الظاهرة الأدبية في ضوء نظرية المعرفة القرآنية

مدخل عام في مصطلحات البحث وطموحه

الظاهرة: لفظ يطلقه أهل العلم والفكر في العادة، على كل ما له وجود مدرك من طريق الحواس) (، قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

وعندما نقول الظاهرة الأدبية، فنحن نتكلم عن إحدى المنجزات البارزة، التي أفرزها العقل البشري أثناء عملية وعيه للحياة على هذه الأرض، وقد ظهرت كإنجاز حسي يتمثل في الآداب الإنسانية، وما أفرزته من الأجناس الأدبية المختلفة (كالشعر والقصة والخطابة والمقالة والمسرحية والأمثال والحكم والتوقيعات... وغيرها) وما لهذه الفنون من أثر عظيم في حياة الأمم والشعوب.

وتشكل الظاهرة الأدبية مع الظواهر الأخرى، كالظاهرة العلمية والفكرية وغيرها، مجموع ما أنجزه العقل البشري في وعي الحياة من حوله.

ويتضح فضل كل ظاهرة من هذه الظواهر، من خلال ما تقدمه من وعي يضيء للإنسان حياته، ويسهل عليه بناء حضارته وخلافته على وجه هذه الأرض، فإذا كانت وظيفة العلم التجريبي أن يكتشف الظواهر المادية ويتابع تفسيرها، ليتعرف على سننها وقوانينها ويسخرها في خدمة الحياة البشرية.

وإذا كانت وظيفة الدين في أن يفسر الحياة وينظمها بشرائعه السماوية ويوضح مقصد وجودنا فيها، فإن وظيفة الفن والأدب في أنه يكشف لنا جدوى هذه الحياة، وقيمة حقائقها لدى نفوسنا، ومدى إشباعها لمشاعرنا وفطرتنا وطموحنا فيها، من خلال (قيمة حقائقها في قلوبنا والموقف القلبي منها) بما يملك من الوسائل الذكية الجميلة المحببة إلى نفوسنا.

وأما حديثنا عن مصطلح المعرفة: فنقصد به العلاقة القائمة أثناء عملية الإدراك بين عقولنا وقواها وأنشطتها من جهة، وبين حقائق الوجود والحياة أو أوامر الوحي من جهة أخرى.

وفيما يخص الظاهرة الأدبية: فنحن نقصد بالذات متابعة عملية الإبداع الأدبية، وكيفية هضم العالم معرفيّاً عند الأديب، من خلال متابعة تنقل عملية المعرفة في قنوات عقله ومحطاته وخياله وتعرفنا على مسارها العام، من بداية تحرش الحياة بعقله حتى لحظة ميلاد النص ومن خلال المعرفة كما يطرحها القرآن الكريم.

وهنا يثور سؤال في النفوس: وما الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من وراء هذا النهج؟

أما الهدف فهو التفسير، وأما الفائدة التي نتوخاها من وراء تفسير الظاهرة الأدبية، فهي أن عملية التفسير تلك، سوف تساعدنا في كشف خبايا التجربة الأدبية، فتكشف لنا مراحلها والعوامل المؤثرة فيها، و خاصة عندما نفسرها من خلال منظور المعرفة كما وردت في القرآن الكريم، لأن هذا التفسير الإسلامي سيضيء لنا جوانب كثيرة، ويجعل لنا وجهة نظر مستقلة في التجربة الأدبية على عمومها، مما يتيح لنا قدراً من الوضوح والمنهجية التي تخدمنا في مشروعنا الإسلامي للنظرية الأدبية التي ندعو إليها.

أضف إلى ذلك أن الكشف عن أسرار الظاهرة الأدبية في نفس المبدع وفي ساحات وجدانه، يشكل مدخلاً مهمّاً في التأسيس لقضايا النقد الأدبي في جميع جوانبه النظرية والتطبيقية، حيث نتعرف على كيفية تكوين الرؤية عند الأديب وكيف يستوعب العالم معرفيّاً، وكيف تتحول المعرفة إلى قيمة وموقف داخل وجدانه، وكيف يتحول هذا الموقف إلى نص أدبي في المراحل التالية لذلك، وبذلك نزداد عمقاً في التعرف على العوامل المؤثرة في ميلاد النص والتحولات التي ترافق ذلك، وتمتد بنا المعرفة حين ندرك أهمية هذه العوامل: كالموهبة والمراس والثقافة لأنها ترفد العمل الفني (النص) بالمرونة والعمق وحسن الإبداع، ويساعدنا في التعرف على مراحل ما بعد ميلاد النص كالعلاقة بين المبدع والمتلقي وأسرار ذيوع الأدب أو اضمحلاله.

ومحاولة تفسير الظاهرة الأدبية ليست قضية جديدة، فقد حاولته العقول في معظم الآداب العالمية، وحاولته العقول في أدبنا العربي قديماً وحديثاً، وكذلك محاولات إخواننا من دعاة الأدب الإسلامي.

لكن الجديد هنا، هو رغبتنا في الخروج من سيطرة التفسيرات الفردية والاحتكام إلى منهج القرآن الكريم في إضاءة هذه الظاهرة من خلال المعرفة القرآنية وكذلك الخروج من براثن التفسيرات التي قدمت إلينا مع بضاعة التبعية والاستعمار الثقافي، وتهدف من وراء ذلك إلى الاجتهاد في السعي لتدريب عقولنا على التمرد على حالة القمع التي يمارسها دعاة العلمانية الأدبية على خيالنا، بدعوى الواقعية، لمنعه من الالتحام والامتداد مع إحياء الفهم الإسلامي للقضية الأدبية وإجهاض مشروعه الأدبي.

ثم إنها متطلب منهجي لاستكمال رحلة التأصيل الإسلامي لهذه الظاهرة وتفسيرها في ضوء النص القرآني الذي نؤمن بضرورة تأسيس النقد الأدبي الإسلامي في جوانبه النظرية تحت مرجعيته، وخضوعاً لهديه وتفسيراً للحياة على نور حكمته.

المعرفة في القرآن الكريم

تناولت آيات القرآن الكريم المعرفة الإنسانية بعمومها وتفاصيلها، حيث أعطتنا صورة لحصول الوعي بعملية المعرفة من خلال المحطات الظاهرة للعقل (الحواس والدماغ والقلب) ثم تناولت تحول المعرفة إلى سلوك مقصود في أفعال الإنسان، وكذلك علاقة العقل البشري بالواقع الخارجي (عالم الشهادة) وما خلفه من حقائق (عالم الغيب)، ثم شدّدت الآيات الكريمة على شروط المعرفة الصالحة ومقصدها وهدفها، ثم تناولت إمكانية المعرفة وحدودها ومصادرها بتفصيل مذهل.

وليست مهمة بحثنا هذا في تقصي هذا الموضوع لأنه يحتاج إلى سِفْر ضخم حتى يغطي جوانبه، ونحن لا نزعم ذلك في بحث محدد الهدف كهذا، ولذلك سنقتصر من نظرية المعرفة في القرآن الكريم على المختصر المفيد، الذي يخدم هدفنا في تفسير الظاهرة الأدبية وتوضيح معالمها.

بعد هذا التمهيد يمكننا الدخول إلى عملية المعرفة في شواهد القرآن الكريم، وخير ما نبدأ به آيات كريمة من سورة آل عمران، تعطينا مشهداً كاملاً مترابطاً ومكثفاً لعملية المعرفة في جميع مراحلها، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. 

الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191].

والذي يدقق النظر في هذا المشهد، يجد أنه جاء على صورة الإجمال العام للقضية ومسارها المنتظم المتدرج، وبوضوح تام من خلال المراحل الأربع التالية:

1.مرحلة التفكير: وقد ورد بصيغة الفعل {يتفكرون}.

2.مجال التفكير: وقد حددته الآيات الكريمة {في خلق السماوات والأرض}.

3.نتائج التفكير: وقد وردت بصيغة نفي العبثية عن الكون من خلال {ربنا ما خلقت هذا باطلاً}.

4.حكم القلب وقيمة الحقيقة من خلال موقفه الذي يلهج بالدعاء {سبحانك فقنا عذاب النار}.

معالم النظرية 

يمكننا تفصيل هذا المراحل الأربع السابقة وبنفس الترتيب، الذي يوضح معالم هذه النظرية ضمن المسار التالي:

أولاً: مرحلة التفكير:

وهي المرحلة التي توظف فيها طاقات الفكر ومواهبه في التعرف على حقائق الوجود، وقد وردت في الآية الكريمة بصيغة الفعل المضارع (يتفكرون) وبكل ما يحمله هذا الفعل من معاني الحركية والاستمرار، ويشمل في دلالته ومعناه جميع العمليات الفكرية التي يجريها الدماغ: كالتفكير الحسي الذي يعني استقبال المعلومات الحسية التي تنقلها الحواس وتفسيرها والانتقال بها إلى مرحلة أولى هي التفكير التحليلي وعملياته (كالتذكر والمقارنة والتعرف والتمييز والاستقراء والاستبعاد والتعميم والاستنباط.. وغيرها) ثم الانتقال بها إلى آخر مراحل التفكير وهي مرحلة الفهم: وهي خلاصة ما توصل إليه الفكر من نتائج تقوم على تكوين (المفهوم أو الحقيقة أو الحكم) وحيث ظهرت في صيغة تفيد نفي العبثية عن الكون والوجود والخلق في الآية الكريمة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وبخضوع جميع هذه المراحل إلى منظومة من القواعد والثوابت والبديهيات نسمِّيها منهج التفكير.

لقد أراحنا الفعل (يتفكرون) من وصف عمليات التفكير المعقد، التي لا نضمن لها الدقة، مهما زعمنا ذلك في علمنا البشري، وبمرونة واضحة ترك هذا الفعل الفضاء مفتوحاً أمام العقل البشري في تفسير ظاهرة التفكير، في الوقت الذي يقع فيه علم التشريح في التعسف ويسرف كثيراً في وصف عمليات الدماغ، مع أنه يبقى وصفاً خارجيّاً، يقوم على متابعة حركة الظواهر المادية من أنشطة الدماغ، كحركة الدم والشحنات الكهربائية، ونشاط الغدد وغيرها، فإن علماء التشريح لا يرون التفكير ولا الأفكار، وإنما يتابعون الحالة الظاهرية ويمارسون مقامرة التخمين، ويهمنا في هذه المرحلة أن نشير إلى القضايا الهامة في موضوع التفكير ضمن النقاط التالية:

1.جهاز التفكير (الدماغ): بما وهبه الله من قوى وأجهزة وطاقات مختلفة، كالذاكرة، وقوة الخيال أو التصور، وقوة الربط والتحليل، والجهاز العصبي الممتد في أنحاء الجسم.

2. منهاج التفكير: يتأثر التفكير بالمنهج، ويتسع أو يضيق وفق شروطه، والمنهج الإسلامي يتصل بتجربة آدم عليه السلام في الجنة، وخروجه من عالم الخلود والسرمدية وهبوطه إلى الأرض، حيث أصبح أسيراً للسنن الكونية التي تحكم الأرض ومؤثرات الحياة فيها.

هذا المنهج الذي يتواصل مع رسالات الأنبياء، انتهى إليه ميراث علم النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو يفتح المجال أمام التفكير، ويحرر طاقة الخيال الإنساني من العوائق والأوهام، ليدرك الحياة من خلال مصدرين رئيسيين للمعرفة هما:

الأول:(علم حقائق الوجود والحياة).

والثاني:(علم حقائق النص الموحى به من الله سبحانه وتعالى).

الأول يختبر الحياة من خلال توظيف طاقات العقل في اكتشاف سننها، ليبني حضارته ويقيم خلافته على هذه الأرض.

والثاني يفسر الحياة ويكشف مقصد وجودنا فيها، من خلال استيعاب طاقات العقل لنصوص الوحي وفهم النظام الذي يرتضيه الله لهذا الإنسان في بناء حضارته وخلافته على هذه الأرض.

هذا المنهج أفرز نظاماً من القواعد والثوابت والبديهات والمناهج، تشكل منهج الواقعية الإسلامية، واقعية الجمع بين عالمي (الغيب والشهادة) في مركب واحد، وهذا المنهج له أسلوبه الخاص به في جمع المعلومات واختبار الفرضيات، وقد تمثل في علم مستقل بمنهجه، اسمه علم (أصول الفقه) المستمد من القرآن الكريم والسنة الشريفة وعلوم الأمة وخبراتها المتراكمة في هذا المجال.

وهذا المنهج له الأثر العظيم في تربية عقل المؤمن منذ آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا على احترام حقائق الواقع الأرضي، ومحاولة تعلمها كما هي، وكذلك فيما يخص الظاهرة الأدبية فإن المنهج له تأثيره على تكوين الرؤية الأدبية، وامتداد الخيال عند الأديب المسلم عند إطلاله على الحياة وإدراكها من خلال منظاره.

3. ومن قواعد التفكير التي علمنا إياها هذا المنهج:

1.أن يبدأ التفكير من المحسوس (السماوات والأرض وأن يطل على حقائق الأشياء فيهما، كما هي في واقعها المستقل، وأن لا نسمح لرغبات الأنفس وأوهامها بالتدخل في فهم الحقائق.

2.أن نستدل بحقائق (عالم الشهادة) المحسوس (السماوات والأرض) على حقائق وعظمة (عالم الغيب) وذلك بانتقالنا من الحسي خطوة خطوة في اتجاه استشراف الأسئلة الكبرى عن عالم الغيب، وحيث نقرأ الكتاب المنظور (السماوات والأرض) وخلقهما ودلالته بهدي من الكتاب المسطور (القرآن الكريم) وبهذا يجمع دماغ المسلم بين علوم العقل الحسي التحليلي (التفكير) وبين علوم الوحي ومنهجه في إرشاد الفكر وضبط مساره.

3.أن يكون هدف التفكير هو البحث عن الحق وتعلمه والخضوع إليه، وليس مجرد الإشباع لحاجات الجسد أو النفس، وبذلك نشبع رغبات فطرتنا من خلال الخضوع للحق، الذي نبحث عنه ونتحراه، لأن الهدف من قواعد التفكير، هو حماية الحق حتى لا يلتبس بالباطل، بسبب انحراف التفكير عن المسار الموضوعي، الذي يؤدي إلى انقلاب الحقائق وضلال الإنسان، وكم منطق فيه الحقيقة تقلب!

وقد قدَّم لنا القرآن الكريم آياته في حماية المنهج وأنار الطريق بها، وهي كثيرة، ولكننا نقتطف منها ما يوضح المقصد، قال تعالى:

1.{ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].

2.{وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} [النجم: 28].

3.{ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].

4.{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].

5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

6.{يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

7.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].

8.{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].

9.{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44].

10.{واتبع هواه فتردى} [طه: 16].

ونتعلم من ذلك أن المجتهد المصيب له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر واحد، وأن الخطأ الذي يقع من المجتهد مغفور له، بل وله عليه أجر واحد، ما دام أنه لم يتعمد الخطأ من قلبه، فإذا تعمد القلب الخطأ، فهو ليس مجتهداً، وإنما هو آثم وخرج من حالة الاجتهاد إلى اتباع الهوى والضلال.

4.وتمتاز محاكمة الدماغ للمعلومات بالحياد، وعدم التعاطف معها سلباً أو إيجاباً، حتى تفرض الحقائق نفسها، وتتضح معالمها، فهو لا يفرح لوجود حقيقة ولا يبكي لغياب غيرها، لأن التعاطف مع الحقائق ليس من طبعه بل هو من طباع القلب.

ثانياً: مجال التفكير:

1.ومجال التفكير كما حددته الآية الكريمة {في خلق السماوات والأرض} وفي تحديد المجال حكمة ربانية بالغة، هدفها ضبط عملية التفكير ضمن خطوات وقنوات محددة هي الحواس الخمس، وهي منافذ الفكر على (السماوات والأرض)؛ فالعين تبصر الأبعاد والأحجام والألوان، والأذن تسمع الأصوات، واللسان للمذاقات، والجلد لملامسة الأشياء، ناعمة أو خشنة أو حارة أو باردة، والأنف للروائح. وقد منّ الله على الإنسان بهذه النعمة العظيمة، نعمة الحواس الخمس في آيات كثيرة منها قوله تعالى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].

وقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين. ولساناً وشفتين} [البلد: 8-9].

وقوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} [الحاقة: 12].

2.وتتميز الحواس بأنها مصممة على درجات محددة، فهي لا تدرك (ما تحت الدرجة) وهي أيضاً لا تدرك (ما فوق الدرجة).

3.وقد أثبت العلم الحديث أن لدى حواس الحيوانات والطيور من القدرات ما تتفوَّق به على حواس الإنسان حيث تطَّلع على عوالم هي عند الإنسان من الغيب.

بينما لا تستطيع حواس الإنسان أن تدرك إلا من خلال الدرجة المحددة لها، ولهذا يعيش الإنسان في وسط عالم الغيب، ولا يعلم عنه إلا بحدود ما تسمح به قدرات حواسه، وقد شبَّه القرآن الكريم الحواس بالغطاء الذي لا يمرر له من الحياة التي تحيط به إلا بحدود طاقات هذا الغطاء، حتى إذا انفصلت الروح عن الجسد، وتحررت من هذا الغطاء، الذي يشبه غطاء الغواص، رأت حقائق عالم الغيب التي كانت محجوبة عنها في الدنيا، قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].

وتظهر أهمية الحواس في كونها تربط الإنسان بواقعه، وحيث تساعده على نقل صورة الحياة المحيطة به، ليستوعب وظيفته ومقصد وجوده، ولا يشتّ عن هذه الوظيفة بالهرب إلى ذاته، فيعجز عن الاستمرار في الحياة.

4.وعلم الحواس معرض للخطأ، ولكن التفكير يكشف أغاليط الحس ويصوبها، وعلم الحواس أيضاً علم متفاوت، فأكثر العلم يأتينا عن طريق حاسة (السمع) ثم يليه علم حاسة (البصر) ثم تليها بقية الحواس، ولكن علم (البصر) أكثر دقة وتأكيداً من علم (السمع) الذي يحتاج إلى التروي قبل قبوله، لأن آفتي التحريف والنسيان تلعبان به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى ذلك (ليس المخبر كالمعاين)

5.وقد حددت الآية الكريمة مجال التفكير بـ(السماوات والأرض)، وهو بحاجة إلى معرفتها وإعمارها، ولذلك فالبقاء مع الحواس أثناء عملية الإدراك أسلم للتفكير المسلم، لأن ذلك يحميه من الانفلات مع التخيلات الخرافية والأوهام، التي قد يقع فيها الإنسان، وتكون نابعة من اختراع قوة المخيلة، ومن حملها بعض المحسوسات على بعض، دون التأكد من أصولها الحسية في الواقع، وهو ما حصل بالفعل في الأديان الصوفية التي صنعها خيال شعوب شرق آسيا (كالبوذية والطاوية والبرهمية وغيرها) حيث حالة الهروب الصوفي من الواقع مع الخيال الحر المتحرر من تكاليف الواقع.

6.وتعلَّم المسلم من منهجه أن علم الحواس وجهود الفكر مرتبط باكتشاف العالم المادي المحسوس لتخسيره في حياته، أما (عالم الغيب) الذي لا يقع في متناول الحواس، والأسئلة الكبرى عنه، التي تذهل عقل الإنسان، فيترك أمر العلم فيها إلى علم الوحي، الذي ثبت في أصوله عن طريق العقل والإعجاز، لأنه المصدر الوحيد القادر على الإجابة في مثل هذه الأمور.

ثالثاً: نتائج التفكير:

لا يمكن لعلم الدماغ أن يرتقي في الاتجاه السليم ويحقق الأهداف المنشودة للتفكير، إلا إذا امتلك الأمور التالية:

1.أن يقصد تعلم الحقائق والخضوع لها، ويكون ذلك بقبول الحقائق والسنن التي تحكم الأشياء في واقعها المستقل عن ذواتنا، حتى يصل إلى الحق الذي صدرت عن مشيئته جميع الحقائق.

2.كثرة التجارب التي تزيده قرباً من حقائق الأشياء، حتى تنكشف الملابسات المحيطة بها فتجلو عنها الأوهام وتزيد من خبرته في فهمها وتمييزها وهو ما قصده الشاعر بقوله:

ألم تر أن العقل زينٌ لأهله وأن كمال العقل طول التجارب

3.أن يمتلك قاعدة واسعة من المعلومات والحقائق والخبرات والبيانات والمفاهيم عن الحياة من مصدري العلم: (علم الوحي وعلم حقائق الوجود).

وترتبط النتائج المستخرجة من تلك العمليات الفكرية بصحة المدخلات وصحة قواعد المنهج، وصحة قواعد المحاكمة ومراحلها، حتى تأتي النتائج (المستخرجات) في غاية الوضوح والسداد.

ويفترض في العمليات الفكرية أن تحافظ على حيادها، وأن لا تسمح لعواطف القلب ومشاعره بالتدخل في مسار المحاكمات الفكرية، حتى تكتمل الحقائق والمفاهيم من فرض نفسها، وهذا هو الوضع الطبيعي للتفكير المحايد السليم الذي لا يخضع لهوى القلب، وبذلك يحقق الدماغ وظيفته العظيمة التي أوكله الله بها وهي: الاتصال بالواقع المحسوس والتفكير في فهم هذه الحياة، ليصل إلى الحقائق والفرضيات والمفاهيم الواضحة عنها.

وبذلك يشكل الدماغ بعملياته الفكرية مركز إرشاد للقلب عن حقائق الحياة، حتى يكون الناصح الأمين والوزير المعين لفطرة القلب، والقلب بعد ذلك حر في قبول هذا الإرشاد أو رفضه، وعندها تنتفي العبثية عن الكون من فكر الإنسان، ويطل على مشارف عالم الغيب، بما امتلك من التفسير والوضوح، ليلهج بالحقيقة التي توصل إليها فهمه وتفكيره {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وقد أشارت آية قرآنية إلى قضية الفهم باعتبارها حصيلة التفكير النهائية في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً} [الأنبياء: 79].

تناول الكاتب في الحلقة الأولى من هذا المقال تعريف بعض مصطلحات العنوان، وغاية البحث فيه. ثم تحدث عن المعرفة في القرآن من خلال قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]؛ باعتبارها تمثل معالم نظرية المعرفة القرآنية، وذلك من خلال المراحل التالية: مرحلة التفكير، مجال التفكير، نتائج التفكير، حكم القلب وقيمة الحقيقة. 

وتوقف الكاتب عند المرحلة الثالثة، ويكمل معنا اليوم آخر هذه المراحل...

رابعاً: حكم القلب وقيمة الحقيقة

أ. مملكة القلب في ضوء العلم البشري:

والقلب مملكة عظيمة، تتربع على عرشها النفس، والنفس هي الروح التي خالطت الجسد، والذي يهمنا هنا هو التعرف على موقف القلب من الحقائق الفكرية القادمة إليه من الدماغ، ويمكننا إيضاح هذا الموضوع من خلال مجموعة من الأفكار يمكن طرحها من خلال النقاط التالية:

1.الروح في جوهرها شيء غيبي، وإن تعلقت بعضلة القلب، من خلال علاقة ما وقف علم التشريح عاجزاً عن اكتشافها، لأنها سر إلهي مغلق في وجه العلم البشري، يقول سبحانه وتعالى: {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85].

لقد اكتشف الإنسان القارات الخمس وامتد بطموحه إلى اكتشاف الكواكب، وبقيت نفسه التي بين جنبيه قارة مجهولة، لا يعرف عن كنهها شيئاً إلا القليل، ووقف علم التشريح عاجزاً لا يحير جواباً، أمام اقتطاع جزء من الذاكرة، أو تغيير القلب بقلب صناعي دون أن يؤثر ذلك في وظيفة أيٍّ منهما.

2.مفهوم القلب في نظر الإسلام، ليس في قطعة اللحم الكمثرية الشكل، التي مقرها في صدر الإنسان فحسب، بل بما أخفى من حقائق غيبية عظيمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان علم التشريح الحديث في بداياته الأولى لا يرى للقلب وظيفة أكثر من كونه مضخة للدم توزعه على أنحاء الجسم، ثم تطور علم التشريح ليعترف عنه بحقائق جديدة، منها ارتباط القلب مع الدماغ بالعصب السمبثاوي العاطفي، ومن الشهادات العلمية المذهلة عن القلب ما حققه طبيب القلب المتخصص الدكتور خلوق نور باقي -وهو طبيب تركي- حين اكتشف أن اسم الجلالة (الله) مكتوب على قلب الإنسان، وبعد التأكد من ذلك نشر تفاصيل الاكتشاف في مجلة علمية معروفة. ومن الخلاصة المترجمة ننقل عنه النص التالي في هذا الموضوع الذي يكشف تفاصيل مذهلة عن القلب: \"في أحد الأيام وأنا أتصفح كتاباً علميّاً، أخذتني الدهشة لما رأيت، فقد وجدت في صورة القلب اسم الله مكتوباً في وسطه، اعتقدت أنني تخيلت ذلك واقتربت من الصورة أكثر، فتبين لي أن اسم (الله) مكتوب وكأنه خط بأنامل فنان ماهر.

هل أخطأت؟! أسرعت إلى الطبق المعلق على حائط الغرفة وقارنته مع لفظ (الله جل جلاله) المكتوب وسط الطبق، وتبين لي أنه لم تكن مصادفة وإنما اسم (الله) كان مكتوباً على القلب دون نقصان.

نعم، بدأت أبحث لسنوات ما آمنت به من أن توقيع (الله) الموجود في قلب الإنسان قد وجدته أيضاً في أطلس طبي وضعه العلماء الغربيون بشكل دقيق واضح، وبقيت هذه الأسئلة عالقة في ذهني، ولكن الجواب كان نعم حين التشريح، إذ أخذت قلب الإنسان في يدي، وتأكدت من وجود هذا التوقيع العظيم عليه، وتأكد لي ذلك في عمليات التشريح، إذ إن قلب الإنسان عند الجميع، وقّع عليه الخالق بلا استثناء، وبوضوح تام.

كما أن مكان توقيع (الله) مدهش، مما يوحي بالدقة الفائقة لأن نسيج القلب من ألياف العضلات المنسوجة كالشبك، إلا أن مكان توقيع (الله) لا يوجد فيه نسيج عضلي، كأن هذه المنطقة خلقت هكذا ليتم وضع التوقيع فوقها، وكأن هذه المنطقة المسماة طبيّاً (أوريكولا) المؤلفة من عضوين لم تتوضح حتى الآن المعلومات حولها، وربما كان ذلك حفاظاً على السرية في هذه الناحية من القلب.

ما هي خصائص القلب؟ ولمَ وضع التوقيع الإلهي هناك؟

قال العالم القدير الدكتور (كاود برنارد) منذ سنوات: \"إن ما نعرفه من العلم عن القلب، هو الشيء القليل، مع أن أدق إحساسنا والإدراك يجعلانا نحافظ عليه في بنيته العظيمة وتركيبه الرائع، إن القلب يشبه الرسوم الموجودة على جناح الفراشة بدقته وغموضه في تركيبه\".

ويقول الدكتور نور باقي:

\"يتركب القلب من ألياف عضلية تشبه الشبكة، وهو محاط بنسيج عصبي يشبه الدورة الإلكترونية وهذه الشبكة معززة بمركز عصبي مستقل، يفوق خصائص البيوكيميا العصبية المعروفة.

أما من الناحية البيولوجية فإن جميع أعضاء جسم الإنسان تعمل بأوامر الدماغ، إلا أن القلب مع وجود مراكز تداخل عديدة، فيكون عمله مستقلاًّ وبقيادة النسيج العصبي العائد إليه، كما أن كل حجرة في القلب تنتج طاقة كهربائية واضحة وعالية وثابتة يمكن عن طريق أي نقطة في الجسم تحقيقها، والتأكد من صحة القلب، وإن القلب ومركز الأعصاب الذي يحتفظ به هو بمثابة الكمبيوتر، فترى أن عمل القلب تابع لحسابات صحيحة لا يمكن أن تتأثر حركته المتوازنة العظيمة لا بالتأثيرات الخارجية ولا بتأثير الدماغ، وليس التوقيع الإلهي على هذا الكنز الغامض مصادفة حيث يعتبر مورد الحياة ويبين مدى أهمية الحياة المتدفقة منه\" (1).

ب. مملكة القلب في ضوء المرجعية الإسلامية:

إن الحكم الفيصل في موضوع مهم كهذا، هو مرجعية الأمة (القرآن الكريم والسنة الشريفة) لنتعلم منهما الحقائق العظيمة، والتي تكشف لنا عن كثير من فطرة القلب ووظيفته واستعداداته، بما يوضح كثيراً من مقاصدنا التي نرمي إليها في فقه هذا الأمر.

ومن النصوص والشواهد التي تكلمت عن القلب في القرآن الكريم نقتطف الآيات الكريمة التالية:

أ.قال تعالى:

1.{أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوب يعقلون بها... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].

2.{لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179].

3.{وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون} [التوبة: 93].

4.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].

5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

6.{ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} [غافر: 80].

7.{وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

ب.ومن الأحاديث الشريفة نقتطف هذه المجموعة من أقواله صلى الله عليه وسلم:

1.\"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب\" (2).

2.\"استفت قلبك وإن أفتاك الناس\" (3).

3.\"الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس\" (4).

4.\"التقوى ها هنا\" (5) وأشار إلى القلب.

هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكشف لنا خطر مملكة القلب وأهميتها ومكوناتها: فهو مستودع الفطرة، التي تحمل خصائص الإنسان، وهو الشاشة الحساسة التي تستقبل جميع إرساليات الشخصية من حاجاتها العضوية والفكرية والروحية، وعلى شاشته تتواجد جميع ألوان الشعور والأهواء والعواطف والرغبات والحاجات والنوايا والمقاصد التي تمثل الموقف والإرادة والاختيار تحت إشراف الفكر وإرشاده.

وفيه تكمن القيمة الحقيقية للأشياء عند الإنسان لأن علمه يظهر على شكل مشاعر وإرادة واختيار تكشف البواعث والنوايا والتوجه الحقيقي الذي ارتضاه هذا الإنسان بعيداً عن ضغوط الواقع وإغراء المصالح.

وقد ربط الإسلام الأعمال بسببها الحقيقي وباعثها في القلب \"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى\" (6)، ويحاسب الإنسان عند الله على ما استقر في قلبه من مواقف واختيار ونوايا وبواعث، لأنها تمثل وتفسر أفعاله وأقواله ومواقفه. فقال تعالى: {وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

وهو منطقة مقفلة سرية لا يملك أحد مفاتيحها إلا خالقها وصاحبها، لأن الله سبحانه وتعالى جعله الحصن الأول والأخير لحرية الإنسان وعلامة تكريمه، حتى يختار موقفه بحرية تامة، دون أن تتحكم فيه العوامل الخارجية من ظلم وأحداث وضغوط، ومنه يبدأ الإنسان مواجهة الظلم معتمداً على ما فيه من رصيد الموقف، ومنه تبدأ عملية التغيير نحو الهزيمة أو النصر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11].

والقلب أيضاً هو مركز الشعور بالجمال والقبح والزمان والمكان والإثم والفضيلة والحق والباطل، والممكن والمستحيل.

والأهم من ذلك كله، هو أن ندرك وظيفة القلب في عملية المعرفة، كيف تتم وكيف يكون مسارها؟ فقد وصفته الآيات الكريمة بأنه هو الذي (يعقل ويعلم ويفقه).

ونظن أن ذلك يتم من خلال قبوله لعلم الدماغ وفكره وإرشاداته أو رفضه لها، لأن الدماغ والحواس تشكل بوابة لعلم القلب عن الواقع الخارجي، وهذا القلب هو الذي يختار الموقف من الأشياء فيميل إليها أو يميل عنها، قال تعالى: {ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

ويكون ذلك عندما تطرح عليها حقائق الفكر والدماغ وجهودهما في الإدراك والفهم، فيدرك القلب وجه المصلحة والإشباع لذاته وفطرته من هذه الحقائق، فيصدر موقفاً شعوريّاً يبين قيمة هذه الحقائق في ضوء المصلحة والإشباع الفطري لذاته وحاجاته.

أما قلب المسلم فالأصل فيه أن يعدل من رغباته لتخضع إلى تعلم الحق من حقائق الدماغ، ويسترشد بها في إشباع فطرته من خلال الخضوع لمنهج الحق، قال صلى الله عليه وسلم: \"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به\" (7)، ويرتقي في هذا الاتجاه.

وأما قلب الكافر فهو كما وصفته الآية الكريمة بصيغة الجمع {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46]. لأنها تتعلق بتعلم الإشباع من حقائق الدماغ والفكر، ولا يهمها تعلم الحق، بل يلح عليها الإشباع الغريزي دون منهج أو نظام من الحق، لأن لهفتها إلى هذا الإشباع تعميها عن البحث في الحق، بل هو ليس من أهدافها، ولذلك فقلوبهم لا تنتفع كثيراً من حقائق الفكر، بل تحاول أن تحرف تفكير الدماغ وجهوده لخدمة هواجس نفوسهم وإشباع رغباتها، قال تعالى: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف: 101].

فوظيفة التفكير عند الكافر محصورة في تحقيق الإشباع والبحث عن طرقه ووسائله، وهذا هو نهاية المطاف عنده، وقد وصفتهم آية أخرى في قوله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44].

وصفة قصر الحياة على الإشباع الغريزي واضحة في سلوك الحيوان بشكل جلي، وهذا هو سبب عقد المقارنة بين الأنعام والكفار.

وتكشف آية أخرى علمهم من الحياة الذي أوقعهم في هذا السلوك، في قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

لأن الكافر يبحث عن الإشباع ويقصر الحياة عليه ويفكر من أجله، ويخضع لضغطه، ولذلك فاندفاعه في الإشباع يشبه اندفاع الأنعام والبهائم نحو حاجاتها، لأنه يخضع (للدوافع) الغريزية والحاجات العضوية دون هدي من عقيدة أو ضابط من شرع، ولذلك يمتاز سلوكه بالاندفاع والتهور وعدم الاتزان والتقلب، وتأتي الصورة الأخرى وهي صورة المؤمن بسلوكه في الإشباع.

وهي صورة الإنسان الذي يملك عقيدة تحدد له مقصد وجوده في الحياة، وتشرف على تهذيب (الدوافع) الغريزية والحاجات العضوية حتى ترتقي إلى مرحلة جديدة تتحول فيها دوافعه إلى (ميول). والميول هي دوافع محكومة بالخضوع لضوابط العقيدة وأحكام الشرع، لذلك يتحول اندفاعه إلى (ميول) هادئة مسترشدة بالحق تمتاز بالحكمة والاتزان والثبات (8).

4.ومن الأشياء التي تغني علمنا عن القلب، أن ننظر إلى تعدد الأسماء التي وردت للقلب في اللغة العربية، وفي دلالاتها وتعددها ما يشير إلى عظمته، فكانت هذه الأسماء من قبيل أمور كثيرة منها:

1.الترادف الافتراقي: ويكون ذلك عندما تحل صفة الاسم أو بعض منه، محل الاسم في الاستعمال فتدل عليه، وتصبح كأنها اسم ثان له، فهي ترادفه في جزء من معناه أو دلالته، ويفارقها الاسم فيما يحمل من المعاني الأخرى الجامعة للمعاني جميعها، ونحن نرى وجود الترادف بهذا المعنى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. فقد سماها أسماء تدل على لفظ الجلالة، لأنها تترادف معه في الدلالة، وفي المعنى الذي يحمله كل اسم منها، ولكن لفظ الجلالة يفارقها في الدلالة على الأعم والأشمل، فالترادف يعني مجرد المشاركة في المعنى، وليس من الضروري أن يدل على التطابق التام، الذي نتفق مع العلماء على نفيه، وكذلك تعدد أسماء القلب، ففيها من الترادف ما يدل على المشاركة في بعض المعاني وفيها من الافتراق ما يدل على معانٍ أخرى.

2.أو إطلاق الجزء وإرادة الكل.

3.أو إطلاق الكل وإرادة الجزء.

4.أو إطلاقٍ يدل على عموم ما يتعلق به من موجودات أو وظائف أو أسرار، وذلك لكثرة وظائفه، وغموض جوهره، وجلال قدره، وعلو شأنه في عملية المعرفة وغيرها. ومن هذه الأسماء: (القلب، والفؤاد، واللب، والذات، والنفس، والعاطفة، والإرادة، والوجدان، والضمير، والنوايا، والمقاصد، والهوى، والشعور، والبال، والعقل، والسر، والروح، والبصيرة، والسريرة، والأنا، والنُّهى، والخلد، والجِنان، والخاطر، والحِجر). هذا هو القلب مرآة حال الشخصية بكل نوازعها، ومع ذلك فنحن ما أوتينا عنه من العلم إلا قليلاً.

استكمل الكاتب في الحلقة السابقة كلامه عن المعرفة في القرآن من خلال قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .

الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]؛ حيث إن الآية -كما يرى الكاتب- تعطينا مشهداً كاملاً مترابطاً ومكثفاً لعملية المعرفة في مراحلها الأربع وهي: مرحلة التفكير، مجال التفكير، نتائج التفكير، حكم القلب وقيمة الحقيقة.

وها هو اليوم -بعد أن انتهى من آخر هذه المراحل- يجلِّي لنا جوانب أخرى من الموضوع، ينهي بها بحثه عن الظاهرة الأدبية، على أمل أن يتناول بعض القضايا التي تطرق لها بشيء من التفصيل في دراسات لاحقة إن شاء الله.

معالم النظرية (تشكل مفهوم العقل):

يختلط مفهوم كلمة العقل على عامة الناس، ولا يملك عنه أهل العلم إلا القليل، فنحن إذا دققنا النظر في بعض العبارات المتداولة على ألسنتهم نحو: فلان ذكي الفؤاد، وفلان صاحب دماغ عبقري، وفلان لا يسمع لأحد ولا يرى نفسه إلا على صواب؛ فإننا نجد أن بعضهم قد ظن من هذه العبارات وما يشابهها أن العقل هو الدماغ، وبعضهم فهم أنه القلب، والآخر ظن أنه الحواس. وقد نسي هؤلاء أن من أساليب اللغة العربية في التعبير إطلاق الجزء مع أنه يقصد الكل، أو يطلق الكل ويريد به الجزء.

والحقيقة أن كلمة العقل أكبر من الدماغ وحده أو الحواس وحدها أو القلب وحده، بل هي الكلمة الجامعة (للحواس والدماغ والقلب)، وأن جميع ما ذكر هو من قوة التمييز والعقل.

ونجد مصداق ذلك من القرآن الكريم، حيث أطلق فعل العقل على القلب {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ وذلك من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، ليدل على أجهزة العقل كاملة، لكنه ذكر القلب لأنه آخر المراحل وأرقاها في تدرج عملية المعرفة من الواقع إلى الحواس، ومن الدماغ إلى القلب.

وفي قوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} [آل عمران:52]، ذكر الجزء وهو الحس لكنه قصد عملية الإدراك بكاملها؛ لأنه رأى كفرهم متجسداً أمام حواسه بسلوكهم وأفعالهم، وتحققه بدماغه وقلبه. ومع أننا نقر أن جوهر العقل شيء غيبي لارتباطه بالروح التي هي من أمر الله، إلا أن ظاهرة العقل فيما نلمسه من حالة الوعي الظاهرة عند الإنسان من خلال ما قدمناه، تدل على أن مصطلح العقل يعني مجموع (علم الدماغ علم القلب). ولذلك فهو يدل على الأجهزة الظاهرة للعقل، وهو يدل أيضاً على ثمار هذا العقل؛ حيث العلم الذي يجعل الإنسان قادراً على التمييز ويعقله عن الوقوع في الخطأ، من خلال هذا الميزان الذي يتكون من قطبين هما: (الدماغ بحواسه) و(القلب بمملكته) وهما يتجاذبان عملية العلم والمعرفة تجاذباً يضمن لهما التطور والاستمرار. ويمكننا إلقاء الضوء على عملية التجاذب تلك وإيضاح معالمها من خلال النقاط التالية:

1.علم الدماغ: نسمي (المعرفة) التي يتحصل عليها الدماغ أثناء عملية التفكير في المعلومات القادمة عن طريق الحواس، والوصول بها إلى مرحلة استنتاج (الحقائق والمفاهيم والأحكام) بـ(الحقائق الدماغية الفكرية)؛ لأنه يحاكم ويميز من خلال منهج يضبط عملية التفكير حتى يصل بها إلى مرحلة الاستقرار والثبات أو إلى حالة التساؤل والبحث الذي يدفع بها إلى عمليات تفكير جديدة.

2.علم القلب: نسمي (الموقف) الذي يصدره القلب على ضوء الحقائق الدماغية القادمة إليه من جهود الدماغ في التفكير بـ(قيمة الحقيقة)؛ لأنه يحكم على حقائق التفكير الدماغي أو مفاهيمه من خلال مركب من مشاعر التصديق والرضى والقبول، أو من خلال مركب من مشاعر الرفض والخوف والقلق أو منهما معاً، وهي عبارة عن ردة الفعل الطبيعية لدى فطرته أو موقفه الشعوري، حيث يرى قيمة هذه الحقائق وفائدتها في إشباع فطرته وعواطفه ومشاعره وإرادته وحاجاته، كأن يصدر مشاعر الفرح قيمة لحقيقة النصر، أو أن مشاعر الحزن قيمة لحقيقة الهزيمة، أو أن يصدر مشاعر الحزن والهلع قيمة لحقيقة الموت، أو أن يصدر مشاعر الكره والحقد قيمة لحقيقة الظلم والاضطهاد، أو أن يصدر مشاعر مركبة من رصيده الفطري الشعوري تجاه أحداث ومفاهيم وحقائق يكابدها في الحياة.

وإذا عدنا إلى الآية السابقة التي انطلقنا منها، فإننا نجد أن الحقيقة الدماغية المستخرجة من التفكير في السماوات والأرض، ظهرت في صيغة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ومعناها يدل على حقيقة، ينفي فيها التفكير معنى العبثية عن الحياة والكون والإنسان، ويقر بأن الإنسان خُلق لمقصد محدد، وعندما ظهرت هذه الحقيقة بوضوحها أمام القلب المستقيم الفطرة، أصدر قيمة هذه الحقيقة والموقف منها لدى هذا القلب، وظهرت قيمة الحقيقة في صيغة {سبحانك فقنا عذاب النار} حيث ظهر هذا القلب الخائف أمام انتفاء العبثية وجدّية الحياة، وجاء على شكل دعاء وتعظيم لله سبحانه وتعالى، يتجلى فيه الإيمان والخضوع

والاستعاذة بالله من عذاب النار. وهكذا ظهرت قيمة الحقيقة والموقف منها منضبطة بمعيار متلازم، لا انفصال فيه بين الموقف والقيمة وهي أيضاً متصلة بالرؤية الفكرية التي كوَّنتها؛ لأن القلب هو الذي يعقل علم الدماغ وتفكيره وحقائقه ومفاهيمه، ويستفيد منها ويسترشد بها، أو يعرض عنها وينفر منها، وهكذا فهو يعقل قيمة هذه الحقائق ويدرك جدواها في إشباع ميوله وحاجاته وغرائزه وطموحاته.

ونلاحظ أن عملية المعرفة تتدرج في دماغ يعقل حقائق عالم الشهادة، وقلب يعقل وجه المصلحة من هذه الحقائق.

أما إذا عمي القلب عن إدراك هذه الحقائق ووجه الحق فيها، فمعنى ذلك أنه عرضت أمامه حقائق الحياة وحقائق التفكير ومفاهيمه عنها، لكنه لم يستجب لها، ولم يستفد منها، وأصبحت هذه الحقائق مجرد معلومات عابرة لم تؤثر في موقفه، ولم تعدل من استجابته، وما الفائدة من الحقائق التي يتعب الفكر الدماغي في الوصول إليها، إذا لم يقبلها القلب ويسترشد بها في تهذيب مشاعره وحاجاته وفطرته، حتى يدرك جوهر الحياة وحقائقها، فيخاف وقت الخوف، ويطمئن وقت الطمأنينة، ويتعظ وقت الاتعاظ، ويكره وقت الكره، ويحب وقت الحب. ولذلك وصف الله تعالى هذه القلوب بلسان الجمع في قوله {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ لأنهم في آية أخرى تفصل حالهم: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف:101]. لا من قوى فكرهم ولا من فكر غيرهم؛ لأن مملكة الهوى تخضعهم لرغباتها، فهم لا يرون الحياة إلا من خلال منظارها.

ولا تخلو عملية التجاذب بين القطبين (الدماغ والقلب) من تبادل التأثر والتأثير فيما بينهما، بحثاً عن الوعي الأفضل والأمثل؛ فتارة يضيق القلب بحالات الجمود والتقليد الذي يعيشه الفكر أحياناً، فيدفع القلق القلبي الدماغ للنشاط والتفكير بحثاً عن العلم والتفسير والطمأنينة، وتارة يقوم التفكير الدماغي بهداية العواطف الجامحة لدى القلب، بما لديه من فكر، وبخاصة أمام حالات الجدة والدهشة والمفاجأة، يرشدها ويربيها؛ لتفيق من هياجها وتخضع للفهم الأفضل فيما استجد عن قناعة ورضى وتسليم

وفي نهاية المطاف، لا بأس من التفريق بين العلم في بعض معانيه وبين المعلومات؛ فالعلم: يدل على حالة استفادة القلب من تفكير الدماغ ومفاهيمه وحقائقه. وفي هذه الحالة يستفيد القلب ويهتدي، وتتحول الحقائق إلى هداية في أعماقه وارتقاء في مشاعره وطباعه وتهذيب في فطرته وانضباط في أهوائه، ثم يمتد هذا العلم إلى سلوك ظاهر في جوارحه وأفعاله وأقواله.

أما المعلومات: فتدل على الحالة الأخرى المغايرة، وهي الحالة التي تمرر فيها حقائق الدماغ عن الحياة وتفكيره وجهوده، وتعرض أمام بصيرة القلب لكنه لا يتعظ بها، ولا يتكيف معها في هداية فطرته، وهذا القلب عمي عن تلك الفائدة وقبول الحق منها، رغم أنها قريبة منه، وفي متناوله، وقد وصف الله سبحانه هذا النوع من القلوب بقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]؛ لأنها جعلت الإشباع هدفاً وهاجساً ومعبوداً، واستبعدت عملية تعلم الحق من أهدافها، فتحولت الحقائق إلى مجرد معلومات يختزنها في الذاكرة، ولكنه لا يستفيد منها ولا يعتبر بها. قال الإمام الشافعي رحمه الله: \"ليس العلم ما تحفظ، إنما العلم ما نفع\" ) (. ومن الأبيات الجميلة التي دارت في فلك الآية القرآنية قول أحمد شوقي:

لقد أنلتك أذناً غير واعية ورُبّ مستمع والقلب في صمم

الخلاصة:

وهكذا نرى أن المعرفة في المفهوم القرآني، تتدرج في قنوات العقل البشري من الواقع الخارجي (عالم الشهادة) إلى الحواس، ومنها إلى الدماغ ومنه إلى القلب، وهو أرقى الدرجات في السلم المعرفي وأعلاها، ضمن سلسلة من التواصل والتفاعل، تصنع المفاهيم وتكشف الحقائق وتصدر الأحكام التي تشكل الرؤية الفكرية للأديب، فيستقبلها القلب بإصدار قيمة الحقيقة والموقف منها.

وتتم عملية المعرفة تلك في ترابط وتشابك وتجاذب بين قطبي العقل (الدماغ والقلب) حتى تصل إلى مرحلة الحقيقة الكاملة بجميع أبعادها: الواقعية والحسية والفكرية والمنهجية والقلبية.

وكان الهدف من شرحها مفككة هنا، هو تسهيل عملية فهمها فقط، وقديماً قال أحد الحكماء: (إن الله جعل القلب أمير الجسد، وملك الأعضاء، فجميع الجوارح تنقاد له، وكل الحواس تطيعه، والقلب وزيره العقل) ) (، وقصد بالعقل هنا الدماغ والفكر وهو من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء.

القلب ومصادر المعرفة:

استكمالاً لما سبق، لا بد من إيضاح مسار المعرفة، حيث يتلقى القلب العلم والمعرفة من مصدرين هما:

المصدر الأول: علم المعرفة القادمة للقلب من بوابة الفكر والحواس على الكون والحياة، وهذه المعرفة يأخذها الفكر من مصدرين هما: (علم حقائق الوجود، وعلم حقائق الوحي) ويكون فعل القلب في هذه الحالة هو إصدار (الموقف والقيمة) وهو ما تم تفصيله فيما سبق من الفقرة رابعاً (حكم القلب).

المصدر الثاني: علم المعرفة القادمة إلى القلب من جهة بصيرته (الروح) وهو من بوابة الروح على أصل فطرتها في عالم الغيب، وهو ما اصطلح أهل العلم على تسميته بالإلهام.

الإلهام:

والإلهام (الهداية – الفراسة) هو انفتاح بصيرة القلب لتلقي العلم مباشرة من الله سبحانه وتعالى من خلال طاقاتها ومواهبها وخصائصها، ومن جهة أصلها وفطرتها وانفتاحها على بوابة عالم الغيب، حيث يهجم هذا العلم على شاشة القلب كهجوم الأسد على فريسته، أو يقذفه الله في القلب مباشرة، دون مقدمات أو جهد.

ويختلف عن العلم الذي يأتي إلى شاشة القلب عن طريق الفكر وبوابة الحواس على الواقع الخارجي. وتسمى الروح في هذا العلم بالبصيرة، لأنها تبصر الحقائق بذاتها وطبعها، بصفتها نفخة علوية من عطاء الله للإنسان.

وقد اختلف العلماء في تسمية هذا العلم من جهة تلك البصيرة، إلى تسميات منها: (الإلهام – الهداية – الفراسة). وقد ورد في شرح العقيدة الطحاوية باسم الفراسة وذكر منها ثلاثة أنواع:

1.فراسة إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب يثب عليه كوثوب الأسد على فريسته، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فراسة.

2.وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، وهي فراسة لا تدل على إيمان ولا على ولاية.

3.وفراسة خلقية: وهي التي صنَّف فيها الأطباء وغيرهم حيث استدلُّوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ) 

والإلهام حالة فردية متفاوتة في ظهورها لدى الأفراد، ومن الأحوال التي تسرِّع الإلهام وتيسِّره وترفع القلوب إلى مستواه، حتى تستحق أن تُلهم العلم من الله سبحانه وتعالى:

1.إذا تحرج القلب عن الوقوع في الشبهات أو المعاصي.

2.وإذا استنفذ الفكر الحول والقوة ووقف عاجزاً، واستيقظت في القلب الإرادة التي تتشوَّق إلى معرفة الحق الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.

3.إذا عاش القلب حالة انتظار الفرج، وغمره الصدق والنقاء، وارتفع إلى مراتب التقوى.

4.إذا اشتدت في القلب الحاجة والافتقار إلى عون الله في البحث عن الصواب، وألحَّ في الطلب والدعاء.

وأدلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أدلته في القرآن الكريم:

- {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً . ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2-3].

- {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].

- {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282].

- {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201].

ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه علَّمنا صلاة الاستخارة والدعاء عندما يغمُّ الأمر، أو تضيق بنا الأحوال والسبل، وعندها لا بد أن يأتي الفرج والهداية ولو بعد حين.

ويأتي الإلهام على صور وأشكال متعددة منها:

1.أن يقذف الله سبحانه وتعالى الفهم السديد على شاشة القلب، فينكشف له وجه الحق والصواب فيما غمَّ عليه.

2.أن يأتيه العلم على شكل رؤيا صالحة واضحة التأويل.

3.أن يجعل الله في قلبه ميلاً وطمأنينة تجاه الشيء الذي غمَّ عليه.

4.أن يجعل الله في قلبه نفوراً وقلقاً تجاه الشيء الذي يهتم به.

5.أن تزول الغشاوة عن البصيرة فينكشف لها الدليل والبرهان في جلاء حقيقة معينة.

6.وقد يأتيه العلم حين يلهمه الله حسن التقدير وصحة التوقع لما يدور حوله من القضايا التي يهتم لها.

7.أن يهجم عليه التذكر بعد النسيان فإذا هو مبصر لما غاب عنه.

تفسير الظاهرة الأدبية في ضوء ما سبق:

وهكذا وبناءً على ما سبق، يمكننا الاتكاء على نظرية المعرفة في تفسير الظاهرة الأدبية، لما لها من فضل عظيم في إلقاء الضوء على النشاط الفكري والنفسي والأدبي عند الإنسان، وتحديداً عندما نتذكر أن الله سبحانه وتعالى قد منّ على الإنسان فأعطاه العقل بقطبيه (الدماغ والقلب) وجعله كائناً مفكراً ا مشاعر وعواطف، ومنحه القدرة على نقل فكره ومشاعره، بما أعطاه من نعمة البيان وبما منحه من أدواته، ومن أدلة ذلك في الكتاب العزيز، قوله تعالى: {علمه البيان} [الرحمن: 4]. وقوله: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [الروم: 22].

وقوله: {ألم نجعل له عينين . ولساناً وشفتين} [البلد: 8-9]. وقوله {وعلّم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]. والأصل في التعبير والبيان أنه حاجة داخلية شعورية قلبية، لأنها تمثل الموقف في القلب، لكن الذي يتحكم في صياغتها الفكر والذوق، وهذا ما تبينه الآيات الكريمة في قوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11]. وقوله أيضاً في وصف موسى عليه السلام عن نفسه وحاله {ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} [الشعراء: 13].

والبيان وسيلته اللغة وجهازه الصوتي والفكر، مما جعل هذا الإنسان قادراً على النقل والإيصال والإعراب عما يعتمل في نفسه، من خلال الأبنية اللغوية والأساليب الفنية وبما توصل إليه من الأجناس الأدبية التي تمكنه من إيصال ما يريد، ومن خلال البيان الذي يسحر القلوب بما يوصله من تأثير إلى نفوس المخاطبين.

وكما نعلم أن الأدب في أصله وجرثومته يعتمد على نقل الموقف الشعوري القلبي وبما تصدره مملكة الهوى والإرادة من مركَّب المشاعر، التي تبين قيمة الحقائق والمفاهيم التي قدمتها الرؤية الفكرية للأديب، أثناء حدث خارجي تحرَّش بشعور الأديب وأيقظ حالة الاهتمام والانتباه الشعوري في قلبه، وهو ما اصطلح عليه الشعراء والأدباء باسم: (التجربة الشعورية) للشاعر أو للأديب، وهي التي وصفها الأخطل بقوله:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وكلام الفؤاد له لغة خاصة به، هي لغة الذات، لغة أغوار النفس، التي تختلف عن كلام اللسان الذي يمثل لغة المجتمع، لأن اللسان هو الترجمان الذي يترجم لغة الذات إلى لغة المجتمع من خلال لغة البيان.

من لغة الذات إلى لغة البيان:

ومن هنا لا بد لنا من متابعة الرحلة، حتى نرى كيف تتحول لغة الذات، التي قال عنها الشاعر (إن الكلام لفي الفؤاد) على لغة اللسان والبيان الذي يفهمه المجتمع، والأمر يتضح عندما نطلُّ على القلب فنرى أن المشاعر في داخله، أبه بالبحر المتلاطم الأمواج، تظهر على شكل موجات من المشاعر المختلفة في شدتها وتمازجها وطولها، تحكمها حالات من الاندفاع والتوتر المتأرجح بين القمة والقاع، تتداخل فيها الجوانب الشعورية بالجوانب الأخرى الحسية والفكرية، وتتعالى أمواجه بالوجدان والإرادة، وتظهر على شكل وجدانات تمتلئ بالأشواق والمعاناة والرغبات والنوايا والمقاصد لترسم قيمة الحقائق التي قدمت مع الرؤية الفكرية وتحدد الموقف الشعوري منها.

ومع ذلك تبقى لغة الذات مجهولة الدلالة، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ثم صاحب ذلك القلب، لأنها لغة خاصة مبهمة غامضة متداخلة في أعماق النفس، إنها لغة تعتمد المشاعر والتوتر والنبضات أسلوباً، ولذلك هي تحتاج إلى نقلها من لغة النبضات والمشاعر الداخلية المبهمة، أو ما نسميه حديث النفس إلى لغة الخطاب الخارجي المتعارف عليها بين أبناء المجتمع، وعندها يحتاج المبدع إلى عملية إبداعية تحولها إلى لغة بيانية، قادرة على حمل ما يجول في ذلك العالم الغريب الخفي من نفس المبدع، من خلال نعمة البيان التي تعتمد الأساليب اللغوية، وحيث توظف هذه اللغة في بناء معمار بلاغي يكون قادراً على نقل هذه التجربة، لأن البشر لا يفهمون اللغة الشعورية للمبدع، إلا بعد تحويلها إلى لغة بيانية اجتماعية جمالية، تترجم لهم عوالم هذه النفس إلى ما يفهمون من لغة اجتماعية لها تقاليدها الفنية المتعارف عليها بينهم.

وهنا تظهر قيمة البيان الذي منحه الله للإنسان حين يتمكن هذا الإنسان من تحويل لغة ذاته وحديث نفسه ومناجاتها إلى لغة البيان الموصلة المفهومة لدى الجميع، وهو أمر مألوف ومعروف في الآداب الإنسانية كلها، حيث أصبحت كل أمة لها لغتها البيانية الخاصة بها، وهي تمثل تقاليدها الفنية وعلومها البلاغية، وخبراتها التي تتميز بها في الأجناس الأدبية، وبما تجمع لها من خبرات تعكس ذوقها الجمالي الذي تتميز به عن غيرها من الأمم، وبما استقر لها من أساليب البيان بنوعيه: البيان العلمي والبيان الأدبي، لخدمة علومها وآدابها، وإلى هنا نتوقف في بحثنا عن الظاهرة الأدبية حيث نحتاج إلى بحث مستقل يتناول المحطة الأخيرة بشيء من التفصيل وعناوين جديدة تتناول طبيعة الأدب ووظيفة الأدب والتمايز بين الآداب العالمية.

وسوم: العدد 714