارقة من عمر الأمة .

    يضمُّ الديوان سبع عشرة قصيدة، أغلبها في الوطنية، ثم في القومية العربية .. الإسلامية، خاصة قضية فلسطين ،وبعضها ذاتي ، وقليلها رمزي .. أما الوطنية، فكما في "أنا العاشق، ثورة الورد، سفينتك، علِّي حيطان السجن يا سجان، الصورة، فجرك ما جاش، ارحلوا، هتعمل إيه" وأما القومية العربية الإسلامية، ففي "كفاية" وتخص بغداد وما نزل بها من عدوان أنجلو أمريكي، وفي "صعب جدا، صيد القمر" وتخصان قضية فلسطين، وتعرض الأولي لقيمة الشهيد والشهادة من أجل الوطن. ومن الذاتية قصيدة "لحظة" أما الرمزية فتتجلى في "فرعون" .

    وقد يعتمد المبدع الوطني البارع "جودة" الرمزية سبيلًا إلى تشكيل الوعي .. يقول في (تعرف تطير) في رمزية شفيفة كاشفة

الطير ..

اللي مالوش بين إيديكم غير .. / حجر / كان قمر .

واقفْ يونِّسكم / ويحرسكمم / ويهديكم عيونه

طَب ليه تخونوا / رغبته الصادقة

بإنه يحطكم بين الرموش

يا وحوش .  

    في قصيدة الديوان الأم، والتي تحمل عنوان الديوان، ويدخرها لآخر مراحل تواصله مع المتلقي، تتبدى إرادة المبدع وإصراره على البوح والتكلُّم والإبداع الرسالي لصالح وطنه .. يقول في "هنتكلم"

هنتكلم .. / ونمْلي الدنيا بالأشعارْ

وتقفِ الكِلمة في الميدان / وتضربْ وسط ضرب النار

هنتكلم .. / بيتألِّمْ جدار الظلم من صوتك / بيتصدَّعْ

هنتكلم .. وهنبدَّعْ / هنرسم له الكلام أحلام على الحيطان

هنعزف له الكلام أنغام م ونعمله الرصاص ألحان

هنبني بالكلام مَدْنَةْ / ونعمل بالكلام أهرام

وخلِّيه يحرق الكرَّاسْ / وخليه يحبس الأنفاسْ

 وخليه يحصد الحلم اللي طارح في عيون الناس

هيفضلْ صبرنا يكبر / وشُوف مِين اللي هيسلِّمْ

هنتكلم / هنتكلم / هنتكلم .

    (هنتكلم) ديوان شعر ينكأُ الجراح .. ويفجِّرُ الآهات .. موِّارٌ بالصرخات والأنَّأت المُوجعات .. يؤَرِّخُ لأمَّةٍ ووطن .. في صدق لهجة .. وبراعة أداء .. وبيان أسلوبٍ بديع .

ولمن لم يسمع "محمد جودة" يصدح .. ويصدعُ بشعره قويًّا حماسيًا  في ساحات الحق والحرية والعدالة ، ينبغي التنبُّهُ إلى أن شعره يفقد كثيرًا من روعته وأصالته ومراميهن حينما يتلقاه المتلقي مقروءًا لا مسموعًا .. منشَدًا من مبدعه، يصدح به ، ناشِدًا ضالَّته .ز حبَّ معشوقته .. مصر، كثيرة العُشَّاق .. التي جادَ لها "جودة"ْ برحيق إبداعه المصفَّى، فلم يرها بادلته حبًّا بحبٍّ، فظلَّت المرارة عالقة بحَلقِهِ .. وشعره . يخاطب معشوقته (مصر) في أولى قصائد ديوانه العامي الصادر عن دار البشير المصرية، هذا العام ، فيقول

رسَمْتِك في عيون الناس م قصيدة عِشْق من قلبي بغنِّيها

   إنه يعيش حالة هُيامٍ وتولُّهٍ ليس فيها المعشوق إلا الوطن، ومن أجله أحب الجميع .. الناس والطير والزرع .. بل إنه علَّمهم كيف يكون حبُّ الأوطان .. يقول

وحبِّيتك / وحبيت الجميع فيكي /وغنِّيتك / لحدّْ ما عرَّفت العصافير أغانيكي

وصوَّرتك / ووزعت الصور ع القمح في الغِيطان

ووصِّيت السنابل تعشق الأوطان .

     لكن جزاءه ما كان إلا كسنِمَّار .. فقد جفته معشوقتُهُ .. أو القائمون على أمرها، فلم يُجازوه بالإحسان إحسانًا .. وهو على ظلمها إياه .. ولأنه يعشقها .. يحتمل الأذى من أجلها، بل إنه ليتلذَّذُ لأجل عيونها بالعنت النازل به، طالما هي تقَدِّرُ ما يبذله في سبيلها .. يقول

أنا اللي العِشْق خلاني / سكَنت سجونك الضلمة / وسكن الليل فــ عنواني

وكنت أصبرْ على سجني وسجَّاني / ما دمتِ بتيجي عِزّْ الليل تواسيني

أقول عاشْقِك / تقولي إن إنتي عشقاني / تخلِّيني

أقوم آخد حيطان السجن بالأحضان .

    إن (مصر) هي بحقٍّ معشوقته .. إنها السمو والعلا، لا يراها إلا كالنجمة تتلألأ .. إنها تطوف بمخيلته حين ينام .. فتُعِينه على تجشُّمِ صعاب العشق الوطني، فيسمو بهذا الحب .. يقول

وطِيفكْ لمَّا بيجيني وأنا بحلمْ

بشوفك فوق جبل عالي / وزيّْ النجمة بتلالي / وأقول أطلع

يقول عقلي متقدرشي / وأنا بمشي / مدام القلب قال تقدر

ولا أفكرْ /  وأشُقّْ الصخر بإديَّا

وأسمو زي ما حبك سما بيَّا .

    إنها قصيدة إشهار العشق .. للوطن الحبيب، على الرغم من أن العاشق يحيا مُبعدًا، غريبًا، مهضوم الحق .. منبوذًا .. إنه مَن يقَدِّمُ .. الغارِم .. من الغرام .. ومن الغُرْمِ لا الغانم ممن يغنون نفاقًا بحب الأوطان .

    وإذا كان الهجرُ يُضني المحبَّ ويعدُّ مأساته   ، فإن جفاء "الحبيبة" مع ميلها إلى مَن يخادعها .. مأساة المآسي كلها؛ إذ لا تُجافي الجميعَ .. ولا تحاببُ الكلَّ .. والتحابب الأخير .. منطقيٌّ حينما يكون الحبيب وطنًا .. لا يفرِّقُ بين أبنائه،أمَّا أن يقرَّبَ الخؤونُ الجبان .. ويُقْصَى الأمين المِقدام، فتلك إذن قسمةٌ ضِيزَى .. يقول عن مرتكزٍ أصيلٍ من بواعث معاناته، متمثِّلًا في تلك المفارقة المريرة

لكن ألقى الجبانْ

يا مصر قُدَّامك! /  وألاقيني ورا القُضْبان

أعاني يا مصر نسيانك / واعاني قسوة السجَّان

   إن مفارقة اختلال الموازين في تقريب الخائن .. " الكلمنجي .. الأُلْعُبان" وإقصاء الصادق الأمين ــ هي جرحُ المبدع الذي لا تزال تنكؤُهُ تحوُّلاتُ الواقع كلَّ مرةٍ مع المبدع .. يقول

ويا أوطان .. عِشْقِها سكَّرْ

أنا العاشقْ / وعمري فــ يوم ما هاتحوِّلْ

دا أنا اللي عْشِقتك الأوّل / وليه حطاني فــ الآخر ؟!

وأنا اللي ارجع .. وأتَّاخِرْ؟!

   وفي نصه الوطني الأول .. يعلن "محمد جودة" عن ذاته المصرية، وأنه يعي تمامًا الفارق بين الانتماء للوطن بما هو قيمة وفكرةٌ .. إنسانية .. دينية .. وبين الولاء لأشخاصٍ أو نظامٍ إنه يؤمن بالقيمة والفكرة والوطن ولا يعنيه أيًّا ما كان بلاط القصر، ولذا تبدو مصرُ حاضرة في جميع نفثاته الوطنية الصادقة .. يقول

وأنا اللي لسه فــ اللفَّة / قالولي إزَّاي هتتخفَّى

هتخدم في بلاط القصر

وأنا اللي كنت بتمنَّى / أكون في خدمتك يا مصر .

ويكثر في النص تردد الضمير "أنا" ومماثلاته كتاء المتكلم المتصلة بالفعل الماضي التحقيقي، وقد بدأ بها نصه، تعريفًا بأفعاله لا بذاته.. فضلا عن ياء المتكلم المتصلة غالبًا باسم في نهاية النص .. يتردد (أنا) وحده إحدى وثلاثين مرةً، يخاطب معشوقته في مختتم وطنيته الملتهبة الصادقة، في حماسة تتلبَّسها مرارة عدم التفات المعشوق لمعشوقه .. إذ لا يرى بُدًّا من تعريفها بذاته ..فكأنه المجهول لديها، وهو قياسًا بما يقدم المعلوم .. العلَم، والمأمون .. الباذل .. يقول

وأنا م السجن بندهلك

أنا ناسِكْ / وأنا أهلك / وأنا صعْبِك / وأنا سهْلك

وأنا نُوبِكْ / وأنا نابِك

وشاوري بس يا غالية / تلاقيني على بابك

وخلِّي حدّْ يتعدَّى / وأنا أوزن دمي بترابك / وأنا أوزن دمي بترابك .

       إن مصر في النص الافتتاحي بالديوان، هي الحب الحقيقي .. يقول "جودة"

ولا يلزمني في حبك

آخُدْ لي نِيشان / أنا عاوزك / تبصي بس م الشباك

وتبتسمي / وأسمع فوق شفايفك دي .. / حروف اسمي

تقولي فينكوا يا وْلادي

أقول يا مصر خدَّامِك .

   إنها في موضع آخر من "ثورة الورد" (أمُّ الحبايب) وشبابها هم أكثرُ الباذلين من أجلها .. مع أنهم أقلُّ المحظوظين فيها .. إن الشاعر يبدو ككل منصفٍ واعٍ مقدِّرًا ومُمْتنًا جدًّا لتضحيات الشباب خاصةً من دون بقية شرائح المجتمع المصري .. يقول

ويا أُّم الحبايب

شبابك بيسهر يذاكر في عشقك / وما كانش خايب / وقف فــ الميدان

وجاوب بدمه على الإمتحان / وشبِّك كفوفه

عشان يبني أهرامه .. في وش خوفو / وطوفوا .. / وشوفوا ..

شباب بلدي لمَّا .. يوحد صفوفه

ويكسر قيوده / ويقهر ظروفه .

    ورغم ما يعانيه جرَّاء حبه مصرَ، فإنه ــ ولأنه يرى حبها عقيدةً تملَّكت الفؤاد ــ يعلنُ إصراره على الاستمرار، وأنه سيرضِعُ أبناءَه لبانَ حبها، لأنه عشقها .. يقول في "ثورة الورد"

هنا القاهرة

وهافضل أحبك

وأعلم وِلادي / بإن البلد ما هيش عِشق عادي .

    وهواجس خوف "جودة" ــ في ضوء ما يعاني ــ ليست ذاتية ، فليست إلا من أجل معشوقته.. يقول في "سفينتك"

وأنا خايف / ألاقي سفينتي غرقانة فــ عتمة ليل

فــ بحر الويل

ومتسلِّم صكوك بيعها لإسرائيل .

يناجيها في ختام "الصورة" فيقول

وأنا يا بلادي الحبيبة من هنا بندهك

كَف النبي رسَمِك / رسم النبي كان جميل

اخترتي عنُّه البديل / رَسَمِكْ .. فقام شوِّهِك . 

(2)

   ومن عتبة الديوان الرئيسة؛ عنوانه (هنتكلم) يبدو إصرار الذات المبدعة على البوح .. والكلام قبل فوات الأوان .. إنه إسلامي المنحى .. نبوي النهجِ .. حين يستمد من قوله تعالى ( فاصْدَعْ بما تُؤمَر وأعْرِضْ عن الجاهلين).. رسالته الإبداعية في اللحظة الحضارية الفارقة المكلفة لأمثاله .. والتي تتغيَّا تشكيل الوعي .. يقول في ثنايا "سفينتك" كاشفًا عن تلاشي مبررات الصمت لديه

ولمَّا نْضِيعْ

ندوَّر ع اللي كان سايق / وكان سكران .. / ومش فايق

بنلقاه فرّْ / كدا بننضرّْ كدا كل الوطن بيروح

كدا لازم يسوقها نوح

كدا يا روح .. ما بعدك روح

وهاسكت ليه وأنا مدبوح .

   وبالديوان تقدير للكلمة الشاعرة، ودورها التوعوي، فهي الأبقى رُغم تضييق الطاغوت ومكره .. يقول في "علِّي حيطان السجن يا سجَّان"

ضيَّقْ على قلمي

وعلى فكرتي / واُمكرْ ودبَّرْ ليَّا ..

ولأُمتي / إنتَ زايل / والزمان دوَّار

وتعيش على مرِّ الزمان كِلْمِتي .

    ولا يعني الشاعر أن يُوجِعَ الإبداعُ من يخاطَبُ به .. ولا أن تكون عواقبه على قائله وخيمةً، فتلك رسالة الشعراء الرامية إلى إظهار الحقيقة، ومناصرة الحق والمشاركة في بناء الوعي، وتنبيه الغافلين، من أبناء الأمة .. عساهم يحذرون .. إنه ممن نفر لينذر قومَه .. يخاطب نفسه وكلَّ شاعر وطني رساليٍّ توعوي، فيقول في قصيدة "صورة"

صوَّرْ يا شاعرْ

ودوَّر ع الكلام اللي يوجع / يمكن يفكَّرْ أخوك

ويحن ليك يرجع

صوَّرْ جموعنا / ودموعنا / ودمِّنا / والبُوم

وابعت بقا للحكومة نسخة م الألبوم

وابعت لأمة نبينا الغرقانين فــ النوم

    واسألها يا أمتي / لسَّه ما جاش اليوم ؟!

لو كل ظالم ركب على ضهرك العريان

تديلوا قُوت العيال

وتعمليه سلطان !!؟

(3)

     يمتاز ديوان (هنتكلم) بوضوح الذات المبدعة .. تماما، فأمله أن يحيا في أمان ببلاده التي يحبها، وأن يطبِّقَ منهجه وشرعه .. يقول في "كفايه"

أعيش في أمن فــ بلادي

وأطبَّقْ منهجي وشرعي .

    وتتجلى سمة الوعي بنصوص الديوان .. والوعي هو بحق معركة الأمة الكبرى في هذه المرحلة الصعبة على مسار استرداد الصدارة الحضارية .. وهذا الوعي تتعدد مظاهره .. يتمثل الوعي الحضاري الراقي باللحظة التاريخية الحاضرة في قوله بمفتتح قصيدته"ثورة الورد"

هنا القاهرة

ومصر اللي معرفتوهاش / هنا الحلم كمّل .. وعاش

فــ قلب الشباب اللي فتَّح عيونه / وملقاش وطن / وملقاش سكن / وملقاش وظيفة

وملقاش مكان للقلوب النظيفة

   أمَّا الوعي بقيمة ما يقدمه المقاومون .. الوطنيون الصادقون لأوطانهم .. وهي قيمة عظيمة، فيتجلَّى بنصه المعني بقضية القضايا العربية (فلسطين) "صيد القمر" .. يقول معتمدًا لتعدد مظاهر تمثل القيمة تقنيةَ التكرار للتعبير "اعرف بإنك"

وما دُمْت مِخْتَار الوطنْ

يبقى بناءً عليه / اعرَفْ بإنكْ حلم بيراود بنات الحيّْ

اعرف بإنَّكْ ضيّْ / اعرف بإنك نبي / ساكن فــ آخر مدينة

اعرف بإنك سفينة .. / في وطن غرقان / إنسان

بيخطف حبيبته من إدين الشيطان

فنَّان .. / بيعزف فــ آخر لحن فــ الوجدان

رسَّام / بيرسم مطر نازل على الوِدْيان

يجري ما بين الزروع / يروي شجر عطشان

اعرف بإنك / فارس الفرسان / اعرف بإنك لسان / طالع جبال الخُرْسْ

عرف بإنك حرس / حارس ببان الناس .

  وبالقصيدة تقدير واضح لسجناء الرأي ومحبوسي الفكرة .. وهذا منطقي من مبدع مؤمن ..  إذ يفتتح نصه بقوله

مسجون ومتحاصر صحيح

لكن بتوقف عنفوان الريح / بكفك العريان / وبْجُوز عيون ..

متشبَّعين إيمان / بتوقف العدوان .

   وبالديوان وعيٌّ بأحابيل الطغاة .. الفراعين .. خارج إطار أي زمان أو مكان .. إنهم يقيدون الحريات، خاصة حرية الرأي والتفكير والتعبير .. كما أنهم يخنقون النور، ويعتمدون العنف وسطوة العَسَسِ .. ويزيِّفون الحقائق .. ويخدعون الجماهير .. ويلهونهم .. ويرهبونهم .. إنها بلاد الخوف .. يقول في "فرعون" الناحية إلى الرمزية

زوِّدِ الحُرَّاس على قلب الصبية

كلّ ما تلاقيها جايَّه /  واخنُق الضيَ فــ عيونها النرجسية

عند ما تلاقيها ضيَّة

واشنُقِ الكِلمة على عِدان صمتنا

قُول كما فرعون بإنك ربِّنا .

ما يعزز وصف الطاغية بقوله عنه وعن زبانيته

لاحِقِ الناس فــ الشوارع

راقِب الناس فــ الجوامع

واشغل الناس بالطحين

الِّلي مسروق م الصوامع

على أن الأمور لا تدوم على حال، والظلم سقاء التمرد، وباعثه الأشهر .. يقول بالنص ذاته عن هبَّات الدهماء ضد الطغاة، مخاطبًا أحدهم

والغلابة اللي حنيتها

لَجْل ما تشيِّدْ قصوركْ / هيه دي الناس اللي هتقلع جدورك

والعصابة اللي انتَ قوِّيتها

على الناس الحزينة

هيَّه أوّل ناس هتهرب م السفينة

 بعد ما تفتح هويس الميَّه على كل المدينة .

(4)

   الإبداع الرسالي كديوان "جودة"  يعمل على استدعاء رموز اللحظات المشرقة .. وأيام التوهج الحضاري .. زمان كانت الأمة سيدة الكون .. والحق أن الأمة المسلمة عريقة التاريخ من لدن خاطبت السماءُ  الأرضَ، ونزلت الرسالات .. في ديوان (هنتكلم) ذكرٌ لــ "نوح" (قصيدة سفينتك)  ولــ "موسى" (قصيدة أنا العاشق) ينصص من سيرة "يوسف" عليه السلام في "صيد القمر" وتحديدًا غدر إخوته به .. تماما كما كان من غدر الخانعين .. الخائنين لمشروع المقاومة الوليد .. يخاطب المقاوم الفلسطيني مقدِّرًا جهاده ونضاله وعصاميته .. ومنددِّا بالآخرين

لكنْ أخوك / يا يوسف رماك

وحرِّضِ القاتل عليك / ولفّْ حوَلِيك الشِّباكْ

وفي "ضحِّيتي بمين" يجمع رمزين إيجابيين من رموز الوطنية الإسلامية .. أحدهما قديم والآخر حديث .. جمع بينهما الولاء للأمة والوطن والدين  .. إنهما (صلاح الدين وسليمان خاطر) ولئن كان الأول كرديًّا والثاني شرقاويًّا ينتمي إقليميًّا محافظة المبدع ، فقد جمع حبُّ الفداء والتضحية .. يقول ممرورًا من واقع مختلٍّ

يا أمّ البساتين

كات حلوة ونِفسها تطرح فضَّة ليوم الدين

راح فين الخير / والنيل .. / والطير

وصلاح الدين

ضحيتي بمين / علشان تعملي تاج راسك مين؟!

ضحيتي بــ عود .. / مِن خير جنود ..

الحب فــ قلبه ما لوهش حدود  / كان واقف لَجْلْ عينيكي السُّودْ

صايم .. وضميرك كان فاطِرْ

سليمان خاطر

قلب ميعرفش يكون مسجون / فــ بلاده

وطايح فيها الدُّون

    ومن الرموز السلبية المحفورة في الوعي الجمعي السويِّ بأفعالٍ لا إنسانية منتفخةً بالعدوان والجشع أو الخِسَّة والنذالة، عرض "جودة" في ديوانه لبعض هؤلاء، في القديم والحديث أيضا .. كــ "هامان" رمز المال الطاغي، ورجال الأعمال الفاسدين الفُجَّار المُوَالين للسلطان .. يخاطب رمزيته القديمة الحديثة، فيقول في "فرعون" لكل فرعون

خلِّي هامان الجبان

بعد ما فاض الطوفان (..) / ينقذك ويرجَّعِك

إنت رايح للي قلبك عمره ما حنّ لكلامُهْ

واللي ما عرفتش حلالُه من حرامه / أكَّليه يا ملايكة من طين الوطن

اللي فرَّط فيه / وكان فيه مؤتمن

واللي باعه للأعادي بدون تمن / لا يا سمك القِرْش مَتَكُلْشِ الجبان

طلَّعوه ع البر علشان الزمان

يجعله عبرة .. / وآية للي خان .

   ويشير إلى أحد أشهر جواسيس بني صهيون في العصر الحديث، وأنه لن يناله أذي .. من أمة غافلة .. اختلَّت في يدها الموازين .. فأطلقت الخائن .. وكبلت الأمين .. يقول في "ضحيتي بمين"

يا صباح مجروح

عزَّام هيروح .. / للأهل .  

(5)

   للإيقاع في إبداع "جودة" دورٌ وأهمية، خاصة مع إنشاده، إذ يجيد المبدع حين ينشد شعره إبراز مراده، والكشف عن مقصوده، فتتجلى الدلالة واضحة لا مهرب للمتلقي متمتعًا أو منكرًا من الإحساس والتعرف على ما أراد المبدع إيصاله .. والتواصل بشأنه .. وللقافية بالديوان نمطان رئيسان؛ متتابعة ومتناوبة . أما المتتابعة فتكثر فيها ومعها الموسقةُ النهائية على رويٍّ بعينه، كما الحال في "ثورة الورد" في قوله على ري (الحاء) كاشفًا عن إصرار المبدع الوطني .. والمواطن المبدع

هنا القاهرة

وكل اللي خان أرضنا وحلمنا

ويسجن ويقتل وعايز سماح / وكل اللي زارع قلوبنا جْراح

هنفضل نلاحقه ومَطرح ما راح / هنفضل نضيَّق عليه البراح .

   وأكثر قوافي الديوان ما جاء مثنى مثنى .. يتغير الروي بعد كل مرحلتين، من ذلك قوله في ختام "كفاية"

وقولي للي بيشارك / فــ قتل اخواته ويعارك

ومد الإيد لأمريكا

ومد التانية للموساد / كفاية قتل يا بغداد .

ومن جميل نماذج هذا النمط قوله  في "سفينتك"

سفينتك رايحة فين يا مصر

وليه يا مصر سكانها مسألوش السؤال دُوَّه

مع إنك .. / بتتمايلي .. وحواليكي مِتين نوَّة

وشعبك فــ الشقا غرقان / وسمك القِرش والحِيتان

بيتقاسموا سوا دمُّهْ / وقُبطانك ولا همُّهْ

وبحَّارة خلاص .. هيوصَّلونا القاع / بنفس اللحن والإيقاع

ونغرق جوَّه سفينتنا

ومش لاقيين فنار أو برّْ

وللقاع السفينة كلها بتنجرّْ .

    وأجمل قوافي الديوان وأسلسها ما جاء غير منتظم، تتنوع مراحل تردده عفوًا ما بين مثنى وخُماس وما فوق ذلك بكثير جدا .. ذلك ما كان في مفتتح "ثورة الورد" وفيه ينوع التقفية ما بين الشين والنون والكاف مثنى مثنى، وما بين ( ـــيفة ) خماسية التردد، وتتردد التقفية فيما يشبه لزوم ما لا يلزم ( ــــارة) لأكثر من سبع مرات متصلة، كأنها قصيدة مكتملة .. يقول

هنا القاهرة

ومصر اللي معرفتوهاش / هنا الحلم كمّل .. وعاش

فــ قلب الشباب اللي فتَّحْ عيونه

وملقاش وطن / وملقاش سكن

وملقاش وظيفة / وملقاش مكان للقلوب النضيفة

 ومطرح ما يمشي يلاقي بشر / وشوشهم مخيفة

 بتجلد فــ مصر اللي كانت عفيَّة / وعايزاها دايمًا هزيلة وضعيفة

ويصرُخْ .. ويبكي / ويكتب ويشكي

واتاري رئيس العصابة الخليفة

ومصر الإمارة / ورهن الإشارة

وغارة على مصر من بعد غارة / لحد أمَّا نسفوا التاريخ والحضارة

وخلُّها عِبرة وهيَّ المنارة

وفي صفحة العِشق أجمل عبارة

هنا ثورة الورد تدِّي الإشارة

ويتجمَّع الورد من كل حارة .

(5)

    ظاهرة أسلوبية أخرى بارزة يكثر ترددها بالديوان وتتصل بتجربته الإجمالية .. أعني بها المفارقة، وهي ظاهرة تتصل في الديوان بملمح رئيس، يعاني منه المبدع، ويكاد يكون إحدى وجائعه الأساسية المشكِّلة لرؤيته ورؤاه معا .. والمفارقة تعتمد في بعض صورها على المقابلة؛ السياقية خاصة، هذا الملمح يعاني منه الشعراء الشرفاء الأوفياء، يتمثل في مفارقية اختلال الموازين، أو انقلابها إن شئنا الدقة، وذلك حين يُقْصَى المحبُّ الباذل، ويُقرَّبُ الخؤونُ الناهب، وربما اتصلت المفارقة عند "جودة" بتحولات الأوضاع، أو بؤس الواقع المحلي .. والإقليمي .. يقول مما يتصل بهذه التحولات .. من الأفضل إلى الأسوأ .. في "كفاية" راشفًا عن هوان الأمة

بقا الناس اللي كان للنخل شَمْخِتها

بقَتْ للأرضْ محنيِّة

ودم ولادك

 الغالي / بقا أرخص من الميه

ومثله قوله في "الصورة"

يا أمَّه تِعِبِ الزمان

من طُول ما كتب الهزائم / الأوفيا فــ السجون ...

واللي فــ وِسط الولائم / والغنا والمجون

هوَّ الإمام (..) والحارس المأمون .

  ومما يتصل بمفارقية الواقع العجيب، ما ورد في سفينتك" كاشفًا عن تقديم ما حقه التأخير .. وتأخير ما حقه التقديم، وهو خطأ ينحو بالأمة إلى الفساد بالجملة ! يقول

سكوتي جُرْمْ

على اللي خارم فــ السفينة خُرم

ويعلى والوطن نازِلْ /  ويتخن واحنا نتهازل

ويتآقِلْ ويترازل / على الباذل كدا روحه فِدَا بُوحُهْ

   ومن جميل نماذج المفارقة المعتمدة على المقابلة، قوله عن الأطفال الأبطال .. وليسوا إلا بفلسطين؛ أرض الرسالات والمحشر ، مكبرًا جهادهم ووطنيتهم

يا مولودين فــ الرحاية

يا اللي حكيتوا للوطن أجمل حكاية / يا أمَّات عيون واسعة

وكفوف صغار / يا ضاربين الاحجار

يا فاتحين الصدور تضرب فــ ضرب النار

صغَّرْتُم الكلِّ فــ عيون الوطن

يا كبارْ .

   وربما بدت المفارقة في بعض نماذجها البارعة .. صادمةً كاشفةً عن غرابة سلوك ما كان للأمة حال تعافيها أن تأتيه .. ذلك في قوله بـــ "صيد القمر" عن المقاومين الأوفياء .. وخيانات العملاء .. الجهلاء 

كان شئ طبيعي إن الجميع

لمَّا يشوفك واقفْ

بترمي شباكك المغزولة من شعر البنات السُّمْر

تصطاد القمر / يقفوا معاك

ويعطَّلوا بإديهم الأفلاك / ويموتوا من خوفهم عليك

ويموتوا من شوقهم فِداك

لكن أخوك / فــ الجُبِّ يا يوسف رماك / وحرَّض القاتل عليك

ولف حواليك الشِّباكْ .

   وقد يعتمد نصٌّ بعينه لطبيعة تجربته بالأساس في تشكيله الأسلوبي والجمالي على بنية المفارقة، فيكثر ترددها في رحابه، منسجمة مع التجربة، وفاعلة في نقلها الأمين، كما في "ضحيتي بمين" فالمفارقة هي البنية الرئيس بالنص .. يقول عن تضحيات (سليمان خاطر)

سليمان ... / مجنون

والناس البايسين رِجْل الكون / هُمَّا العاقلين !

ضحيتي بمين / علشان تعملي تاج راسك مين؟

ضحيتي  بوردك وبفُلِّك

علشان تعملي شوكك حُرَّاس .

    ويقول عن واقع متعفنٍ بائسٍ مشوَّهٍ بالأمة الغافلة  في عصرها الراهن .. في مفارقة فاضحة

واضحكي وإرادتك مسلوبة / واعملي كسبانه يا مغلوبه

واعملي محترفة ولعِّيبة / واضحكي وافرحي .. داري الخِيبة

ووْلادك رايحين فــي مصيبة

وإنتي مصدقة عالم خاينين

ضحيتي بمين

علشان تعملي تاج راسك مين .

   ومن مفارقاته المؤلمة المُبئِسة قوله في نهاية"تعرف تطير" كاشفًا عن جحود الأمة لمنقذيها وتنكرها لهم

اللي رسم فرحة على خدّ الجميع

ليه الدموع على خده يترسموا

حِسُّوا بتأنيب الضمير

حُبّه ما علمكوش تحبُّوا

طَبْ كنتوا علمتوه يطير .

   وتبدو الصورة الشعرية في ديوان (هنتكلم) حالمة .. دقيقة .. دالةً، كما في "صيد القمر" حين يقول عن صورة تنازع ملك الموت وملائكة الرحمة بالأرض .. الأمهات، للبرءاء الأطهار.. وكلاهما يريد لهم الحياة

شايف ملاك الموت

عمَّال بيجري / ما يلحق .. / من هنا لهناك

ودموعه نازلة على حجم الدمار والهلاك

هُوَّه يشدّ العِيال .. / والأمهات بتشدّ

يبكي وتبكي القلوب

والعدَّادات بتعِدّْ .

      ويمكننا التعرف على الإبداع الحق، والنقاء، والطهر، والنورانية، والدرامية في إبداع "جودة" الشاعر المسلم الفذُّ الرسالي الوطني على نحوٍ أفضل لو طالت الوقفة التي لم ينقصها الدقة ولم تتلبسها العاطفة المجاملة أبدًا ـــ ذلك و طالت الوقفة حسب ما يستحقه الشعر والشاعر، لكن للأيام بلبالها وشجونها .. وما لا يدرك كله لا يُترك جلُّه .. وتكفيني هنا الإشارة في الختام إلى قول الحبيب "جودة"  في مفتتح "لحظة" كاشفا عن أمانة الكلمة، والرغبة في نورانية ويقظة الضمير، وخيرية القلب والروح، وتجدد العطاء

وأنا داخل .. بتسحَّب جُوَّايا

كان كل مُنايا / أتأكِد إن ضميري ما ماتش

وأطمِّن .. / على حجم الخير اللي فــ قلبي

وافتح شبابيك الروح

اللي بتقفلها الريح

للشمس .

أحيا الله قلبك ، وأمتع بك ، وأطال عمرك، وأجرى لك ثواب المجاهدين .

وسوم: العدد 687