شخصية الإمام محمد عبده في الشعر الإسلامي الحديث

clip_image002_81f4c.png

أ – حياة الإمام محمد عبده، ودوره في التربية، والإصلاح .

كان الأستاذُ الإمامُ ( محمد عبده ) ربعَ القامةِ ، أسمرَ اللونِ ، قويَّ البنيةِ ، حادَّ البصر ِ، بليغَ العبارةِ، فصيحَ اللسانِ ، ذكيَّ القلبِ ، شديدَ العارضةِ ، قويَّ الحافظةِ ، وكان أشبهَ ( بابن خلدون ) في كبر نفسه، وصفاءِ عقله ، وبعدِ نظره ، وقوةِ جأشه ، وكرمِ خلقه ، وصراحةِ قوله ، حتى في خصوصية زيِّه .

وقد كان مثله في رضا الحقِّ ، ومحاربةِ البدع ، سخط الخاصة، وغضب العامة شأن زعماء الإصلاح في كلّ أمّة.

كانت اللغةُ في عهده فريسةَ العجمة رهينةَ البلى ، فجاهدَ في إنقاذها وإحيائها حقَّ جهاده .

ثم سلك في التدريس غيرَ سبيل الأزهريين ، فقرأ كتابي (عبد القاهر الجرجاني) في البلاغة بأسلوب يملك الأسماعَ والقلوب ، وفسّر كتابَ الله بلسان رسوله .

فكان في درسه خطيباً جزلَ المنطق، قويَّ العارضة، لا تدركهُ حبْسةٌ، ولا يرهقه حَصَرٌ . فأفاد الطلابُ ببيانه مثلَ ما أفادهم بتبيينه.

وأما عن أثره في العلم والدين فحدّث عن البحر ولا حرج ، حيث وجد الدين غام أفقه بسحب البدع  والأضاليل ، فاطلع الأستاذُ من فكره، وعلمه نيراً بدّد غيوم الباطل ، وجدد رسوم الحقّ، ورأى العلم قد أخذ ينغِضُ إلى الدين رأسه ، فوقف بينهما موقف المؤلف الموفق ، كما فعل ابن سينا، وابن رشد من قبلُ، وأخذ يفسر القرآن بلسان العلم والعقل ، وكتب رسالة في التوحيد بقلم عبد القاهر، فقرّب العقائد من الأفهام ، وحسر عنها ظلال الإبهام .

وسمعَ ألسنة المبشرين والمستعمرين تمتدُّ إلى جوهر الإسلام بالإفك؛ فقطعها بالأدلة النواهض، والحجج الملزمة .

وكتاب ( الإسلام والنصرانية )، وردّه على ( هانوتو ) الفرنسي من تلك الأسلحة التي أجهزت على تلك الشبه المدفوعة ..وهيّا بنا نعيش في ظلال سيرته ؟ نرتشف من تعاليمه وأفكاره ، ونغرف من  بحره؟؟!!

ولادته، ونشأته : 

ولد الإمام المجدد محمد بن عبده بن حسن خير الله سنة 1849 في قرية محلة نصر في شبراخيت  بمركز طنطا في محافظة الغربية في مصر، من أم مصرية تنتمي إلى قبيلة "بني عدي" العربية، وأب كردى من مصر.

دراسته :

وكان أبوه صاحب مكانة ملحوظة في القرية، وبعد إتمامه للقرآن الكريم أرسله والده إلى طنطا لاستكمال تعليمه، فعجز عن استيعاب العلوم والمعارف نظرا لأسلوب التدريس القديم، ولكن أباه أصر على تعليمه مما أدى به إلى هروبه من المنزل ، فأحضره والده وزوجه في وقت مبكر وعمره 16 سنة ، وظن هذه التصرفات نزوة مراهق ، وبعد زواجه بأربعين يوماً أمره والده بالرحيل إلى أحد أخوال أبيه ( الشيخ درويش خضر ) الذي أثر كثيراً في حياته، فزرع الزهد، والتقوى في قلب محمد عبده ، وحبب إليه دراسة الدين، وبعدها سافر إلى طنطا لإكمال المعرفة ، وكان ذلك قرب نهاية العام الدراسي /1282 هـ/ فجلس إلى العلماء ، وتلقى الدروس في ( شرح الزرقاني ) ، والآجرومية ، وراح يفهم ما يقرأ ، ويسمع، وتحوَّل الشيخ محمد عبده إلى الأزهر سنة 1866 م ، فدرس النحو، والفقه ،والتفسير، ولما كانت طريقة التدريس بالأزهر تقليدية فلم يلم آنذاك بالعلوم والمعارف الحديثة، ولكن خاله لفت أنظاره إلى أهمية هذه العلوم، والمعارف ، فتعلم الحساب ، والمنطق ، والهندسة .

-وفي سنة 1877 م حصل على الشهادة العالمية .

أعماله :

درّس في الأزهر سنتين ، واقترح على الشيخ الأنبابي تدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر ، وفي سنة 1879 م عمل مدرساً للتاريخ في مدرسة دار العلوم ، ثم فصل بعد عدة أشهر بسبب جرأته ، وتعلقه بأفكار جمال الدين الأفغاني .

وفي سنة 1882 م ، اشترك في ثورة أحمد عرابي ضد الإنجليز ، وبعد فشل الثورة حكم عليه بالسجن ، ثم بالنفي إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات ..

 تتلمذ على يد الإمام جمال الدين الأفغاني :

في أواخر عام 1286هـ جاء الأفغاني إلى مصر ، فلازم الإمام محمد عبده أستاذه جمال الدين الأفغاني مدة طويلة ، وتأثر بأفكاره الإصلاحية ، وراح مشايخ الأزهر يتقولون عليه ، وزعموا أن الفلسفة تزعزع العقائد ، وتشوش الفكر ، ودرس محمد عبده على الشيخ حسن الطويل ، ومحمد البسيوني ، وبعد تخرجه من المعهد الأزهري راح يلقي الدروس ، ويكتب المقالات ، ويشارك زعماء الثورة ، فيوافقهم في أمور ، ويخالفهم على غيرها ، ودعا إلى نشر التعليم بين أفراد الأمة ، وإقامة العدل والمساواة ، ثم سافر بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة 1884 م ، وأسس صحيفة العروة الوثقى، وفي سنة 1885 م غادر باريس إلى بيروت، وفي ذات العام أسس جمعية سرية بذات الاسم ، العروة الوثقى، قيل أنها ذات صلة بالمحافل الماسونية العالمية تحت زعم التقريب بين الأديان .

وقد التقى بجمال الدين الأفغاني ، ووضعا معاً أسس الإصلاح الديني في العالم الإسلامي كله.  وكل ما كان يشغلهما من خلال دعوتهما للإصلاح هو يقظة العالم الإسلامي على مواجهة الغرب الذي يرغب في الاستيلاء على مصادر الثروات الطبيعية والبشرية في ديار الإسلام الممزقة التي يحكمها الجهل. لذلك قاما بتوجيه دعوتهما إلى العقل المسلم ينفيان عنه الخرافة والتواكل والدروشة ، ويحررانه من عبودية الشكليات.

الانتقال إلى بيروت ، وزواجه :

ثم عاد مرة أخرى من باريس إلى  بيروت فتزوج من زوجته اللبنانية الثانية ( رضا حمادة ) بعد وفاة زوجته الأولى ، ولم يعقب من الذكور إلا بولد توفي صغيراً ، وأعقب 4 بنات ،و قام بتأليف عدد من الكتب، والتدريس في بعض مساجدها، ثم انتقل للتدريس في "المدرسة السلطانية" في بيروت حيث عمل على الارتقاء بها وتطويرها، وقال الشرنوبي عن دروسه : كان الشيخ يتكلم ، فيخرج النور من فيه ، كما شارك بكتابة بعض المقالات في جريدة " ثمرات الفنون"، وقام بشرح " نهج البلاغة" و " مقامات " بديع الزمان الهمذاني".  وكتب رسالة إلى شيخ الإسلام في الآستانة حملت آراءه في إصلاح الأمة بالتربية والتعليم.

عودته إلى مصر :

وفي سنة 1889 م - 1306 هـ عاد محمد عبده إلى مصر بعفو من الخديوي توفيق ، ووساطة تلميذه سعد زغلول وإلحاح نازلي فاضل على اللورد (كرومر) كي يعفو عنه ، ويأمر الخديوي توفيق أن يصدر العفو ، وقد كان ، وقد اشترط عليه (كرومر) ألا يعمل بالسياسة فقبل ..ورفع شعاره المعروف : لعن الله ساس يسوس .

عمله في القضاء :

أبعد الإمام عن وظيفة التعليم التي أحبها لكي لا يؤثر في أساتذة المستقبل ، فعينوه في القضاء في محكمة بنها سنة 1889 م ؛ لعلمه في الشريعة ، ونزاهته ، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق، ثم محكمة عابدين ، ثم ارتقى إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف عام 1891 م ..فتوسع في مبادئ القانون الجنائي الذي تعمل فيه المحاكم ، لأن القانون المدني يجري على أحكام الشريعة في مسائل المواريث ، وحقوق المال والمعاملة ، وتعلم اللغة الفرنسية ، من الكتب ، وحضر بعض الدروس في جامعة جنيف أثناء رحلته إلى سويسرة ، وتجاوز مرحلة الفهم والمطالعة إلى الإفهام والكتابة بالفرنسية ، وترجم عن الفرنسية كتاب التربية للفيلسوف ( هربرت سبنسر ) ترجمة تدل على تمكنه من اللغة .

منصب الإفتاء :

وفي 3 يونيو عام 1899 م - 24 محرم 1317 هـ عين في منصب المفتي ، وكان منصب الإفتاء يضاف لمن يشغل وظيفة مشيخة الجامع الأزهر في السابق ، ثم استقل منصب الإفتاء عن منصب شيخ الجامع الأزهر ، وصار الشيخ محمد عبده أول مفتى مستقل لمصر معين من قبل الخديوي عباس حلمي، وهذا إحصاء لفتاوى الشيخ محمد عبده ، عدد الفتاوى 944 فتوى استغرقت المجلد الثاني من سجلات مضبطة دار الإفتاء بأكمله وصفحاته 198، كما استغرقت 159 صفحة من صفحات المجلد الثالث . وكان ينشر فتاواه في مجلة المنار ، وظل الشيخ محمد عبده مفتياً للديار المصرية ست سنوات كاملة حتى وفاته عام 1905 م وتبعاً لذلك أصبح عضواً في مجلس الأوقاف الأعلى .

وفي 25 يونيو عام 1890 م عين عضواً في مجلس شورى القوانين .

وفي سنة 1900 م - 1318 هـ أسس جمعية إحياء العلوم العربية لنشر المخطوطات ، وزار العديد من الدول الأوروبية والعربية .

اجتهاده ، وإصلاحاته :

يُعدّ "الإمام محمد عبده" واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.

وأهم إصلاحاته :

عمل الإمام محمد عبده على إصلاح المحاكم الشرعية ، وإصلاح مناهج التعليم ، وإصلاح الأزهر، والرد على خصوم الإسلام ، وتفسير القرآن بلغة العصر ، ونشر الكتب، والمؤلفات ، وازداد إيمانه بعقم المحاولات السياسية ، وضعف الأمل في إصلاح الحكام والأمراء ، ووجوب الاهتمام بالأمم والشعوب ، وحصر الهمم في النهضة من خلال العلم الصحيح والتربية الاجتماعية الصالحة  .

واعتنى بإصلاح المساجد ، عندما كان عضواً في المجلس الأعلى لديوان الأوقاف التي تشرف على المساجد ، فقرر إنشاء إدارة مستقلة بالديوان تسمى ( إدارة المساجد ) وتتخصص لتعيين الأئمة والمدرسين في مساجد المدن والقرى ..

كما أسس مدرسة لتخريج الدعاة ورسل الإصلاح الذين يعتنقون أفكاره .

انتظم محمد عبده في سلك الحزب الوطني منذ نشأته قبيل عزل الخديوي إسماعيل ، ورفع شعاراً يقول : مصر للمصريين ، ثم طلق السياسة إلى غير رجعة..

وكان يشجع على طبع الكتب ، ويساعد الأيتام في حملة السودان ، وكان رائد الخدمة الاجتماعية، لبى استغاثة الأهالي في حريق (ميت غمر) في أوائل صيف 1902م حيث بلغ عدد المنكوبين حوالي 5 آلاف شخصاً ، ورأس الجمعية الخيرية الإسلامية من 1317 هـ حتى عام 1322هـ ، وازدادت مدارسها فوصلت إلى / 7 / ، وعدد تلاميذها 766 ، وتملك 533 فداناً من الأرض ، وارتفع دخل الجمعية إلى أكثر من / 10395 / جنيهاً ، وراحت تعلّم مجاناً ...

موقفه من الثورة العرابية :

أيّد الإمام (محمد عبده) الثورة العرابية في بعض الأمور ، مثل تولي المصريين للوظائف ، والدعوة إلى التعليم ، وخشي أن تجرّ الأمة إلى التدخل العسكري من جانب الدول الأجنبية فعارضها .

وأيد الخديوي في سعيه نحو الاستقلال ، ولكنه كان ينكر عليه نفاقه ...

وأيد وزارة رياض باشا في برنامج الإصلاح ولا سيما رفع السخرة ، وتحريم الجلد بالكرباج ، ومحاسبة المسيئين ، ولكنه عارضه في شهوة السلطة والحكم فلم يعتزل الوزارة حين وجب اعتزالها.

وفاته :

وفي الساعة الخامسة مساء يوم السبت 11 يوليو عام 1905 م - 7 جمادى الأولى 1323 هـ توفى الشيخ بالإسكندرية بعد معاناة من مرض السرطان عن سبع وخمسين سنة ، ودفن بالقاهرة ، ورثاه العديد من الشعراء .  

 مؤلفاته :

1- رسالة التوحيد .

2-  شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني .

3- شرح نهج البلاغة .

4- الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية  .

5-  تحقيق وشرح "البصائر القصيرية للطوسي .

6-   تحقيق وشرح "دلائل الإعجاز" .

7-  "أسرار البلاغة" للجرجاني .

8-  الأعمال الكاملة – جمع وتحقيق د . محمد عمارة .

وكتب عنه :

كما قام العديد من الكتاب والصحفيين بتناول شخصية محمد عبده وآرائه الإصلاحية من خلال كتبهم ومقالاتهم المختلفة منها :

1- "محمد عبده" تأليف  عباس محمود العقاد .

2- "رائد الفكر المصري – الإمام محمد عبده" من تأليف عثمان أمين .

3-  كتاب " الإمام محمد عبده في أخباره وآثاره" تأليف رحاب عكاوي، وغيرها العديد من الكتب

4- تاريخ الأستاذ الإمام – تأليف محمد رشيد رضا – ويقع في ثلاثة مجلدات ضخمة .

clip_image004_06ea1.png

شخصية الإمام محمد عبده في الشعر الإسلامي الحديث

كان الإمام محمد عبده شخصية متميزة ، تحظى بحب العامة واحترام الخاصة .وقد بلغ الرجل هذه المكانة من نفوس الناس بفضل مواقفه الثابتة ، وآرائه المستنيرة في الدين والسياسة وقضايا المجتمع المختلفة ، وبرغم ما أثاره من خصومات بسبب جرأته وفكره المتجدد ، كان خصومه يخشونه ويكبرون قدره ، وكان محمد عبده امتداداً طيباً لجمال الدين الأفغاني ، إمامه ومثله الأعلى ، في تحرر الرأي ورباطة الجأش ، والتصدي لكل مظاهر الزيف .

أما الشعر فما علمنا أن الإمام (محمد عبده) يقرضه . ولكن الناس رووا له أبياتاً قالها في سياق الموت ، وهي :

ولستُ أبالي أن يُقالَ محمدٌ   أبلَّ أو اكتظت عليه المآتمُ ولكن ديناً قد أردت صلاحه   أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ فيا ربّ إن قدّرت رُجعى قريبة   إلى عالم الأرواح وانفضَّ خاتمُ فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً   رشيداً يضيء النهجَ والليل قائمُ

لفتت شخصية الإمام الفذة ، وأعماله الجليلة ، وأفكاره الناضجة ، وإصلاحاته الرائعة أنظار العلماء والشعراء إليه ، فراحوا ينهلون من علومه ، ويتتلمذون على يديه ، وكان في غرة هؤلاء التلاميذ : سعد زغلول ، ورشيد رضا ، ومحي الدين عبد الحميد ، وشاعر النيل حافظ إبراهيم ..

بدأت صلة حافظ إبراهيم بالإمام محمد عبده في حلقات الدرس التي كان الإمام يعقدها بالأزهر عصر كل يوم ، يلقي فيها دروساً في الفقه والتفسير والفلسفة والبلاغة والتاريخ ..إلخ .

وكان حافظ يوم بدأ يتردد على محاضرات الإمام ضابطاً بالجيش ، وكان حريصاً على متابعة هذه المحاضرات حتى صار وجهاً لدى الإمام ، فأدناه منه ، ثم دعاه إلى داره في ( عين شمس ) ، فاتخذت علاقتهما بذلك طابعاً خاصاً .

ويسافر حافظ إلى السودان ، وتضيق نفسه بما يلقى من سوء معاملة الإنجليز ومن قسوة الحياة هناك، فيهيب بالإمام أن يسعى في إرجاعه إلى مصر قبل أن تزهق روحه :

يا من تيمّنت الفتيا بطلــــــعته   أدرك فتاك فقد ضاقت به الحالُ

ويكتب إليه رسالة يصف فيها نثراً وشعراً ما يعانيه ، ويستنجزه وعده بالسعي من أجل إعادته : أناديه نداء الأخيذة في عمورية شجاع الدولة العباسية ، وأمدّ صوتي بذكر إحسانه مد المؤذن صوته في أذانه؛ واعتمد عليه في البعد والقرب ، اعتماد الملاح على نجمة القطب :

وقال أصيحابي وقد هــالني النوى   وهالهم أمري : متى أنت قافل ؟ فقلت: إذا شاء الإمـــام فأوبتي   قريب ٌ وربعي بالسـعادة آهل

وها أنا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة ، وينطوي أجل تلك الفترة ، وينظر لي سيدي نظرة ترفعني من ذات الصدع إلى ذات الرجع ، وتردّني إلى وكري الذي فيه درجت ، ردّ الشمس قطرة المزن إلى أصلها ، ورد الأمانات إلى أهلها ...

فتى الإمام :

وكان يحلو لحافظ أن يلقب نفسه ( فتى الإمام )مقتبساً هذا اللقب لنفسه من قوله تعالى في سورة الكهف ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً ) . فهو يشبه نفسه من الإمام بيوشع بن نون الذي رافق موسى عليه السلام يهتدي بهديه ويستنير بعلمه . ونراه يكرر هذا اللقب مؤكداً تواضعه ومعبراً عما يحس من فضل الرجل عليه . فإذا لم يكن من الإمام كيوشع من موسى ، كان منه كموسى من الخضر عليهما السلام :

وَكُنتُ كَما كانَ اِبنُ عِمرانَ ناشِئاً   وَكانَ كَمَن في سورَةِ الكَهفِ يوصَفُ كَأَنَّ فُــؤادي إِبرَةٌ قَد تَمَغطَسَت   بِحُبِّكَ أَنّى حُـرِّفَت عَنكَ تَعـطِفُ

وبعد عودة حافظ من السودان لزم الإمام خمس سنوات حتى وفاته ، لا يكاد يفارقه في مجلس أو سفر . فهو معه أينما سار وأينما حلّ ، يتفيّأ ظلّه وينعم من رفده بما يكفي لحياة كريمة .

التهنئة بمنصب الإفتاء : 

وها هو الشاعر حافظ إبراهيم يقول في تهنئة الأستاذ الإمام محمد عبده بمنصب الإفتاء، والقصيدة من البحر الطويل ، وتقع في عشرة أبيات :

بَلَغتُكَ لَم أَنســــُب وَلَم أَتَغَزَّلِ   وَلَمّـــا أَقِف بَينَ الهَــوى وَالتَذَلُّلِ وَلَمّا أَصِف كَأساً وَلَم أَبكِ مَنزِلاً   وَلَم أَنتَــحِل فَخـــــراً وَلَـم أَتَنَبَّلِ فَلَم يُبقِ في قَلبي مَديحُكَ مَوضِعاً   تَجـــــولُ بِهِ ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ

فهو يقول للإمام إن حبي لك شغلني عن البدء والاستهلال بالغزل والنسيب ، ووصف الخمرة ، حيث دخلت إلى موضوع المديح بدون مقدمات .

العالم الرباني :

وراح حافظ إبراهيم يمدح الإمام بما كان أهلاً له ، فنراه يمتدحه بالتقى والعلم ، وبما يبذله من جهود لإعلاء راية الدين . فإذا وليَ أمر الإفتاء يقول له :

رَأَيتُكَ وَالأَبصارُ حَولَكَ خُشَّـــعٌ   فَقُلتُ أَبو حَفصٍ بِبُردَيكَ أَم عَلي وَخَفَّضتُ مِن حُزني عَلى مَجدِ أُمَّةٍ   تَدارَكتَها وَالخَطبُ لِلخَطبِ يَعتَلي طَلَعتَ بِها بِاليُمنِ مِن خَيرِ مَطلَعٍ   وَكُنتَ لَها في الفَوزِ قِدحَ اِبنِ مُقبِلِ وَجَرَّدتَ لِلفُتيا حُســـامَ عَزيمَةٍ   بِحَدَّيهِ آياتُ الكِتـابِ المُنَزَّلِ مَحَوتَ بِهِ في الدينِ كُلَّ ضَلالَةٍ   وَأَثبَتَّ مـــــا أَثبَتَّ غَيرَ مُضَلَّلِ لَئِن ظَفِرَ الإِفتاءُ مِنكَ بِفاضِلٍ   لَقَد ظَفِرَ الإِســـلامُ مِنكَ بِأَفضَلِ فَما حَلَّ عَقدَ المُشكِلاتِ بِحِكمَةٍ   سِواكَ وَلا أَربى عَلى كُلِّ حُوَّلِ

ويشبهه وقد حلّ بدار الإفتاء بالفاروق عمر بن الخطاب ، وبالإمام علي رضي الله عنهما ، تقى وحكمة وعدلاً وتواضعاً ، فهو عندما تقلد هذا المنصب تسلح بالعزيمة القوية ، المرصعة بآيات الكتاب العزيز ، فمحا الضلال ، وكان فتحاً في باب الإفتاء الديني ، حلّ المعضلات بحكمة باهرة ، وفكر ثاقب .                                                                                             مفتي مصر :

وقال حافظ إبراهيم يمدح الإمام ، ويصف حضرته ، ويصور الأثر الطيب لتوليه منصب الإفتاء هذا المنصب الهام في حياة المسلمين ، والقصيدة من البحر البسيط :

قالوا صَدَقتَ فَكانَ الصِدقَ ما قالوا   ما كُلُّ مُنتَسِبٍ لِلقَولِ قَوّالُ هَذا قَريضي وَهَذا قَـدرُ مُمتَدَحي   هَل بَعدَ هَذَينِ إِحكامٌ وَإِجلالُ إِنّي لَأُبصِرُ في أَثناءِ بُـــــردَتِهِ   نوراً بِهِ تَهتَدي لِلحَقِّ ضُلّالُ حَلَلتُ داراً بِها تُتلى مَنــــاقِبُهُ   بِبابِها اِزدَحَمَت لِلناسِ آمالُ رَأَيتُ فيها بِساطاً جَــلَّ ناسِجُهُ   عَلَيهِ فاروقُ هَذا الوَقتِ يَختالُ بِمَشيَةٍ بَينَ صَفَّي حِكمَةٍ وَتُقىً   يُحِبُّها اللَهُ لا تيهٌ وَلا خــالُ تَبَسَّمَ المُصطَفى في قَبرِهِ جَـذَلاً   لَمّا سَمَوتَ إِلَيها وَهيَ مِعطالُ فَكانَ لَفظُكَ دُرّاً حَــولَ لَبَّتِها   العَـدلُ يَنظِمُ وَالتَوفيقُ لَآلُ

نظر الشاعر حافظ إبراهيم إلى الإمام محمد عبده وهو في دار الإفتاء والناس حوله زرافات ووحدانا ، نظر إليه فأبصر نوراً يشع من وجهه ، لو رآه أهل الضلال لاهتدوا إلى الحق ، ويشبه الإمام بالفاروق ، ويصور الرسول قد ابتهج حين تقلد الإمام هذا المنصب ، لقد أعاد للإفتاء حيويته ، كلام عذب ، وعدل مطلق ، والسداد ، والتوفيق والإلهام من الله ..ويختم الشاعر قصيدته بالتكسب والشكوى ، فهو يذكرنا بشعراء البلاط الذين يمدحون الملوك من أجل المال ، فحافظ إبراهيم عندما يطلب من الإمام أن يدرك فتاه، يحصد رزقه بمنجل شعره ، فلنستمع إليه حيث يقول :

لي كُلَّ حَولٍ لِبَيتِ الجاهِ مُنتَجَعٌ   كَمـا تُشَدُّ لِبَيتِ اللَهِ أَرحالُ وَزَهرَةٌ غَضَّةٌ أَلقى الإِمــامَ بِها   لَها عَلى أُختِها في الرَوضِ إِدلالُ تَفَتَّحَ الحَمدُ عَنها حينَ أَسعَدَها   مِنكَ القَبولُ وَفيها نَوَّرَ القالُ نَثَرتُ مَنظومَ تيجانِ المُلوكِ بِها   فَــراحَ يَنظِمُهُ في وَصفِكَ البالُ يا مَـن تَيَمَّنَتِ الفُتيا بِطَلعَتِهِ   أَدرِك فَتاكَ فَقَـد ضاقَت بِهِ الحالُ

يشبه الشاعر بيت الإمام بالبيت الحرام ، فهو قبلة المحتاجين ، يقصده طلاب الحقيقة ، والمعوزين ، وكأن منزله روضة غناء ، لقد استبشرت الفتيا بطلعة الإمام ، ويطلب منه أن يفيض عليه المال ؛ لأنه قد ضاقت به الأحوال ...

رحلته في الدعوة إلى الله :

وقال يمدحه في قصيدة ( إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ) وقد قالها في سفر له إلى بعض بلاد الوجه البحري ، وكان مصاحباً له في هذا السفر وهي من بحر الطويل :

صَدَفتُ عَنِ الأَهواءِ وَالحُرُّ يَصدِفُ   وَأَنصَفتُ مِن نَفسي وَذو اللُبِّ يُنصِفُ صَحِبتُ الهُدى عِشرينَ يَوماً وَلَيلَةً   فَقَرَّ يَقيني بَعـــدَما كانَ يَرجُفُ فَرُحتُ وَفي نَفسي مِنَ اليَأسِ صارِمٌ   وَعُدتُ وَفي صَدري مِنَ الحِلمِ مُصحَفُ وَكُنتُ كَما كانَ اِبنُ عِمرانَ ناشِئاً   وَكانَ كَمَن في سورَةِ الكَهفِ يوصَفُ كَأَنَّ فُؤادي إِبرَةٌ قَد تَمَغطَـسَت   بِحُبِّكَ أَنّى حُرِّفَت عَنكَ تَعــطِفُ كَأَنَّ يَراعي في مَديحِكَ ســاجِدٌ   مَـــدامِعُهُ مِن خَشيَةِ اللَهِ تَذرِفُ كَأَنَّكَ وَالآمالُ حَولَكَ حُـــوَّمٌ   نَميرٌ عَلى عِطفَيهِ طَيرٌ تُرَفرِفُ وَأَزهَرَ في طِــرسي يَراعي وَأَنمُلي   وَلَفظي فَباتَ الطِرسُ يَجني وَيَقطِفُ وَجَمَّعَ مِن أَنوارِ مَدحِكَ طــاقَةً   يُطالِعُها طَرفُ الرَبيعِ فَيُــطرَفُ تَهادى بِها الأَرواحُ في كُلِّ سُحرَةٍ   وَتَمشي عَلى وَجهِ الرِياضِ فَتَعرُفُ

محاربة البدع ، وعبادة القبور :

قضى الإمام محمد عبده حياته في محاربة البدع ، وعبادة القبور ، ولم ينس في حربه الطاحنة شرك القصور، وحاول جاهداً إعادة الأمة إلى عقيدة السلف الصالح ، الصافية النقية التي تؤمن بالتوحيد وتكفر بالطاغوت:

إِمامَ الهُدى إِنّي أَرى القَومَ أَبدَعوا   لَهُم بِدَعاً عَنها الشَريعَةُ تَعزِفُ رَأَوا في قُبورِ المَيِّتينَ حَياتَهُم   فَقاموا إِلى تِلكَ القُبورِ وَطَوَّفوا وَباتوا عَلَيها جاثِمينَ كَأَنَّهُم   عَلى صَنَمٍ لِلجاهِلِيَّةِ عُكَّفُ فَأَشرِق عَلى تِلكَ النُفوسِ لَعَلَّها   تَرِقُّ إِذا أَشرَقتَ فيها وَتَلطُفُ فَأَنتَ بِهِم كَالشَمسِ بِالبَحرِ إِنَّها   تَرُدُّ الأُجاجَ المِلحَ عَذباً فَيُرشَفُ كَثيرُ الأَيادي حاضِرُ الصَفحِ مُنصِفٌ   كَثيرُ الأَعادي غائِبُ الحِقدِ مُسعِفُ لَهُ كُلَّ يَومٍ في رِضى اللَهِ مَوقِفٌ   وَفي ساحَةِ الإِحسانِ وَالبِرِّ مَوقِفُ

جمال الشكل ، والصورة :

عندما تنظر إلى وجه الإمام يبرق النور في وجهه الكريم ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، فهو (يوسف) في الحسن ، والأحنف في حكمته ، انتشرت فتاواه لتعم الشرق والغرب ، فهي فتوى علمية كاملة لو سمع بها الكفار لشرعوا في الدخول إلى الإسلام :

تَجَلّى جَمالُ الدينِ في نورِ وَجهِهِ   وَأَشرَقَ في أَثناءِ بُردَيهِ أَحنَفُ رَأَيتُكَ في الإِفتاءِ لا تُغضِبُ الحِجا   كَأَنَّكَ في الإِفتاءِ وَالعِلمِ يوسُفُ فَأَنتَ لَها إِن قامَ في الشَرقِ مُرجِفٌ   وَأَنتَ لَها إِن قامَ في الغَربِ مُرجِفُ كَمُلتَ كَمــالاً لَو تَناوَلَ كُفرَهُ   لَأَصبَحَ إيمـــاناً بِهِ يُتَحَنَّفُ

رحلته إلى الجزائر :

وقال حافظ إبراهيم يهنئ الإمام بعودته من سياحته في بلاد الجزائر ، ويسرع إلى منزله في (عين شمس) لاستقباله ، ويصور أشواقه لرؤيته ، والقصيدة من البحر الخفيف :

بَكِّرا صاحِبَيَّ يَومَ الإِيابِ   وَقِفا بي بِعَينِ شَمسٍ قِفا بي إِنَّني وَالَّذي يَرى ما بِنَفسي   لَمَشوقٌ لِظِلِّ تِلكَ الرِحابِ

ويعدد صفات الإمام ، ويصوره أميناً على الحقيقة ، بل على الفتوى والشرع والهدى والقرآن ، فهو نعم الإمام في موطن القضاء ، وفي المحراب :

يا أَميناً عَلى الحَقيقَةِ وَالإِفـ   تاءِ وَالشَرعِ وَالهُدى وَالكِتابِ أَنتَ نِعمَ الإِمامُ في مَوطِنِ الرَأ   يِ وَنِعمَ الإِمامُ في المِحرابِ

ويصور تلك الرحلة ، فالبحر خشع عندما ركبه الإمام للسفر إلى الجزائر ، ويشبه ماء البحر بخواطر الإمام في الصفاء والبريق والجمال :

خَشَعَ البَحرُ إِذ رَكِبتَ جَواريـ   ـهِ خُشوعَ القُلوبِ يَومَ الحِسابِ وَبَدا ماؤُهُ كَخاطِرِكَ المَصـــ   قولِ أَو كَالفِرِندِ أَو كَالسَرابِ يَتَجَلّى كَأَنَّهُ صُحُفُ الأَبــ   ـرارِ مَنشــــورَةً بِيَومِ المَآبِ عَلِمَت مَن تُقِلُّ فَاِنبَعَثَت لِلــ   ـقَصدِ مِثلَ اِنبِعــــاثِهِ لِلثَوابِ فَهِيَ تَسري كَأَنَّها دَعوَةُ المُضـ   ـطَرِّ في مَسبَحِ الدُعاءِ المُجابِ وَضِياءُ الإِمامِ يوضِحُ لِلرُبــــ   ـبانِ سُبلَ النَجاةِ فَوقَ العُبابِ باتَ يُغنيهِ عَن مُكافَحَةِ البَحــ   ـرِ وَرُقبى النُجومِ وَالأَقطابِ

فعندما ركب الإمام السفينة استغنى الربان عن النجوم وضيائها بأنوار الإمام ، وراح يهتدي بنوره بدلاً من ضوء القمر في الأسحار ، ويصور روعة الاستقبال في الجزائر ، والحفاوة التي لقيها الإمام هناك حيث أسرع العلماء وأهل الفضل للترحيب بقدومه، ويتمنى لو عرفت مصر فضله كما عرفه الآخرون  :

وَسَرى البَرقُ لِلجَزائِرِ بِالبُشــ   ـرى بِقُربِ المُطَهَّرِ الأَوّابِ فَسَعى أَهلُها إِلى شاطِئِ البَحــ   ـرِ وُفوداً بِالبِشرِ وَالتِرحابِ أَدرَكوا قَدرَ ضَيفِهِم فَأَقاموا   يَرقُبونَ الإِمامَ فَوقَ السَحابِ لَيتَ مِصراً كَغَيرِها تَعرِفُ الفضـ   ـلَ لِذي الفَضلِ مِن ذَوي الأَلبابِ إِنَّها لَو دَرَت مَكانَكَ في المَجـ   ـدِ وَمَرماكَ في صُدورِ الصِعابِ وَتَفانيكَ في سَبيلِ أَبي حَفــ   ـصٍ وَمَسعاكَ عِندَ دَفعِ المُصابِ لَأَظَلَّتكَ بِالقُلوبِ مِنَ الشَمــ   ـسِ وَوارَت عِداكَ تَحتَ التُرابِ

لو عرف أهل مصر مقدار الإمام لأظلوه بقلوبهم من لهب الشمس ، ولو عرفوا فضله وعلمه لدفنوا أعداءه، ثم يشيد باعتدال الإمام ، ورجوعه إلى الحق ، فيقول :

أَنتَ عَلَّمتَنا الرُجوعَ إِلى الحَقـــــ   ـقِ وَرَدَّ الأُمورِ لِلأَسبابِ ثُمَّ أَشرَقتَ في المَنـــــارِ عَلَينا   بَينَ نورِ الهُدى وَنورِ الصَوابِ فَقَرَأنا عَلى ضِـــــيائِكَ فيهِ   كَلِمــــاتِ المُهَيمِنِ الوَهّابِ وَسَكَنّا إِلى الَّذي أَنزَلَ اللَـــــ   ـهُ وَكُنّا مِن قَبلِهِ في اِرتِيـــابِ

ويذكر لنا حافظ إبراهيم ما هو فيه من نعمة بقربه من الإمام ، تجلب عليه حسد كثيرين ممن ينفسون عليه هذه المكانة :

أَيُّهَذا الإِمامُ أَكثَرتَ حُسّا   دي فَباتَت نُفوسُــــهُم في اِلتِهابِ أَبصَروا مَوقِفي فَعَزَّ عَلَيهِم   مِنكَ قُربي وَمِن عُــــلاكَ اِنتِسابي

وذكر لنا حافظ في هذه القصيدة ، سعي بعض الحاسدين للتفريق بينه وبين الإمام ، لعل هذا يُذهب ما في نفوسهم من غيظ :

أَجمَعوا أَمرَهُم عِشاءً وَباتوا   يُسمِعونَ الوَرى طَنينَ الذُبابِ وَنَسوا رَبَّهُم وَقالوا ضَمِنّا   بُعدَهُ عَن رِحــابِ ذاكَ الجَنابِ قُل لِجَمعِ المُنافِقينَ وَمِنهُم   خُصَّ بِالقَولِ عَبدَ أُمِّ الحَبابِ عَبدَ تِلكَ الَّتي يُحَرِّمُها اللَــــ   ـهُ إِزاءَ الأَزلامِ وَالأَنصابِ إِنَّ نَفسَ الإِمامِ فَوقَ مُنــــاهُم   ما تَمَنَّوا وَإِنَّني غَيرُ صابي شابَ فيهِم وَلاؤُهُم حينَ شابوا   وَوَلائي في عُنفُوانِ الشَبابِ

إن الإمام أكبر من يسمع لطابور النفاق ، فهو فوق مناهم ، فهم شاب فيهم الولاء عندما كبرت بهم السنّ ، أما حافظ إبراهيم فولاؤه للإمام ما زال في عنفوان الشباب ، وقال فيه عند عودته من بعض أسفاره، والأبيات من البسيط :

لَو يَنظِمونَ اللَآلي مِثلَ ما نُظِمَت   مُذ غِبتَ عَنّا عُيونُ الفَضلِ وَالأَدَبِ لَأَقفَرَ الجيــدُ مِن دُرٍّ يُحيطُ بِهِ   وَالثَغرُ مِن لُؤلُؤٍ وَالكَأسُ مِن حَبَبِ

الدفاع عن الإمام، والرد على خصومه :

وقال الشاعر حافظ إبراهيم مدافعاً عن الإمام ضد من حمل عليه من أعدائه في الصحف ، ورسموا صوراً تزري بقدره ، وتنال من سمعته ، والقصيدة من البحر الكامل :

إِن صَوَّروكَ فَإِنَّما قَد صَوَّروا   تاجَ الفَخارِ وَمَطلَعَ الأَنوارِ أَو نَقَّصوكَ فَإِنَّما قَد نَقَّصـوا   دينَ النَبِيِّ مُحَمَّدِ المُختارِ سَخِروا مِنَ الفَضلِ الَّذي أوتيتَهُ   وَاللَهُ يَسخَرُ مِنهُمُ في النارِ لا تَجزَعَنَّ فَلَستَ أَوَّلَ ماجِدٍ   كَذَبَت عَلَيهِ صَحائِفُ الفُجّارِ رَسَموا بِذاتِكَ لِلنَواظِرِ جَنَّـةً   مَحفـوفَةً بِمَكارِهِ الأَشعارِ

ويندد بتلك العصبة من الأشرار الذين سعوا للنيل من هذا الإمام الطاهر ، ونشروا صور تقلل من قيمته ، ولكن هيهات أن تحجب شمس الضحى بغربال ، فلقي الأشرار على فعلتهم هذه جزاء السوء ، وعزل كبيرهم عن عمله :

وَتَقَوَّلـوا عَنكَ القَبيحَ وَهَكَذا   يُمنى الكَريمُ بِغارَةِ الأَشرارِ لَن يَحجُبوكَ عَنِ الوَرى أَو يَحجُبوا   فَلَقَ الصَباحِ وَمَشرِقَ الأَقمارِ أَو يَبلُغوا عَلياكَ حَتّى يَبلُغوا   بَينَ الزَواهِرِ صورَةَ الجَبّارِ ما أَنتَ ذَيّاكَ البَغيضُ فَتَنثَني   مُتَسَربِلاً بِالعارِ فَوقَ العارِ لَعِبوا بِهِ في صورَةٍ قَد أَسفَرَت   عَن عَزلِهِ فَأَقامَ حِلسَ الدارِ

ويبدو في هذه الأبيات أن الحرب الإعلامية ضد المصلحين والمجددين قديمة ، وصورها وأشكالها ما زالت تتكرر إلى يوم الناس هذا ...

استعطاف :

وبعث الشاعر بقصيدة ( استعطاف ) إلى الإمام محمد عبده ، ويشير (أحمد محفوظ) إلى جفوة حدثت بين الإمام وفتاه المدلل ، لكن الشاعر – وقد كان السبب فيها – سرعان ما يعود إلى الإمام معتذراً بأجمل قول، والأبيات من البحر الطويل :

لَقَد بِتُّ مَحسوداً عَلَيكَ لِأَنَّني   فَتاكَ وَهَل غَيرُ المُنَعَّمِ يُحسَدُ فَلا تُبلِغِ الحُسّادَ مِنّي شَماتَةً   فَفِعلُكَ مَحمودٌ وَأَنتَ مُحَمَّدُ

رثاء الإمام :

فلما توفي الإمام محمد عبده ، بكى الشاعر كثيراً الركن الذي كان يأوي إليه ويحتمي به . ولم يترك يوم رثاه شيئاً من مناقبه إلا ذكره ، ووصف فجيعة الإسلام فيه ، فكتب الشاعر قصيدة رائعة في رثاء الأستاذ الإمام محمد عبده نشرت في 22 أغسطس سنة 1905 م ، وهي من البحر الطويل :

سَلامٌ عَلى الإِسلامِ بَعدَ مُحَمّــَدٍ   سَـلامٌ عَلى أَيّامِهِ النَضـِراتِ عَلى الدينِ وَالدُنيا عَلى العِلمِ وَالحِجا   عَلى البِرِّ وَالتَقوى عَلى الحَسَناتِ لَقَد كُنتُ أَخشى عادِيَ المَوتِ قَبلَهُ   فَأَصبَحتُ أَخشى أَن تَطولَ حَياتي فَو الَهفي وَالقَبــــرُ بَيني وَبَينَهُ   عَلى نَظرَةٍ مِـن تِلكُمُ النَظَراتِ وَقَفتُ عَلَيهِ حاسِرَ الرَأسِ خاشِــعاً   كَأَنّي حِيالَ القَبرِ في عَرَفاتِ

لقد خسر المسلمون بوفاة الإمام مفكراً إسلامياً ، ومجدداً جمع بين الدين والدنيا ، بين العلم والعقل، وراح يفصل الحديث في صفات الإمام ، فهو من أهل البر والتقوى ، ويصور الحالة التي وصل إليها بعد رحيل الإمام ، فهو كان يخشى من الموت ، أما الآن فهو يخشى أن تطول حياته ، ويشتاق للموت لكي يلقى حبيبه ، وينظر إلى وجهه المبارك ..ولا يخلو مديحه من المبالغة فهو يقف أمام قبر الإمام حاسر الرأس وكأنه في عرفات ، ثم يسترسل الشاعر في وصف الإمام ورثائه فيقول :

لَقَد جَهِلوا قَدرَ الإِمامِ فَأَودَعوا   تَجاليدَهُ في مـوحِشٍ بِفَلاةِ وَلَو ضَرَحوا بِالمَسجِدَينِ لَأَنزَلوا   بِخَيرِ بِقاعِ الأَرضِ خَيرَ رُفاتِ تَبارَكتَ هَذا الدينُ دينُ مُحَمَّدٍ   أَيُترَكُ في الدُنيا بِغَيرِ حُماةِ تَبارَكتَ هَذا عالِمُ الشَرقِ قَد قَضى   وَلانَت قَناةُ الدينِ لِلغَمَزاتِ زَرَعتَ لَنا زَرعاً فَأَخرَجَ شَطأَهُ   وَبِنتُ وَلَمّا نَجتَنِ الثَمَراتِ فَواهاً لَهُ أَلّا يُصيبَ مُـــوَفَّقاً   يُشارِفُهُ وَالأَرضُ غَيرُ مَواتِ

ولكن يهمنا من شعره في هذا المقام ، ما أشار فيه إلى خسارته الشخصية ، وهو قوله :

مَدَدنا إِلى الأَعلامِ بَعدَكَ راحَنا   فَرُدَّت إِلى أَعطافِنا صَفِراتِ وَجالَت بِنا تَبغي سِواكَ عُيونُنا   فَعُدنَ وَآثَرنَ العَمى شَرِقاتِ

ويعرض بخصوم الإمام الذين آذوه في ذات الله ، وأنكروا مكانته ، وقدره ، ودبجوا المقالات في نقد الإمام ، والتشنيع عليه :

وَآذَوكَ في ذاتِ الإِلَهِ وَأَنكَروا   مَكانَكَ حَتّى سَوَّدوا الصَفَحاتِ رَأَيتَ الأَذى في جانِبِ اللَهِ لَذَّةً   وَرُحتَ وَلَم تَهمُم لَهُ بِشَكاةِ لَقَد كُنتَ فيهِم كَوكَباً في غَياهِبٍ   وَمَعرِفَةٍ في أَنفُسٍ نَكِراتِ

وأشار الشاعر إلى قدرة الإمام على تفسير القرآن بلغة العصر ، حيث ربط علوم القرآن ، بالعلم الحديث، فالقرآن كتاب الله المسطور ، وهذا الكون كتاب الله المنظور ، ولا تناقض بينهما :

أَبَنتَ لَنا التَنزيلَ حُكماً وَحِكمَةً   وَفَرَّقتَ بَينَ النورِ وَالظُلُماتِ وَوَفَّقتَ بَينَ الدينِ وَالعِلمِ وَالحِجا   فَأَطلَعتَ نوراً مِن ثَلاثِ جِهاتِ وَقَفــتَ لِهانوتو وَرينانَ وَقفَةً   أَمَدَّكَ فيها الروحُ بِالنَفَحـاتِ

وعدد صفات الإمام ، فصوره يخاف الله ، فيهابه المنافقون ، يصلي قيام الليل ، ويهجر النوم طمعاً في ثواب الله :

وَخِفتَ مَقامَ اللَهِ في كُلِّ مَوقِفٍ   فَخافَكَ أَهلُ الشَكِّ وَالنَزَغاتِ وَكَم لَكَ في إِغفاءَةِ الفَجرِ يَقظَةٍ   نَفَضتَ عَلَيها لَذَّةَ الهَجَعاتِ وَوَلَّيتَ شَطرَ البَيتِ وَجهَكَ خالِياً   تُناجي إِلَهُ البَيتِ في الخَلَواتِ وَكَم لَيلَةٍ عانَدتَ في جَوفِها الكَرى   وَنَبَّهتَ فيها صادِقَ العَزَماتِ

لقد ناصر الإمام الإسلام َ بمقالاته البليغة ، ورد كيد البغاة والمستشرقين وأهل الإلحاد :

وَأَرصَدتَ لِلباغي عَلى دينِ أَحمَدٍ   شَباةَ يَراعٍ سـاحِرِ النَفَثاتِ إِذا مَسَّ خَدَّ الطِرسِ فاضَ جَبينُهُ   بِأَسطارِ نورٍ باهِرِ اللَمَعاتِ كَأَنَّ قَرارَ الكَهرَباءِ بِشـــِقِّهِ   يُريكَ سَناهُ أَيسَرُ اللَمَساتِ فَيا سَنَةً مَرَّت بِأَعوادِ نَعشِــهِ   لَأَنتِ عَلَينا أَشأَمُ السَنَواتِ حَطَمتِ لَنا سَيفاً وَعَطَّلتِ مِنبَراً   وَأَذوَيتِ رَوضاً ناضِرَ الزَهَراتِ وَأَطفَأتِ نِبراساً وَأَشعَلتِ أَنفُساً   عَلى جَمَراتِ الحُزنِ مُنطَوِياتِ رَأى في لَياليكِ المُنَجِّمُ ما رَأى   فَأَنذَرَنا بِالوَيلِ وَالعَــثَراتِ وَنَبَّأَهُ عِلمُ النُجومِ بِحــادِثٍ   تَبيتُ لَهُ الأَبراجُ مُضطَرِباتِ

ثم تحدث الشاعر عن مرض الإمام بالسرطان ، هذا المرض الخبيث الذي أنهك قواه ، وأنهى حياته المباركة :

رَمى السَرَطانُ اللَيثَ وَاللَيثُ خادِرٌ   وَرُبَّ ضَعيفٍ نافِذِ الرَمَياتِ فَأَودى بِهِ خَتلاً فَمــالَ إِلى الثَرى   وَمالَت لَهُ الأَجرامُ مُنحَرِفاتِ وَشاعَت تَعازي الشُهبِ بِاللَمحِ بَينَها   عَنِ النَيِّرِ الهاوي إِلى الفَلَواتِ مَشى نَعشُهُ يَختالُ عُجباً بِـــرَبِّهِ   وَيَخطِرُ بَينَ اللَمسِ وَالقُبُلاتِ تَكادُ الدُموعُ الجارِيـــاتُ تُقِلُّهُ   وَتَدفَعُهُ الأَنفاسُ مُستَعِراتِ

وصور الشاعر حال الأمة بعد رحيل الإمام ، فالحزن قد عمّ أرجاء الكون الفسيح:

بكى الشَرقُ فَاِرتَجَّت لَهُ الأَرضُ رَجَّةً   وَضاقَت عُيونُ الكَونِ بِالعَبَراتِ فَفي الهِندِ مَحزونٌ وَفي الصينِ جازِعٌ   وَفي مِصرَ باكٍ دائِمُ الحَسَراتِ وَفي الشَأمِ مَفجوعٌ وَفي الفُرسِ نادِبٌ   وَفي تونُسٍ ما شِئتَ مِن زَفَراتِ بَكى عالَمُ الإِسلامِ عالِمَ عَصــرِهِ   سِراجَ الدَياجي هادِمَ الشُبُهاتِ

فالعالم الإسلامي يبكي كله على رحيل ذلك العالم الذي أنار الوجود بعلمه وتقواه :

مَلاذَ عَيايِلٍ ثِمـالِ أَرامـِلٍ   غِياثَ ذَوي عُدمٍ إِمامَ هُداةِ فَلا تَنصِبوا لِلناسِ تِمثالَ عَبدِهِ   وَإِن كانَ ذِكرى حِكمَةٍ وَثَباتِ فَإِنّي لَأَخشى أَن يَضِلّوا فَيُؤمِنوا   إِلى نورِ هَذا الوَجهِ بِالسَجَداتِ فَيا وَيحَ لِلشورى إِذا جَدَّ جِدُّها   وَطاشَت بِها الآراءُ مُشتَجِراتِ وَيا وَيحَ لِلفُتيا إِذا قيلَ مَن لَها   وَيا وَيحَ لِلخَيراتِ وَالصَدَقاتِ بَكَينا عَلى فَردٍ وَإِنَّ بُكاءَنا   عَلى أَنفُـسٍ لِلَّهِ مُنقَطِــعاتِ

فمتى للأرامل بعد الإمام ،ومن للشورى ، ومن للفتيا ، ومن للخير والصدقات .. ويطلب الشاعر من محبيه ألا ينصبوا له تمثالاً خشية أن يسجد الناس تعظيماً له ، وحافظ أول هذه الأنفس التي كان الإمام يتعهدها برعايته ورفده . وكانت ظروفه آنذاك شديدة الحرج لتعطله عن العمل .

الوفاء لنهج الإمام بعد رحيله :  

وبقي جرح الإمام بصدر ( فتاه ) لا يكاد يهدأ حتى يعاوده ما يهيجه ويدميه فكلما وقف يشيّع راحلاً جديداً ، تمثّل شخص الإمام فجعل يبكيه ويحسر على أيامه ، ولم تستطع السنون أن تأسو جرحه فيه كما تأسو جراح الآخرين ، فها هو يرثي قاسم أمين ، فيقول له :

قل للإمام إذا التقيت به   في الجنتين بأكرم النّزلِ إن الحقيقة أصبحت هدفاً   للراكبين مراكب الزللِ لله آثار ٌ لكم خلـدت   صاح الزوال بها فلم تزُلِ لله أيـام لكم درجت   طالت عوارفها ولم تطل نعم الظلال لو أنها بقيت   أو أن ّ ظلاً غيرُ منتقل

وبعد وفاة الإمام بتسع سنوات يرثي جرجي زيدان ، فلا ينسى أن يقول :

أفي كل يوم يبضع الحزن ُ بضعةً   من القلب إني قد فقدت جناني كفاني ما لُقّيت ُ من لوعة الأسى   ومـا نابني يوم الإمام كفاني

ثم نراه بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على رحيله ، يطري أياديه ويترحم عليه ، ويصف الفراغ الذي خلّفه ، ولا يجد من يعمره بمثل علمه وحكمته :

قد مضت عشر وسبع والنُّهى   في ذبول والأماني في نضوب نرقب الأفـق فلا يبدو به   لامع مــن نور هادٍ مشثيب وننادي كلَّ مـأمول ٍ وما   غير أصداء المنادي من مجيب أجدب العلم وأمسى بعده   رائد العرفان في واد جـديب

وقال حافظ إبراهيم يرثي صاحب ( المؤيد ) الذي فتح أبواب مجلته للإمام محمد عبده ليرد على افتراءات هانوتو ، يقول في مطلعها :

صونوا يَراعَ عَلِيٍّ في مَتاحِفِكُم   وَشاوِروهُ لَدى الأَرزاءِ وَالنُوَبِ فَكَم يَراعِ حَكيمٍ في مَشارِعِهِ   قَدِ اِلتَقى بِيَراعِ الكاتِبِ الأَرِبِ أَيُّ الصَحائِفِ في القُطرَينِ قَد وَسِعَت   رَدَّ الإِمامِ مُزيلِ الشَكِّ وَالرِيَبِ أَيّامَ يَحصِبُ هانوتو بِفِريَتِهِ   وَجهَ الحَقيقَةِ وَالإِسلامِ في  نَحَبِ مالي أُعَدِّدُ آثارَ الفَقيدِ لَكُم   وَالشَرقُ يَعرِفُ رَبَّ السَبقِ وَالغَلَبِ لَولا المُؤَيَّدُ ظَلَّ المُسلِمونَ عَلى   تَناكُرٍ بَينَهُم في ظُلمَةِ  الحُجُبِ

هذا هو وفاء حافظ إبراهيم ، يبدو أمام القارئ صفحة مشرقة في سجل العلاقات الإنسانية . ولم يكن تقادم عهده مع الإمام ، أو تحسّن حاله مع كثرة معارفه وخلانه ، لينسيه ما نال من عوارفه .

محمد عبده :

لقد رثى أمير الشعراء أحمد شوقي الإمام محمد عبده، ولكن شتان بين رثاء شاعر النيل له ، وبين رثاء شوقي ، إنه رثاه بفتور ، فكتب قطعة شعرية تقع في ثلاثة أبيات ، يقول فيها :

مفسّرَ آي الله بالأمس بيننا   قم اليوم َ فسّرْ للورى آية َ الموت رُحمتَ ، مصيرُ العالمين كما ترى   وكلُّ هناءٍ أو عزاءٍ إلى فوت هو الدهرُ : ميلادُ ، فشغلٌ ، فمأتمٌ   فذكرٌ كما أبقى الصدى ذاهبَ الصوتِ

إنه رثاء عقلاني خلا من العواطف المتدفقة ، والمشاعر الحارة ، فأين الدموع ، وتوهج الإحساس، بل أين ذلك النفس الطويل في قصائد شوقي .

ويعود أحمد شوقي في رثاء حافظ إبراهيم الذي عرف عنه حبه للإمام محمد عبده، وقربه منه، فيقول:

قد كنتُ أوثرُ أن تقولَ رثائي   يا منصفَ الموتى من الأحياء

إلى أن يشير معرجاً إلى تلك العلاقة الحميمة التي ربطت حافظ إبراهيم بالإمام ، فيقول :

وأتيتَ صحراءَ الإمام تذوب من   طُول الحنين لساكن الصحراءِ فلقيتَ في الدار الإمامَ محـمداً   في زمرة ٍ الأبرار والحنفاءِ أثرُ النعيم على كـريم جبينه   ومراشدُ التفسير والإفتاءِ فشكوتما الشوقَ القديمَ ، وذقتما   طيبَ التداني بعد طول تنائي إنْ كانت ِ الأولى منازلَ فُرقةٍ   فالسمحةُ الأخرى ديارُ لقاءِ

وبعد فراق طويل التقى الفرع بالأصل ، وتعانق التلميذ مع شيخه ، ورأى الإمام ( فتاه ) ، وكانت طلعة الإمام البهية ، وأثر النعيم الذي يكلل  جبينه ، فباح كلّ منهم لصاحبه بالأشواق ، والحنين المبرح...

الأستاذ الإمام :

وكتب أمير البيان ( شكيب أرسلان ) قصيدة يرثي بها الإمام محمد عبده ، فيقول :

هَلِ الدَهرُ إِلّا ذا النَهارِ وَضِدُّهُ   يُعاوِدُ كُلّاً مِنهُما الدَهرُ نَدُّهُ يَدورُ فَمِن أَيِّ الجِهاتِ اِبتَدَرَتهُ   وَتابَعَتهُ تَبدا بِهِ وَتَحِدُّهُ وَلا خَيرَ في يَومٍ يَمُرُّ عَلى الفَتى   إِذا لَم يَنَل فيهِ ثَناً يَستَجِدُّهُ فَلَيسَت حَياةُ المَرءِ إِلّا شَهادَةً   عَلى فَضلِ مَولاهُ فَيَظهَرُ مَجدُهُ إِذا كانَ لا يَختارُ تَمجيدُ رَبِّهِ   فَإِنَّ الإِلَهَ اِختارَ ما فيهِ نَكدُهُ وَإِلّا فَفي دارِ الفَناءِ ثَناؤُهُ   مَقامٌ وَفي دارِ السَعادَةِ خُلدُهُ وَحَيِّ غَداً في ما سِوى الورحِ مَيتاً   لَقَد حَلَّ عِندي حَيثُما حَلَّ وَأدُهُ وَمَن كانَ لا يُؤتي الجَماعَةُ نَفعَهُ   فَإِغفالُهُ فيها سَواءُ وَعَدُّهُ لَعَمرَكَ لَيسَ العُمرُ في المَرءِ عَيشُهُ   وَلَكِن حَقُّ العُمرِ في المَرءِ حَمدُهُ فَأَحجى بِهِ إِجهادٌ ما باتَ فاقِداً   لا حَرازَ شَيءٌ لَيسَ يُحسِنُ فَقدُهُ فَيُغنيهِ عَن رَغَدِ المَعيشَةِ شُكرُهُ   وَلَيسَ بِمُغنيهِ عَنِ الحَمدِ رَغدُهُ كَذا السَيفُ مَعدومٌ وَقَد غابَ نَصلُهُ   وَلَيسَ بِمَعدومٍ وَغابَ فَرَندُهُ وَما الحَمدُ إِلّا الجِدُّ فَهوَ وَراءَهُ   وَما الجِدُّ إِلّا الجَدُّ فَهوَ مَعدُهُ وَهَل قيمَةُ الإِنسانِ إِلّا فِعالُهُ   وَهَل قدرُهُ إِلّا عَناهُ وَجُهدُهُ وَلَولا اِشتِغالُ المَرءِ ما ذاعَ ذِكرُهُ   وَلَولا اِشتِعالُ العودِ ما ضاعَ نَدُّهُ فَأَجمَلَ مِن خَضبٍ بِكَفِّكَ شُغلُها   وَأَحسَنُ مِن كُحلٍ بِطَرفِكَ سُهدُهُ وَأَصلَحُ مِن ذُلٍّ بِنَفسِكَ مَوتُها   إِذا كُنتَ مِمَّن مَورِدُ العِزِّ وَردُهُ كَذا فَلتَكن تِلكَ الحَياةُ الَّتي أَرى   وَإِلّا فَكَم سَهلٌ عَلى الحَرِّ لَحدُهُ أَوَدُّ بِها خَلقاً كَثيراً وَإِنَّما   أَوَدُّ مِنَ الأَيّامِ ما لا تَوَدُّهُ

بدأ الأمير شكيب أرسلان قصيدته بالحكمة ، يبين فيها أن عمر الإنسان لا خير فيه إذا لم يحصّل الثناء الجميل ، فقيمة المرء بفعاله ، وأخلاقه النبيلة ، ثم يخلص الشاعر إلى رثاء الإمام محمد عبده ، فيقول:

لَقَد آثَرَ المَولى بِنُعماهُ آنِفاً   فَلا غَروَ أَن يُسعِدَ مُحَمَّد عَبدُه هُوَ البَدرُ لَكِنَّ المَعالي سَماؤُهُ   هُوَ النَجمُ لَكِنَّ الفَضيلَةَ سَعدُهُ

وأشاد بشجاعة الإمام ، ومناقبه العظيمة ، وفضائله الجمّة ، فهو بحر في الكمال ، والتنزه عن النقائص والعيوب ، فقال:

هُوَ اللَيثُ لَكِنَّ المَحامِدَ غابُهُ   هُوَ السَيفُ لَكِنَّ المَكارِمَ غَمدُهُ هُوَ البَحرُ عَن كُلِّ النَقائِصِ جَزرُهُ   وَلَكِن إِلى كُلِّ الكَمائِلِ مَدُّهُ

وأثنى الشاعر على علمه الواسع ، ومعارفه التي أحاطت بكل فنون الثقافة ، فهو مجدد ، حكيم ، وكلامه سلطان الكلام ، جعل جنده الكتب والأقلام ، وقلمه أمضى من سيف الحجاج ، وأحد من لسان ابن حزم ، فلنستمع إلى الشاعر ، وهو يصفه ، فيقول :

مُحيطٌ بِأَشتاتِ العُلومِ جَميعُها   فَفي أَيِّ عِلمٍ جِئتَ يَقدَحُ زَندُهُ مُجَدِّدٌ روحٌ صارَ في وَسطِ نَزعِهِ   وَمُوَضِّحٌ أَمرٌ أَقلَعَ اليَومَ رُشدُهُ حَكيمٌ فَلا تُلهيهِ إِلّا جَواهِرُ   غَداً عَبرَةً فيما سِواهُنَّ زُهدُهُ لَقَد ظَلَّ سُلطان الكَلامِ بِأَسرِهِ   فَاِعلامُهُ الأَقلامُ وَالكُتبُ جُندُهُ لَهُ قَلَمٌ يُزري بِكُلِّ مُهَنَّدِ   يَصولُ عَلى العادي بِهِ فَيَقِدُّهُ لَهُ في رِهانِ المَكرُماتِ مَآثِرٌ   كَبَت دونَها قَبُّ السِباقِ وَجُردُهُ إِلى كُلِّ ما يَسنى الثَناءَ صَباؤُهُ   وَعَن كُلِّ ما يُؤذي الكَرامَةَ صَدُّهُ

والأمير شكيب أرسلان تربطه علاقة حميمة بالإمام محمد عبده ، فهو يقرّ بفضله عليه ، فهذه الأشعار ، وهذا الكلام العذب الجميل هو بعض مما تعلمه في مدرسة الإمام :

أَيا مَن وُرودي في البَيانِ مَعينُهُ   فَأَصبَحَت في مَدحي لَهُ أَستَمِدُّهُ تَباهى البَرايا مِصرَ أَنَّكَ نَجلُها   وَيَفخَرُ هَذا العَصرُ أَنَّكَ فَردُهُ لَدَيكَ رَقيقُ الشِعرِ يَحلو نَشيدُهُ   وَفيكَ دَقيقُ الفِكرِ يُحسِنُ نَشدُهُ وَيَفنى مدادُ المَرءِ فيكَ لَدى الثَنا   وَإِن يَكُنِ البَحرُ المُحيطُ يَمُدُّهُ وَمِثلُكَ مَن تَبَدّى المَواسِمَ فَضلُهُ   وَفيها مَعَ العَلياءِ يُجَدِّدُ عَهدَهُ فَهَنَّأَكَ الأَضحى وَلا زالَ عائِداً   عَلَيكَ سَعيداً دائِماً لَكَ شُكدُهُ عَلَيكَ مِنَ المَولى يَصُبُّ سَلامُهُ   وَفي قَلبِكَ الوَقّادُ يَنزِلُ بَردُهُ

فأين للشعر أن يحيط بكمالات الإمام ، وأين للنثر أن يصوّر تلك الأعمال الخالدة، والأخلاق الفاضلة.

وكتب ( الأمير شكيب أرسلان ) أيضاً قصيدة أخرى من البحر الطويل ، وتقع في 25 بيتاً ، بدأها بذرف الدموع على رفيقه وأستاذه الإمام محمد عبده ، يقول فيها :

لِقَلبي ما تَهمي العُيونَ وَ تَأرَقُ   وَلِلعَينِ ما يُبلى الفُؤادُ وَيُرهِقُ وَماكُنتُ مِمَّن يُرهِقُ العِشق قَلبَهُ   وَلَكِن مَن يَدري فُنونُكَ يَعشَقُ

فهو يبكي ليس عشقاً لليلى وسعاد ، بل يجود بالدموع حزناً على رحيل الإمام الذي أسرى الورى بهواه:

تَرَكتُ الوَرى أَسرى هَواكَ وَإِنَّما   أَسيرُكَ في مَيدانِ فَضلِكَ مُطلَقُ جَذَبتَ بِهاتيكَ المَعاني قُلوبَهُم   وَتيمَها  وَاللَهِ ذاكَ التَأَنُّقُ

وتحدث الشاعر عن بلاغة الإمام ومنطقه العذب الجميل ، فكأن كلامه خرز من اللؤلؤ المنظوم ، والدرّ المكنون ، وأما جماله وأنوار وجهه فحدث عنه ولا حرج :

كَلامٌ إِذا أَلقَيتَهُ في جَماعَةٍ غَدا   مِنكَ مِثلَ اللُؤلُؤ الرَطب يَنسُقُ عَلَيهِ مِنَ النور الإِلَهي مَسحَةً   تَكادُ عَلى أَرجائِهِ تَتَأَلَّقُ مَناهِلَ الطافِ وَأَعيُنَ حِكمَةٍ   تَظَلُّ عَلى رَوضِ المَعارِفِ تَغدَقُ يَبيتُ بِها غُصنُ البَلاغَةِ ناضِراً   وَريقاً عَلى نَبتِ الفَصاحَةِ يَسمَقُ

ويهدي السلام والتحية لذلك الوجه المشرق ، الذي توجته أنوار المعرفة والعلم :

سَلامٌ عَلى وَجهِ الإِمامِ ( مُحَمَّدٌ )   مُحَيّا بِهِ ماءَ الحَياةِ  يَتَرَقرَقُ وَلِلَهِ دُرُّ البَحرِ دَرُّ ( مُحَمَّدٍ )   تَتَوَّجَ مِنهُ لِلمَعارِفِ مَفرَقُ

ويعجب الأمير أرسلان من تلك الأخلاق الحميدة ، والخصال المجيدة ، والفكر المستنير ، والعقل الحصيف الذي استطاع أن يوفق بين العقل والنقل ، وفاض بالحكمة على حوله ، وتفجرت العلوم من جوانبه :

وَأَخلاقِهِ الغَرا إِذا شِئتَ وَصفَها   وَإِن لَم أَشَأ توحي إِلى وَأَنطِقُ إِمامٌ بِخَصلِ العَقلِ وَالنَقلِ فائِزٌ   سَبوقَ  لِغاياتِ حَكيمٍ مُحَقَّقُ

وأما خطبه فهي تأسر القلوب والأسماع ، وتؤثر على المتلقي ، وتزهق الباطل ، وتدمغه بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة :

خَطيبُ الوَرى بِالحَقِّ لِلحَقِّ مُظهِرٌ   ظَهيرٌ وَلِلبَطَلانِ  مُردٍ  وَمَزهَقُ إِذا قامَ مِن فَوقِ المَنابِرِ فاصِلاً   فَأَيُّ ضَلالٍ لَيسَ يَمحي وَيَمحَقُ تَميدُ الوَرى عِندَ اِستِماعِ خَطابِهِ   وَتَعجَبُ لِلأَعوادِ إِذ لَيسَ تورِقُ فَما قامَ بِالحَقِّ الحَنيفي صادِعاً   وَلِلفِكرِ شَملٌ باتَ لَيسَ يُمَزِّقُ لَهُ القَلَمُ المَشهورُ يَزري مدادَهُ   بِتِبرٍ إِذا في مَهرِقٍ هُوَ  مُهرِقُ

وهذه الأخلاق ، وتلك السجايا ، ما هي إلا هبة من الله يعطيها من يشاء من عباده ، ليجري الخير والحق، والعدل، والإصلاح على أيديهم  :

عَجائِبَ مَولى في مُحَمَّد عَبدُهُ   وَرَبُّكَ يُعطي ما يَشاءُ وَيَرزُقُ لَكَ اللَهُ يا مَولايَ هَل مِن فَضيلَةٍ   بِهَذا الوَرى إِلّا بِها أَنتَ أَليَقُ وَفي أَمَلٍ أَنّى لَدى فِعلِ واجِبٍ   أَسكُنُ قَلباً دونَهُ باتَ يَخفِقُ إِذا نالَ مِثلي مِن كَلامِكَ لَفظَةً   تُشرِفُهُ فَهوَ السَعيدُ  المُوَفِّقُ

وشكيب أرسلان يعتبر تتلمذه على يدي الإمام شرفاً كبيراً لا يدانيه شرف ، وحسبه فخراً أنه واحد من طلاب الإمام المجدد محمد عبده .

الرد على تخرصات هانوتو :

كتب ( شاعر الإسلام  أحمد محرم ) قصيدة من البحر الكامل، وتقع في 28 بيتاً ، مشيداً برد الإمام على تخرصات المستشرق ( هانوتو ) الذي تهجم على رسول الإسلام ، ودعا إلى نبش قبره ، وحاول تشويه سيرته ، فقال :

غضب الحماة لدين أحمد غضبةً   نصر الإله بها وعز المصحف قذفت بهانوتو فطاح بهبوةٍ   ترمي بأبطال الرجال وتقذف ما انقض يرمى المسلمين بعسفه   حتى انبرى القدر الذي لا يعسف هاج الحماة فهاج كل مشيعٍ   عجل الوقائع بالفوارس يعصف جبريل يدلف باللواء وأحمد   بين الوصي وبين حمزة يزحف

هذه الافتراءات أحدثت ردود أفعال صاخبة ، وردّ عليها الإمام رداً علمياً مفحماً ، ويعجب الشاعر من هذه الغارات الصليبية المتتالية التي تتمسح بالدين ، وتسيرها أطماع السياسة ، فيقول :

أو كلما هاج التعصب أهله   صاح الغوي بنا وضج المرجف في كل يومٍ للتعصب غارةٌ   يدعو بها داعي الصليب ويهتف ضجت شعوب المسلمين وراعهم   ظلم الألى لولا السياسة أنصفوا جعلوا الصليب سلاحها وتدفعت   عن جانبيه دماً فلم يستنكفوا إن الصليب على جهالة أهله   ليرى سبيل المصلحين ويعرف أيهم هانوتو بقبر محــمدٍ   ويسوع حوليه يطوف ويعكف أيقول تلك فلا تميد بأهلها   باريس من فزعٍ ويهوي المتحف فلسوف ينظر أي ملكٍ ينطوي   ولسوف يعلم أي عرشٍ ينسف

إن الدين المسيحي بريء من جهل أولئك السياسيين المخرفين ، فهو يقدر الإصلاح ، ويجلّ الأخلاق، والقيم، والخير، والسلام ، ولكن شوهت الأطماع الاستعمارية تعاليم المقدسة ، وحرفت كتابه المنزل على نبيه المرسل ، ويأسف الشاعر أحمد محرم لحال المسلمين ، الذين ذاقوا الهوان أصنافاً ، وصاروا كالأيتام على مأدبة اللئام ، فيقول :

ويحي على الإسلام هان وزلزلت   أيدي الخطوب شعوبه فاستضعفوا لولا التعصب لم ترع في ظله   أمم تميد ولا ممالك ترجف وأرى الذين تفرقت أهواؤهم   لو أنهم غضبوا له لتألفوا مهلاً دعاة الشر إن وراءكم   يوماً تظل به الشعوب تخطف تنخبط الأحداث في غمراته   وتظل عن أهواله تتكشف لله فيما تفعلون بدينه عهدٌ   أبر وموعدٌ ما يخلف مهلاً فيومئذٍ يحم قضاؤه   إن القضاء إذا جرى لا يصرف كشف الكتاب عن المحجة فانظروا   وأرى المحجة عندكم أن تصدفوا لوذوا بأروع ما تخاف نفوسكم   إن الكتاب على النفوس لأخوف

ويتوعد الشاعر دعاة الضلال ، ويقول لهم : مهلاً فإن انتقال المسلمين قادم لا محالة ، فهم قد يسكتون على كل شيء إلا أن يهان ( رسول الله ) ، وحذر الغرب من سطوة الجبار ، فهو أذل من قبلهم كل جبار عنيد ، وأطاح بأسه بفرعون ذي البأس الشديد :

إن الذي قهر الجبابر ما له   مثل يعد ولا شبيه يوصف يزجي أساطيل القضاء سطوره   وتقود خيل الله منه الأحرف ولربما ركب المجرة فاعتلى   وهوى المنيف على العباب المشرف حصن يلوذ الدين منه بجانبٍ   عزريل مرتقبٌ عليه يرفرف تشقى الجواء بما يذيب من القوى   وتضيق بالمهج التي يتلقف ما بين وثبة ثائرٍ ونكوصه   إلا مجالٌ للحماة وموقف

إن افتراءات ( هانوتو ) على الإسلام ورسوله أثارت مشاعر الغضب عند الشعراء ، فها هو الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي ( 1866 – 1935 ) الذي عرف بشاعر الارتجال وطول النفس وجزالة الألفاظ ، والذي لازم الإمام جمال الدين الإفغاني عندما جاء منفياً من إيران سنة 1891م وأخذ عنه وتشرب مبادئ الإصلاح ، ولما ألقى عصا الترحال في القاهرة سنة 1899 نال الحظوة لدى الشيخ محمد عبده ، واتصل بالمحافل الأدبية والقومية وكان موضع التجلة والاحترام ، هذا الشاعر الغيور على دينه سمع تخرصات ( هانوتو ) ، وقرأ ردود الإمام المفحمة ، التي كان لها صدى ودوي، حيث أجبرت هذا المستشرق على الاعتراف بالخطأ والاعتذار إلى المسلمين ، يقول الكاظمي في القصيدة العينية :

فجاؤوا إلى الإسلام يعترضونه   سفاهاً فشاموا أن واديه مسبعُ سعوا بضلالات فخيب سعيهم   أخو الرشد محمود النقيبة أروعُ فردوا عن الإسلام ميلاً رقابهم   وجيدُ بني الإسلام أجيدُ أتلعُ وأقسمُ أني لو شحذتُ مقالتي   لراح بها هانوتُ وهو مبضعُ ولكنني أغضي احتشاماً وقدرةً   وعندي من القول الطرير الملمعُ ونحن بنو البيض المصاليت في اللقا   إذا مصقعٌ منا جثا قامَ مصقعُ

أزف الرحيل :

كتب الشاعر المصري ( أحمد نسيم ) قصيدة يرثي فيها الإمام محمد عبده يقول في مطلعها :

أزف الرحيل فهل بلغت مراما   ودنى الفراق فهل شفيت أواما قف وقفة في الحي يقرئك الهوى   قبل الوداع تحية  وسلاما باللَه لا تنس الربوع وأهلها   واذكر  هناك محبة وغراما يهفو المشوق اذا تباعدت النوى   ويكاد من لهف يذوب هياما

وبعد مقدمة طويلة يقف فيها على الأطلاق ، ويتهجم فيها على تعصب المشايخ، ويتهكم عليهم ، ثم يخلص الشاعر إلى رثاء الإمام محمد عبده ، فيقول :

ما للإمام مضى وخلّف زمـرة   ضــعفاء ماتوا بعده استسلاما قالوا عليه - وما أصابوا – إنه   عرف اللغات فأغضب الإسلاما

الرد  على افتراءات ( هانوتو ) :

وهذا شاعر آخر تزعجه افتراءات المستشرق الفرنسي ( هانوتو ) ، وتعجبه ردود الإمام عليه ، فيعلن إعجابه وإكباره لهذا الإمام الذي قويت حجته، واستقامت طريقته ، وأفحم خصوم الإسلام بالحجة والبرهان ، فيقول :

سل عنه ( هانوتو ) يخبر أنه   لا يستطيع مع الإمام صداما جاؤُوا إليه مهطعين وكلُّهم   رضي الإمامَ بأن يكونَ إماما هو بالدليل أزال عنهم ريبهم   وأماط عن وجه الشكوك لثاما لو لم يكن يدرى  لسان خصومه   ما اسطاع إقناعاً ولا إفحاما

والشاعر يدعو بأن يتنزل على قبر الإمام الأمطار والرحمات :

أمحمد لا فات قبرك وابل   يروى رفاتاً تحته وعظاما

جهوده الإمام في التفسير :

ولقد جاء تفسير الإمام للقرآن فتحاً مبيناً حيث وفق فيه بين تعاليم القرآن ونظريات العلم الحديث ، وأثبت أنه لا تعارض بين العقل الصحيح والنقل الصريح ، وهذا التفسير المبارك أثار مشاعر الإعجاب والاحترام لدى الشاعر ، فراح يثني على الإمام بما هو أهلٌ له :

اظهرت للقرآن في تفسيره   حججاً تزيل الشك والإبهاما حتى كأَن اللَه بعد نبيه   ألقى عليك الوحي والإلهاما قد غالك الموت الزؤام وليته   ما غال ماضي الشفرتين حساما فاذا بكيناك الغداة فإنما   نبكي فتى ضخم الفعال هماما نبكي الذي راع الحطيم وزمزماً   و دهى العراق بموته و الشاما لو عاش بضع سنين أخرج أمة   تهدي الولاة ، وترشدُ الحكاما

ويسوغ الشاعر سبب حزنه وبكائه على رحيل الإمام ؛ لأنه خسر المسلمون برحيله حساماً قاطعاً ، وإماماً يقول ، ويفعل ، ويصور تلك المصيبة التي اضطربت لها نجد ، والعراق ، والشام ، وسائر بلاد المسلمين ، ويتمنى الشاعر لو طال بالإمام العمر ؛ ليخرج أمة تهدي الولاة ، وترشد الحكام ، وتنشر الخير والعدل والحق في ربوع المعمورة .

حجة الإسلام :

وكتبت باحثة البادية قصيدة في رثاء الإمام محمد عبده ، وهي من البحر البسيط ، وتقع في /32/ بيتاً، تقول في مستهلها مصورة هول الفاجعة التي أصابت المسلمين جميعاً ، فراحوا يبكون عليها دماً ممزوجاً بالدموع :

ليبك العلم والإسلام ما سلما   وليذرفا الدمع أو فليمزجاه دما وليبعث الفضل في منعاك روح أسى   كما بعثت إِلى تحصيله الأممَا غالتك غائلة الموت التي صدعت   من الهدى علماً تعشوا له العُلما مددت للعلم في مصر جداوله   فلم تدع في نفوس الواردين ظما

عدو البدع والخرافات :

لقد طهر الإمام محمد عبده هذا الدين العظيم من البدع ، والأساطير التي ألصقت به عبر العصور :

والدين طهرته من بدعة عرضت   عليه في سالف العصر الذى انصرمَا

تعليم المرأة :

إن النساء شقائق الرجال ، ولهن نفس حقوق الرجل في الحياة، والحرية، والعيش بكرامة، وحق التعليم، وهذا ما أكد عليه الإمام محمد عبده في إصلاحاته :

والعلم والدين للجنسين مطلب   فليس يختص جنس منهما بهما فنحن في الحزن شاطرنا الرجال كما   في الاستفادة شاطرناهم قِدما

دوره في الإصلاح :

ويشهد للإمام القاصي والداني ، بأنه أول من حمل راية الإصلاح ، وحارب التقليد ، ودعا إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ، لكي تواكب تعاليم الإسلام مستجدات العصر والحضارة ، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان :

لهفى على طرق الإصلاح قد تركت   بلا مناد وأمسى نورها ظلما يا حجة الدين من يبنى دعائمه   للمسلمين إذا بنيانه انهدمَا عدت عليك عوادي الدهر فاقتلعت   من بيننا برداك العلم والكرمَا

لقد صان الإمام دعائم الدين ، وحافظ على أركان الإسلام ، فكان حجة الإسلام ، وتأسف لفقده، فهو إمام لا يمكن أن يجود الزمان بمثله .

نصير الضعفاء، والمحرومين :

لقد أسس الإمام جمعية خيرية يواسي فيها الفقراء ، ويساعد المحرومين والجياع ، فأحبه الناس :

واحسرتاه على العافين من لهم   يسد إعوازهم إن حادث دهَما إذا شكا معدمٌ يوماً خصاصته   بسطت كفًّا له بالمكرمات همى

إصلاح الأزهر :

ودعا الإمام محمد عبده إلى إصلاح الأزهر الشريف، وأدخل فيه العلوم العصرية ، من جبر وهندسة ، وفلك ، واقترح على شيخ الأزهر أن يضع ( مقدمة ابن خلدون ) بين المواد الدراسية :

نشرت في الأزهر الإصلاح منتصراً   للحق معتضداً بالله معتصما رددت (هانوتو) والقـوم الذين نحوا   منحاه في فرية في ديننا زعَما حملت من خطط الأعمال أصعبها   إن العظائم في الدنيا لمن عظمَا عاجلت يا موت مولانا وسيدنا   تبّت يداك لقد أورثتنا العدمَا

فصاحة الإمام، وبلاغته :

وأشادت الشاعرة ببلاغة الإمام، وفصاحته، وسحر بيانه ، وتخليصه اللغة العربية من العجمة والتكلف والسجع ، والمحسنات اللفظية والمعنوية ، ليعبر كل إنسان عن فكره ومشاعر بعفوية وطلاقة  فقالت:

بكلامه الدر إِلا أنه  حكمٌ   فهل سمعت بدرٍ ينتج الحكما إذا على منبرٍ فاضت بلاغته   بالموعظات نسيتَ العرب والعجمَا

مفتي الديار :

وجاءت فتاوى الإمام كالبلسم الشافي ، تشخص الداء ، وتصف الدواء الناجع له ، وتندب الإمام وتذكر بسخائه وكرمه ، وضياع الآمال من بعده ، فهو أمل الأمة في الإصلاح والتحرير من نير العبودية :

من للمحاكم والفتيا ينظمها   ومن لمجلس شورانا إذا التأما ومن لجمعية العافين يسعفهم   إذا الزمان بهم لم يبق غير ذما محمدٌ ضاعت الآمال وارتجعت   إِلى الوراء أمانىٌّ سرت أمَما غاض الوفاء كما فاض الشقاق   بوقت زاد النفاق فأما الحق فاهتضما والدهرُ آلى فلا حول ولا حيل   أن لا يراعى لنا إِلاًّ ولا ذمما وقد قضى الله أن نبقى بمنخفض   نرى على هامنا مِن غيرنا قدما

الرد على خصوم الإمام :

وترد الشاعرة على خصوم الإمام الذين لم يستطيعوا أن يجاروه في العلم، والعمل، والإصلاح، فكادوا له، وحسدوه ، فلنستمع إلى الشاعرة ، وهي تقول:

يا أيها الحاسدوه  ضل سعيكم   أما نهاكم ضمير عن أذاه أما كفاكمو ما رميتم قبل مصرعه   شلت يمين فتىً  بعد الممات رمى إن المنايا لأقوام  الورى شرعٌ   من رام في دهره خلداً فقد وهما إن السحاب يصيب الأرض ماطرُه   ويسلم الكل فيها ما خلا القمما وفى الكواكب لا يعرو الكسوف سوى   شمس وأحسن ما في الروض ما رجما كفاك من هذه الدنيا متاعبها   لا يدرك النور من في مقلتيه عمى ولا يلذ بأنغام توقعها   ذو عاهة يشتكى في أذنه صمما أحلك الله دار الخلد دانية   قطوفها وسقاك الدائم الديما

فما بالكم أيها الحاسدون ، أما رأيتم أن الكواكب تملأ السماء ، ولكن لا يكسف منها إلا الشمس والقمر ، وتصور حال أولئك الخصوم بأنهم فقد البصر والبصيرة فلم يشاهد محاسن الإمام الراحل، فأين للأصم أن يدرك سحر تلك الكلمات الباهرة ، وأين للأعمى أن يبصر تلك الآيات الساحرة.

سخاء الإمام، وكرمه :

وكان – رحمه الله – يساعد الفقراء ، ويعطف على الشعراء، ويجلّ الأدباء ، ويحنو على العلماء،  وكانت له علاقة خاصة بالشاعر حافظ إبراهيم ، والشيخ الشنقيطي الذي رثى نفسه، فقال :

تذكرتُ من يبكي عليَّ فلم أجد   سوى كتب تُختان بعدي ، أو علمي وغير الفتى المفتي محـمد عبده   صديقي الصدوق الصادق الودِّ والكلمِ

أين الضياء :

كتب أحمد الكاشف قصيدة من البحر الكامل ، وتقع في 53 بيتاً :

هل بعد خطبِك أستفيق فأنشدُ   لأهيم وجداً أو تعود (محمدُ ) فارقت قومك والليالي صارمٌ   دانٍ إلى أعنــاقهم يتهدد وتركتهم في الخطوة الأولى إلى   ماكنت تأمل فالقطيع مشرَّد أين الضياء لهــــديهم أين الزلا   ل لريِّهم لم ساقهم أين اليد يا ويحهم والبر قفرٌ شائك   متزلزلٌ والبـحر مرغٍ مزبد

لقد فقدت الأمة بموت الإمام المصباح الذي كانت تستنير به في ظلمات البر والبحر ، فكان –رحمه الله– يديهم التي تبطش ، وساقهم التي تسعد وتجد في طلب العلا ، ويمضي الشاعر الكبير في الرثاء فيقول:

كنت الإمام ومت مكبوداً فما   يذوي من الأحياء إلا الأكبد ما كنت تخشى عائقاً غير الردى   لك في سبيل اللّه عما تقصـد تفتي بدافعهم إلى نفّــاعهم   فتعينك الفتوى عليه وتسـعد وتكون عدتهم ليوم جهادهم   إن خــانهم هذا الزمان الأنكد

وأشاد بدفاع الإمام عن حمى الأمة وقوة ردّه على أعدائها، فقال :

وتجادل البلغاء عنهم بينما   يخشى الجريء ويهــمد المتوقد

وأصلح أساليب اللغة العربية ، وخلصها من السجع والتكلف ، والعجمة ، وأعاد إليها صفاءها ونقائها ، وأعادَ لها سيرتها الأولى :

وتروِّج اللغة  الصحيحة فيهمُ   من بعدما عشقوا الركيك ، فأكسدوا

وأحيا مبدأ الشورى ، بعد أن أوشك على الفناء ، وألّف الكتب النافعة ليجدد أمر الدين من خلالها، وينشر أفكاره  :

وتقوم بالشورى إذا طاشت بها   الأحـلام توترها لهم ، وتُسدِّد وتؤلف الكتب الثمينة للورى   تجــلو قرائحهم بها ، وتجدد

ولم يكن يرغب في المناصب الحكومية إلا ليعطي الناس كيف يكون العدل في القضاء والفتوى..

ما كنت ترضى في الحكومة منصباً   إلا لتظهر كيف يقضي السيد من للرئاسة والسياسة والعلى   إن كان فيها ذو التجارب يزهد

ولم يكن الإمام ليغترّ بتلك الألقاب الرنانة ، بل زادته تواضعاً :

لم تعطك الألقاب إلا همة   ملء الوجود ، وأنعم لا تنفد

وركز الإمام على التربية والإصلاح ، فعلى أبناء الأمة أن يربوا أنفسهم على حفظ مبادئ الإسلام وأخلاقه النبيلة ، وعقائده السمحة ، وكان يردد في دروسه الآية الكريمة ( إن الله لا يغيّرُ ما بقوم ٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم )، وكانت هذه الآية ركيزة ، وشعاراً له في التغيير، والإصلاح المنشود :

فأريت أهل الشرق أن صلاحهم   بنفوسهم لا بالملوك مؤكَّد وأبنتَ للمغلوب علة عجزه   ومراس غالبه فهمّ يقلد من بعد ما أمضى الليالي خائفاً   مترقباً أو ذا شكاة يحقد وأضله نفرٌ يرون نجاته في أن   يسبُّوا من بغى ، ويعربدوا وفَّقت بينهما فذو غرسك   ما ترجو وذو رزق يطيع ، ويحصد ذكروا نصيحتك التي لو صانها   زعماؤهم من قبل لم يستأسدوا لولا كل اتَّبعوا العناد فقاتلوا   واستهدفوا، أو أذعنوا ،فاستعبدوا فلو احتذى منهم مثالَك خمسةٌ   عاد الفخار إليهمُ ، والسؤدد

وراح الناس يطالبون بالدستور، واستغرقوا في العمل السياسي ، ونسوا أن مجال التربية هو الطريق الناجع لإصلاح البلاد والعباد ، فما هو العمل لو وضعنا دستوراً ، ثم رحنا ندوسه بالأقدام ، ونتجاوز أحكامه :

يتطلب الدستورَ أقوامٌ ولو   وليت حكم شــعوب قيصر أخلدوا وغداً يودُّ غــلاته وحماته   لو أطلقوا لك أمرهم ، وتقيدوا

ويرى الإمام محمد عبده أن الشرق لا يصلحه إلا مستبدٌ عادلٌ ، ولكن هذه المقولة جلبت عليه ردود العلماء والساسة :

وقضيت فيهم مستبداً عادلاً   فجمعت شملهم ، وأنت المفرد وكسبت ما لا يكسبنَّ متوَّجٌ   صعب الشكيمة بالجيوش مؤيد ولقد تغالى الناس في الشهوات   لا يعنيهمُ في الكون إلا العسجد رانت على ألبابهم شبهاتهم   فيا لدين فاتهموا اليقين ، وفنّدوا وتوهموه مُقعِداً للناس عن   علم وعن مــدنية ، وتشددوا وجروا سراعاً في فسيح ظنونهم   وشكوكهم متخبطين ، فألحدوا حتى إذا بلغوا المدى جادلتهم   فأعدتهم مستسلمين ، فوحدوا هل بعدما حكَّمت عقلك فيهم   يبقى مـن العقلاء من يتردد

لقد حظي الإمام بمكانة عظيمة تقصر عنها مكانة الملوك والرؤساء ، وردّ المسلمين عن حياة الخمول والسلبية والزهد في الدنيا والتواكل إلى حياة ( فاستقم كما أمرت  ) ، وأنه دين المدنية ، والحضارة:

أنصفت حتى ما يُسِرُّ لمسلمٍ   متنصرٌ حقداً ، ولا متهـود ما قمتَ بالإصلاح إلا بعدما   قدَّرت قوة من يكيدُ ، ويفسدُ وجعلتَ عفوك عن عداتك سنةً   للقــادرين بها إليهم تعهد ما الحربُ تقتيل العدى لكنها   نزع الحكيم من الورى ما عودوا ما أنت في الهيجاء خصماً فاتكاً   تسقي المنية كل من يتمرد ما عذر ذي الثقة الكبيرة نفسه   إن لم يجد عذراً لديه الحُسَّد وبأي طب يستطاع علاج من   يستنكر البرهان ، وهو مجسد

وعندما عزم الإمام على القيام بالإصلاح درس الواقع ، فعرف قوته وقوة خصومه ، وشخص الداء، ووصف الدواء ، وتحلى السيد بصفة العفو والتسامح ؛ لأن سيد القوم لا يحمل الحقدا ، فهو داعية سلام ومحبة ، وليس داعية حرب وقتال ودماء :

ويرى التنقل في الممالك بدعةً   حين ارتحالك ناقداً تتفقد من بات غيرك والخطوبُ محيطةٌ   بالمغرب الأقصى رقيباً يرصد لو طال عمرك حقبةً ،وصنعت ما   أزمعتَ صنتَ ولايةً تتبدد أتهمُّ بالأعباء عنهــم ثم لا   يرضـــــيهمُ إلا الخمول المقعد ماذا يضرك إن أبيت النفــع لو   حجبتك دار عنهم أو مــسجد ما كان يبرد غلهم يا سيـــــفهم   حتى تبيت وأنت فيهم مغمد

وكيف يردُّ المرءُ على أولئك الذين يرون الرحلة في طلب العلم، والسياحة في الدعوة إلى الله ، وتعليم الناس مبادئ الدين بدعة ، ويتمنى لو طال بالإمام العمر إذا لتغيّر وجه العالم، وتمّت رسالة الإصلاح:

ونطقت بالشعر الصراح مودعاً   فتركته وهــو الأجل الأمجد أيضيعه أحد وتلك وصية   لذويه بالحق الذي ، لا يجحد هذي حياة الجدّ في القوم الأُلَى   هزلوا وجدّ سـواهمُ يتصيدُ يا مكبرين ( محمداً ) سيروا على   آثاره إن الطـــريق ممهد اليوم يجلو الشعر عبرة أمسكم   فاستجمعوا لغد يكن لكم الغد

ويطلب الشاعر من أبناء الأمة أن يتابعوا السير على طريق الإمام ، فهو ممهد سالك لكل طلاب الحقيقة والخير والسلام .

إلى الأستاذ الإمام :                                                                                    

كتب الشاعر على الجارم ، وهو طالب بالأزهر سنة 1902م، وكان يتلقى دروس البلاغة، والتفسير على الأستاذ الإمام محمد عبده ، فمدحه بهذه القصيدة، ونحا فيها منحى الشعراء المتقدمين في الوصف والأسلوب ، وندّ عن الذاكرة عدد غير قليل من أبياتها ، يقول فيها :

المجدُ فوق متون ِ الضمّرِ القُودِ   تطوي الفلا بين إيجاف ٍ وتوخيدِ

إلى أن يصل إلى مديح الإمام محمد عبده ، فيقول :

مولاي علمتني كيفَ الثباتُ إذا   لم يتركِ الرعبُ قلباً غيرَ مزؤود علوتَ فازددتَ بين الناس معرفة   والنجمُ يعلو فيبدو شبه مفقود وأصبحَ الدينُ تيّهاً بناصره   والضادُ تزهي بتجميل وتجديد دع الحسود َ ، أما يكفيك أن له   نفساً تغورُ وحظاً غير مجدود يا فارسَ الشعر لا تجزعْ لنازلة   إذا دعوتَ إليها فارسَ الجود فنظرةٌ منه لو مسّتْ ظلام َ دُجى   ما زُمّلَ الليلُ في أثوابه السود

رثاء الشيخ محمد عبده :

وكتب العلامة الشيخ محمد بن محمد بن حمودة النخلي القيرواني ( 1869 – 1924 م ) الذي قضى حياته في تونس ، وتتلمذ عليه الإمام عبد الحميد بن باديس ، والعلامة محمد الطاهر بن عاشور ، وكان من مؤسسي جامع الزيتونة ، ومن أنصار الإمام محمد عبده ، ومدرسته الإصلاحية ، سمع بوفاة الإمام محمد عبده ، فأصيب بالذهول من وقع المصيبة ، فصوّر هول الفاجعة ، فقال :

مصـابٌ بـه الإسلامُ بـاكٍ مُوجَّعُ   وخطبٌ بـه الإصلاح ركــنٌ مزعزعُ بنعـي جليلٍ أطبقَ الأرض فضلُه   وكـان بـه النفعُ العـمـيـمُ الـمـنفّع وفَقْدُ جلـيل القـوم إنه فـــاجعٌ   وفقْدُ أجلِّ النــــاس أنكى وأفجَع ألا إنه قـد مـات مُصلــحُ عصرِهِ   ومـصـبـاحُ ديــنِ الله ذاك السَّمَيْدَع ألا إنه قـد غاص فــي قعْرِ حفرةٍ   عَيـالِمُ عـلـمٍ للـورى هـي شُرَّع ألا إنه قـد سـاخ فـي بضْعِ أذرعٍ   فـوا عجـبًا طَوْدٌ عـظيـمٌ مـرفّع ألا إنه قـد جدَّ ذا الخطبُ بـيـننـا   فمـاذا الـبكـا ماذا الرِّثـا ما الـتـوجُّع ذُعـرْنـا فلـم يُبقِ الأسى لنـا مقولاً   يُجـيـد بتأبـيـنِ الإمـام ويبـــدع ولا مَسْكةً مـن فكرةٍ فـــي هدايةٍ   وأظلـمَ لــــيل الخطْب وانسدَّ مُوسَع

ويعجب الشاعر كيف جرؤ الناس على دفن ذلك الإمام الورع في التراب ، فيقول :

لقـد دفـن النـاسُ الإمـامَ محـمدًا   ومـا هـو إلا عبـدُه الـمتــورِّع لقـد دفـن النـاس الإمامَ الذي قضى   له فـيـه فـيضًا ليس فـيـهنَّ أسْبَع دعـا للهدى بعـد العَمـاية راشدًا   وقـال لنـا: يـا أيـها الناس أسـرعوا وأيـقـظَنـا من نومةٍ طال مُكثُها   حَذارِ لـمـوتٍ غبُّهـا يُتـــوقَّع

لقد دعا الإمام إلى الهداية بعد العماية ، وإلى الرشد بعد الضلال ، وإلى النور بعد الظلمة ، وإلى الحضارة بعد الهمجية ، وإلى الإسلام بعد الجاهلية ، فأيقظ الأمة بعد سُبات ، ولمّ شملها بعد شتات.

مصاب عظيم :

وها هو الشاعر  كمال الدين جودت ( 1882 – 1952 ) الذي ولد في استانبول، ومات في مصر ، وهو والد الشاعر صالح جودت ، حصل على الثانوية بمدرسة الزراعة ، وتخرج فيها مهندساً زراعياً ، وعمل في عدة مدن مصرية .

يكتب قصيدة رثاء في الإمام محمد عبده، وردت ضمن كتاب ( تاريخ الأستاذ الإمام ) – ج3 .

نعى فيها فقده ، وشهر مجده العلمي، واجتهاده في علوم الدين . ويصفه بأنه فيلسوف الشرق ، فيقول :

مصابك يا مفتي الديار عظيمُ   وخطبكَ في كلِّ القلوب أليم مصابٌ يدكُّ الطودَ هولُ نزوله   ورزءٌ لكل المسلمين عظيمُ أقيمت له في كلِّ بيت مآتمٌ   تُجدِّدُ  آلامَ الأسى وتُديمُ لقد كنت َ للإسلام أشفق والد   فأضحى بهذا الرزء وهو يتيمُ وكنتَ أباً للعائذين فأصبحوا   وليس لهم في العالمين رحيمُ

لقد فقدت الأمة بموت مفتي مصر إماماً عظيماً ، فنزلت المصيبة كالصاعقة على رؤوس المسلمين في ربوع الدنيا ، فأقيمت المآتم في كلِّ بيت ، لقد كان للإسلام أباً رحيماً ، وبعد موته صار المسلمون كالأيتام على مأدبة اللئام:

وللأزهر المعمور نبراسَ أهله   فأصبح من فقد السراج بهيمُ وفي مجلس الشورى شفيعاً بأمة   تودُّ لها كسبَ العلا وتروم وها هي أمسى خبطَ عشواء سيرُها   حوالي رجاها اليأسُ بات يحوم لمن تترك الدين الذي كم خدمته   تقوّمُ معوجاً له وتُقيم فيا أعظم َ الأعلام ِ علماً وحكمة   إذا ما تبدى في الأنام حكيمُ ويا واحداً في المسلمين بفقده   غدا أملُ الإسلام وهو عديم ويا فيلسوف الشرق بالله فاتئدْ   حنانك لا تهجره فأنتَ حليمُ حنانيك لا تعجلْ إلى القبر إننا   كثيرٌ علينا أن يموت كريمُ فكيف بنا في فقد واحد قطرنا   حكيمٌ وبالداء الدفين عليمُ

لقد أصلح الإمام التعليم في الأزهر الشريف ، ونظم قوانين الشورى ، وأحياها في مؤسسات الحكم ، ولكنه يوم غادر هذه الأمة حدث فراغ هائل فها هي الأمة تتخبط في التيه ، لقد كان الإمام أعظم الأعلام حكمة وعقلاً ، وفيلسوف الشرق ، وطبيب المسلمين الذي عالج أمراضهم المزمنة .

رحلت َ وما للمبغضين بقاءُ :

وهذا شاعر مصري آخر عاصر الفاجعة ،فكتب ( محمد أبو طالب السكندري )، الذي ولد في الإسكندرية ، وصور موت الإمام ، وكان له عدداً من القصائد في رثاء الشيخ محمد عبده منشورة في (تاريخ الأستاذ الإمام) . وما أتيح لنا من شعره قصيدتان من الشعر الموزون المقفى في رثاء محمد عبده ، كلتاهما من البحر الطويل ، اتجهت الأولى إلى فضائل المرثي الأخلاقية على من حوله .

وبيّنت الأخرى فضله على الفكر الإسلامي وإذكاء عوامل النهضة .وكانت القصيدتان تمتازان بالألفاظ الجزلة الفخمة ، التي تملأ الفم ، وتقرع الأسماع ، وأما عباراته فهي قوية ، وجمله رصينة ، ومعانيه مباشرة .

يؤكد الشاعر في مطلع قصيدته أن الإمام رحل ، وأن حاسديه سوف يرحلون ، وشتان بين الفريقين ، فريق موته بقاء ، وفريق عيشه فناء ، فيقول :

رحلتَ وما للمبغضين بقاءُ   ومتَّ وعيشُ الحاسدين فناءُ وما الموتُ إلا حلّة في غضونها   يغيّبُ من يسعى إليه قضاءُ

لقد تعلمنا في مدرسة الإمام محمد عبده أن الأرواح تصير إلى الخلود ، فإما نعيم دائم ، وإما جحيم سرمدي :

وعنك أخذنا علمَ أن نفوسنا   خوالدُ بعد الموت ثمَّ جزاء فللطيباتُ المحسناتُ لنوعها   نعيمٌ وأما عكسها فشقاءُ وأنتَ على ما يشهد العلمُ والهدى   نصيبك في دار النعيم هناءُ وذكرك في الدنيا يدوم مخلّداً   يجدّده في البائسين ولاءُ

وراح يعدد صفات المرثي ، ويثني على أخلاقه الحميدة، ويشيد بسجاياه النبيلة ، فيقول:

لقد قمتَ فينا للهداية مثلما   أقام لنا من راحتيك عطاء فبينتَ أن الجودَ للعلم صاحبٌ   وذلك مما لم ترضه الفقهاءُ فلم نرَ منهم قبل جودك مُحسناً   يُجابُ به للسائلين نداءُ فمن لفتاة مات ذخرُ حياتها   وما ضاع منها في نداك رجاءُ ومن لامرئ أخنى عليه زمانه   فساعدته حتى استقام بناءُ ومن لبلاد ٍ كنت فيها حياتها   أحاطت بها من بعدك البُرحاءُ ومن لكتاب الله يتلوه شارحاً   بما فيه للقلب السقيم شفاءُ لئن سكبتْ عينُ الأمالي دموعها   فقد فاق عنها في البكاء سخاءُ

هذا الإمام لا نظير له في الجود ، والكرم ، والعلم ، فمن يكون بعده رحيماً بالأرامل واليتامى ، يداوي جراح البائسين ، ويعطف على الفقراء والمساكين ، ويفسر القرآن ، ويشف صدور قوم مؤمنين ...

دهتك الليالي :

ويكتب الشاعر محمد أبو طالب السكندري قصيدة أخرى لعله يشفي غليله ، ويطفئ بالشعر حرقة فؤاده على رحيل الإمام ، فيقول تحت عنوان ( دهتك الليالي ) :

دهتكَ الليالي بالذي نتخوّف   فمصرُكَ قاعٌ في الممالك صفصفُ مضى واحدُ الشرقِ الذي كان يُرتجى   لنشر علوم ٍ من مجانيه تُقطفُ ولم يكُ إنْ عُدَّ الرجالُ بواحد   ولكن بآلاف ٍ ومنْ عدَّ منصفُ فديتكَ هل فيمن تقادم َ عهدهم   إمامٌ بهاتيكَ الفضائل يُوضفُ وقد كان ذاك العصرُ عصرَ حضارةٍ   لأبناء هذا الشرق فيه التصرّفُ فكيفَ وقد كدنا نموتُ جهالة   وبتنا بأغلال التقاليد نرسُفُ فضاعتْ أمانينا وقلَّ رجاؤنا   وليس لنا إلا الأسى والتأسفُ

والأمة حين رأت همة الشيخ التي تفلُّ الحديد ، وعزيمته التي هي أقوى من الصخور ، وأبصرت نفسه التي تطمح إلى التجديد والإصلاح تبعت هداه ، ولبت نداءه ، وساعدته في الإصلاح:

ولما رأينا منه عزماً وهمّة   ونفساً على أسنى المقاصد تُشرفُ تبعنا هداهُ واقتفينا طريقه   لنيل المعالي وهو بالطرق أعرفُ فأسسَ للإسلام جمعيّة ً بها   يعزُّ ذليلٌ في البلاد ويشرفُ وأصلحَ حالَ الأزهريين بعدما   تصدّى له في ذلك المتعسّفُ وأعرضَ عن قول السفيه تكرماً   فعادَ إلى أعتابه يتزلّفُ

أسس الإمام الجمعية الخيرية الإسلامية التي رعت الأيتام ، والأرامل والمساكين ، ثم توجه لإصلاح الأزهر، ونفض غبار السنين عنه ، ولم يسمع لصوت السفهاء، وردّ على افتراءات المبشرين، والمرجفين، وصال بسيف الحق البتار، فحصد حجج الخصوم، وأسكتهم إلى الأبد :

وردَّ ( هنوتو ) حين شطَّ به الهوى   وصالَ بسيف الحقِّ والسيفُ مرهفُ فكان لدين الله أعظمَ آية   بها طرفُ أعداء الهداية يُطرفُ وفسّر آيات ِ الكتاب على هدًى   فتفسيره بين التفاسير مُصحفُ وكم بدعٍ في الناس أبطلَ حكمها   وكان سيولاً للشريعة تجرفُ وكم من ضلالاتٍ سعى فأزالها   ليظهر للإسلام نورٌ وزُخرفُ

لقد كان آية العصر ، وبديع الزمان ، فسّر القرآن ، وقرّب تعاليمه إلى العقول ، وكافح البدع والمنكرات ، وأزال الغواية ، وحارب الجاهلية :

وما كان جودُ الشيخ قطُّ بعلمه   ولكنه قد كان بالمال يُسرفُ فقل لأناسٍ حاولوا الجري خلفه   رويدكم ما في السجايا تكلّفُ فإن الذي كنتم سعيتم لكيده   أبرَّ بدين الله منكم وأرأفُ ولو شاءَ ربُّ العرش للقطر رفعة   لما مات َ حتى يبصرَ الحقَّ مُرجفُ ولكن شقاءٌ من قديم ٍ مسطّر   وليس لنا عمّا قضى الله مَصرفُ

ويذهب الشاعر بعيداً في إطراء الشيخ ، فيشبهه بالأنبياء الكرام ، فهو وارث محمدي ، يسير في إصلاحاته على قدم المرسلين ، والصدّيقين ، والصالحين :

فليس الذي قد مات بالأمس مثلكم   ولكنه موسى وعيسى ويوسفُ وليس الذي شيعتموه إمامنا   ولكنه لقمان ُ ، داودُ ، آصفُ وليس الذي فوق السرير محمداً   ولكنه المجدُ الأثيلُ يرفرفُ وليس فتيقُ المسك ريح حنوطه   ولكنه ذاك الثناءُ المخلّفُ وليس صريرُ النعش ما تسمعونه   ولكنه أصلابُ قوم ٍ تقصّفُ

وهنا نتساءل هل وقع الشاعر في المبالغة في رثاء الشيخ ولاسيما عندما شبهه بالرسل والأنبياء ، ولكن حسبنا أن نقول : إن الشاعر معجب بالإمام المصلح ، ويراه وارثاً لعلم الأنبياء ، فهم قدوة للمؤمنين عبر العصور والدهور .

مصاب جسيم :

ودبّج يراع الشاعر الجزائري محمد الخوجة الجزائري ( 1865 – 1915 م ) الذي عرف عنه مقاومة الاستعمار ، ومحاربة البدع ، وتولى منصب التدريس بالعاصمة الجزائرية مدة مديدة بجامع (سفير)، إن شاعر سلفي لازم الإمام محمد عبده أثناء زيارته الجزائر ، وكان شاعراً محافظاً على شروط القصيدة العربية وقوانينها الفنية ، لغة ، وتصويراً ، وأغراضاً ، وإيقاعاً .

ولكنه بدا صادق المشاعر في رثائه للإمام محمد عبده عبر إظهار قيمة المرثي وأهمية إنجازاته الفكرية والحضارية ، فيقول تحت عنوان ( مصاب جسيم ) ما يلي :

مصابٌ جسيمٌ عمَّ كلَّ العشائر   وأسلمنا قهراً لحكم المقادر رمينا بخطب ٍ لا يُقاسُ بغيره   فجعنا برزءٍ ما له من مُناظرِ وأكبادنا ذابتْ أسًى وكآبة   وأعيننا مثل العيون الهوامرِ على موت مفتي المسلمين وفخرهم   ومن كان للإسلام نورَ البصائر بكتْ مصرُ والدنيا جميعاً بفقده   وأبناؤها من كلِّ باد ٍ وحاضر وأبدى جميع ُ الناس حزناً وحسرة   وأجروا دموعاً كالغيوث المواطر وأثنوا عليه بالذي هو أهله   ثناءً جميلاً طيباً كالعنابرِ

لقد حظي الإمام محمد عبده بالإجماع الشعبي ، فرثته جميع الصحف والجرائد، وأثنت عليه ، وحزنت الأمة على فقده ، وما شذّ عن هذا إلا أراذل القوم :

على مثل ذا كلُّ الجرائد أجمعتْ   وما شذَّ عنها غيرُ خاسٍ وخاسرِ يحاول نقص البدر ليلة تمّه   بإظهاره الممقوت في كلِّ عامر فقل لحسود الشيخ قد ذهب الذي   تهابُ محيّاهُ فحولُ القساور وتعنو له طوعاً أئمة وقته   ويلقاه بالتبجيل كلّ الأكاسرِ فطبْ وانشرحْ صدراً إذا كنت خالداً   ولكن ستلقى في حفير المقابرِ ولا تحسبن الله عنك بغافلٍ   فإن لم تتبْ تصلى بنار التهابر وما مات من قد كان في الكون آية   أوائله محمودة ٌ كالأواخر

وأشاد الشاعر بكتب الإمام ومؤلفاته التي أنست الشباب المثقف كتب المتقدمين ، فتهافتوا على شرائها وقراءتها :

تآليفه تنسيكَ ما حاك قبلها   وتغنيكَ عن كلِّ الطروس الكبائر أفادتْ من التحقيق كلّ يتيمة   تقاصـــرَ عنها كابرٌ إثرَ كابر وحلّتْ بتدقيق عويصاً ومشكلاً   بحيث غــدا كالبدر يبدو لناظر عليك بها إن رُمت َ تجني هداية   وتصبحُ أســتاذ العلوم الغزائر وإنشاؤه زاد حسناً وبهـجة   على الدرِّ بل زهر الدراري السوافر

هجاء الإمام :

إن الناس أعداء ما يجهلون ، وهم دائماً يرتبطون ارتباطاً عضوياً متيناً بالعادات والتقاليد ؛ لأنهم يجدون فيها رائحة الآباء والأجداد ، فإذا جاءهم من يريد التغيير والإصلاح نفروا ، وعارضوا والقليل منهم من يحب المصلحين ، وهذه سنة الأنبياء ، فالإمام محمد عبده عندما فاجأ الناس بدعوى الإصلاح ، وقف في وجهه ثلة من المحافظين والمشايخ ، فآذوه ، وشنعوا عليه ، وكان أبرزهم الشاعر الفلسطيني يوسف النبهاني الذي ألف الكتب ، ونشرها بأسعار زهيدة ، وتهجم على ابن تيمية ، وتلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه (شواهد الحق )، وكتب الأشعار في فضح دعاة الإصلاح في مصر مثل: جمال الدين الأفغاني،  ومحمد عبده، ورشيد رضا، ومحمود شكري الآلوسي ، وها هو يكتب قصيدة يسميها ( الرائية الصغرى )  يهجو فيها جمال الدين الأفغاني ، وتلامذته ، ويفنِّد مزاعمه في الإصلاح ، ويكيل له ولمدرسته الإصلاحية التهم ، فهم يدّعون الاجتهاد، ولا يحفظون القرآن الكريم ، ولا السنة المطهرة ، ولا يحترمون أئمة المذاهب الفقهية ،  والقصيدة من البحر الطويل ، وتقع في/ 549 / بيتاً ، يتحدث فيها الشاعر النبهاني كيف أفشى الأفغاني سره لتلميذه محمد عبده ، فكان سبب ضلاله ، وحظي محمد عبده بحصة الأسد من الهجاء، فلنستمع إلى النبهاني، وهو يقول  :

وَحينَ أتاهُ ذلكَ الحينَ (عبدهُ )   وَأمثالهُ أَفشى لهُم ذلكَ السرّا أَسرّ لَهُم محوَ المذاهبِ كلّها   لِيرجعَ هذا الدينُ في زعمهِ بِكرا فَلَم يلف مِنهم غيرَ خلٍّ موافقٍ   سميعٍ له قــولاً مطيعٍ له أمرا فَساقَ عَلى الإسلامِ منهم جحافلاً   يَرى فِرقةً سارَت فَيُتبعها أُخرى أَغاروا على الإسلامِ في كلِّ بلدةٍ   فَما تَركوا نَجداً وَما تَرَكوا غورا شَياطينُ بينَ المُسلمينَ تَفرّقوا   بإِغوائِهم كَم أَفسَدوا جاهلاً غمرا قَدِ اِختَصروا بالجهلِ دين مُحمّدٍ   وَما تَرَكوا من عُشرِ أحكامهِ العُشرا

لقد اختصروا تعاليم الدين وهاجموا المذاهب الفقهية ، وزعموا أنهم أردوا الإصلاح :

لَقَد زَعَموا إِصلاحهُ بفسـادِهم   وَكَم حمّــلوهُ مِن ضَلالاتِهم إِصرا كفيران قصرٍ أفسدَت فيهِ جهدَها   تَرى نفسَها قد أصلَحت ذلكَ القَصرا فَما بالُهم لا يُصلحون نُفوسهم   أما هيَ بِالإصلاحِ مِن غيرِها أحرى وَقد جاءَ في القرآنِ ذكرُ فَسادِهم   وَزَعمهمُ الإصلاحَ في السورة الزهرا وَفي درّهِ المنثورِ سلمان قائلٌ همُ   بعدُ لم يأتوا فَخُسراً لهم خسرا وَها هم أتَونا مثلَما قال ربُّنا   بِأوصافِهم فاِعجَب لَها آيةً كبرى خَوارجُ لَكِن شيخُهم غير نافعٍ   وَلكنَّهُ قَــد كانَ أزرقَ مغبرّا وَقَد جاءَ في الأخبارِ وصفُ مُروقهم   منَ الدينِ مثلَ السهمِ للجهةِ الأخرى

ويشبه الأفغاني ، وما جاء به بفكر الخوارج ، وأفعالهم . فهم أشداء على المؤمنين ، رحماء بالكافرين ، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية :

بِفِعل البُرستنتِ اِقتدوا باِجتِهادهم   لِقولِ رَسولِ اللَّه لو دخلوا جُحرا أُولئكَ قَد ألغَوا زوائدَ دينهم   وَقد ضلّلوا في ذلكَ القسَّ والحَبرا قَدِ اِجتَهدوا في دينِهم حينَما   رأوا مَجامِعَهم زادتهُ في نكرهِ نُكرا وَمَهما يكُن عذرٌ لهم باِجتِهادهم   فَمُجتهدونا اليومَ قَد فَقدوا العُذرا وَمَع كونِهم مثل البُرستنتِ فارَقوا   أَئمّتهم كلٌّ غَــدا عالماً حبرا فَقَد قلّدوا أهلَ المجامعِ منهمُ   بِمُؤتمرٍ للبحثِ في الدينِ في مصرا بهِ سننَ القومُ النَصارى تتبّعوا   عَلى الإثرِ لَم يَعدوا ذِراعاً و لا شبرا فللَّه درُّ المُصطفى سيّدِ الوَرى   فَقَد طابَقَت أخبارهُ كلّها الخُبرا

لقد تبع دعاة الإصلاح سنن الأمم السالفة (حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحرَ ضب لدخلتموه) ، فها هم يقلدون الإصلاحات النصرانية على طريقة ( البروستنت ) ، فأي إصلاح بعد أن كمل الدين ، وتمت النعمة :

أَمِن بعدِ قول اللَّه أكملت دينكم   يُريدونَ في الإسلامِ أَن يُحدِثوا أمرا يَقولونَ لا نَرمي كِتاباً وسنّةً   وَنَتبعُ زَيداً في الديانةِ أو عمرا وَذلكَ حَقٌّ قصدُهم فيه باطلٌ   وخيرُ كلامٍ قَد أَرادوا به شرّا أَرادوا بهِ مِن جَهلِهم بِنفوسهم   لترفعَ دَعوى الإجتهادِ لهُم قَدرا فَصارَت جميعُ الناسِ ساخِرةً   بهم كَما يدّعي الحجّامُ سَلطنةً كبرى وَما أَخَذت كلُّ المذاهبِ عندنا   بِغيرِ كتابِ اللَّه والسنّةِ الغرّا أَئمّتُنا الأخيارُ قد شَرَحوهما   وَهُم بِكلامِ اللَّه وَالمُصطفى أدرى وَأَشقى الوَرى من ضلَّ في ليلِ غيّهِ   وَما قلّدَ الساري الّذي شاهدَ البَدرا فَكلُّ دَعاوي الإجتهادِ  نَردُّها   وَنَرمي بِها بَحراً ونَرمي بها برّا وَما يدّعيهِ اليومَ غيرُ حثالةٍ   بِأسفل حوضِ العلمِ كدّرتِ المجرى قَدِ اِجتَهدوا في خذلِ دينِ مُحمّدٍ   وَإِن زَعَموا بالاجتهادِ  له نصرا قَدِ اِجتَهدوا أَن لا تكاليفَ عندهم   فَصاروا إِباحيّينَ لا نهيَ لا أمرا وَما العلمُ شرطُ الاجتهادِ ولا التُقى   لَديهم ولكِن كلُّ عبدٍ غدا حرّا فَيفعلُ في الأحكامِ فعلَ دوابهِ   إِذا أُطلِقَت مِن دونِ قيدٍ إلى الصحرا وَأَقوى شُروطِ الاجتهادِ  لَديهمُ   وَقاحةُ وَجهٍ حدّهُ يفلقُ الصَخرا وَكَم ذا رَأَينا في الأُلى يدّعونه   تُيوساً وكَم ذا قَد رَأينا بهم حُمرا نَعم جَهلُها جَهلٌ بسيطٌ وجهلهم   بِتركيبهِ قَد صارَ أَقواهُما ضرّا وَقَد جاوَزوا أَطوارَهم ودوابهم   عَلى حالِها ما جاوَزَت مِثلَهُم طَورا فَما قطُّ شاهَدنا حِماراً مُسابقاً   جَواداً وَتيساً صارعَ الليثَ وَالنِمرا وَهُم لو تعدّوا ألفَ طورٍ ومثلها   حُدوداً وأَطواراً لَما جاوزوا القعرا يَقولونَ إنّا كالأئمّة كلّنا رِجالٌ   وما زادوا على أحدٍ ظفرا لَقد أَخطؤوا أينَ الثريّا منَ الثرى   وَما لبغاثِ الطيرِ أن يشبه النَسرا نَعَم مثلُهم وزناً بوزنٍ وصورةٍ   عَلى صورةٍ كالتربِ قد أشبه التِبرا وَلَو ثمَّ مِرآةٌ يرونَ نُفوسهم بَها   لَرأوها بينَ أهل النُهى ذرّا

فكيف يزعم هؤلاء الاجتهاد وهم لا يملكون مفاتيحه ، ولا يحفظون الكتاب والسنة ، وراحوا يقللون من اجتهاد الأئمة ، ويقولون نحن رجال وهم رجال ، وهذا صحيح ولكن أين الثرى من الثريا :

يَقولونَ أَغنانا كتابٌ وسنّةٌ   وَلَم يُبقيا فينا لِغَيرهما فَقرا وَفي الألفِ مِنهم ليسَ يوجدُ حافظٌ   لِجزءِ حَديثٍ قلَّ أَو سورةٍ تُقرا وَما قَرؤوهُ مِنهُما عَن جهالةٍ   فَلا فاهمٌ معنىً ولا عالمٌ سرّا وَما نَهيا عنه وما أمَرا به   فلا سامِعٌ نهياً ولا طائعٌ أمرا

ورماهم بالإباحية،  والتفلت من تعاليم الدين، فقال :

تَراهُم إباحيّين أو هُم نَظيرهم   إِذا كنتَ عَن أسرارهِم تكشفُ السِترا وَكلُّ امرئٍ لا يَستحي في جدالهِ   مِنَ الكذبِ وَالتلفيق مهما أَتى نُكرا فَمَن قالَ صلّوا قال قائلهم له   يَجوزُ لَنا في البيتِ نَجمعُها قَصرا وَإِن قيل لا تشرَب يقولُ شَرِبتها   بِقصدِ الشِفا أَو قالَ ليس اِسمُها خمرا فَيجهرُ كُلٌّ بالمَعاصي مجادلاً   بِما نَفثَ الشيطانُ في قلبهِ سرّا فَلا صامَ لا صلّى ولا حجّ   لا حبى فَقيراً وإِن أَودى به فقرهُ برّا وَفي الألفِ منهم واحدٌ ربّما أتى   مَساجدَنا لَكِن إذا كانَ مُضطرّا وَأَخبَرَني مَن لا أشكُّ بصدقهِ   بأَن قَد رَأى من بالَ منهم بلا اِستِبرا وَلازمهُ حتّى أَتى بعدُ مَسجداً   فَصلّى وَلَم يُحدِث منَ الحدثِ الطُهرا وَآخر منهُم قَد أقام صلاتهُ   بدونِ اِغتِسالٍ مَع جَنابتهِ الكُبرى

لقد قصروا في الحفاظ على أركان الإسلام ، وتساهلوا في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبعضهم بال ، ولم يتوضأ ، وصلّى، وهو جنب ، وقلما تراهم، يدخلون المساجد :

عَلى وجهِ كلٍّ من ظلامٍ علامةٌ   بهِ عرّفت مَن لم يكُن يعرفُ الأَمرا بِهِم غربةُ الدينِ اِستَبانت بِعَصرنا   فَيا قُبحَهم قَوماً و يا قبحهُ عصرا يَقولونَ عصرُ النورِ فيهِ تنوّروا   وَلكنّهُ مِن نورةٍ تحلقُ الشَعرا وَقَد حلَقت أَديانَهُم من قلوبهم   فَما تَرَكت مِن نورِ إِيمانهم إثرا

ويزعمون أن هذا عصر النور والحضارة ، ولكن نسوا أن معادنهم خبيثة تحتاج إلى الإصلاح قبل كلّ شيء :

مَعادنُ سوءٍ يتّقي المرءُ شرّهم   يُجامِلُهم جَهراً ويلعَنُهم سرّا

ويصور هجومهم على تعاليم الإسلام، فيقول :

ذِئابٌ على الإسلامِ صالوا وَما اِكتفوا   بِأَنيابِهم حتّى بهِ أَنشَبوا الظفرا مَقاريضُ أعراض بِأَلسنةٍ لهم حِدادٍ   بِها قَد أَشبهوا الجرذُ و الفَأرا لَهُم أَوجهٌ كالصخرِ مثل قلوبهم   وَلَكن بِها ماءُ الحَيا ماله مجرى وَإِنّي وَإِن أحكُم لِظاهرِ حالِهم   بِإِسلامِهم بِالقولِ لا أكفلُ السرّا فَفي وَجهِ كلٍّ قَد بدا من ظلامهِ   دُخانٌ يُرينا أنّ في قلبهِ جَمرا وَلَم أَجتَمِع واللَّه منهم بواحدٍ   وَذاكرتهُ إلّا وَددتُ لهُ القَبرا وَلَم أَستَمِع دَعواهُ إلّا مقتّهُ   وَإلّا قرأتُ الحمقَ في وجههِ سطرا وَلَم أرَ إلّا ناقصَ الدينِ والحِجا   بهِ مفاسدَ الأفكارِ من أدبٍ صفرا وَأَعداؤُهم مِن بَيننا كلُّ عالمٍ   وَلاسيّما إِن كانَ في فقههِ بَحرا وَإِن كانَ مَشهورَ الوِلايةِ ضُمّنت   جَوانحُهم مِن بغضهِ الحصّة الكبرى وَأَحبابهُم أهلُ الغِوايةِ مِثلهم   وَمَهما يكُن أَغوى يكُن عندَهم أحرى مُناسبةٌ جرّت لكلِّ مُناسب   مُناسِبهُ إِن ساءَ ذلك أو سرّا

ويتهم الإمام محمد عبده بأن أصله ( قبطي ) تدل سحنة وجهه على سوء خصاله ، فهو عبد الشيطان تارة ، وأبو جهل تارة أخرى ، وهو كالنمرود ، وفرعون   :

لَهُم شيخُ سوءٍ مِن بَني القِبطِ أصلهُ   بِسحنتهِ الشوهاءِ نسبتهُ تُقرا عَلى قَلبهِ سادَ الهَوى فهو ( عبدهُ  )   وَقَد سكَنَ الشيطانُ مِن رأسهِ وَكرا أَبو مرّةٍ في مصرَ أحرزَ إِمرةً   فَصيّر عيشَ المسلمينَ بِها مرّا أَبو جهل هَذا العصرِ قَد صارَ مُفتياً   بِمصرَ فأحيا الجاهليّة في مِصرا كَنمرودَ  لكن لا سلامَ لنارهِ   وَفي بحرهِ فِرعونُ لا يحسنُ العَبرا

لقد حقق الشيطان مراده من خلال فتاوى الإمام محمد عبده :

به بلَغَ الشيطانُ في الدين قصدهُ   وَقَطّبَ وَجهَ الحقِّ والباطلُ اِفترّا جَريءٌ عَلى الفَتوى بحقٍّ وباطلٍ   بِحُكمِ الهَوى والجهلِ ما شاءُه أجرى وَليسَ بِعلمِ الفقهِ يلحقُ مُحضراً   وَإِن راحَ يَعدو خلفهُ أبداً حَضرا وَمَع جهلهِ في دينِنا وعلومهِ   يَرى نفســَهُ أَعلى أئمّتهِ قَدرا فُنونُ جُنونِ الجاهلينَ كثيرةٌ   وَأَقبَحُـها قردٌ يَرى نفسهُ بَدرا

ويعيب عليه تتلمذه على يدي الإمام جمال الدين الأفغاني ، فيقول :

رَوى عَن جمالِ الدينِ أقبحَ ما روى   منَ العلمِ لَكن زادَ أضعافَهُ شرّا رَوى عَنهُ مِن علمِ الفلاسفِ قطرةً   فَصارَ بِها مِن ضعفهِ طافحاً سُكرا وَراحَ بِدعوى الإجتهادِ مُعربداً   يَقيءُ ضَلالاً نجّسَ البرَّ وَ البَحرا وَضَلّلَ أهلَ العلمِ مِن كلِّ مَذهبٍ   بِكلِّ زَمــانٍ باِتّباعِهمُ  الغَيرا لِسانٌ لَهُ كالثورِ لفَّ نباتهُ   وَلكنّهُ بِالجهلِ قَد غلبَ الثورا فَلَم يُرَ ثورٌ زاحمَ الأسدَ قبلهُ   وَلا حدأةً من قبلهِ زاحَمت نَسرا

لقد خاض محمد عبده في أمور الفلسفة ، وادعى الاجتهاد ، وهو لا يمتلك إلا لساناً عريضاً ، وصوتاً جهورياً ، ويمضى الشاعر يوسف النبهاني في تعداد صفات الشيخ محمد عبده التي يذمها ، فيقول :

تَولّعَ بِالدُنيا وصيّرَ دينهُ   إِليها عَلى ما فيهِ مِن خفّةٍ جِسرا يَميناً إِذا كانَ تيَميناً وإن تَكُن يَساراً   سَعى يعدو إِليها منَ اليُسرى فمِن جهةٍ يُدعى الإمامَ ويقتدي   بِأعمالِ أهلِ الكُفرِ مِن جهة أُخرى يَذمُّ خيارَ المسلمينَ وعندما يَرى   حاجَةً للكفرِ يَستحسنُ الكُفرا لِكَيما يقالَ الشيخُ حرٌّ ضميرهٌ   فَيبلغَ عندَ القومِ مَرتبةً كُبرى وَمازالَ مَشهوداً على الدينِ شَرُّهُ   وَإِن زَعَم العُميانُ أنّ بهِ خَيرا

وكيف يصلح الدين من يعشق الدنيا ويغرم بحبها ولا يزهد في حطامها الزائل ،بل كيف يزعم أنه إمام في الدين بينما يقلّد الكافرين من أهل الغرب والشرق ، ويتهجم على خيار المسلمين:

لئِن نَفَع الإسلامَ مِن دونِ قصدهِ   فَكم هوَ عَن قصدٍ به ألحقَ الضرّا خَبيثٌ حَكى أمَّ الخبائثِ إذ حوت   عَلى كِبَرٍ في الإثمِ مَنفعةً صغرى مَضرّاتهُ مثلُ الجبالِ وإنّما مَنافعهُ   في الدينِ أَشبــهتِ الذرّا أَجلُّ شَياطينِ الضلالِ بعَصرهِ   وَأعظمُ أهلِ الزيغِ في مصرهِ خُسرا

ويصوره وقد جمع قبح الذات ، وقبح الصفات ، فهو من أهل السوء سيرة وسريرة :

تَكاملَ قبحُ الذاتِ فيهِ وَإِن يَكُن   بِنسبةِ قُبــحٍ في عقيدتهِ نَزرا تَدلُّ عَلى خافيهِ ظلمةُ وجههِ   وَأسرارُ قلبِ المَرء مِن وَجهه تُقرا

وبعد فشل الثورة العرابية حكم على الشيخ محمد عبده بالنفي ثلاث سنوات ، فتوجه إلى باريس ، ثم قدم الإمام (محمد عبده) إلى بلاد الشام ، واستوطن بيروت ، ودرّس فيها، فأثر في أهلها ، فصار له فيها تلاميذ، ومؤيدين :

أَتى لبـــلادِ الشــامِ أيّامَ نفيهِ   فَأنبتَ فيــها مِن ضَلالتهِ بذرا بِها باضَ بيضاً كان إبليس حاضناً لهُ   فَسَعت أفراخهُ تتبعُ الإثرا

ثم عاد إلى مصر ، فأسس مذهباً له ، ولوّث مصر بأفكاره :

وَعادَ إلى مصرٍ فأحدث مذهباً   وَلوّثَ مِن أقذارهِ ذلك القُطرا وَأيّدَ أعداءَ البلاد بسعيهِ   وَأَوهمَ أَهلَ الجهلِ أَنّ بهِم خَيرا يُحسّنُ بينَ الناسِ قُبحَ فِعالهم   وَمَهما أَساؤوا راحَ يلتمسُ العُذرا بِمِقدارِ ماخانَ البلادَ وما أتى   لأعدائِها نُصحاً علا عندَهُم قدرا وَلَم يَقتَنِع منهُم بِدُنيا اِستفادها   وَلكنّهُ قَد شاركَ القومَ في الأخرى

وقام الإمام محمد عبده بالإصلاح ، ولكن على طريقة ( البروستنت ) ، فزادت فرقة المسلمين ، وضاع شبابهم بسبب آرائه :

وَأَحدثَ بينَ المُســـلمينَ نَظيرهم   بُرستنتَ صــــــــاروا مثلهُم فرقةً أخرى لَقَد قادَهم منهُ إلى رأي ملحدٍ   إِذا لَم يكُن كُفراً فقد قاربَ الكفرا وَنالَ بِجاهِ القومِ في الناسِ رُتبةً   بِها حازَ في مَن شاءَه النفعَ والضرّا فَأَصلى رِجالَ العلمِ من كلّ مذهبٍ   بِنارِ فسادٍ منهُ قَد قذَفت جَمرا فَمِن رَهبةٍ أَو رَغبةٍ كَمسعى له   طَغامٌ من الجهّالِ أَكسبهم خُسرا وَأَلقى لَهُم دَرساً يخالفُ حكمهُ   بِأزهرِها المعمور دينَ أبي الزهرا

واتبع في تعامله مع علماء الدين أسلوب الترغيب والترهيب ، وسار على سياسة العصا والجزرة ، ونشر ضلاله في تفسير القرآن الذي كان ينشره على صفحات ( المنار ) :

وَقَد ضلَّ في القرآنِ مع عظم نورهِ   كَما خَبَطت عَشواءُ في الليلةِ القَمرا فَتفسيرهُ مِن رأيهِ ليس خالياً   فَإمّا يُرى فِسقاً وإما يرى كفرا أُحذّرُ كلَّ الناسِ من كتب دينهِ   وَبالردِّ وَالإعراضِ تَفسيره  أَحرى وَساوِسُ أَوحَتها إليهِ أبالسٌ   بِها يجِدُ المُرّاقُ إن عُذِلوا عُذرا

وحذر النبهاني الناس من قراءة كتب الإمام محمد عبده ، فهي محشوة بالأباطيل ، والإلحاد ، وبين فساد عقيدته ، وأقواله التي تشبه السراب يحسبه الظمآن ماءً ، فقال :

عَقيدتهُ في قبحِها مثلُ وجههِ   تُشــــــــــــــاهدُ في مِـــرآةِ ملّتنا الغرّا وَأَقوالهُ مثلُ السرابِ بقيعةٍ   بِظاهِرها قَد تخدعُ الجاهلَ الغِرّا مَحاسنُ أَلفاظٍ لهُ قَد تَزخرفت   تغُرُّ اِمرءاً لا يعرف الخير والشرّا بهِ بَرَزَت حسناء في شرّ مَنبتٍ   كَما نَبتَت في الدمنةِ البقلةُ الخضرا

اعتمد في نشر أفكاره وآرائه على الألفاظ البراقة ، وزخرف الكلام ، والعبارات الرنانة ، فخدع بها الأغرار من الشباب ، وكان يرى الفضل للمشركين ، يصور الشيخ النبهاني ذلك، فيقول :

يَرى لِذوي الإلحادِ فَضلاً وأينَما   رَأى ذا اِبتداعٍ راحَ يمنحُهُ شُكرا يَرى لِفتى تيميّةٍ باِبتداعهِ   وَزلّاتهِ في الدين مَنقبةً كبرى وَلكنّهُ لَم يتّبعه بزهــدهِ   وَأقوالهِ الحسنا وخيراته الأخرى وَيمدحُ وهّابيّةً لمسائلٍ بِها   قَد أَتوا نكراً وضلّوا بها فكرا وَيَفعلُ أَفعالاً إِذا عُرِضَت   على أُولئكَ عدّوها بمذهبهم كفرا

وهو يقلّد في أفكاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، ويمدح الوهابية ، ويفعل أفعالاً لو عرضت عليهم لكفروه بها ، وكان يبيح الزواج من نساء أهل الكتاب دون تحفظ ، ويأكل طعامهم :

يُعاشرُ نِسوانَ النَصارى ولا يرى   بِذلكَ مِن بأسٍ وإن كشفَ السِترا وَيأكلُ منهم كلّما يأكلونهُ   وَيشربُها حَمراءَ إِن شاء أو صفرا وَيُفتي بحلِّ المُسكِرات جَميعها   إِذا هيَ بالأسماءِ خالفتِ الخمرا وَيأكلُ مَخنوقاً ويُفتي بحلّه   لِئلّا يقولوا إنّه اِرتكبَ الوِزرا

وكان – كما يزعم يوسف النبهاني – يتعاطى المسكرات ، ويسميها بغير اسمها ، ويأكل المنخنقة ، ويبيح لبس ( البرانيط ) مع ما في ذلك من تشبه بالكفار :

وَتحليلهُ لبسَ البرانيط والرِبا   بهِ بعضُ أهلِ العلمِ قَد ألحقَ الكُفرا وَكَم زارَ باريزاً  ولُندرةً   ولم يَزُر مكّةً يَوماً ولا طيبةَ الغرّا وَإِن كانَ يَوماً للرِياء مُصلّياً   يُرى فاعِلاً يوماً وتارِكها شهرا وَكَم مِن إِمامٍ كاِبن حنبل مُلحقٍ   بتارك فرضٍ مِن فرائضها كفرا وَبالفسقِ قالَ الشافعيّ ومالكٌ   ومِن أجلِ فرضٍ أوجَبا قتلهُ زَجرا وَمثلَهُما النعمانُ قال بفسقهِ   بِلا قتلهِ لكنّه يحبسُ الدَهرا فَقَد عاشَ إمّا واجب الحبسِ عمرهُ   وإمّا غدا بينَ الورى دمهُ هَدرا

ولقد زار الإمامُ باريس ولندن عدة مراتٍ ، ولم يزرْ مكة والمدينة ، ولو مرة ً واحدة ً، ويقسو عليه النبهاني ، ويخرجُ عن آداب الحوار، والجدال ، فيقول :

فَمَن قالَ كالكلبِ العقور فصادقٌ   سِوى أنّهُ في الدينِ قَد فعَل العَقرا وَقَد كنتُ في لبنانَ يوماً صَحِبتهُ   لقربِ غروبِ الشمسِ من ضحوةٍ كبرى وَصَلّيتُ فرضَ الظهرِ والعصر بعدهُ   لديهِ وَ ما صلّى هوَ الظهرَ والعصرا وَكان صحيحَ الجسمِ لا عذر عندهُ   بَلى إنّ ضعفَ الدينِ كانَ لهُ عُذرا وَمَع كلِّ هذا فهوَ أُستاذُ عصرهِ   فَأُفٍّ لهُ شَيخاً وأُفٍّ له عصرا وَقبلَ غروبِ الشمسِ صاحبتُ شيخهُ   لِقربِ العشا أيّامَ جاورتُ في مِصرا وَلَم أرهُ أدّى فريضةَ مغرب   فَقاطعتُ شيخَ السوءِ من أجلها الدهرا رَمَى اللَّه كلّاً منهُما بِلِسانهِ   بِداءٍ فَذاقا الموتَ في قطــعهِ مرّا وَذاكَ أبو الآفاتِ كَم ذا هَــــــجا بهِ   وَليّاً وكَم في الدينِ قَد نطقَ الهجرا

وكان الشيخ محمد عبده مثل أستاذه ( الأفغاني ) في السوء ، وإهمال الصلاة :

كَأُستاذهِ في الدين حازَ مساوياً   إِذا مُزِجت بالبحرِ أفسدتِ البحرا وَزادَ عليهِ قوّةً وَضلالةً   فَولّد في الإلحادِ في عُشرِه عَشرا وَكَم مِن تَلاميذٍ له كلُّ واحدٍ   هوَ الشيخُ إلّا أنّه نسخةٌ أخرى قَدِ اِعتَقدوا كلَّ المَساوي محاسناً   لهُوَ رأوا تلكَ الشرورَ به خيرا بهِ نالَهم كالسامريّة فتنةٌ   ولكِن محلّ العجلِ قَد عَبَدوا الثورا

ورآه أحدهم في المنام أعور العين ، فحكى ذلك الرجلُ هذا الحلمَ للشيخ يوسف النبهاني ، فأعجبه هذا المنام ، فقال :

حَكى الحسنُ ابن الأسطوانيّ وهو   مـن بدورِ الهُدى في الشامِ أكرِم به بدرا حَكى أنّه مِن بعدما ماتَ (عبـــدهُ )   رَأى عينهُ في النَوم مطموسةً عورا فَأوّلتُ أنّ الشيخَ دجّال عصرهِ   وَما زالَ دجّالاً وإِن سكنَ القبرا فَقَد ماتَ لكن أحيتِ الدجل كتبهُ   وَورّثَ كلّاً مِن تَلاميذهِ قدرا مَراتِبُهم في إرثهِ قَد تَفاوتت   فَذو حصّةٍ صُغرى وذو حصّةٍ كبرى وَمِن حيثُ أصل الدجلِ أكفاءُ بعضهم   فَلا واحدٌ يُبدي على واحدٍ فخرا وَهُم كلُّهم والشيخُ أيضاً وشيـخهُ   إِلى الأعورِ الدجّال نِسبتُهم تُدرى وَلَولا حديثُ المُصطفى لأسامةٍ   يقولُ بهِ هَلّا شَققتَ لهُ الصدرا لَما صحّتِ الدَعوى بإسلام بعضهم   لديَّ وما اِستبعدتُ عَن بَعضِهم كفرا وَكنتُ كتبتُ الكافَ والفاءَ بعــدها   على جَبَهاتِ القومِ كَي يَعرِفوا و الرّا كَما جاءَ في الدجّال يكتبُ لَفظها   فَيقرأُ مَن يَقرا ومن لم يكن يقرا فَقَد أشبهوهُ في معانٍ كثيرةٍ   منَ الدجلِ والإلحادِ والبدع الأخرى وَما الفرقُ إلّا أنّهم في قلوبهم   عَماهم ودجّالُ الورى عينهُ عورا مُقدّمةٌ للجيشِ عنهُ تقدّموا   وَجندٌ لهُ من قبلهِ مهّدوا الأمرا تَقدّمَ فيهم نائباً عنه (عبدهُ )   فَأغوى الّذي أَغوى وأغرى الّذي أغرى

ويرى الشيخ يوسف النبهاني أن هؤلاء الإصلاحيين هم جيش الأعور الدجال ، الذين يمهدون الطريق لظهور ، ولا يستثني النبهاني منهم أحداً ، فيتناول في هذه القصيدة بالذم : جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ورشيد رضا ، ومحمود شكري الآلوسي ، والسلفية ، والوهابية ، ومن لفَّ لفهم ، ويكيل لهم التهم، ويقذف عليهم الشتائم كالقنابل المحرقة ، ويعيد ويكرر المعاني ، ويطيل النفس ، فيكتب قصيدة تزيد على الخمس مئة بيت ، ولكنني أرى تلك الاتهامات جاءت من إنسان متعصب ينتسب إلى مدرسة المحافظين ، الذين يكرهون الإصلاح ، ويزعمون قفل باب الاجتهاد ، وكيف يعيب الشيخ يوسف النبهاني على محمد عبده العمل في الوظائف الحكومية في ظل الانتداب ، بينما ينسى نفسه ، فقد كان قاضياً تحت سلطة الاستعمار الفرنسي ، ..ومن قال له : إن باب الاجتهاد لا يجوز فتحه لمن ملك الشروط ، من حفظ لكتاب الله ، وأحاط بالسنة ، وتمكن في اللغة العربية علماً وسليقة ، وأحاط بفقه المتقدمين ، وألمّ بعلم أصول الفقه ، ..... 

وجملة القول :

أن الإمام محمداً كان من أولئك الأعلام المجتهدين، والعلماء المحققين، الذين يصطفيهم الله من خلقه لنصرة حقه .

فيجددون حبل الدين ، ويشيدون أركان العلم ، ويدفعون عن الأرض الفساد ..وكان هدفه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، صحيح أنه انبهر بالحضارة الغربية ، وخالف الثورة العرابية ، وطلّق السياسة ، وهي جزء أصيل من هذا الدين ، ولكنه يرجعُ إليه الفضل في تحريك الفكر الجامد ، فهو قد جاء إلى الحياة، فوجد الثقافة، والفكر كالمستنقع الراكد، فألقى فيه حجراً، فأحدث فيه هزة وبركاناً وزلزالاً ، وهذه أولى الخطوات على طريق الإصلاح والتغيير .

مصادر البحث :

- أحمد محرم ضوت الإسلام الصارخ – محمد رجب البيومي – دار الأدب الإسلامي  .

- الأدب العصري في العراق – رفائيل بطي ، قسم المنظوم : 1/ 106 .

- الشوقيات : 2 / 22 .

- تاريخ الأستاذ الإمام – تأليف محمد رشيد رضا – ج 3 .

- حافظ إبراهيم : شاعر النيل – خليل هنداوي – دار الأنوار – بيروت .

- حافظ إبراهيم : شاعر النيل – د . عبد الحميد سند الجندي – ط4 – دار المعارف بمصر .

- حافظ إبراهيم : شاعر الشعب – يوسف نوفل – الدار المصرية واللبنانية .

- ديوان أحمد محرم : 1 / 11 ، 12 .

- ديوان حافظ إبراهيم .

- ديوان علي الجارم : 2 / 382 .

- معجم البابطين .

- موسوعة الشعر العربي – قرص حاسوب – إصدار مؤسسة محمد بن راشد المكتوم بدبي .

- موقع رابطة أدباء الشام .

وسوم: العدد 687