الرثاء في شعر حيدر الغدير

clip_image002_83c31.jpg

حيدر الغدير

يعد الرثاء من أبرز فنون الشعر العربي قديما وحديثا، لما يتمتع فيه الشاعر من صدق التجربة غالبا، وتروى في ذلك مقولة مفادها أن أحدهم سأل أعرابيا: لم نجد مراثيكم أحسن أشعاركم؟ فقال: لأننا نقولها وقلوبنا تحترق. وهذا التعليل صحيح خصوصا إذا كان الشاعر ذا صلة قوية مع المرثي من حيث القرابة مثل الوالدين أو الأبناء أو الإخوة مثل رثاء التهامي وابن الرومي لابنيهما، ورثاء الخنساء لأخويها، أو الصداقة مثل رثاء المعري لأبي حمزة الفقيه، أو كان المرثي شخصية عامة مؤثرة محبوبة مثل العلماء والأدباء والأمراء والولاة، وهذا كثير جدا فوق ما نذكر له من أمثلة.

ودواوين حيدر الغدير تضمنت عددا لا بأس به من المراثي، وبحصرها نجد معظمها في شخصيات أدبية ارتبط بهم الشاعر بعلاقة قريبة مثل الأديب عبد العزيز الرفاعي، أو محمود شاكر، أو أن الأديب كان ذا تأثير قوي في المجتمع ومحل إعجاب من قارئي أدبه مثل مصطفى صادق الرافعي ونزار قباني. وأما العلماء فكانوا ممن عرفوا بالضلوع في العلم والزهد في متاع الدنيا، وكانت لهم شهرة عالمية لدى المسلمين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ أبي الحسن الندوي، والشيخ علي الطنطاوي رحمهم الله.

وللشاعر قصيدتا رثاء في الأقربين إحداهما في والدته، والأخرى في أخيه رحمهما الله، وله قصائد في أسماء لم يحدد فيها شخصية المرثي سنقف عندها في تفصيل قراءة الموضوع إن شاء الله.

رثاء الشاعر حيدر الغدير الأدباء:

 

1-           رثاء الشيخ الأديب عبد العزيز الرفاعي:

كان الشيخ الأديب عبد العزيز الرفاعي صاحب قلم ودولة، وكان قد أسس في منزله بالرياض ومكة ندوة أدبية تجمع الأدباء والشعراء ومحبي الأدب أسبوعيا، وكان للرفاعي أدبان اسر بهما رواد ندوته وهما أدب القلم وأدب النفس. وشاعرنا حيدر الغدير كان أحد رواد هذه الندوة، فمن هنا ارتبط بالشيخ الأديب عبد العزيز الرافعي ارتباطا روحيا صادقا، والنص الذي بين يدينا في ديوان (من يطفئ الشمس ص 14، بعنوان زهور الرضا) يقرب أن يكون رثاء إذا تجاوزنا شرط كون القصيدة بعد وفاة المرثي، فقد كتبها الشاعر في ظروف صعبة كان يعيشها الرفاعي في معاناته مع المرض وغربته عن الأهل والأصدقاء والوطن، غير أنه كان له من إيمانه الأنس والرضا بقضاء الله وقدره، وهذا مطلب عزيز نسأل الله أن يرزقنا إياه.

يضع الشاعر يدنا على مفتاح القصيدة في المقدمة النثرية التي كتبها، فيقول:

 "كان المرحوم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في أمريكا يتلقى العلاج، ومن مقامه البعيد كتب لأحبابه في الرياض رسالة عجلى أرسلها إليهم عبر الفاكس، وفيها رباعية ضارعة جميلة، عنوانها ((طوق النجاة)).

وفيما يلي نص الرسالة:

عزيزي أبا سعيد وأصدقاء مساء الاثنين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد فهذه آخر رباعية دعائية:

طوق النجاة

ارم طوق النجاة يا رب إني   في خضم ولا أجيد السباحة تترامى الأمواج من كل صوب   لجة فوق لجة منداحة في فمي من عبير ذكرك عطر   وبقلبي من عطر ذكرك راحة حينما تطبق الدياجير فوقي   أجد الله مشعلاً مصباحه

بوسطن - الاثنين 4/11/1417هـ.

وهرع عدد من محبي الشيخ النبيل، فتلاقوا في جلسة وفاء، يقرؤون القرآن الكريم ويضرعون إلى الله عز وجل أن يرد المريض الغريب سالماً غانماً معافى. والأبيات التالية وعنوانها ((زهور الرضا)) يعود فضلها إلى ((طوق النجاة )) فمنها نبعت وفي جوها أزهرت وإلى جدولها انتهت."

 فقصيدة حيدر الغدير أخذت شكل المعارضة الشعرية من حيث الظاهر، ومن حيث المضمون كانت رثاء لصديقه، إذ كانت قصيدة الرافعي من رثاء الذات، كما فعل مالك بن الريب وغيره من الشعراء من قبل، فالشعور بقرب الموت، والتأثر به، وبناء القصيدة على هذا الشعور هو الذي يحول القصيدة إلى غرض الرثاء. يقول الغدير في جوابه لقصيدة الرفاعي موضحا مكانته بين أصدقائه، وبعض مزاياه الخلقية من الفضل والكرم والبشاشة والوقار والفصاحة:

أيها النازح الأثير لدينا   يا أخا الفضل والندى والسماحة أنت بين الرفاق بسمة حب   تتهادى وزهرة فواحة جعلتك الأخلاق للذوق رمزاً   وأخاً للرضا وصِنْو الرجاحة صمتك الواثق الوقور بيان   فإذا قلتَ كنتَ أنت الفصاحة

ثم يتحدث عن صراع الرفاعي مع المرض، مصورا سطوة المرض عليه وإحاطته به من كل جانب إحاطة الأمواج بالغريق، وكأنه عدو يريد أن يذل عدوه، فيقول:

جاءك الداء مخلباه حراب   شـاهراً في الدجى الرهيـب سـلاحه جدَّ بطشاً والموج من كل جنب   ((لجة فوق لجةٍ منداحة)) لطمت جسمك المدمى وظنت   أنها تسمع الغداة نواحه

غير أن الرفاعي المؤمن أحبط محاولات هذا العدو الشرس بصبره، وانتصر عليه، وأراه من نفسه بما رضي بقضاء الله وقدره ما لم يكن يتوقعه المرض، فهو أصاب الجسم فحسب، ولكن الروح بقيت قوية بعيدة عن متناوله، فيقول الغدير:

وهن الجسم لكنِ الروح جذلى   عطَّرت باليقين أهلا وساحة غمرته بالصبر فانظره ثبتاً   دأبه الشكر ليلَه وصباحه شكره النائبات مرت عليه   كالحات كشكره أفراحه

فالمؤمن بالصبر والشكر يجتاز بحر الحياة وأهواله.

 ويعود الغدير إلى رسالة الرفاعي، ولجوئه إلى الله سبحانه داعيا أن يلقي إليه بطوق النجاة، فيقول مخاطبا إياه بأنه سليل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من كان كذلك حق له أن يكون في مقام الشكر والصبر من باب أولى، فيقول:

يا سليل الرسول طبت وطابت    منك نفس زكية لماحة قلت: رباه أنت غوثي وعوني    فاشـــف من جسميَ المعنَّى جراحه ((في فمي من عبير ذكرك عطر    وبقلبي من عطر ذكرك راحة)) ((ارم طوق النجاة يا رب إني    في خضم ولا أجيد السباحة

يكمل الشاعر الغدير قصيدته بدعاء الأصدقاء للمريض الغريب عن وطنه أن يحقق الله سبحانه له ما يريد من النجاة، ببعديه الجسمي والروحي:

خذ بطوق النجاة ما خاب عبد           جعل الصبر في الدجى مصباحه

نعم؛ إن طوق النجاة ينجي المؤمن من المهالك، ولكن لا ينجيه من الموت الذي هو أجل مسمى لا يتقدم الإنسان عنه ولا يتأخر، وقد جاء الأجل المحتوم، فانتقل عبد العزيز الرفاعي إلى ربه، وترك حزنا عميقا في نفوس محبيه، وحيدر الغدير واحد منهم، فكتب قصيدته (رحيل ص14 من ديوان عادت لنا الخنساء)، وبدأها بالحديث عن الموت الذي هو سيف مصلت على البرية، فيقول: 

الموت سيف في البرية يَبْرق   ما زال يعتام الكرام ويُرْهِق يحمي الفتى دهراً فإن حُمّ القضا   أهوى عليه بفتكةٍ لا تشفق

فهو قد يتأخر دهرا من الزمان، ولكن إذا حم القضاء على الفتى فلا بر يقيه ولا بحر..، ويرى الشاعر أن عبد العزيز أسرع الخطا، وتقدم عليهم، وهو إحساس بالموت يعتري المرء عندما يموت قريب له أو صديق حميم، وهو لا يغير من الواقع شيئا، إلا أن إحساس الإنسان وموقفه تجاه الأشياء يتغير.

عبد العزيز سبقت أسرعت الخطا   لا غرْوَ إنك في الرفاق الأسبق عصفت بك الأدواء عصفة فاتك   ما زال يعبث بالكرام ويَحْمَقُ

ويشير في البيت الثاني إلى معاناته من المرض، الذي قال فيه قصيدته (طوق النجاة) وتجاوب الغدير معه فيها، وينتقل بنا إلى قصيدة مشهورة للرفاعي قالها في نادي جدة الأدبي في حفل تكريمه، وهي بعنوان (سبعون)، مبلغه من العمر، وعدها كل من سمعها من رثاء الشاعر نفسه، فقد ضمنه رؤيته للحياة وحكمتها، وحنينه للتراب الذي خلق منه، ولم يعش الرفاعي بعد تلك القصيدة طويلا، يقول الغدير: 

قالوا نعيت إلى الحياة غرورها   ورثيت نفسك والفِراسة تصدق وذووك بين عنائهم ورجائهم   والحشد مطروف النواظر مطرق ووقفت تنشد واللواعج جمة   ولأنت بالغرر الخوالد أليق سبعون(   والنار قد خمدت وجف المورق حنت إلى عبق التراب جوانحي   لا غَرو يشتاق الرفيقَ الأرفق

ثم يشير الرفاعي إلى صديقه الحميم الأديب الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله، وشوقه إليه بعد وفاته، وكأنه يحثه بالقدوم إليهم:

وأخي(   ويظل من بين الغيوب يحدق وعليه من حلل الكرامة تاجها   وهناءة الرضوان والإستبرق ويقول لي: فيم التريث يا أخي   أنسيت موعدنا؟ حذارِ سأقلق أقبل أبا عمار إنك ضيفنا   لا أعهدنك حين تدعى تَفْرق ولقد سبقتك وانتظرتك فائتني   وأنا أخوك المصطفى والأعرق

وهكذا يسوق لنا الغدير أبيات الرفاعي ومضامينها ممهدا لفراق أحبابه ورحيله عنهم، وحتى لا يفرقوا لفراقه، كما طلب منه أحمد محمد جمال ألا يفرق لفراق أحبابه وأهله. ولكن الشاعر الرفاعي يجيبه بالشوق والعناق:

فأجبته في لذة محبورة   حان اللقاء وإنني المتشوق

أما وقد ودع الأحباب الرفاعي فرحل، فإنه نام نومة هنيئة إن شاء الله في البلد الحرام، حيث الكعبة والحجيج والجمع الحسان ونفحات الإيمان، يقول الغدير:

نم في جوار البيت(   البشريات بساحه تتدفق الكعبة الزهراء منك قريبة   والآي تتلى والحمام يحلق والحج والجمع الحسان مواكب   والمئذنات ونورها والرونق وعلى محيّاك النبيل بشاشة   كالورد يغمرها السنا ويطوّق يلقاك بالرضوان نفح دعائنا   وتزورك الرحمات وهي الأعبق والعفو والغفران فيك قلادة   يرنو لها الأبرار وهي تألق

ويتصور الغدير أن يقيم الرفاعي نديا آخر في محل سكناه الجديد، حيث سبقه بعض الأدباء وسيلحقه آخرون، فيقول:

وأقم نديّك(   لرواقه واستعجلوا وتحلّقوا

ويطلب منه أن يبقى على عادته في تعطير رواد ندوته حين انصرافهم، فيقول:

والعطر(   للمنتدين تظل ريا تنشق

ثم يودعه بعد أن ضمن قصيدته ذوب مشاعره، وحر أشواقه، وخالص دعواته، منهيا قصيدته بحكمة فناء الدنيا وخلود الآخرة، فيقول:

عبد العزيز إليك ذوبُ سرائر   خلصت وأنت بكل فضل أخلق ودعاءُ أصحاب شكوا فقد العلا   قالوا وقد حزنوا الغداة وأرهقوا العالم الباقي ملاذ أفيح   حيث انتهيت ونحن سجن ضيق

وقد كان لوفاة الرفاعي أثر كبير في الوسط الأدبي السعودي، وكان من ذلك أن احتضن رجل الأعمال النبيل أحمد محمد باجنيد الندوة الرفاعية، حتى لا ينقطع هذا العمل الخير الذي أسسه الرافعي، وسمى ندوته ندوة الوفاء عرفانا بجميل الرفاعي.

***

2-           رثاء الأديب الكبير العلامة محمود محمد شاكر:

ومن الأدباء الذين ارتبط بهم الشاعر حيدر الغدير ارتباطا وثيقا الأستاذ محمود محمد شاكر، وله فيه قصيدتان في ديوان (من يطفئ الشمس) الأولى بعنوان (الصقر ص33) والثانية بعنوان (ستبقى أبا فهر ص 88)، وعندما نقرأ مقدمة القصيدة الأولى (صقر) ندرك المكانة العالية لمحمود شاكر لدى شاعرنا. يقول فيها: "كان محمود محمد شاكر أمة وحده فهو شيخ العربية وعاشق العروبة وحارس التراث وفارس الأصالة. جمع إلى غيرة المسلم عزة العربي، وإلى عناد الواثق تواضع القادر، وإلى عقل العالم البصير براءة الطفل الصغير. غفر الله له ورحمه رحمة واسعة، وأنزله منازل الأبرار والصالحين." فمن نظرة الإعزاز والإعجاب والمحبة هذه ينطلق حيدر الغدير في رثائه لمحمود شاكر، يقول في قصيدته صقر: 

صقر على شم الرعان يحلق   ومداه مغرب شمسها والمشرق والنجم والأفلاك في تطوافها   والروح في أسرارها والمطلق نسجته من أرض الجزيرة ريحها   وخيولها ونخيلها والأينق وجبالها ورمالها وجلالها   وبيانها العذب الشهي المونق وحراء والآي الزواهر تزدهي   فيه وتهدي العالمين وتعبق فأتى أبر رجالها وأعزهم   وأحب ما يرجو الفخار ويعشق

فهو في هذه الأبيات يشير إلى رمزين شكلا شخصية محمود شاكر الأدبية الثقافية هما أرض الجزيرة التي ترمز إلى ثقافته العربية والأدبية، وحراء الذي يرمز إلى ثقافته الدينية الإسلامية.

فقد عرف محمود شاكر بمنافحته عن اللغة العربية، يقول الشاعر:

ستظل للفصحى وإن كره العدا   العلم يروى والصوارم تبرق أما عِداك ففي غدٍ راياتهم   تطوى كما يطوى الظلام وتمحق

ويشير إلى قوة لغته وبيانه ودفاعه عن اللغة العربية قائلا:

وهبتك آيات الفصاحة سرها   فإذا بك القلم البديع الشيق والضاد أنت نجيّها ونجيبها   وعليمها وكليمها المتذوق والحارس الشاكي يصون ذمارها   ويصول إن حمي الوطيس ويهرق

ويقول في قصيدته (ستبقى أبا فهر) عن دفاعه عن اللغة العربية لغة القرآن:

أبا الغرر الشماء من كل موقف   تذود عن الأوطان والدين والعرض وعن لغة القرآن منذ عشقتها   فأهدتك من أسرارها كل ما يرضي وأهديتها عقلاً وقلباً وهمة   وصبراً على التحقيق والغوص والخوض

ويقول أيضا في قصيدة (ستبقى أبا فهر) مشيرا إلى شدة عنايته بالكلمة الشعرية والنثرية، وإعادة النظر فيها مرة بعد أخرى حتى يرضى عنها، فيقول:

وما ((قوسه العذراء)) إلا فؤاده   يجور عليه بالتحدي وبالمض وبالعَوْد بعد العَوْد في عتمة الدجى   إلى الصقل والتهذيب والمحو والنقض فلا يرتضي إلا حساناً زواهياً   لبسن عميق الفكر في أملد بض

والقوس العذراء قصيدته التي عني بها النقاد وهي معارضة لقصيدة الشماخ بن ضرار.

ومحمود شاكر قضى حياته باحثا عن أسرار العربية، كاشفا عن خفاياها ليعري بذلك محاولات أعدائها في النيل منها، ومعلما من يقصده لطلب العلم وشاعرنا واحد من تلك القوافل التي قصدته للنهل من معينه، يقول الشاعر:    

وطويت عمرك عالماً ومعلماً   والعلم أجدر بالذكي وأليق وحزمت أمرك صابراً ومرابطاً   ونهدت للجلّى وصبرك أينق أبداً رواقك للمعارف أفيح   وعليه من سمت الجلالة رونق والطالبون الرفد فيه قوافل   ترنو إليك محبة وتحدق يأتون من كل البلاد دنانهم   ظمأى ليستبقوا لديك ويستقوا

ويذكر طرفا من تعامله مع طلابه بالقسوة رجاء تعليمهم، وكيف أنه يصل بهم إلى ما يشبه اليأس، ثم يكشف لهم عن سر العلم فيما يبحثون فيكون ذلك أثبت في تعليمهم، يقول:

ولربما تقسو فأنت أبوّة   ترضى على أبنائها أو تحنق بك يدرك الشادون كل عويصة   فتبوح بالسر الخفي وتنطق

ويقول أيضا عن هذه القسوة في قصيدة (ستبقى أبا فهر):

أبا الصبر والإيمان والعزم موقداً   يداك إلى بسط سخي بلا قبض تذود ذياد الليث يحمي عرينه   وتقسو بلا حقد وتسطو بلا بغض

ويقول الشاعر: إن دار محمود شاكر لم يكن يخلو من قاصد لطلب علم، فكان بذلك مثل أحد الأجواد الذين ضرب بهم الأمثال من معن أو حاتم:

وجعلت دارك موئلاً يهب الندى   للواردين تجمعوا وتفرقوا مَعْنٌ(   وفد يزايله وآخر يطرق وضيوفه هذا غني مكثر   وإزاءه عافٍ مقل مملق وعميده إرث السماحة حاتم(   بالمكرمات وقد زهون مخلَّق

ومن وراء ذلك كله كان محمود شاكر يحمل هم الأمة العربية والإسلامية، ويحزن لما هي فيه أشد الحزن، يقول الشاعر:

ولقد عرفتك في فؤادك حرقة   نزَّت جراحات تفيض وتفهق أدمنت حزنك إذ رثيت لأمة   هي منك قلبك في الجوانح يخفق وجعلت همك أن تكون بشيرها   ونذيرها العريان وهو المشفق فهتفت من قلب يكابد لوعة   والحزن عاصفة ونار تحرق أبناء إسماعيل(   في التيه مرهقة الخطا تتمزق أنتم أسارى الجهل يدعوكم له   لسن يقول ومدع يتشدق لما جفوتم دينكم وتراثكم   ساد الجهول بداركم والأخرق

ويشير إلى تحمله هم الأمة أيضا في قصيدة (ستبقى أبا فهر):

تنام على هم نبيل مفزعاً   وتصحو على هم أشد من الرَّمْض

ويذكر الشاعر أن محمود شاكر توفي بذلك الهم الذي كان يؤوده لحال أمته، وليس في ذلك عجب، فهؤلاء الأدباء من أصحاب الفكر السليم يتمثلون الحديث النبوي: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وتجدهم كالوالد الشفيق بولده، يقول مصورا هذه النهاية:

ولقد رحلت وفي فؤادك غصة   والعين يغشاها الذهول المرهق أبصرت أمتك الكريمة قصعةً   وحمى مباحاً في المذلة يغرق عبثت بها أدواؤها وبلاؤها   فيها ومنها غاشيات تطرق

وقد أصاب محمود شاكر بعض البلاء في سبيل أمته، فتحملها صابرا شاكرا، وفي ذلك يقول الشاعر في قصيدته (ستبقى أبا فهر):

صبرت على البلوى بنفس كريمة   وغالبتها بالهزء والذكر والرفض وكنت بسجن الظالمين قذى لهم   يجللهم بالعار في الجمع والفض

ويعبر عن بقاء العمل الصالح الذي قدمه محمود شاكر لأمته، بعد وفاته، ذلك أن بقاء الذكر الحسن والعمل الصالح استمرار لبقاء صاحبه، فيختم قصيدته قائلا:

ستبقى أبا فهر مناراً وقدوة   تعلِّم ما يرضي و إن كان ما ينضي وأما زيوف الناس فكراً ودولة    فباؤوا وباءت بالصغار وبالدحض

ويعبر حيدر الغدير عن شعوره إزاء ما كتبه من كلمات شعرية تجاه أستاذه ومعلمه، رجاء أن يكون أدى بعض ما عليه، ولكن هيهات! فيقول في قصيدته (الصقر):

ولقد كتبت قصيدتي بلواعجي   والعهد داع والوداد الأسبق والعهد أكرمه القديم زمانه   والود أكرمه الأصيل المعرق فعساك تمنحها وشاحاً من رضا   وعساك تبصرها بمجدك تخلق

ويختم رثاءه بالحب والصدق الذي يترجمه الدموع المهراقة منه على أستاذه فيقول:

شعري أبا فهر وحبي دمعة   مهراقة والصدق مني موثق وعليك تبكي أعين وقصائد   وتطول أحزان وليل يأرق نم حيث أنت فدار مثلك رحبة   فيحاء والدنيا فناء ضيق

فرحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته بما قدم لأمته.

 

 

3-           رثاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري:

ولحيدر الغدير قصيدتان في رثاء الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، وكانت تربطه به روابط عديدة فضلا عن رابطة الإسلام التي هي أعلاها وأسماها، وهو شديد الصلة بأسرة الأميري، ويكن لها حبا جما، وتقديرا عاليا.

وقد تجول عمر بهاء الدين الأميري وأقام في بلاد عديدة، فمن سورية ولبنان إلى السعودية وباكستان والمغرب، ثم كان مرضه ووفاته في الرياض، ودفن في البقيع بجوار آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فمن هنا جاء عنوان القصيدة (نم في البقيع ص 15 من ديوان غدا نأتيك يا أقصى). وقد تركت هذه النهاية أثرا عميقا في نفس الشاعر حيدر الغدير، فتمنى لنفسه أن يدفن في البقيع أيضا كما رأينا في قصيدته (وساد) عند الحديث عن المدينة المنورة في شعر حيدر الغدير.

ويبدأ الشاعر رثاءه بالحديث عن المكانة الشعرية الرفيعة التي تبوأها عمر الأميري، ويعطينا بعص صفاته الخلقية والنفسية، فيقول:

الشعر تاجك وهو روض مشرقُ   والفضل دوح في رحابك مورقُ وعلى مرابعك الفسيحة خيمة   نسج الإباء جلالها والمنطق فيها السماحة والبشاشة والندى   ومروءة في سيبها تتدفق أسرجت عزمك للأصالة حارساً   ووفاؤك العالي لعزمك فيلق ونسجت من ذوب الفؤاد قوافياً   مثل النجوم بهاؤها لا يخلق

ويخاطبه بعبارة قريبة من هذا في قصيدته (كفاية ص42 من ديوان عادت لنا الخنساء) فيقول:

أبا الدرر المرصعة القوافي   ملأت بها المدائن والفيافي طلعت بها على دنياك صقراً   إذا يأوي ففي شم الشعاف

وينتقل بعد ذلك إلى مكانة الشاعر الجهادية في سبيل إعلاء كلمة الإسلام في بلد تناوشته وتناهشته الاتجاهات الفكرية المضادة للإسلام، فيخاطبه بكنيته المحببة إليه وهي أبو البراء، فيقول:

أأبا البراء وأنت رائد عصبة   وحداء قافلة تغذّ وتعنق سارت على حد السيوف كتائباً   للحق ترنو والأصالة تعشق

ولما كان الجهاد يجد مثبطا من داخل النفس وخارجها، فإن الشاعر الغدير يلتفت إلى معاناة الأميري في هذه الشأن فيطلعنا على ما خاطب به نفسه وهو يحثها على السير في طريق الجهاد وذلك في قصيدته (كفاية ص 42 من ديوان عادت لنا الخنساء) فيقول:

ويهتف لن أخاف ففيّ صوت   يناديني ويسكن في شغافي أليس العمر ساعات وتمضي؟   أليس الموت خاتمة المطاف؟ أليس الله في الغمرات تسطو   لمن قصدوه عن ثقة بكاف ومم أخاف؟ يحرسني ثباتي   وصبري والسَرِيُّ من العفاف سأحيا واليقين لديّ عشق   كأثباج البحور بلا ضفاف

والأسئلة العديدة التي يلقيها الأميري المجاهد على نفسه لبعث الاطمئنان في حناياها يؤكد هذا الصراع الداخلي لدى المجاهد حين يتسلط عليه شياطين الجن والإنس يخوفونه من دون الله!.

وبذلك هيأه لأن ينام بجوار ركب المجاهدين من الصحابة الذي ضمهم البقيع المبارك، فيقول:

نم في جوار الأكرمين يحفهم   ويحفك الرضوان والإستبرق

ويشير بعد ذلك إلى السنوات التي قضاها عمر الأميري مجاهدا، وهي خمسون عاما، فيقول:

خمسون عاماً في الجهاد وهبتها   للمسلمين وما هوى لك بيرق أبداً حسامك دونهم متوثب   والمعتدون جحافلاً قد أحدقوا

ويطلعنا حيدر الغدير على اهتمام عمر الأميري باللغة العربية الفصحى ودفاعه عنها، بوقوفه أمام التيارات التي استهدفتها، لتصل من وراء ذلك إلى زعرعة ثقة المسلمين بالقرآن الكريم كتاب الله سبحانه، تاج الفصاحة والبيان، فيقول:

أخلصت للفصحى وقمت بحقها   ورفعتها لغة تقال فتعشق ودفعت عنها جاهلاً ومعادياً   يحدوه سم في الضلالة مغرق من كل ملتاث الضمير يؤزه   غل على اللغة الشريفة موبق وعلى كتاب الله وهو عمادها   وهو الهداية والحجا والموثق تاج الفصاحة والبيان سطوره   ومنارها الأسنى وطيب يعبق

ويذكر الشاعر اهتمام الأميري بقضايا المسلمين، مثل أفغانستان عندما احتلها الاتحاد السوفيتي الشيوعي السابق فهب جميع المسلمين لصد هذا العدوان، فيقول:

أأبا البراء خيول أحمد ضمّر   والراية الخضراء فيها تخفق نادى الأذان بها فلبت كالردى   تطوي الطغاة الملحدين وتسحق ولها على كابول نصر أروع   بالغار والذكر الكريم مطوق(

وتأتي فلسطين في رأس أولويات اهتماماته، وهاهو ذا يرحل ولما تشتف نفسه من اليهود الغاصبين، مصورا معاناة القدس من عدوانهم، فيقول الغدير:

يا راحلاً والقدس في أحزانها   تشكو العنا والقيد قيد مرهق لم تكتحل بالفاتحين جفونها   وتكاد من غضب وحزن تزهق

وبذلك يضيء لنا الغدير جوانب مهمة من حياة الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري في مسيرته الطويلة مجاهدا مدافعا عن أمته بما استطاع، بشعره ورأيه، فقد كان رجل أدب وسياسة، لنودعه في نومته الهانئة بإذن الله في البقيع، مشيرا إلى نسبه المبارك الموصول بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول:

نم في البقيع جوار جدك هانئاً   وإزاءك الأبرار فيه تحلقوا وارقب جنود المصطفى في زحفها   يهفو لها نصر ويعلو بيرق

اليوم في الأفغان عزت شمسهم

 

  وغداً على القدس العزيزة تشرق

ويقول في خاتمة قصيدته (كفاية ص 42 من ديوان عادت لنا الخنساء) مؤكدا أن الأميري كان يرجو أن يدفن في البقيع، وقد حصل له ذلك في الدنيا فعساه أدرك ما كان يؤمله من المغفرة والرحمة من هذا الدفن بجوار الأكرمين، والشاعر الغدير يرجو لنفسه ما رجاه الأميري، يقول مخاطبا إياه بعد حوالي عشرين سنة(

 

ويا عمر المطرزة القوافي

عساك أصبت ما ترجو فقلها

 

وسوف أقولها فرحاً كفاف

وهكذا يودع الشاعر حيدر الغدير واحدا من أعز أصدقائه، وأساتذته في العلم والأدب والسلوك والشعر، وهو يرجو أن يكون حيث صار من رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة.

***

4-           رثاء مصطفى صادق الرافعي:

لمصطفى صادق الرافعي مكانة عالية عند أدباء العربية المعاصرين وكتابها، وإذا كانت هذه المكانة شهدت صراعا عنيفا في عصر الرافعي بين أقطاب الصراع الأدبي والثقافي طه حسين والعقاد والرافعي ومن تجند لكل واحد من هؤلاء؛ فإن الزبد ذهب جفاء وبقي ما ينفع الناس في الأرض، فتبين للأجيال التي جاءت بعدهم وجهة كل من هؤلاء، ودافعه في حربه الآخرين، وتكشفت الوسائل والغايات، فبقي لكل واحد من هؤلاء مكانته في جهة، واهتزت في جهة أخرى.

وبقي الرافعي مدرسة فريدة في البيان العربي المعاصر، وقلماً كالسنان حارب دفاعا عن الإسلام والعربية ولم يتكسر ولم يتثلم، ولم ينب! وقد تغيرت الأساليب الآن، وتغيرت الاهتمامات، وربما قرأ ناشئ اليوم فلم يظفر بطائل من هؤلاء الثلاثة ومناصريهم من الجيل التالي لهم، ولكن الصائغ المحترف هو الذي يميز الذهب الخالص من الزائف، وبذلك لا ضير علينا مما يجده ناشئة اليوم من صعوبة في فهم الرافعي وأدبه السامي الرفيع.

وحيدر الغدير من الجيل الذي رضع من لبان الرافعي فارتفع بذوقه وأدبه، وهذا الصنف من الأدباء لا يلذ إذا لم يقرأ أدبا رفيعا، ولا يطرب إذا لم يقرأ بيانا ساحرا، فلذلك جاءت قصيدته في لحظة من النشوة من سحر البيان الرافعي، فتفجرت القصيدة لديه وقد قرب البعيد، وعاد الماضي إلى الحاضر، يقول الغدير مشيدا ببيان الرافعي:

بيانك باق بقاء الزمانْ   يوشّيه من كل فن بنانْ إذا أنت أدمنته تستزيد   ويزداد حسناً ولا تسأمان

ويشير إلى اهتمام الرافعي بالبلاغة العربية خاصة فيقول:

وأن البلاغة آلت إليك   فكنت بها درة المهرجان

وعني الرافعي بكتاب الله سبحانه، فحفظه ووعاه، وكان لذلك أبلغ الأثر في أساليبه البلاغية والبيانية، وفي موقفه من المعارك الثقافية التي قامت من حوله فخاض غمراتها ببسالة منقطعة النظير حتى جعل عنوانها: تحت راية القرآن، تيمنا بكتاب الله سبحانه، أن ينتصر من ينتصر له، فيقول الغدير:

وجئت الكتاب فأسكنته   حناياك تتلوه في كل آن وتنسج من آيه الباهرات   بروداً كحسن الصبايا لدان كأن عليها رواء الكتاب   وأقباسه(

                              

ويشير الغدير إلى ثباته في تلك المعارك الطاحنة ومفيدا بأن نسبه ينتهي إلى عمر بن الخطاب رضي الله، وأن عزيمته هذه مستقاة من العزيمة العمرية، فيقول:

سلاحك في الغاشيات الثبات   وعزم تطاول كالسنديان لأنك آليت ألا تهي   وألا تخاف الخطوب العوان دؤوبـــاً كجــــدك (   وأنت الـمــعين وأنت المعان ومنه استقيت نبيل الخصال   إذا اشتد في أمره أو ألان

ويذكر دفاعه عن الإسلام ببيانه، ويشبهه بحسان بن ثابت رضي الله، وإن كان سلاح حسان الشعر، وكان سلاح الرافعي الأمضى هو النثر، فيقول:

نجي الدراري وترب الخلود   لقد كنت حسان(

 

وأشهد كنت الجريء الجسور   ويشهد لي النجم والعاقبان تقاتل عن حرمة المسلمين (   وعيناك من غضبة جمرتان تقول أصاول عن أمتي   وفي خلدي تسكن الحسنيان وعن لغة الضاد وهي المدى   وعن مجد أهليَ وهو الرعان وعن طيبة مأرز المؤمنين   ومكة وهي الهدى منذ كان وعما بنى الفاتحون العظام   وشاد الخلائف عبر الزمان

ويعدد الغدير الفئات الذين تصدى لهم الرافعي من جاهل وكاذب وخائن ومستشرق ومستغرب وغيرهم، فيقول:

وتحرس دينك من جاهل   وآخر مانَ وآخر خان ومستشرق مغرق في العداء   ومستغرب قاحم أو جبان ومن منكر الشمس في رأدهــا   ويزعم أن سناها دخان ومن بائع للعدا قومه   وسيف أبيه الصؤول اليمان

وكان الرافعي أصم لا يسمع، وكان مع ذلك يصول ويجول، فكان بذلك محط إعجاب الأصدقاء والخصوم على السواء، وافقوه أو خالفوه، يقول الغدير في ذلك:

أصم وتسمع كيد الحواة(   وما قال في الخلوة الألعبان وما أحكموه من الشائنات   وما بهرجوا وهو سامٌ وران فتفجؤهم فاضحاً كيدهم   فتغدو سخائمهم في العِلان فإن سألوا: كيف صار الأصم   عليماً وأذناه لا تسمعان أجبت بأن سماعي الرؤى   وعقلي وقلبيَ لا يكذبان وفيّ البصيرة مثل الضحى   سمعت بها والليالي دِجان

وينهي الغدير قصيدته بحوار لطيف مع العروبة التي كرس الرافعي حياته للدفاع عنها، ترى ما مكانته عندها؟ وكيف تنظر إليه، فيقول:

سألت العروبة في خلوتي:   مَنِ الرافعيُّ وأنت الرزان فقالت: هو الألمعي الذي   أجاد وساد ونال الرهان فقلت: صدقت وأمجاده   لها حيث تسري جمال وشان ويشهد لي الضاد والمبدعون   سريًّا كما كنت والفرقدان

وقد لا يوافقني دارس أو باحث على تصنيف هذه القصيدة في شعر الرثاء لغلبة جانب الإعجاب الخالي من مشاعر الحزن التي هي أبرز سمات قصائد الرثاء، إلا أن كونها في متوفى وأعماله ومناقبه يجعلها أقرب إلى الرثاء من المديح، والله أعلم.

***

5-           رثاء الشاعر عمر أبي ريشة:

للشاعر حيدر الغدير علاقة أدبية وثيقة بالشاعر الكبير عمر أبي ريشة، ذلك أنه درس شعره دراسة أكاديمية، ونال بها رسالة الدكتوراه بعنوان: عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعرا وإنسانا. ومثل هذه الدراسة تترك في النفس آثارا عميقة، قلما يتخلص الدارس منها، وليس مطلوبا منه أن يتخلص.

ومن هنا فإن وفاة الشاعر الأثير عمر أبي ريشة ترك لدى حيدر الغدير حزنا عميقا، وهذا ما يدل عليه عنوان قصيدته، إذ جعل وفاته رحمه الله؛ مأتما للشعر. فعمر أبو ريشة أحد أبرز الوجوه الشعرية في سورية خاصة وفي العالم العربي عامة في القرن العشرين الميلادي.

وقصيدة (مأتم الشعر ص9 من ديوان عادت لنا الخنساء) نطلع من خلالها على بعض ملامح المرثي، ورؤية حيدر الغدير له، فعمر أبو ريشة شاعر بنى مجده بشعره، لذلك يجعله حيدر الغدير والشعر واحدا، فيقول:

الشعر أنت وأنت الناي والوتر   والشمس دارك والأفلاك والقمر والشعر خدن الدراري في تألّقها   وأنت خدن القوافي الغرّ يا عمر وأنت فارسها في كل معتركٍ   وفيك من مترفيها الزهو والظفر أنت الأصالة والفصحى إذا طربت   وجذوة بالبيان الثر تستعر

فعمر أبو ريشة هو الشعر، وهو فارس القوافي، وهو الأصالة والفصحى، لأن أبا ريشة وطبقته من الشعراء هم الذين أحيوا أساليب الشعر العربي الحديث، وأخرجوه من وهدة الضعف، إلى قمة القوة والبيان.

ويقدم لنا الغدير رأي الناس في شعر عمر أبي ريشة إذا أنشد، وتأثرهم به تأثرا بالغا، فيقول:

إذا ترنّمت قال الناس في ولَهٍ   اليوم يسكرنا في شدوه عمر بيانه السحر والإبداع ديدنه   أصخْ بسمعك هذي آيه الغرر

ويكرر الشاعر الغدير في خطابه أبا ريشة بكنيته أبي شافع على رأس كل مقطع من قصيدته، وفي هذا تأكيد للحب الذي يكنه للمرثي، وتقديره، فمن علامات المحبة النداء بالكنية الحسنة التي تغلب على الاسم أحيانا كثيرة، وأبو ريشة لم يشتهر بكنيته (أبي شافع) في الأوساط الأدبية، فإظهار الشاعر الغدير لذلك لفتة خاصة منه، فيقول:

مرحى أبا شافع يا شاعراً غرداً   المترفات على بستانه زمر زفته للمجد والدنيا تباركها   ومهرجانُ العُلا والسمع والبصر

ويضفي الغدير على مرثيه لقبا آخر لم يشتهر عنه أيضا، وهو منحه لقب إمارة الشعر، فيقول:

قالوا وصدقهم مجد ظفرت به   وصدّق الخبر ما قالوه والخبر هذا الأمير، أمير الشعر فارسه   قَلِّده في عرسه التاج الذي ضفروا

فعمر أبو ريشة عاشق المجد، الذي تغنى بمجد أمته في قصائده دائما، وتوفي والأمة ما زالت تبحث عن المجد الضائع، وليكن هو قد نال شرف البحث عن المجد في شعره، وتبوأ هذه المكانة العالية بين شعراء عصره ومجايليه، فاستحق أن يكون أمير الشعر وفارسه.

ومن مآثر عمر أبي ريشة دفاعه عن الفصحى، لذلك يظهر حيدر الغدير هذه المأثرة فيقول:

يا حارساً راية الفصحى وفارسها   طابت وطبت وطاب الورد والصدر رددت للشعر في كبر كرامته   فكان حيث العلا والزهو والظفر غنَّيتَه بالقوافي الزهر ملحمة   طابت وجاءت عروساً وهي تفتخر وتغلب الكارهين الضاد من نفر   هم العدو وإن أخفوا وإن جهروا حميت فصحاك من باغٍ يمزّقه   حقد عليها فما يبقي وما يذر وصنتها عن خؤون في جوانحه   تغلي السخائم والبغضاء والقذر

ودفاع عمر أبي ريشة عن الفصحى مبني على أساس من الدين، لذلك يرمز له حيدر الغدير بأذان بلال، وبالكتاب الذي هو القرآن، فيقول:

على أذان بلال في منارته   والكون يعشقه والفجر والسحر على الكتاب الذي ترنو القرون له   وقد أضاءت دياجي ليلها السور

ومن هنا كان دفاع عمر أبي ريشة عن اللغة العربية وعن الإسلام مجدا رفعه إلى أعالي السماء كالنسر المحلق، الذي عشقه عمر أبو ريشة، وجعله رمزا للإباء والسمر في قصيدته الشهيرة (النسر)، يقول الغدير مخاطبا إياه بكنيته أبي شافع:

مرحى أبا شافع قد عشت ضاربة   في السحب أمجادك الغراء تنتشر كنت الإباء وكنت النسر(   راياته وأعاديهِ قد ائتمروا فما حنى هامة إلاّ لخالقه   ولم يزلزله في طوفانه الخطر

ونلحظ عزة الإيمان لدى عمر أبي ريشة الذي لم يحن هامته إلا لخالقه سبحانه!، فهو حر، غايته الحق، والإيمان حارسه، وسيفه بيعة لله رابحة، يقول الغدير:

وما على الحر إن كانت منيته   آماله فهو يرجوها وينتظر الحق غايته ما انفك يطلبه   هتافه: الحسنيان الموت والظفر وملء أضلاعه الإيمان يحرسه   والمؤمنون ومن باعوا ومن صبروا وسيفه بيعة لله رابحة   وحصنه بين أشداق الردى القدر

وفي نهاية القصيدة يعود الغدير إلى نفسه بعد أن حلق مع شاعره الأثير في الآفاق، وفوق السحب، وفي قمم الجبال نسرا عزيزا يأبى أن يحني هامته إلا لخالقه، مدافعا عن أمته، وعن لغتها، ودينها ليجد أن النسر المحلق توقف عن التحليق، فيفاجأ بالواقع الأليم الحزين، ليبكي عليه مع الفصحى، وملء أجفانه الأحزان والكدر، فيقول:

عفواً أبا شافع ما كنت أحسبني   أبكي عليك فأنت المجد يا عمر ونفسك القمة الشماء باذخة   ما شانها قط في ترحالك الخور

     وأنت غنيتها شعراً بمأتمها([18])

لكن بكت بعدك الفصحى منابرها   لما تسوّرها باغون قد غدروا أنا الوفي لها أبكي لمأتمها   فملء أجفاني الأحزان والكدر

ولم لا يكون وفيا.. والوفاء من شيم الرجال!؟ فرحم الله عمر أبا ريشة عاشق المجد وشاعره وفارسه.

***

6-           رثاء الشاعر نزار قباني:

في رثاء حيدر الغدير للشاعر الكبير نزار قباني طعم خاص، فهذا الرثاء غير متوقع لما بينهما من اختلاف في المنهج، ليس في الشعر والأدب فنا من فنون القول، إنما في منطلق هذا الفن وغايته، وأساليبه وآلته، فالتزام حيدر الغدير الديني الإسلامي يجعله لا يفكر برثاء شاعر مثل نزار اشتهر بشعر غزل غير عفيف، وبشطحات في القول غير نظيف، فما الذي جعل حيدر الغدير يرثي شاعرا مثل نزار!؟ هل حزن عليه حقا، أم هو نوع من التشفي الذي يغلفه صاحبه بغلاف من الشفقة!؟

إن أول ما نستنتجه من هذا الرثاء هو الإعجاب الكبير الذي يكنه حيدر الغدير لشاعرية نزار قباني. والأمر الآخر هو شعوره بالحزن والأسى لأن يكون هذا الكم الهائل من شعر نزار قد وظف في غير الوجه الذي أراده الله سبحانه من عباده، فذهب في أودية من القول يحسب على صاحبه خسارا وعارا ونارا، هذا هو ظاهر الأمر الذي نراه نحن في الحياة بالمقاييس والموازين التي بين أيدينا! أما الغيب الذي يؤول إليه أمر كل إنسان وحسابه فهو إلى الله سبحانه وحده.

يبدأ حيدر الغدير قصيدته (ستار ص40 من ديوان من يطفئ الشمس) بجملة نثرية تكشف لنا مدلول العنوان، فيقول: "الموت ستار يطوي ما قبله ويكشف ما بعده. إلى نزار قباني في ذكراه."

 وهو بهذه الجملة يكشف أن القصيدة لم تكن وليدة لحظة وفاة نزار، بل كانت في ذكراه، وهذا يجعل الفكرة أكثر رسوخا، فالقول الآني قد لا يكون عميقا، والتجربة قد لا تكون مختمرة، لذلك نجد حيدر الغدير يخاطب نزارا بهدوء مذكرا إياه بما ترك من إرث شعري شغل به الناس، فيقول:

ورحلت عنا يا نزار

من بعد أن ملأت قصائدك المغاني والديار

طرب الكبار لها وشاقتهم وغناها الصغار

كانت على الشبان إعصاراً وطوفاناً ونار

ولدى المراهق والمراهقة المخدةَ والأساورَ والشعار

والِخدْن في ظمأ الليالي والدثار

والشهوةَ الحمراء تعصف في لظاها والسعار

وبعد هذه المقدمة عن مدى انتشار شعر نزار، بين الكبار والصغار، يؤكد الحزن الذي خيم على هؤلاء المجبين بشعره في كل مكان، وعلى بلده دمشق والشام في كل مظهر من مظاهرها، فيقول:  

ورحلت نعشك في القلوب مشى به ضوء النهار

والعاشقون قلوبهم من فوقه إكليل غار

والناس من حول الجنازة كالقلادة والسوار

والورد والفل الدمشقي المعطّر والنوار

وأزقة الشام العتيقة جبتها داراً فدار

والياسمين على العرائش والنوافذ والجدار

والشارع الغافي الذي سموه باسمك يا نزار

ويتابع هذا الوصف لمظاهر الحرن قائلا:

وبكتك شامك يانزار

وبكتك دمّر وهي تندب للمصاب وللخسار

والمرجة الثكلى تنوح ولا يقر لها قرار

والغوطتان وفي المحيا منهما يعلو اصفرار

والحور يبكي وهو محلول الضفائر والإزار

والماء في بردى غدا دمعاً يجلّله الغبار

ودمشق تكسوها من الحزن المرارة والقتار

وتقول وهي حزينة: أودى نزار

كل القوافي يا بني إلى انكسار

وأنا المرزّأة التي قد خانها بعض اصطبار

والحزن على فراق نزار يعم شعره أيضا، فهو أقرب الأقربين منه وإليه، ولعل هذا التعبير يستعمله الشاعر الغدير أول مرة فلم نجد مثله في رثائه للرفاعي ولا الرافعي، ولا الأميري، ولا أبي ريشة، ولا محمود شاكر! وهذا يعطينا انطباعا بمدى اهتمام حيدر الغدير بشعر نزار، فيقول:

ونعاك شعرك يا نزار

وذووك والإعلام يخبر كل دار

ونعتك في المدن الصَّبا ونعاك في البيد العرار

وهنا المراثي من دمٍ وهناك يمتد الحوار

عما فعلت وما كتبت وأنت دائرة الحوار

والناس من عشقٍ بهم أسرى ذهول وانبهار

ويصور حيدر الغدير اتساع دائرة الحزن لتشمل المغنين لشعره، والمعجبين به من الفتيات والفتيان، وأنهم كلهم:   

يبكون فقدك يا نزار

ويتمتمون ودمعهم ينهلّ قد رحل الهزار

كما أن القصائد تمشي خلفه باكية وهي تقول:  

نحن اليتامى يا نزار

ارجع إلينا أو فأخبرنا إلى أين المسار

فإذا سكت ولم تعد فإليك أزمعنا الفرار

وهذا تصوير قد يراد به الحقيقة، وقد يراد به شيء من السخرية من الذين صوروا موت نزار نهاية للقصيدة العربية وللشعر العربي الجميل المعاصر!.

ولكن ما الذي حصل بعد كل هذا العويل والبكاء في الناس والشوارع والأشجار والأزهار والأشعار، كل هؤلاء مشوا في موكب نزار، ولكن لم يدخل أحد منهم معه قبره، فقد رجعوا جميعا وبقي نزار في القبر وحده، فما العمل!؟

عاد الجميع وأودعوك رهين قبرك في حصار...

وأويت وحدك للمبيت ولن ترى ضوء النهار

وهنا تكمن الحقيقة:

والقبر بيت العدل والحق الصراح ولا ضِرار

بيت يشيده الفتى وله كما يهوى الخيار

فيصير بالخلق الكريم وبالهداية خير دار

ويصير بالشر المخيّم والغواية شر دار

وهنا تكمن الحكمة في رثاء حيدر الغدير لنزار، فهو يريد أن يضعه ويضعنا أمام الحقيقة التي لا مراء فيها وهي: الإنسان، الحياة، العمل، الموت، الحساب!

فكل ما يراه الإنسان من مباهج الحياة ستنفصل عنه، ونزار رمز الإنسان، فكل يوم يموت شاعر هو نزار:

المجد ولى يا نزار

والشعر ولى يا نزار

والمال ولى يا نزار

والحسن ولى يا نزار

والجنس قد غنيته وعشقته ونشرته وأبحته ولّى وغار

قد حيل بينك يا نزار

(وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم)، والقبر قد يزوره آخرون مع الزمن، كما قال المعري:

رب لحد قد صار لحدا مرارا              ضاحكا من تزاحم الأضداد

 والموقف الأشد هو ما بعد القبر يوم النشور (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء)

 وهنا نجد الشاعر الغدير يتحول إلى ضمير جمع المتكلم، ويجعل الأمر عاما لا يخص نزارا وحده، وإنما نزار واحد من هذا الجمع الكثير، فيقول:

وغداً ينادينا النشور إلى المثول بخير دار

فنقوم نستبق الخطا ونقوم نستبق البدار

وإذا النشور دعا الأنام مضوا إليه ولا خيار

وأتيته فيمن أتوا والخوف يعصف والحِذار

خضر الجنان إزاءهم وإزاءهم لفح ونار

وهنا يسأل كل إنسان نفسه ماذا وجد، كما أن نزارا يسأل نفسه عما وجد:

ماذا وجدت وقد صحوت وأنت وحدك يا نزار

فانطق فقد سُدِل الستار

وانطق فقد كُشِفَ الستار.

وأنى له ولغيره أن ينطق!؟  وكما قلت في البداية فإن القصيدة مشحونة بعاطفة من الأسى والندم، والأمل والرجاء في أن يكون الإنسان قدر اجتهاده على الطريق الذي أراده الله له في هذه الحياة، وخصوصا إذا كان مؤثرا، ويترك إرثا كبيرا من الكلمة التي تعمل عملها بعد وفاته.

([2]) هو الأستاذ أحمد محمد جمال، صفيّ الشاعر وتربه، وقد سبقه إلى الدار الآخرة بشهور.

([4]) الفقيد صاحب أول وأعرق منتدى أدبي ظل يقام في بيته كل خميس ليلاً لأكثر من ربع قرن.

([6]) إشارة إلى معن بن زائدة الشيباني.

([8]) كان أبو فهر إذا غضب من تخبط أمته يقول في حسرة: ((أنتم في التيه يا أبناء إسماعيل)).

([10]) تاريخ القصيدة الأولى (نم في البقيع) ومكانها هو: الرياض ـ 1412هـ ـ 1992م. أما القصيدة الثانية (كفاية) فمكانها وتاريخها هو: جدة – الجمعة - 5/4/1421هـ- 7/7/2000م.

([12]) ينتهي نسب الرافعي إلى عمر بن الخطاب t.

([14]) عاش الرافعي وهو يشعر أنه أحد المطالبين دائماً بحراسة الدين والأمة واللغة.

([16]) للشاعر قصيدة شهيرة اسمها ((نسر)) كان حفياً بها، ويبدو أنه كان يقصد بها نفسه.

([18]) هذا الشطر من قصيدة للشاعر اسمها ((بعض الطيور)).

وسوم: العدد 688