صراع الأنا مع الآخر في قصص "مقامات الاحتراق" للأديبة سناء الشعلان

لا يزال شخوص الأديبة الأردنية سناء الشعلان ينحازون إلى التحرر من قيود المجتمع رغم كل العذابات والانكسارات التي تقيدهم، فهم يصرخون في وجه الآخر المستبد للمطالبة بشرطهم الإنساني الحيوي، وهذا ما نلمسه إجمالا من خلال قصصها "مقامات الاحتراق"، والتي كتبتها أنمال أنثى بقلم متمرد في محاولة منها للكشف عن الجروح وتضميدها في آن واحد.

ويظل اسم الدكتورة سناء الشعلان ذات الأصول الفلسطينية يعبر بحق عن جدارتها في عملية السرد القصصي وغيره من الأجناس الأدبية الأخرى، رغم التشكيك المتواصل في قدرة المرأة على الإبداع، حيث تذكرنا بمقولة للدكتورة نورة الجرموني التي ترى أن الكتابة النسائية لا تكتسي طابعها الإيجابي إلا في ظل كتابة مسئولة وواعية تعبر عن عمق إحساس المرأة بالجرح، وتشير التساؤلات وتخلخل القوالب الجاهزة والأفكار المشكوكة دون إهمال لآليات اشتغال الكتابة (1).

يبقى العنوان الجزء الأساسي الذي يعكس بدلالته مضمون قصص هذه المجموعة، والذي يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها (2).

تستوقفنا كلمة "مقامات" في هذا العنوان لتذكرنا بفن نثري –المقامة- قد ظهر في القرن الرابع للهجرة، وازدهر في عصر الانحطاط، وهي شبه قصة قصيرة مسجوعة تشتمل على عظة غير أن قصص الشعلان لا ترتكز على ذلك، بل تتسم تارة بطابع ساخر في العموم لتكشف خبايا المجتمع، أما كلمة "الاحتراق" فهي تصف ما يغور في أعماق نفوس شخصياتها المتألمة والتي تكاد تحترق فتهلك يأسا.

يستسلم البطل في قصة "كائن ليلي" منكسرا بين أحضان أم الخبائث التي تدفعه للكتابة والقراءة وسماع الموسيقى العالمية ومعاشرة بائعات الهوى، كما جاء على لسان الساردة: "...ويتقيأ على نفسه وعلى تاريخه الفارغ، ويعلن لعشرات العشيقات اللواتي يلبس إحداهن في كل ليلة أنه كائن ليلي، ولذلك يستبيح الليل، وسلوكيات الكائنات الليلية المنبوذة" (3).

تحلق القاصة في فلك الصراعات بين الأنا والآخر في أغلب نصوصها، التي تنوعت بين القصة والقصة القصيرة جدا وهي اليوم تعرف انتشارا واسعا في زمن السرعة، وكمثال تستوقفنا قصة "أصابع وقحة" لنشاهد ملامح ذلك البطل الضحية لمجتمعه الذي ينقض عليه دفعة واحدة، ويمارس عليه القمع بشتى الطرق البشعة: "فأحرقوا قبره اللعين، فأصبح مزارا لعشاق الأشباح المتمردة، والأصابع الوقحة" (4).

بطل قصة "الكف" يحاول هو الآخر اكتشاف ما يخبئه له المستقبل من خلال خطوط كف يده، غير أن الوالي يقطع له كفه دون سابق إنذار: "يصمم على أن يعرف طالعه، يفتح كفه لكل قارئ، أحدهم يقول له: قدرك أن تفني العمر في البحث" (5).

للشعلان أسلوبها الخاص لرسم اللقطات الفنية المؤثرة، لتختصر لنا المسافات كي نفهم المقصدية المباشرة أو غير المباشرة في نصوصها القصصية، كما هو الحال في قصة "المطاردة" أين تحاول الظبية عقد هدنة مع الشبل الذي سارع لمطاردتها فوجد هذا الأخير أنها فكرة جميلة، استحسنها تحت عنوان الصداقة: "قال الشبل وهو يحاول أن يجمع شتات أفكاره: لأنك ظبية، وأنا شبل، والأشبال تطارد الظباء، هذا هو قانون الغاب" (6).

قصة "أمينة" مأثرة للغاية وكأننا أمام مشاهد لفيلم سينمائي قصير، لأنها تعكس الحالة النفسية المنكسرة للبطلة، والتي تصبح بين ليلة وضحاها فريسة للرجال من النخبة المثقفة بعد وفاة زوجها الرسام التشكيلي، غير أن البطل يتعاطف مع حالتها محاولا كبح جموح رجولته الشيطانية أمامها: "...وانكفأت على الحائط، وشرعت تبكي بحرقة، فهي لم تشعر بالكبرياء وهي ترتقي صخرة، ويكسوها النور، وتشرئب إليها الرؤوس والعيون، بل شعرت بأنها عارية، فخجلت من عريها، وبكت بشدة، فأمينة لم تخلق لتكون عارية..." (7). 

توقف المصعد المفاجئ جعل شخوص قصة "المصعد القديم" أسرى بين جدرانه الحديدية، حتى أنهم اعترفوا بذنوبهم لكن سرعان ما تناسوا ذلك بعدما فتح الباب: "وعندما فتح باب المصعد بعد خمس ساعات طالع كل ساعته، وتأفف بعمق، وغادر المصعد دون ابتسامة وداع..." (8).

لقد تجاوزت الشعلان بأسلوبها السرد المباشر البسيط إلى ما هو بياني ومجازي في "مقامات الاحتراق" ضمن ما يمكن تسميته بلاغة الانزياح والخرق الجمالي، لتعكس لنا صورا من صراع الأنا مع الآخر داخل المجتمع، حتى أنها تفتح أمام المتلقي بابا للتحليل والتأويل وهذا هو المؤشر الايجابي لخلق فضاء التفاعل بين النص وقارئه.

الإحالات:

(1) نورة الجرموني، الأدب السردي النسائي وإشكالية التسمية، مجلة الراوي، النادي الثقافي جدة، المملكة العربية السعودية، ع 23، سبتمبر، 2010، ص 41.

(2) جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، الكويت، ص 96.

(3) سناء شعلان، مقامات الاحتراق، نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي، قطر، 2006، ص-ص 65-66.

(4) المصدر نفسه ص76.

(5) المصدر نفسه ص77.

(6) المصدر نفسه ص 94.

(7) المصدر نفسه ص 59.

(8) المصدر نفسه ص 75.

*كاتب وناقد جزائري

وسوم: العدد 707