من أضغاث التاريخ المقدَّس!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 239

رأينا في المقال السابق أن (بُحيرة طبريَّة)- حسب ما قرَّره مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير»- ليست ببُحيرة طبريَّة!  والسبب، كما رأى، أن الإشارة في «التوراة» هي إلى (كنرت)، و(يم كنرت)، اللذين فهمهما ذوو الاختصاص على أنهما: (مدينة طبريَّة) و(بُحيرة  طبريَّة).  فلماذا لا يوافق المؤلِّف على هذا التفسير؟  قال لأن اللافت للانتباه أن هذين الاسمين غير واردَين في النصوص القديمة للدلالة على (مدينة طبريَّة) و(بحيرة  طبريَّة).  كيف؟  قال: إن «العهد الجديد يُطلِق في (سِفر لوقا، 5: 1) اسم «بحر جَنِّيسَارَت» على بحر طبريا، بينما يرد الاسم في (سِفر المكابيين الأول، 11: 67) بصيغة «جنيسكر».  أمَّا التلمود فيطلق على البحيرة اسم يمه سل طبريه بمعنى (البحر القريب من طبريا)».(3) 

السؤال هنا: أين ذهبت آليَّة القلب والاستبدال التي أعملها من قبل في بنيات الألفاظ لقلب (الشَّام) (يَمَنًا)، واستبدال جنوب وغرب الجزيرة العربيَّة بـ(فلسطين) وبلاد (الشَّام) و(مِصْر) و(العراق)؟!  أم أنها آليَّةٌ لا تعمل إلَّا حين يكون الهدف نقل تاريخ (بني إسرائيل) إلى الجزيرة العربيَّة؟!  لِـمَ لَم ير هذه المرَّة في «جنِّيسارت» و«بحر جنِّيسارت» أو «جنيسكر/ جناسر»(1) تحريفًا، أو تصحيفًا، أو قلبًا واستبدالًا، أو لغةً من: (كنرت)، و(يم كنرت)، وَفق منهجيَّته في قراءة النصوص؟  عِلمًا أن الاسم، بحسب بعض الترجمات هو: «كِنَّارَة»، موصوفة بأنها من المدن المحصَّنة، لسِبط (بني نَفْتالي).(2)  ويَرِد أحيانًا: «بَحْر كِنَّـرُوت»(3)، وكأنه «جنِّيسارت» نفسه.  هذا فضلًا عن تجاهله لما استشهد به هو من إطلاق «التلمود» على تلك البُحيرة اسم: «يمه سل طبريه»، بمعنى (البحر القريب من طبريا).  أضف إلى ذلك قوله إن «طبريَّة» إنَّما سمِّيت بهذا الاسم في العام 20 من القرن الأوَّل؛ لأنه بناها الحاكم الروماني (هيرودس أنتيباس Herodes Antipas) تكريمًا للإمبراطور الروماني (طيباروس).(4) 

إنه- كما تلحظ- ما زال يستشهد بشواهد عليه لا له! 

وقد أشار إلى أن مدينة طبريَّة بناها (هيرودس) على أنقاض مدينة كان اسمها: «رقة».  وهنا أيضًا لم يخطر في باله القول، مثلًا: إن «رقة» ربما كانت نفسها: «كنرت»، في نوعٍ من القلب والاستبدال، كما اعتاد أن يقول!  كلَّا، بل ذهب إلى أن «رقة» مكانٌ في (الطائف) اسمه «رقة»!(5)  ولن نعيد القول إن مثل هذا الاسم يمكن العثور عليه في أماكن كثيرة، في الطائف وفي غير الطائف.  ولن نعيد القول أيضًا إن تراتب أسماء الأماكن على نحوٍ شبيهٍ بتراتبها في «التوراة» ليس بدليلٍ كذلك، وقد قدَّمنا نماذج لمثل ذلك في سلسلة هذه المقالات.

من هذا كلِّه يَخلص المؤلِّف إلى أن اسم «كنرت» ليس بـ(طبريَّة)، بل هو يشير إلى «مواقع عديدة في سَراة عسير، وبلاد غامد، وزهران، بالإضافة إلى منطقة الطائف»!  ذَكَرَ منها: جبل «قرنيط» جنوبي (الطائف)، و«القرنطة» في (سَراة زهران)، و«القرينات» بوادي (اللِّيث).(6)  فاختر منها ما شئت! أمَّا الأوَّل، فجبل (الشَّفا) في الطائف، ولا وجه لربطه بما وَرَدَ في «التوراة» من وصف «بَحْر كِنَّرُوت»، الذي هو «بحر جنِّيسارت»، في «الإنجيل»، وهو ما يُعرف اليوم ببحيرة طبريَّة.  والناس يدعون قرنيط (الشَّفا): «غرنيت» أيضًا.  وقد علَّل بعض الباحثين تسميته بهذا الاسم بما يُروَى من أن الحملة الرومانيَّة التي قادها (غالينوس)، أحد ولاة (مِصْر) في عهد الأمبراطور الروماني (أغسطس قيصر أوكتافيوس، -14م)، مرَّت بقرب الطائف في طريقها إلى الجنوب، فأطلقت اسم غرنيت على جبل (الشَّفا)، مشبِّهة إيَّاه بشكل التاج.  في حين يستبعد (الشيخ حمد الجاسر)(7) هذا التعليل، ويرى أن الاسم محرَّف من كلمة «قرنَين»؛ لأن له رأسَين بارزَين.  ومهما يكن من أمر، فلولا مضلَّة الحروف والأسماء وهوس التأويل، ما ذهب أحدٌ لربط هذا الجبل بما يَرِد في العهد القديم عن «بَحْر كِنَّرُوت».  وأمَّا «القرنطة»، فيعني بها قرية (القِرَنْطَة)، من قُرَى قبيلة (كنانة) بسَراة (زهران)، في وادي (تُرَبَة).(8)  فما علاقة هذه القرية ببحيرة طبريَّة؟!  وأمَّا الاسم الثالث «القرينات»، في (اللِّيث)، فما أكثر مثل هذا الاسم في جزيرة العرب، من قرن، وقرون، وقرين، وقرينات!

ويَلحظ القارئ هنا أنها عادت لدى المؤلِّف منهجيَّته الأثيرة في القلب والاستبدال!  مكتفيًا بهذه الأسماء الثلاثة، وإلَّا فمعجم الأشباه والنظائر طويل، وفي مواضع شتَّى.  مع أن تلك المواضع- التي أوردها المؤلِّف وحاول تأوُّلها- لا يشكُّ لحظةً مَن قرأ النصَّ التوراتيَّ حولها في أنْ لا صِلةَ لها لا بـ(عسير) ولا بـ(السَّراة)، كما سنوضح في المقال التالي.  وأنه حين يجد القارئ صعوبةً في تحديد بعض المواضع بأسمائها اليوم، أو يجد لَبْسًا في فهم الجهات، أو تبدو الحدود المعطاة محلَّ نظرٍ ونقاشٍ وجدل، فذلك كلُّه لا يسوِّغ بحالٍ إنكار أن النصَّ يشير إلى بلاد الشام؛ لقيام قرائن كثيرة على ذلك، وعلى نحوٍ لا يحجبه سديم اللغة والترجمة.  أمَّا أن يجازِف مجازِفٌ لنقلها إلى شِعاف الجبال ومهاوي الأودية وسراب الخبوت من جزيرة العرب، فتهوُّرٌ مسرفٌ في تصديق الأوهام وأضغاث الأحلام.

[email protected]

https://twitter.com/Prof_A_Alfaify

http://www.facebook.com/p.alfaify

http://khayma.com/faify

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أوردَ الاسم: «جنيسكر»، وهو «جِنَّاسَر»، في الطبعة التي بين يدَينا.  انظر:

(2) انظر: سِفر يشوع، الإصحاح 19: 37.

(3) انظر: م.ن، الإصحاح 12: 3.

(4) انظر: مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 203.

(5) انظر: م.ن.

(6) انظر: م.ن.

(7) انظر: (1977)، في سَراة غامد وزهران (نصوص، مشاهدات، انطباعات)، (الرِّياض: دار اليمامة)، 365.

(8) انظر: الزهراني، علي بن صالح السلوك، (1981)، المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة: بلاد غامد وزهران، (الرِّياض: دار اليمامة)، 198؛ الجاسر، م.ن، 179.  

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «من أضغاث التاريخ المقدَّس!»، المصدر: صحيفة "الرأي" الكويتية، الاثنين ٢ يناير ٢٠١٧، ص٢٢].

وسوم: العدد 702