السيرة النبوية من خلال الفن الروائي (3 ـ 3)

تَفيد الرواية من خاصية الاسترجاع أو التذكر أو حديث النفس في توضيح ماضي الشخصية وتاريخها ورغباتها القديمة أو الجديدة، فنجد وحشياً يتذكر مثلاً ما قاله له سيده جبير بن مطعم حول إغرائه لقتل حمزة بن عبدالمطلب، ووعده له بالحرية، وهو ما جعله يعود إلى ماضيه الذليل المليء بالتعاسة، واللحظات الحاسمة في هذا الماضي يوم سيق إلى النخاس ليشتريه بثمن بخس، ويتذكر تلك النسمة الرطبة التي بعثت في حياته غير قليل من الانتعاش والثقة، وهي فتاته التي يحبها وسماها “عبلة” تشبيهاً لها بفتاة عنترة، وهذا ينقله إلى الحلم بالحرية بعد أن يقتل حمزة، ويحظى بالعتق الذي وعده به سيده.

إنها الحرية التي يحلم بها منذ زمن بعيد، ولقد خفق قلبه خفقات حلوة قبل ذلك يوم أتى محمد صلى الله عليه وسلم برسالته، فقد فكر في بادئ الأمر أن ينطلق إليه، ويؤمن برسالته، ولكنه خاف أن يفقد حياته وحريته معاً فآثر الانتظار، وها هو سيده يطلب منه الثمن: قتل حمزة. (الرواية؛ ص 10 وما بعدها).

هذه الخاصية تقدم للقارئ جوانب من حياة الشخصية وما يعتمل في داخلها، لفهم ما جرى أو لما يقع أو لما سيأتي من أحداث، وهنا إشارة قوية إلى رغبة وحشي في اعتناق الإسلام، ولكن خوفه من سيده، أو مما يجري للعبيد الذين يدخلون الإسلام جعله يتراجع، فضلاً عن صفات الأنانية والعناد والحقد التي كانت تحكم تصرفاته وسلوكه.

ولكنه في كل الأحوال يبحث عن حريته المفقودة، لأنه لم يجد سبباً معقولاً لأن يفقدها وقد ولدته أمه حراً، وإيمانه بأن الحرية تؤخذ ولا تُعطى.. الحرية بالدم.. أي دم.. سواء كان دم الشرفاء أو الأشرار!

ويلاحظ أن حديث النفس يشير أو يوضح موقف الشخصية الحقيقي من الآخرين، خاصة حين يعجز عن إعلانه صراحة لأسباب تتعلق بوضعه الاجتماعي أو خوفه من عواقب هذا الإعلان، ولنتأمل ما يقوله وحشي وهو يناجي نفسه ويستعرض شريط الأحداث التي تهمه وخاصة بعد أن ينال حريته:

“لقد أصبح العبد الحقير الذليل مناط التدليل والاحترام.. أيها الأوباش الملعونون إني أحتقركم، وأبصق على قيمكم الرخيصة، وأسخر من ريائكم وأحقادكم الملوثة بالأوحال..”.

وهذا الحديث يضيف إلى التعبير عما يدور بداخله بُعداً أساسياً وهو طبيعة القوم في مكة، وما هم عليه من وضع اجتماعي يتبنى القيم الوضيعة، وتتفشى فيه الأحقاد والرياء، وهو ما يهيئ لإحلال قيم الدين الجديد (الإسلام) في مجتمع مكة الفاسد والمتهرئ.

وقد يكشف حديث النفس ما يجري في الواقع العملي من معتقدات وأفكار وعلاقتها بالدعوة، ورأي الشخصية الروائية فيه، فها هو وحشي يرتقي ربوة عالية ويدقق البصر في الطريق الذي يتلوى ولا يكاد يبين، حيث لا يرى شيئاً ولا يسمع حساً، كل شيء حوله مقفر ساكن، ونجوم السماء ترشقه بسخريات صغيرة:

“الجميع يتحدثون عن الله.. وأنا وحدي لا أعير الأمر التفاتاً.. الكهان يرغون ويزبدون.. وأحبار اليهود يكثرون في الحديث والاستشهاد.. والقساوسة والرهبان يقولون كلمات مؤثرة.. ومحمد يحير الجميع بكلماته البسيطة الخالية من الغموض والطلاسم والرموز.. بساطة برغم قوتها تبعث الشك، وغموض أعدائه برغم تفاهتهم يثير الفكر.. وما امتلأت مكة في يوم من الأيام بالأحاديث الصاخبة عن الله كما تمتلئ الآن..” (الرواية؛ ص45).

وتصل الصياغة أحياناً إلى درجة عالية من الشاعرية، وخاصة حين يكون السرد على لسان المتكلم من خلال حديث النفس كما نرى في حديث وحشي عن زعماء قريش في مكة وقد تقربوا إليه ليقتل حمزة:

“أيها الماكرون التائهون.. ليس لكم دين إلا السجود لأحقادكم وترهاتكم.. اللعنة على عتبة وشيبة وأبي جهل.. أشد ما أنا معجب بحمزة هذا الذي صرع أبطالكم، مرغ كبرياءكم في الرغام” (الرواية؛ ص16).

وهناك إفادة بالصور المجازية مع قلتها نسبياً في تصوير حالات القلق والاضطراب التي تعيشها الشخصية؛ والموقف الروائي الذي يحتاج إلى تصوير يعمقه ويبرز ملامحه، من ذلك مثلاً تصويره حالة وحشي وهو يعيش محتقراً من سادة مكة بعد نيل حريته، وخوفه على حياته عقب إهدار دمه نتيجة قتله حمزة بن عبدالمطلب، إنه لا يستطيع أن يسلو مع ما لديه من مال وما يحظى به من متعة وما يكرعه من خمر، يصف نفسه فيقول: “إنني كالغريق.. أتخبط في محيط لا شطآن له.. أبحث عن مرفأ أمان..” (الرواية ص 112).

الصورة هنا بسيطة للغاية، ومألوفة في أدبنا القديم والحديث، ولكنه يضيف إليها بتصوير الحيرة والتخبط والضلال داخل محيط لا شطآن له، وكأن ما يعانيه لا منجاة منه ولا مخرج، ومع ذلك فداخله يحن إلى مرفأ وإلى شاطئ، فهو مخلص في طلب الأمان والسعادة بعد أن تعب من وضعه القلق الذي لم يصل فيه إلى قرار.

ويقدم صديقه سهيل حافزاً له يصل به إلى الاستقرار واليقين والراحة:

“اهجر هذه الأرض الذليلة الطافحة بالفساد.. واهجر ماضيك الأسود.. وسر إلى يثرب” (الرواية؛ ص 113).

هنا يبدو المكان في الصورة معادلاً لحالتي الاضطراب والاستقرار، أو القلق والسكينة، فالأرض الذليلة الطافحة بالفساد والماضي الأسود (مكة، والطائف) تعادل الكفر والضلال والجريمة، ويثرب تعادل الإيمان واليقين والطمأنينة.

البعد الإسلامي الأدبي

والاستشهاد بآيات القرآن الكريم والحديث الشريف، والشعر القديم يضفي على لغة السرد بُعداً إسلامياً أدبياً حين يأتي على لسان الشخصيات الإسلامية، ويشير إلى بعض ملامح الوحي أو الوعي بالواقع، وقد وردت آيات غير قليلة للاستشهاد على مواقف أو أحكام تخص الإسلام وتشريعاته.

فالفتاة عبلة التي هربت بدينها من وحشي، وجبير تبدو في خوف وهلع مما ينتظرها على يدي الرجلين فتطمئنها أم رابح، وتقول لها:

“والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين” (الرواية؛ ص 170)، وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {64}) (يوسف)، وهي المقولة التي قالها يعقوب عليه السلام لأبنائه حين خاف عليهم عند دخولهم إلى أرض مصر، وهي هنا تعطي دلالة على قوة الإيمان ورسوخه لدى أم رابح، ويقينها بحماية الله للمؤمنين به من شرور المشركين والكفار.

وحين يقص الراوي ما فعله أهل مكة بعد أن تفرقت شيعة الحقد والعناد في كل طريق، حيث جاء المكيون يعلنون رضاءهم بالفتح، ودخولهم دين الله أفواجاً، فيهتف بهم الرسول مردداً آية خالدة:

«يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير» (الرواية؛ ص 232)، والآية 13 في سورة «الحجرات»، والاستشهاد بها هنا يخدم فكرة الوحدة الإنسانية والمساواة بين البشر، ونبذ التمييز العنصري الذي يقوم على تقسيم الناس إلى سادة وعبيد، وإقامة التفاضل بينهم على أساس التقوى والعمل الصالح، وينسجم مع انتصار الإسلام وفتح مكة.

أيضاً نجد الآية الكريمة تواكب الحدث والشعور النفسي لدى الشخصية الروائية، مثلاً عند إعلان وحشي إيمانه بالإسلام والدخول في دين الله، وبقاء الشعور بالذنب يطارده جراء قتله لحمزة بن عبدالمطلب، وإحساسه بالخوف، فإن صديقه يحتضنه بين ذراعيه ويضمه إليه في رفق، ويقول له:

«أنت أخي.. لا تخف.. لقد جاء في كتاب الله (إن الله يغفر الذنوب جميعاً).. والإسلام يا وحشي يجبّ ما قبله..» (الرواية؛ ص 256).

وهنا تكون الآية ومعها الإشارة إلى الحديث الشريف تطميناً لوحشي، وكل من يتوب عن الذنب توبة نصوحاً بأن الله سيغفر له ذنوبه كلها.

ويؤدي الاعتماد على الحديث الشريف دوراً في تأكيد وجهة نظر الشخصية الروائية، وإقناع الطرف الآخر المحاور، نرى ذلك في أكثر من موقف، فعندما يقرر وحشي أن الناس سواء في المولد وفي الممات، ويستنكر تمايز الناس إلى سادة وعبيد، يهز سهيل رأسه قائلاً:

«ومحمد يقول يا وحشي: الناس سواسية كأسنان المشط.. ويقول: كلكم لآدم وآدم من تراب.. ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.. إنك يا وحشي تقول شيئاً قريباً من هذه الكلمات لكن بطريقة حادة ثائرة غير مهذبة» (الرواية؛ ص 109).

وقد تتكرر الإشارة إلى هذا الحديث أو ذاك في سياقات مشابهة لدعم الفكرة البشرية وتأكيدها بمنطوق نبوي.

أما الشعر فيأتي عادة للتعبير عن حالة نفسية تعيشها الشخصية الروائية، وغالباً ما يختاره الروائي من المعلقات السبع، ليعبر عما يعانيه بطل الرواية أو غيره، كما نرى في إنشاد وحشي لأبيات امرئ القيس في معلقته اللامية، معبراً عن حالته النفسية المتردية وطول الليل عليه وهو لا يهتدي إلى مخرج من أزمته الروحية والإنسانية، فيردد:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

أو إنشاد عكرمة بن أبي جهل لأبيات من معلقة الحارث بن حلزة اليشكري:

ألا هبي بصحنك فأصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا

وقد تكون هناك بعض الأراجيز أو الأقوال الشهيرة أو مقتطفات من بعض الخطب الشهيرة لبعض الصحابة، وكلها تدعم السياق السردي وتؤكده، أو تسعى إلى تحريك الموقف الروائي نحو أفق أكثر إثارة، كما نرى مثلاً في تحريض نساء مكة لأزواجهن من أجل الانتقام لقتلاهم في «بدر»:

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

والإفادة بالحوار تتمثل في الوصف والكشف والتوضيح والإخبار، ففي بداية الرواية ووحشي يجلس مع فتاته بعيداً عن مكة في الليل البهيم ويخبرها أن نفسه تضطرم بعواصف عاتية، ترد عليه بهدوء:

- «لم لا تأخذ الحياة ببساطة ويسر، إذن نقضي لحظات حلوة لكنك تحاول دائماً أن تنغص علينا متعتنا..

يدير إليها وجهه الأسود، وبريق عينيه يومض في الظلمة، ويقول:

- «نحن العبيد أتعس ما في الوجود.. حياتنا سقيمة.. معقدة.. قوامها الذل والكدر والأحزان.. السعادة شيء نسمع عنه ولا نلمسه أو نمارسه.. فلا تتحدثي عن البساطة والمتعة..

أمسكت بذراعه القوية المفتولة، وتمتمت في براءة:

- ويحك يا وحشي! إنني أعيش في بيت سيدي.. أعمل وأنام، وآكل وأشرب، وأختلس بعض الساعات لأجلس إلى جوارك.. وأستشعر في ذلك كله متعة كبرى.. إنني خلقت لهذا، ولماذا تطمع الأمة التي مثلي في شيء أكثر من ذلك؟

قهقه في سخرية حاقدة وقال:

- الحرية..

قالت في خوف:

- الحرية؟ عجيب أمرك.. ستكون الحرية عبئاً لا تحتمله كواهلنا الضعيفة.. سنبذل جهوداً مضاعفة لننال اللقمة وسنصبح عرضة للهوان والازدراء، إن سادتنا يبسطون علينا حمايتهم، ويجودون علينا بالطعام والشراب.. إنهم يؤمنون لنا المستقبل أيها الأبله» (الرواية؛ ص 6).

وهكذا يستمر الحوار كاشفاً ما يشغل بال الشخصيتين الرئيستين في الرواية، وكلتاهما عبد مملوك لسيده، ويبين كيف تبدو مسألة الحرية بالنسبة لكل منهما مختلفة تمام الاختلاف، بينما يفكر أحدهما في التحرر والانعتاق حيث يرى العبودية تعاسة والعبيد أتعس ما في الوجود، وحياة العبيد سقيمة قوامها الذل والكدر والأحزان؛ والعبد لا يصل إلى مرتبة الإنسان، ولم يحظ بمرتبة الحيوان، يرى الآخر أن بقاء الرق أفضل من الحرية لأنها تظل شيئاً مجهولاً بالنسبة لما ألفه واعتاد عليه، ولأن الحرية تقتضي مزيداً من العمل والبحث عن الخبز الذي يوفره السيد لمن يملكه عادة.

ثم إن الحديث عن الحرية والعبودية في الحوار يمهد لفكرة أكبر، وهي حرية الاعتقاد والخروج من دائرة العبودية للأصنام والأوثان الذي تعالجه الدعوة الإسلامية، إلى حيث التحرر من رق المادية والوثنية جميعاً؛ مما يجعل المسلم صاحب إرادة في العبادة والسلوك، وهو ما تقدمه أحداث الرواية على امتداد صفحاتها كاشفة عن الصراع بين التوحيد والشرك الذي ينتهي بانتصار الأول ممثلاً في المسلمين، وانهزام الثاني ممثلاً في المشركين.

إن تقديم السيرة في إطار عام موجز من خلال القصة، فضلاً عن تصوير النفس البشرية في تحولاتها وانتقالاتها من معتقد موروث إلى دين جديد يخالف ما استقرت عليه العادات والتقاليد المتجذرة في النفوس والمشاعر، يحقق للقارئ متعة فنية، فضلاً عن زيادة الوعي بحقائق الإسلام وقيمه ومفاهيمه، وخاصة لمن حُرموا نعمة فقه السيرة ومعرفة خطوطها العامة.

خاتمة

لا ريب أن نجيب الكيلاني بذل جهداً فنياً وفكرياً كبيراً في تقديم السيرة من خلال رواياته وقصصه، وإنتاجه يدل على إخلاصه للقضية الإسلامية مثل إبداعه في المجال الفني، وهو ما يوجهنا إلى ضرورة الاهتمام الأدبي بالسيرة سرداً وحواراً ونظماً، ثم تيسير ذلك للناشئة والأطفال ليرتبطوا بسيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بوصفه القدوة الطيبة والأسوة الحسنة التي يجب اتباعها والسير على هداها، مواجهة للقصف التغريبي الذي لا يتوقف، والتجريف الفكري والذهني لأبناء الأمة.

إن تشجيع الأدباء والكتّاب والشعراء على تناول السيرة من خلال الحوافز المادية والمعنوية – في المسابقات مثلاً - أمر ضروري في ظل انهيار منظومات التعليم والثقافة في كثير من البلدان الإسلامية والعربية.

ولا شك أن الإفادة من الأعمال الروائية والقصصية التي عالجت السيرة وأحداثها، وتقديمها في الأفلام السينمائية والدراما المصورة سيوسع دائرة الإفادة من مسيرة الدعوة، مع نشر القيم الإسلامية وتوضيح مفاهيم الشريعة وتقريبها للجمهور، وفي الوقت نفسه ينسف كثيراً من المفاهيم المغلوطة والتشويهات المتعمدة التي يشيعها خصوم الإسلام وأعداؤه، والجاهلون به، ويلصقونها بالإسلام وتشريعاته.

وسوم: العدد 712