فن الرثاء في شعر د. محمد حكمت وليد

فن الرثاء: هو أحد فنون الشعر العربي البارزة، بل إِنه ليتصدرها من حيث صدق التجربة، وحرارة التعبير، ودقة التصوير. ويحتفظ أدبنا العربي بتراث ضخم من المراثي منذ الجاهلية إِلى يومنا الحاضر.

تعريف الرثاء في اللغة :

يرتبط المدلول اللغوي لــ(الرثاء)بالميت والبكاء. وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى) فيقال: "رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية"

 "ويدل (رثى)في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق" ، وأخذ مدلول الرثاء يرتبط بالقصيدة الشعرية, ويقول ابن فارس: بأن " الراء والثاء والحرف المعتل أصيْلٌ يدل على رِقّة وإشفاق. يقال رثَيْتُ لفُلان: رقَقتُ. ومن الباب قولُهم رَثَى الميِّت بشعرٍ. ومن العرب من يقول: رَثَأْت. وليس بالأصل."

وكذلك الرثاء في اللغة يعني: بكاء الميت، وتعدد محاسنه.

 يقول ابن منظور: "رَثى فلان فلاناً يَرْثيهِ رَثْياً ومَرْثِيَةً إِذا بكاهُ بعد مَوته. فإِن مدَحَه بعد موته قيل رثَّاهُ يُرَثِّيه تَرْثِيةً. ورَثَيْت الميّتَ رَثْياً ورِثاءً ومَرْثاةً ومَرْثِيةً ورَثَّيْته: مَدَحْته بعد الموت، وبَكَيْته. ورثَوْت الميّت أَيضاً إِذا بكَيْته، وعدَّدت محاسنه، وكذلك إِذا نظَمْت فيه شعراً ". وعرفه بعضهم بأنه "حسن الثناء على الميت".

وقيل في رثى "رثى الميت رثيا ورثاء ورثاية ومرثاة ومرثية بكاه بعد موته وعدد محاسنه, و يقال رثاه بقصيدة ورثاه بكلمة ,و له رحمة ورقّ له؛(رثاه) : مدحه بعد موته(المرثاة) ما يرثى به الميت من شعر وغيره"

تعريف الرثاء اصطلاحاً :

بأنه ذكر الميت، وذكر محاسنه، ومناقبه وخصاله الحميدة مثل: الكرم، والعفّة، والشجاعة، ووصف الحال بعد فقدانه، وما يحمله من مشاعر وحزن كبير، ويُصنّف الرّثاء على أنه أحدُ ضُروبِ الشعر العربي، وهو أكثرها عاطفةً؛ لأنّ منبعه هو القلب، فكلما زادت الصلة بين الشاعر والشخص الميت زادت قوة القصائد الرثائيّة، وقوّة وعمق المعاني، والعاطفة المتدفقة في أبيات القصيدة بشكل كبير، واشتُهر الرثاء عند العرب بشكل كبير؛ لما يحمله من تخليد للميت، وإبقاء ذكره على ألسن الناس كلما ذكروا ما كُتب فيه من قصائد ورثاء.

أصناف الرثاء

يُصنّف الرثاء حسب طبيعة المرثي. ومنه:

1-رثاء الإنسان : ( كالرثاء العائلي: الوالدين، الأبناء، الزوجة، الأخت، الجدة،)؛ ورثاء الأصدقاء؛ ورثاء أصحاب السلطة...).

2-رثاء غير الإنسان: ( من قبيل رثاء الحيوان الأليف، ورثاء المدن والممالك، ورثاء القصور، ورثاء مظاهر الحضارة الإسلامية كما في رثاء الأندلس...وغيرها).

3-وهناك رثاء من صنف خاص هو : رثاء الشاعر ذاته الذي غدا مرثياً، فتحوّل الرثاء بذلك إلى اغتراب وحنين وشعور بالغمّ الوجودي وتزييه بنزعة تأملية فلسفية يمكن أن نصادفها لدى البعض من قبيل ابن حمديس الصقلّي، ومالك بن الريب .

أغراض الرثاء:

 تتعدّد أغراض الرثاء في الشعر العربيّ، فمنها ما هو مختصّ بالأقارب كالأخ والأخت والابن والأم والأب، وهناك ما هو مختصّ برثاء الزوجة، وقد كان هذا النوع في الجاهليّة غير منتشر؛ لأنه كان يعتبر نوعاً من الضعف عند الرجل، لكنه انتشر فيما بعد، وأصبح من أبلغ الشعر الذي قِيل في حقّ الزوجة، وأيضاً هناك رثاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز شعراء هذا النوع من الرثاء هو شاعر الرسول حسان بن ثابت، إذ قال أروع الكلام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فُجع المسلمون بوفاته عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى ما تمّ ذكره سابقاً يضاف رثاء فَقْد الأوطان والدول إلى أغراض الرثاء؛ لما له من شهرة واسعة في أشعار العرب؛ نظراً للأحوال السياسيّة والاجتماعيّة المتقلبة التي مرّ بها العرب عبر التاريخ، ومن أشهر الحوادث التي مرّ بها العرب فقدان الأندلس، والحوادث العظيمة التي حصلت لهم على يد المغول، وفي العصر الحاضر جاء الاحتلال وضاعت فلسطين وأفغانستان والعراق .

 خصائص الرثاء :

يعتمد الرثاء على مشاعر صادقة وأحاسيس معبّرة، فلا يمكن للشاعر أن ينتج قصيدة رثائيّة جيّدة إن كان المرثي ليس له علاقة مباشرة معه، فيجب أن يكون كلام الشاعر نابعاً من القلب حتى ينتظم معه الكلام والوزن الشعريّ بشكل جميل يعطي للقصيدة رونقاً خاصّاً بها، كونها نُظمت لأجل رثاء شخص له علاقة مباشرة مع الشاعر، لهذا يتميّز الرثاء بالعديد من الخصائص والمميّزات ومنها:

 نشر الشاعر لحزنه وشكواه إلى من يسمعه.

يجب على الشاعر أن يلقي قصيدته بشكل تفاعليّ حتى يشعر به المتلقي، ويتفاعل معه، وتصل إليه القصيدة بكامل مضمونها العاطفيّ المُحزِن.

 ثناء الشاعر ومدح الميت وذكر خصاله الحميدة.

 يحمل الكثير من المشاعر الصادقة والمؤثّرة في النفس عند سماعها.

عدم التصنّع في الشعر حتى لا تخرج القصيدة عن مغزاها الأساسيّ وهو رثاء الميت. تبدأ القصائد الرثائيّة غالباً بمخاطبة العين، وطلب البكاء منها على فراق الميت. اتجاهات الرثاء يتعرّض الإنسان لمواقف صعبة خلال حياته سببها الموت، ولم يستطع إيجاد حل لها سوى ندب مصيبته وذكر الميت، ومع تعدّد أسباب الموت واختلاف الظروف والأشخاص تعدّدت اتجاهات الرثاء، ويُذكر منها:

الرثاء السياسيّ: ظهر مع توسّع رقعة الدولة الإسلاميّة نتيجة لكثرة الحروب والقتلى.

 رثاء الرجل زوجته: أول من نظم قصيدة رثى فيها زوجته هو جرير بن عطية عام 1166 هجري، ويمتاز هذا الاتجاه من الرثاء بكثرة مشاعر الاشتياق والحنين والحسرة على فقد الرجل زوجته.

 الرثاء لأجل الفكاهة: هو أن يكون القصد من الرثاء السخرية والفكاهة لا التحسّر والحزن على فقدان الميت.

 ألوان الرثاء :

 يُعتبر الرثاء من التراث العربيّ الأصيل، ومن أكثر فنون الشعر صدقاً وعمقاً في التعبير، وغالباً ما تكون ألوان الرثاء مجتمعةً معاً لكن يغلب أحدها بشكل ظاهر، فيُسمّى العمل الشعريّ به، ويمكن التعبير عن الرثاء بثلاثة ألوان، وهي:

1-            أما الندب: فهو: بكاء النفس ساعة الاحتضار أو بعد الوفاة ، وبكاء الأهل والأقارب، وكل من ينزل منزلة النفس والأهل من الأحباء وأخوة الفكر والاتجاه والمشرب، بل يمتد إِلى رثاء العشيرة والوطن والدولة حين تدول أو تصاب بمحنة من المحن القاصمة المحزنة.

2-            وأما التأبين: فليس بنواح، ولا نشيج كالندب، بل هو أقرب إِلى تعداد الخصال الحميدة، وإِزجاء الثناء العطر، والتكريم للميت. إِنه تنويه وإِشادة بشخصية لامعة، أو عزيز ذي منزلة في عشيرته أو مجتمعه، وهو تعبير عن حزن الجماعة على الفقيد أكثر منه تعبيرًا فرديًا عن ذلك.

3-            والعزاء: هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين. إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت. تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني الوجود والعدم والخلود.

عيوب تُضعف شعر الرثاء  :

مما لا شك فيه أنّ لكل نوع من أنواع الشعر خصائص تميّزه، وأمور تُضعفه، وبما أنّ الرثاء نوع من أنواع الشعر التي اختصّت بمدح الميت فلا بد من وجود عناصر تعطيه بعض العيوب التي من الممكن أن تُنقص من قيمة الشعر الرثائيّ في حق الميت، ويُذكر من عيوب هذا النوع الشعري: عدم ذكر الميت بشكل يوفي حقه، والتقصير في ذكر مناقبه وصفاته وخصاله الحميدة، والتصنّع في الشعر، وعدم الصّدق في كلام الشاعر، ونظم الرثاء فقط للمجاملة والنفاق.

وممن اشتهر بالرثاء  عبر التاريخ :

-الخنساء وقد برعت من بين النساء في شعر الرثاء. و كانت على رأسهن، والتي اشتهرت برثائها لأخيها صخر.

-فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-، واشتهرت برثائها للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- .

-أبي ذؤيب الهذلي :وقد اشتهر برثاء أبنائه الأربعة .

وابن نويرة في رثاء أخيه مالكاً .

-وعلي الحصري القيرواني الضرير، وقد اشتهر برثائه ابنه عبد الغني فخصّه بمراث كثيرة جمعها في ديوان مستقل أطلق عليه عنوان: "اقتراح القريح واجتراح الجريح".

وقد برع في هذا الضرب من الشعر من القدماء والمحدثين الكثير من الشعراء مثل  الفارعة بنت الطريف في رثاء أخيها الذي قتله الحجاج، فقالت :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا       كأنك لم تجزع على ابن طريف

وما أروع رثاء المجاهد عصام العطار لزوجته الشهيدة بنان علي الطنطاوي إنه يذكرنا برثاء الشاعر الأموي جرير لزوجته أم حزرة بل إن المعاني التي أتى بها العطار أكثر نبلاً، وأقرب إلى الأخلاق وقيم الإسلام العظيم، وأكثر حرارة وصدقاً .

وطبيعي أن يتفوق النساء على أكثر - إِن لم يكن كل - الرجال في أشعار المراثي، تفوقًا لا نجده في فن آخر غير هذا الفن؛ ذلك أن المرأة بتكوينها النفسي والعاطفي والاجتماعي هي أكثر استعدادًا، فعاطفتها أسرع انبعاثًا وأعمق شعورًا، وقدرتها على البكاء وبعث مكامن الشجى واللوعة لا تدانيها قدرة الرجال.

وقد جمع لويس شيخو الأديب اللبناني الراحل كتابًا ضمنه ما فاضت به قرائح كثيرات في هذا المجال، وسماه ((مراثي شواعر العرب)) .

رثاء الأعلام في شعر محمد حكمت وليد :

وبعد هذه المقدمة نخلص إلى موضوع الرثاء عند شاعرنا محمد حكمت وليد ، فقد بكى الشاعر شهداء الجهاد ، وعلماء المسلمين، وبعض أصحاب الكلمة الطيبة ، وغيرهم، ونود في هذه العجالة أن نحدد ميزات قصيدة الرثاء عنده، حيث نجد للوهلة الأولى أن الرثاء يعكس صورة الإيمان الواعي الذي يستثمر الحزن للبناء، والموت للحياة، والذهاب للبقاء ، وهذا الاستثمار لم يأت من صورة مثالية لا أرضية لها في الواقع ، بل إنها تضرب بجذورها في الواقع، ولكنه الواقع المستمد من الواقعية الإسلامية التي تختلف عن جميع الآداب التي عالجت الواقع معالجة سطحية لا تنظر إلا إلى الواقع السطحي القريب ، وبالتالي تأتي معالجتها لا تتخطى اللحظة الزمنية القريبة دون ارتباط بما قبلها وبما بعدها .

إن الذين رثاهم كانوا من العلماء والمجاهدين والشهداء ، مع أن الشاعر محمد حكمت وليد يميل إلى المثالية إلا أنه شخصية متزنة لا ترتفع بمثاليتها ذلك الارتفاع الذي يعزلها عن الواقع ، وقد امتلك أدوات النجاح في ذلك الفن القريب من المشاعر والشجى والحزن، فالألم مدرسة القلوب، والشاعر محمد حكمت وليد إنسان مرهف الحس، رقيق الطبع، فياض المشاعر، وقد كان وفياً لدعوته محباً لإخوانه من أعلام الحركة الإسلامية وشهدائها الأبرار، يثني على من مات منهم، ويبكي على فراق الأحبة، وكان صادق العاطفة لا افتعال فيها ولا تصنع ..

 وها هو يرثي شاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري أحد مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة في سورية، كما يرثي العلامة الشيخ عبد الله ناصح علوان، ويثني الثناء الحسن على المجاهد الشهيد عبد الله عزام، والإمام أحمد ياسين، والقائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والطفل الشهيد محمد الدرة ..وغيرهم ، فالقائمة تطول .

ومما يلفت النظر في رثائه أنه (رثاء وجداني حركي متدفق المشاعر) ولا ضير في ذلك فهو ابن الحركة الإسلامية تربى في محضنها، وترعرع في حدائقها حتى صار رائداً لها في سورية .

وهو يرثي عن معرفة بأخلاق المرثي، ويراعي الاعتدال، فلا يفرط في الثناء حتى يخرج عن المألوف، فقصيدة الرثاء عنده ليس فيها التقصير المخلّ، أو التطويل المملّ .

 رثاء الشيخ الداعية عبد الله ناصح علوان :

ونأخذ الأمثلة من شعره، فها هو العلامة الشيخ عبد الله ناصح علوان- رحمه الله-، يرحل ، ويترك في الحلق غصة، وفي العين دمعة ، وفي القلب ألماً وحرقة، فيكتب الشاعر الإسلامي د. محمد حكمت وليد قصيدة في رثائه بدأها بالتصريع على عادة القدماء، يقول فيها  :

أبا   سعد  رحلْت  وكنت  فينا      مثالاً   للدعاة   ...   المخلصينا

بكى   لفراقك   الأحباب  طرًّا          حيَّاك      الهداة     المؤمنونا

تَفطَّر    قلبُهم    حزنًا    دفينًا        فاضت   عينُهم   دمعًا  سخينًا

عليك  سلام  ربك  في  البرايا          أشواق   الملائك  ...  أجمعينا

وعلى عادة القدماء يدعو الشاعر أن يسقي الله قبر العالم الراحل بالغيث والمطر .فيقول :

سقَتْ  عينُ  الغمام هناك رمسًا       مكة  ضم  ...  عينك والجفونا

ويا أرضَ الحجاز حييت أرضًا           ترابُك  روضة  ...  للصالحينا

لقد رحل الشيخ أبو سعد الذي كان مضرب المثل في الإخلاص والتفاني والتضحية والفداء؛ لذا حزن عليه جميع عارفيه ومحبيه، ويدعو له الشاعر، ويطلب لقبره السقيا وهطول المطر الذي يرمز للرحمة والخير والبركة ، ويلقي التحية على أرض الحجاز؛ لأن تربتها قد حوت قبور الصالحين والعظماء من أمثال الصحابة والتابعين والشيخ علوان.. ، ويتابع الشاعر قصيدته التي تتسربل بالرقة والعذوبة، فيقول :

أخا  الإسلام  كنت  أخًا  كريما      عند  مصابنا  قلبًا  ...  حنونا

رمَتْك   سهامُ  دهرك  بالرزايا        كنت   من   التقاة   الصابرينا

خرجتم   في  البلاد  مهاجرينا       هذي     سُنَّة    في    الأولينا

ونافحتم   عن   الإسلام  دهرا        صنتم  عرضه  ..  لغة  ودينا

لقد نافح الشيخ عبد الله علوان عن قيم الإسلام ومبادئه، وبقي ثابتاً على الحق حتى لقي جه ربه راضياً مرضياً نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، ولم يكن مثل بعض العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا، وكانوا من علماء السلطان وأعوان الظلمة:

وإن   رَكَنَتْ  إلى  الدنيا  دعاةٌ          أنت   من  الدعاة  ..  العاملينا

تقلَّبَتِ    القلوبُ    بنا   وكنتم           إلى   يوم  المنية  ..  صامدينا

أبا   سعد   رأيتك  ..  والمنايا            تصارعكم   فتصرعها   سنينا

إلى   أن  جاء  يوم  كان  فيه             قاؤكمُ       برب      العالمينا

تأذى   من   سهام  الداء  جسم      لكن    روحكم   كانت   معينا

ولم  أر  مثل عودك في البرايا               وى   ورسًا   وضوَّع  ياسمينا

ويناجي الشاعر ذلك الشيخ العالم، ويصور شجون الذكريات ووهج المشاعر، فيقول:

أبا   سعد   وللذكرى   شجون       هيَّج   في   مشاعرنا   الحنينا

فذكراكم   هنا   في   الخالدينا      حلت  عن  الديار  وأنت  فينا

وهكذا تأتي قصيدة الرثاء عند الشاعر محمد حكمت وليد مسربلة بالمشاعر، متسمة بالصدق ووهج الذات، وغنية بالعاطفة الجياشة، وثرية بالألفاظ التي جاءت فيها موحية معبرة، أما التراكيب فهي قوية متماسكة مترابطة يأخذ بعضها برقاب بعض .

رثاء الشيخ عبدالله عزام :

ومن رثائياته الرائعة ما قاله في رثاء الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، الذي قتل يوم الجمعة عام 1989م بعد أن اغتسل للجمعة، وارتدى ملابس جديدة لبسها للمرة الأولى، وجلس مع أبنائه لتلاوة القرآن، خرج الشيخ مصطحباً ابنيه محمد وإبراهيم إلى المسجد، وقبل أن تتجه السيارة إلى اليمين لتدخل الطريق المؤدي للمسجد، في هذه اللحظة تفجرت عبوة ناسفة أعدت قبل وقوع الحادث، ولم يكن مرّ على خروجهم أكثر من خمس دقائق ..

وها هو الطبيب الداعية (محمد حكمت وليد ) يكتب قصيدة من الشعر الحديث في رثاء أمير الجهاد عبد الله عزام، مهنئاً إياه على نيله الشهادة، وحصوله على منزلة الشهيد العالية، ذلك المجاهد الشهيد الذي تفنن في محاربة الكفر وقهره، فجاءت قصيدة محمد حكمت وليد متوهجة المشاعر، مشبوبة العواطف تمتاز بالصدق والحماس والثورة؛ لأنها تنبع من القلب، ويتجلى فيها الإحساس الصادق، والعواطف النبيلة، فيقول :

هنيئاً لكم تلكم المنزلة

وهل بعد نيل الشهادة من منزلة

لقد عشت فارس هذا الزمان

وسافرت بين صليل السيوف

إلى الأعصر المقبلة

وقارعت بين صهيل الحروف

ضلالات أيامنا الممحله

هنيئاً لقلبك ما أنبله

هنيئاً لفكرك ما أعقله

هنيئاً لمن كانت الحور أزواجه

وروض الجنان العلى منزله

الرزء الذي أصيب به العالم الإسلامي، وهو مقتل الشيخ المجاهد في نظرة شاعرنا الواقعية، المستمدة من التفسير الإسلامي لهذه المصيبة نراه في قصيدة شاعرنا مناسبة سعيدة لذا يبدأ قصيدته بالتهنئة، وهو يؤكد هذا المعنى مرات في مستهل كل نفس من أنفاس قصيدته مستمداً هذا المعنى من موعود الله للشهداء ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ...) .

حقاً إنه لا توجد منزلة تفوق منزلة الشهيد سوى منزلة الأنبياء والصديقين، إن الشهادة هي قيمة القيم وذمة الذمم، هذه صورة حقيقية وليست من وحي الخيال، فشاعرنا يستمد تصوره للحياة التي يعيشها الشيخ بعد مقتله من الحقيقة العليا التي يؤمن بها والتي تقلب هذه الواقعة الأرضية إلى واقعة إسلامية، فالشيخ من المؤكد أنه لم يمت، وبالتالي فلم يخطئ الشاعر ( وسافرت بين صليل السيوف إلى الأعصر المقبلة ) نعم إنه مسافر، ولم يمت، ويعيش في الأعصر المقبلة عيشة حقيقية، وبالتالي يستحق التهنئة؛ لأنه يعيش بين الحور العين في روض الجنان، إن الحالة التي رسمها القرآن الكريم (فرحين ) هي التي يترجمها شاعرنا في تشكيله الشعري .

  وإذا كان الطغاة قد قتلوا شهيد المحراب، فلن يقتلوا تلك المعجزة التي صنعها، ويستمر الشاعر في إيضاح ما حدث للشيخ المجاهد : إنه ليس موتاً بل قتل، ولئن نقله هذا القتل إلى عالم لا نراه، فقد خلف مقتله قنبلة في كل بيت سوف تفجر العدو، وخلف وراءه من يقاتلهم في كل مكان  :

لئن قتلوك

فلن يقتلوا فيك معجزة مذهلة

ففي كل دار زرعت لهم قنبلة

وفي كل ساح جلبت لهم مقتله

وقاتلتهم بالنداء المظفر (الله أكبر) ما أجمله

فراحوا يهيمون في كل واد

تطاردهم سورة الرعد والزلزلة

لقد قاتلهم في جميع الساحات الميدانية والإعلامية والفكرية، وقهرهم بنداء الله أكبر، فهاموا في الأودية الشعاب تطاردهم سورة الرعد والزلزلة .

والشاعر يحاكي الواقع في توظيفه للنداء العلوي (الله أكبر ) ، كما أن الانتقاء الناجح لسورتي الرعد والزلزلة يتناسب مع أجواء القوة والقدرة الإلهية التي فتكت بالأعداء ، ويتابع توظيفه الواقعي لهذا الحدث، فمن يحرص على الموت توهب له الحياة إنه يبين أثر هذا المجاهد في حياته وبعد مقتله، لقد ضرب لأرواحنا مثالاً واقعياً في كيفية التغلب على صعوبات الحياة ومواجهة العدو وعدم الاستسلام ورسم ذلك بصورة خيالية تقلب فيها الرمال والجبال إلى رياض خضر ولكن حينما يعمل المرء ، ويجد من أجل تحقيق هذا الهدف

لقد كان الشهيد كالشهاب الحارق فوق رؤوس الأعداء، فهو صاعقة مرسلة تحرق باطلهم، وإن باطلهم تحت قدميك أيها الإمام الشهيد عبد الله عزام :

لقد كنت كالسحب المرسلة

ففيها الرعود

وفيها البروق

وفيها الصواعق فوق العدا منزله

وفيها الحياة لأرواحنا المثقلة

تروي الرمال بأندائها

وتسقي الجبال بزخاتها

فتنجم في كل أرض سقت سنبله

فشهيدنا كالمزنة المحملة بالخير والعطاء والبركة، فيها حياة الأرض والقلوب والأرواح، تروى بأندائها صحراءنا القاحلة العطشى، وتشبيه الشاعر الشيخ بالسحب المرسلة يتكئ على الجملة الاسمية التي تقرر حقائق ثابتة لا تتغير تماماً مثل شخصية الشيخ المجاهد الذي ثبت على مبادئه ومثله التي آمن بها، لذا بقي أثر هذه المبادئ عاملاً ومؤثراً  حتى بعد مقتله ، يستخدم الشاعر الفعل المضارع المستمر لإظهار أثر مسيرته العطرة التي لازالت تعمل في عالم الأحياء (تروي –تسقي –تنجم ) ، كلها أفعال تدل على العمل والعطاء والجهاد والنماء .

ويستمر الشاعر في استثمار هذا الحدث ليوظفه توظيفاً واقعياً ناجحاً ، فينقل لنا لقطات شعرية سريعة من حياة هذا البطل المجاهد ترسم لنا طريق حياته التي تخلق تحدياً ذاتياً للأحياء في حياتهم التي ملئت بتوافه الأمور وسفاسفها عن معالي الأمور ومحامدها ، ولنقف وقفة متأنية مع حياة المجاهد في هذه السطور التي يختصر فيها حياة هذا المجاهد ،  لقد ساح الشهيد عبد الله عزام في البلدان يجمع التبرعات للمجاهدين، ويشرح للعالم قضيتهم العادلة، ويوقظ الغافلين، ويجند المجاهدين ، وينبه على الأخطار المحدقة بالأمة :

رفضت الحياة بعصر الهزائم

عصر الأراقم

عصر الشتائم

والقيم المهمله

ورحت تسافر بين العواصم

تستنهض النائمين بليل المآتم

تفتح باسم الجهاد قلوبهم المقفلة

وكنت تنام على صهوة من رصاص

وتصحو على شفرة المقصلة

الشاعر بكلمات موجزة ، وبأوصاف سريعة يبين حقيقة العصر الذي كان يحيا به الشاعر المجاهد، إنه عصر الهزائم والأراقم والشتائم، فما هو موقفه من هذا العصر ، لقد كان موقف الشيخ الرفض (رفضت ) ، إن فعله يأتي بصيغة الماضي ليبين عدم تردد البطل المجاهد وعدم تأثره بالأشخاص الذين يواجههم ( الأرقام ) هذا الرفض الذي لم يكن قائماً على شتم الظلام بل على الجهاد والعمل في وقت اليقظة والنوم ، على شفرة المقصلة ، والنوم على صهوة الرصاص .

لقد رحل الإمام الشهيد عبد الله عزام والأمة في شرقها وغربها بأشد الحاجة إليه وإلى أمثاله ، لقد فقدت أفغانستان الشهيد في أحلك الظروف هناك، ولكن للدين رب يحميه فقد جاء نصر الله سريعاً ، واندحر الروس بالخزي والعار، فانهارت دولتهم بعد أقل من سنتين من استشهاد البطل :

هدية حطين أنت إلى قندهار

وحطين معركة مقبلة

رحلت شهيداً

وكابول ترنو إليك بأعينها المسبلة

وأصبع كابول خلف الزناد

تقدم أكبادها للجهاد

وتنتظر الجولة المقبلة

لقد كان الشهيد صدوق اللسان، فصيح البيان، يخافه الموت، ويهرب الشيطان من فجه وطريقه، كان معجزة وشخصية ملحمية لذا نرى ختام قصيدة الشاعر يأتي ختاماً ملحمياً يظهر صفات هذا البطل ومصيره :

هنيئاً لكم تلكم المنزلة

وهل بعد نيل الشهادة من منزلة

لقد كنت دوماً

صدوق اللسان

بليغ البيان

رفيع السنان

يخاف الردى منك أن تقتله

لقد كنت رمحاً بصدر الطغاة

وسيفاً بزند الدعاة

فأكرمكم ربكم في الحياة

وأكرمكم بالممات

فسبحان ربي ما أعدله

ألفاظ الشاعر المنتقاة ترسم أجواء ملحمية بطولية ( الشهادة – رفيع – اللسان –يخاف الردى – تقتله – رمحاً يصدر الطغاة – سيفاً بزند الدعاة – الممات ) مع جزالة الألفاظ وفخامتها إلا أنها ترسم أجواء إيمانية رحبة يمتد معها الخيال في جنات الخلد لقد جاء التكرار لمطلع القصيدة في ختامها لا ليعبر عن حزن وألم بل ليؤكد المكانة التي حظي بها هذا المجاهد،  فهنيئاً للشهيد إنه يرتع في نعيم الخلد والفردوس:

هنيئاً لمن كانت الحور أزواجه

وروض الجنان العلى منزله

وهكذا نرى أن الشاعر يكتب شعر التفعيلة، ولكن دون أن يخلّ بالمستوى الفني للقصيدة، ويبقى محافظاً على الموسيقى، مهتماً بالبلاغة الفصاحة، ويبقى شاعرنا محمد حكمت وليد مجلياً سواء في الشعر العمودي أو الحر .

تحية لابن ياسين :

وما أدراك ما أحمد الياسين؟، إنه ذلك المقعد الذي هزّ الكون، وذلك الرجل المشلول الذي شلّ حركة اليهود، وذلك الإمام الذي أحيا الله به موات القلوب، فأسس حركة المقامة الإسلامية التي دوخت الاحتلال بجهادها، ناهيك عن عشرات الجمعيات الخيرية التي تهتم بالأرملة، والفقير والمسكين، والطفل اليتيم، لقد أسس الجامعة الإسلامية في غزة، والمجمع الإسلامي لدعم التعليم، وتحفيظ القرآن ورعاية الشباب ، ولم يهمل المرأة صانعة الأجيال ومدرسة الأبطال ...

وعندما لقي الله شهيداً عام 2004م دبّج الشاعر الإسلامي ( د. محمد حكمت وليد ) قصيدة جميلة في رثائه، يقول في مطلعها :

يا قلب زفّ التحايا لابن ياسين        وقل له مرحباً يابن الميامين ِ

شيخ كريم أبيّ النفس متشح         بصارم من سيوف الله مسنون

صقر به كبرياء ملء خافقه          ما ذلّ يوماً لأذناب الفراعين

طودٌ من الصبر ما فلّت عزيمته   أصفاد فرعون أو أغلال صهيون ِ

القلبُ في علل والجسمُ في شلل        لكنما روحه مثل البراكين

وما أروع هذا السجع التصريع، ولا سيما في قوله : القلب في علل، الجسم في شلل، ويشيد بصمود البطل السجين الذي أخاف الصهاينة، وهو الرجل المشلول، وإن مرض الجسم فسوف تبقى الروح شامخة عزيزة قوية :

فهل رأيتم سجيناً فوق مقعده يزلزل الأرض مــــــــــن تحت الصهايين

إن يمرض الجسم إن الروح ما مرضت كأنها في صباها بنت عشرين ِ

ما الورد حين يهزّ الروض في فرح والعطر يعبق مــــــــــن زهر البساتين

يوماً بأطيب عرفاً من شمائله  ولا بأطيب مـــــــــــــــــــــــــــــــــنه غيث تشرين ِ

يا من يعانقه حيناً ..ويلثمه   لا تثخنِ الظـــــــــــــهر طعناً بالسكاكين

أين المحبة في ذاك العناق إذا    لســـــــــــــــــــــــــــــــــعت أحبابه لسع الثعابين

أطعت فيهم عدوّ الله وانكشفت   تلك الأفاعيل أفعال الكواهين

فيا رقيقاً كسوه بالنياشين و يا طـــــــــــــــــــــــــــــــــــــليقاً بأصفــــاد ..الزنازين

جهاد الخنادق والفنادق :

وسار جنود ياسين والقسام على درب الجهاد، فكانوا كالصقور تنقض على فرائسها، إنهم روح جديدة تسري في شرايين الأمة :

سارت حماس على درب الجهاد     ولم تعبأ بما خبأت جند الشياطين

جنودها من صقور الحق ما عرفت     نفوسهم غير نور الحـــــق والدين ِ

هم في الخنادق لم تعرف خنادقهم     أهــــــــــــــــــــــل الفنادق تجّار الملايين

فيا دماراً لصهيون إذا انطلقوا    ويا خســــــــــــــــــــــــــــــــــاراً لفرعـــــون وقــــــــارون ِ

وفرحة المسجد الأقصى بعودتهم   كعــــــــــودة الدم يجــــــــــري في الشرايين ِ

يا قلب زفّ التحايا لابن ياسين ِ    وقل له أنت بالقــــــــــــــــــــرآن تحييني

وقل له إن في الأرواح ذكركم     أحلى من العطر في حقل الرياحين

وقل لمن شهد الإعصار مندفعاً   يا شاهد العصر اشهد يوم حطين ِ

لقد فرح الأقصى بعودة المجاهدين، وأخذهم زمام المبادرة، ويلقي التحية على الشهيد الذي أحيا الأمة بالقرآن، وترك ذكراً عطراً سمعة أحلى من الرياحين .

-على درب الشهادة :

ويمضي الشهيد عبد العزيز الرنتيسي على درب الشهادة الذي خطه، وسار عليه الشهيد حسن البنا، وشهيد القران سيد قطب، والشهيد عبد الله عزام، والشهيد عز الدين القسام، والشهيد أحمد ياسين، وفي الذكرى الأولى لاستشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتالته يد العدوان الاسرائيلي يوم 17 / 4/ 2014م خلال أقل من شهر من اغتيال الشهيد أحمد ياسين رحمهما الله، هذه المناسبة الحزينة أثارت مواجع الألم لدى الشاعر محمد حكمت وليد، فقال:

يسافرُ البحرُ في عينيك والشجن     متى تحطُّ بك الأمواج السفنُ

أما تعبتَ من الأهوال تركبها        أم أن شوقك لا يهدأ لا يهنُ

أيا شهيداً مضى في الدرب منطلقاً   الصبرُ عدّته والمركبُ الخشنُ

لقد سعى الشهيد إلى الجنان حيث رضوان الله ورحمته، أعدّ فيها لعباده مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ، لقد دفع الشهيد الثمن غالياً من دمه الزكي وروحه الطاهرة ، وكان شعاره : اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى :

طلبت جنات عدن في أصائلها           لو يعلم الحب العشاق ما الثمنُ

أرخصتَ روحك من أجل الوصول لها    فنلت ما تبتغي وارتاحت الظُّعُنُ

وصرتَ عند مليك لا كفاء له              ولا يُذّل له جارٌ  ولا سكنُ

وعلى عادة الشعراء القدماء يدعو  الشاعر ربه أن يسقي قبر الشهيد بالمطر الهطال، لقد حزنت جميع المدن والبلدان على رحيل البطل :

عبد العزيز سقتكَ الغادياتُ ضحىً    وفاضَ فوق ثراك الصيّبُ الهتِنُ

تبكيك نخلاتُ بغدادٍ  ودجلتها       وغوطة الشام والسودان واليمنُ

أيا طبيباً مضى من ذا يطببنا             والدارُ ينهكنا والذلّ والوهنُ

لا تسألِ العُرب فالأعرابُ قادتهم    مستسلمون وسيفُ العربِ مُرتهنُ

لا تسأل الطلل العافي ودمنته        لا تستجيب لك الأطلال الدّمنُ

في كل أرض ترى فرعون يحكمهم           ويستبدّ بهم في غله وثنُ

لقد رحل الطبيب الذي كان يداوي أجسادنا وأرواحنا بعلمه وفهمه وتقواه وجهاده،

ويطلب من إخوان الشهيد ألا يطلبوا النجدة والثأر من قادة العرب؛ لأن سيوفهم غدت خشباً ، فهي مرتهنة عند الأعداء ، كما يحث شباب الأمة بألا يطلبوا النخوة والمروءة من الأطلال، فالأموات لا يسمعون الكلام، ولا يجيبون النداء، ولا يفهمون الخطاب، (( وما أنت بمسمع من في القبور))، وليس أدلّ على ذلك من ركون تلك الشعوب إلى ظلم الفراعنة والطواغيت .

-دمعة أميرية :

نظم  الشاعر الإسلامي محمد حكمت وليد هذه القصيدة في رثاء شاعر الإسلام عمر بهاء الدين الأميري، فقال:

أبكي بك العلم أم أبكي بك الأدبا          أبا براءٍ فداك الدمعُ منسكبا

فدتك نفسي فداك الوجد في كبدي        فداك قلبٌ بغير الحبّ ما وجبا

بكتْ عليك عيونٌ كنت حبتها               كنت لؤلؤها المكنون والهدبا

بكى الفدا الندى والقلبُ أرّقهُ         فقدُ الحبيبِ الذي بالقلب قد ذهبا

من كان في فقدكم يرثي مواجعه          إني رثيت بك الإخلاص والأدبا

فهو يستهل قصيدة الرثاء بالبكاء والدمع وتصوير أحزان المحبين، ويقول : إذا بكى الناس حزناً على فقدكم فإني أبكي على الإخلاص الذي دفن معكم الأدب الرفيع الذي رحل برحيلكم، ثم يعدد مآثر شاعر الإنسانية المؤمنة، ويذكر دواوينه الشعرية فيقول :

سبّح (مع الله) أشواقاً مجنّــــــــــــــــــــــــــــحةً      واشرب بفيض (النجاوى) كأسها الحَبَبا  

قد كان حبُّ رسول الله يشغلكم     أكرم بحــــــــــــــــــــــــــــــب رســـــــــــــــــــــــــول الله منتسبا

رحلت عبرَ تخوم ٍلا حدودَ لها           شـــــــــــــــــــــــــــــــوقاً وذوقاً أرانا الحكمةَ العجبا

سقيتنا من عيون الشعر ما نضبتْ     كؤوســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها وعبيرُ الشَّهد ما نضِبا

فكلُّ بيتٍ سرى فينا كساجعةٍ           وكلُّ قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافية ٍ هبّتْ كريح صبا

لقد دبجت يراع الراحل قصائد لا حصر لها تنوعت موضوعاتها وأساليبها ففي ديوان ( مع الله ) ارتقى بشعره الإلهي – كما يقول العقاد – إلى مصاف روائع الشعر العالمي، وفي ديوان ( النجاوى) جاء مديحه للنبي - عليه الصلاة والسلام - أعذب من الشهد، وأحلى من العسل، وكذلك في بقية شعره تجد أعذب الأنغام، وأرقّ العواطف، وأجمل الموسيقا والألحان، فقوافيه كريح الصبا .

وكان الأميري حادي الشعراء والقدوة للدعاة فالشعر لديه رسالة وموقف والتزام ، يمتاز شعره الإسلامي بالواقعية والصدق، فهو قذائف تدمغ الباطل ومنارة لأهل الحق :

حدوت بالشعر للإيمان في زمـــــــــــــــــن ٍ    تاه الدليلُ به واعتلّ واضطربا

وكنتَ بالصدق نوراً يكشف الريبا      وكنت بالحق ناراً تقذفُ اللهبا

وخضتَ في لجج الآلام ما انقلبتْ     بك السفينُ ولا ميزانك انقلبا

فشعر الأميري نور يهدي، ونار تحرق الأعداء ..تعرض للمحن والسجن والابتلاء والغربة، ولكن لم يركع إلا لخالقه .

غادرتَ دنياكَ حراً صادقاً أربا          وكنتَ فيها مناراً شامخاً قُطُبا

من للسياسة يرقى في مسالكها       مَن للسفارة يرعى حقَّها دأبا

من للبلاغة يجني من أزاهرها          من للبيان يحلي وشيه الذهبا

لقد رأيتكَ ما داهنتَ مُغتصبا     وكنتَ دوماً عزيزَ النفسِ مُحتسبا

عرفت في هذه الدنيا منازلها       وأن من عاش فيها مات مُنتحَبا

فعشتَ في عزة فيها وفي كَبَدٍ      وعشتَ فيها طريدَ الدار مُغتربا –تراتيل للغد الآتي - ص 225.

ويشكو له ما حلّ بحلب وسورية شبابها المجاهد، وكيف اغترب الإخوان، وهجروا في جميع أصقاع الدنيا، ويبشره بانتصار الأفغان وهزيمة الروس، ثم يختم القصيدة بتهنئة أبي البراء بجواره لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول : 

أبا براء هنيئاً طيبُ جيرتكم             يا سعد من لرسول الله قد قربا

يا من بطيبة قد حلّت رحائله     من بعد ما طاف في الأقطار واغتربا

كأنني بك في حبٍّ تخاطبه           أيا رسول الهدى قد جئتُ مُنتسبا

أتيتك اليوم رُوحي سابقٌ جسدي       علي أنالُ بتلك الصحبة الأربا

 تراتيل للغد الآتي : ص 221 ، 228 .

 

 

 

-مرثية فارس لا ينام :

وكتب الشاعر قصيدة تحت عنوان ( مرثية فارس لا ينام ) في رثاء أبي ياسر خيرات جولاق مهّد لها بقوله : إلى الفارس الذي ولد حراً ، وعاش مجاهداً، ومات مهاجراً ، يقول في مطلعها :

تلبّد وجهُ السماء

بتلك الغيوم الثقيلة

وسالت دموع الغمام

عليك وكانت بخيلة

بكتك الرماح العوالي

وحدُّ السيوف الصقيلة

بكتك العيون الغوالي

وأجهش قلبُ الفضيلة

لقد صور الشاعر في مستهل قصيدته كيف شاركت الطبيعة الأمة في أحزانها على الراحل واستخدم التشخيص في بيانه حيث جعل الغمام والرماح وحد السيوف وقلب الفضيلة تبكي وهذه الصور تبعث في النص الحيوية والنشاط وتقرب المعاني المجردة إلى عالم الحواس، فما أجمل أن تبكي عيون الغمام البخيلة بالدموع وما أروع بكاء تلك الرماح العوالي والسيوف البتارة على ذلك الفارس المجاهد الذي لا ينام

والشاعر يعرف المجاهد الراحل منذ الطفولة، وعرف فيه معاني الرجولة والإباء

عرفتك منذ الطفولة

كريماً حليماً

تجسد فيك إباء الرجولة

عرفتك والظلم يطبق فوق البلاد

ليطفئ نور الجهاد

فأشعلت رغم الظلام فتيله

وأسرجت رغم العذاب خيوله

وقدمت عمرك لله

ترجو قبوله

وصف الشاعر جهاد الفارس الذي لا ينام، وكيف واجه الطواغيت في كل مكان وكيف أسروا ولده ياسر، وكيف عذبوه، فراح الأب الحنون ينتظر قفوله وعودته ولكن هيهات هيهات فسجون الأسد الداخل فيها مفقود، والغائب مطرود، وهاجر الأخ المجاهد ليعيش في بلاد الغربة، وراحت مخابرات النظام تطارده أنى توجه وحيثما سار :

بقيت تقاتل وحدك

والليل يرخي سدوله

تخلى الأقارب عنك

وخانتك كل القبيلة

خانتك كل الطرابيش

كل العمائم

لم يبق إلا صغارك

في وجه تلك الوحوش الوبيلة

وراح الأعادي بياسر

في ليلة ذات غمّ ثقيلة

وقد غرسوا خنجر الحقد بين الضلوع

ولم يرحموا قسمات الطفولة

صبرت

 وصابرت

حتى تفطر قلب الرجولة

وروحك تهفو لياسر

ترجو قفوله

وتنتظر الريح عبر السنين

عساها تجيء بريح الحبيب

فيرتد نور العيون الكحيلة

ويهدأ دمع الجفون الثقيلة

ويصف هجرة ذلك المجاهد الذي خرج من سورية أرض الرباط كالأسد الجريح الطريد، وكان جمع الخنازير يبحث عنه في كل مكان وهو يعمل لإعلاء دعوة الله دون كلل أو ملل فيقول :

خرجت طريداً

بدينك مثل الأسود الطريدة

وغادرت أرضك

نحو المنافي البعيدة

وجمع الخنازير يجري وراءك

مثل الوباء

بنفس حقوده

عبرت سهول الشمال

وجزت جبال الجنوب

وقلبك يجري إلى الله يلقى جنوده

وروحك فوق السحاب

تناجي بروق الغمام

وتهوى رعوده

وأحلامها بغدٍ مشرقٍ

أرق من الهمس بين الغصون

وأعذب من تمتمات القصيدة

ويسكب الشاعر الدموع الغزيرة ويعلن الحزن والحداد على رحيل صفي الروح وصديق العمر ويبين سبب حزنه عليه لأنه مات غريباً وحيداً طريداً

حزنت لموتك يا سيدي

حزنت لأنك مت وحيداً

غريب الديار

غريب اليد

وكنت إذا ما ادلهم الظلام

تلاقي السكينة في المسجد

وإن خمدت جمرات القلوب

براكين قلبك لم تخمد

رأيتك في النائبات

شموخاً على النازلة

تفرج أحزانها القاتلة

تكفكف دمع الحيارى

إذا اشتد هول المصاب

وطال الطريق على القافلة

لقد نزلت الأمراض بذلك الجسد النحيل فأصابه الذبول فتك به الداء الوبيل ولكن المجاهد كان صابراً محتسباً يصف الشاعر محمد حكمت وليد مرض المجاهد وصبره وثباته فيقول :

رأيتك تذوي

كنجم يلاقي أفوله

وأنت تصارع

داء وبيلاً

بروح نبيلة

لقد صرع الداء منك العظام النحيلة

ووجهك أبدى ذبوله

ولكن روحك كانت جليلة

تسبح دوماً بحمد الإله

وترجو إليه الوسيلة

ثم يختتم الشاعر قصيدته الرائعة بالدعاء وتوجيه التحية إلى شهيد الغربة أبي ياسر فيقول :

سلام عليك أبا ياسر

سلام على المكرمات القتيلة

سلام على النبل إذ كنت بين الأنام خليله

سلام على الطهر إذ عزّ بين الأنام

سلام على الصبر إذ مات بين الزحام

سلام على فارس لا ينام

وقلب طواه الرغام

وكان يرابط فوق الخيول الأصيلة

ليصنع فجر الليالي الطويلة

 – تراتيل للغد الآتي : ص 229

-     العمر يمضي :

وكتب الشاعر محمد حكمت وليد قصيدة في رثاء طه الفرج أبي إقبال، تطالع القارئ نفثة شعورية مؤمنة مسلمة أمرها لله، وهو يرثي في هذه القصيدة أحد إخوانه في الله ، والمعروف بـــــــ(أبي إقبال) يستهل مرثيته لهذا الأخ بأبيات تدل على التماسك والإيمان والتسليم ومواجهة النفس بنهاية الحياة مبيناً حقيقة الحياة وأن الإنسان نهاية حياته الأجل المحتوم :

تفنى الحياة وما يفنى بنا الأملُ      وكلنا للمنايا راكبٌ عجلُ

حتام تشغلنا بالعيش أفئدة      لها عن الموت في أهوائها شغلُ

هذي الحياة ستمضي في          أيان نسبقها والموعد الأجلُ

والعمر يمضي سريعاً نحو               وما براجعة أيامه الأول -- تراتيل للغد الآتي - ص 239

الأبيات تسيطر عليها النظرة المتأنية في حال الإنسان لهذه الحياة وانشغاله بها عن الموت الذي هو أجله المحتوم .

وبواقعية إسلامية ينقل لنا لمحات من حياة الفقيد، لا يحكيها من أجل التفجع والتوجع بل من أجل بناء المستقبل بالقدوة الحسنة الفاعلة التي كان يراها كل من يعرفها .

إن نشر الفضيلة والعمل على توطيد الخير في النفوس هو همّ الشاعر محمد حكمت وليد، لذا هو يأخذ بسنة الإسلام في ذكر محاسن الميت والثناء عليه بخير، إنه يذكر مآثره الأخلاقية ليفعلها بعد مماته كما كانت ترى ويقتدي بها أثناء حياته .

قد كنت فينا أبا إقبال خير أخ     وكنت أكرم من آووا ومن بذلوا

وقد شهدناك للخيرات مستبقاً    وقد شهدناك بالأخلاق تشتمل

وكنت فينا أخا حلم ومكرمة        وللمــــــــــــــروءات في أفعالهم مثلُ

قد كنت تعمل للإسلام مندفعاً     ولم تقـــــــــل عن أحبائي سأعتزلُ

من كان بالدين والإسلام مشتملاً    ففيصل القول في إيمانه العمل

صفات المرثي صفات مثالية شهدها الواقع، والواقع الإسلامي الذي سجل صفحات مشرقة لحياة كثير من العظماء المسلمين لا ينكر هذه الصفحة المثالية ولا يعدها ضرباً من الخيال، والشاعر يؤكد تلبس ممدوحه بهذه الصفات المثالية من خلال توظيفه الناجح للفعل الماضي كنت المكرر أربع مرات بشكل متوال إلى حد ما، وهو في ذكره للصفات الإيجابية للمرثي يأخذ بسنة النبي الذي بين أن شهادة المسلم لأخيه المسلم هي شهادة تطمح النفوس العالية إلى الحصول عليها عند الممات، كيف لا والمسلمون شهداء الله في أرضه .

وفي نهاية قصيدته يحكي الشاعر نهاية حياة هذا الرجل الفاضل الذي كان نبراساً يضيء وها هو ذا ينتقل إلى عالم الخلد، وها هي الملائكة تحف جثمانه ويغسل بالثلج الناصع، وحور تحتفل مبتهجة بقدومه .

حان الوداع أبا إقبال وانطفأت     تلك المجامر في الأرواح والشعل

إني أراكم في جنان الخلد أجنحة       مرفرفات وحور العين تحتفل

نم في سلام وأمن إن منزلكم         في كل قلب كريم صادق نزل

النظرة الواقعية الإسلامية للموت تجسدها ابيات الشاعر المتفائلة والواثقة بكرم الله، وهو يستمدها من الهدي النبوي، فقد ورد في الأثر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ) .

وهو يعتمد (التناص) في إجلاء هذه النظرة المتفائلة، ففي قوله بالثلج يغتسل مقتبس من الحديث المأثور (..واغسله بالماء والثلج )، والشاعر يحسن الظن بكرم الله لذا يذكر هذا النعيم، وتحكمه نظرته الواقعية الإسلامية تلك الواقعية التي لا ينفصل فيها الواقع الأرضي المنظور عن الحقيقة العليا المغيبة التي يؤمن بها، ويترجمها في شعره .

سراييفو لؤلؤة الثغور :

إن رثاء المدن فن من فنون الشعر العربي القديم ، فالشاعر العربي متمسك بالوطن منذ القدم ففي العصر الجاهلي قف الشعراء على الأطلال، وبعد أصبح العرب أبناء حضارة ومدنية وعمران واستقرار كان يتعلق بالمكان المقدس كالبيت الحرام ومكة والمدينة والقدس الشريف، ثم تعرضت البلاد للغزو المغولي والصليبي والحروب الداخلية وتعرضت تلك المدن العامرة للتدمير مثل خراب البصرة حيث رثاها ابن الرومي فأبدع، وأبكى، وأشجى، وجاء سقوط الأندلس التي رثاها أبو البقاء الرندي فكتب شعراً حرض فيه على الجهاد، ولكن كانت الأمة من الضعف بمكان فذهبت صيحته أدراج الرياح :

لكل شيء إذا ما تمّ نقصان     فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول     من سره زمن ساءته أزمان

 وفي العصر الحاضر دمرت مدن إسلامية وتعرضت للإبادة حيث بدأت مأساة البوسنة والهرسك عام 1992م على يد مجرم الحرب الصربي ( سلوبودان ) الذي صرح للعالم بأنه لا يهتم باي عقوبات لأن العالم الجديد لن يسمح بجمهورية إسلامية في البوسنة والهرسك ...

فراح جنود الطاغية يقتلون الأطفال والشيوخ، ويشنقون على وسائل الإعلام رجلاً في الأربعين من عمره من ساقيه، وعلقوه أمام منزله لمدة خمسة أيام، وكانوا يقطعون جزءاً من لحم كتفه وفي اليوم الخامس أشعلوا النار في رأسه، وهو لا يزال حياً ...

ولقد وقف العالم يتفرج على هذه المأساة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً ،وكأنما يقف أمام فيلم لا تخلوه مشاهده من العنف والقتل والفتن، ويقف شاعرنا أمام هذه المأساة متفجعاً فاقداً القدرة على التعبير عن ألمه لعدم جدوى التعبير هل يعبر بالبكاء وما جدوى الدموع أمام بحار الدماء المتدفقة يقول الشاعر :

أأبكي ؟

وماذا تفيدك تلك الدموع

أأشكوا ؟

وماذا تفيد شكاتي

وسيد كل القضاة خسيس وضيع

وجلادك اليوم فوق القوانين

فوق الجميع

أأسكب دمعي ؟

وكل التماسيح تبكي عليك بحار الدموع

بحاراً تزمجر بالنائبات

وليس بها زورق للنجاة

وزورق قلبي كسير القلوع

أبيات شاعرنا تحاكي الواقع الصليبي المؤلم الذي تكلم عنه (سلوبدان) إن تباكي مجلس الأمن وكذبه  ( كل التماسيح تبكي عليك بحار الدموع ) إنها دموع كثيرة، قرارات كثيرة، ولكنها (ليس بها زورق للنجاة ) .

ويستمر الشاعر في عرض شريط إخباري عن هذه المأساة، إن الواقع المظلم الذي يراه شاعرنا يعرضه دون تزوير، ومع خيانة الناصر والمعين من البشر إلا أن إيمان شاعرنا بنصر الثلة المؤمنة يواجه هذا الواقع المظلم بالحقيقة العليا بنصر رب البرايا العليم السميع، ولذا يواجه هذا الواقع بذكر الماضي فيزداد النفس المتصاعد المتفائل بغد مشرق، وتقف سراييفو بعزيمة ماضية أمام الطغيان تواجه، ويشتعل نبض الحياة

سراييفو كنت بريق التحدي بعين الصقور

وأجمل لؤلؤة في جبين الثغور

وكنت مضاء السيوف

ونبض العزائم ملء الصدور

وكنت ضياء الحياة

ونيل الشعور

لقد عبر الفاتح اليوم بين الثغور

كطيف به كبرياء العصور

فأبصر في القيد أبناءه

وأحفاده في المزاد الكبير

إن المصيبة التي يراها الشاعر تملأ نفسه باليأس لذا يهرب إلى الماضي الذي كانت عليه سراييفو أمام الفاتحين ، ويتكئ في استرجاع الماضي على الفعل (كنت)، وهو ينقلنا من الماضي الوضاء إلى الحاضر القاتم بالفعل الماضي أيضاً عبر الفاتح، وتستمر قصيدته، وتكاد تكون دفقة شعورية واحدة، ويظهر ذلك من الانسجام الظاهر بين الإيقاعيين النفسي والنغمي، والألم والكمد يكاد يماثل هذه القافية (الدال المقيدة ) صوتاً ورسماً .

مفاسد النظام العالمي الجديد :

ويدرك الشعراء الإسلاميون أن الغرب المادي يبيع دينه في سوق المكاسب، فللمعركة في البوسنة والهرسك وجه آخر هو المطامع، لكننا لا نلحظ تحليلاً لواقع المأساة من هذه الزاوية، وإبرازاً لمكايد السياسة، فقد طغت العاطفة الدينية على منطق الشعراء، ولم يلحظوا الأبعاد الخفية للسياسة الدولية، والمراهنات التي تعقد في الخفاء والتنافس على المكاسب، إلا أن الشاعر «محمد حكمت وليد» أشار في قصيدته «لؤلؤة الثغور» إلى مفاسد النظام الجديد.. فقال مخاطباً سراييفو:

سراييفو يا حرة في القيود

أعدت لنا ذكريات العصور الخوالي

وثار الجدود

لقد تركوك لفتك الذئاب وغدر العبيد

لقد طيعوا فوق جسدك نقش الصليب بقلب حقود

وأما بنوك من المسلمين فقد ذبحوك بذاك القعود

وأما النظام الجديد

فبأس شديد

حقد تليد

وأنت شهيدة عصر النفاق

وأنت الشهود

تعالي لنشهد موت الحضارة

مأتم ذاك النظام الجديد

منطق الظلم والغاب الذي تعيشه أوربا صاحبة ( النظام الجديد ) هو المنطلق الحقيقي الذي تحاول أن تخبئه عن العالم من خلال أعلامها الكاذب، ولكن مأساة سراييفو أبرزت هذا الوجه الحقيقي؛ إن الحضارة تموت أمام منطق الغاب الذي تظهر أحواله في ثنايا سطور شاعرنا المعبرة (فتك الذئاب – ذبحنا – القطيع ) :

سراييفو تمشين نحو الزمان الفجيع

تموتين ذبحاً

ونحن وراؤك مثل القطيع

نعيش على هامش العصر

خلف الجموع

لدينا الملايين ملء البنوك

اشترينا متاع الحياة

نريد شراء الكرامة

من ذا يبيع ؟ - تراتيل للغد الآتي : 149 .

ولم ينس الشعراء أن يدينوا العالم، ويستنكروا سوء موقفه السلبي من الجرائم المرتكبة في البوسنة، وكأن قيم العالم كلها التي دافع عنها عبر الزمن تهدر اليوم، وتذبح بتواطؤ عالمي تحت شعار قانون الغاب .

وأبيات الشاعر تظهر فيها الصراحة والقوة والواقعية في مواجهة الذات بعيوبها، إنه يضرب ذاته وقومه بسياط اللوم والتقريع، وهو في توبيخه يلفت الانتباه إلى الطاقات المضيعة : لدينا الملايين ملء البنوك – اشترينا متاع الحياة )، ويلفت نظر قومه إلى أهم شيء يجلي عنهم الواقع المقيت ( نريد شراء الكرامة من ذا يبيع

من الواضح أن الاستفهام الذي ختم به شحنته الشعورية الحينة أتى قوياً حاول أن يتغلب على الحن، وأتى مندفعاً حانقاً من وضع الأمة حاملاً في مبناه القليل ( من ذا يبيع ؟ ) إرادة الاندفاع والتغيير والثورة والمواجهة بجسارة وقوة، إن هول ما تشهده أرض سراييفو قد أعاق إلى حدٍّ كبير قدرات شاعرنا العقلية عن التفكير في حلول، لكن إيمانه بإمكان التغيير يختزله بهذا الاستفهام الاستنكاري المتفجع .

-ورود سليم :

وكتب الشاعر محمد حكمت وليد قصيدة في رثاء الشاعر الإسلامي سليم عبد القادر زنجير الذي رحل عن هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية عام 2013م جاء في مطلعها :

اذهبي واعبري السماء إليه             والثميه وقبلي ..وجنتيه

لا تقولي مضى ..فما غاب نجمٌ     لم يزل في القلوب نرنو إليه

لا تقولي هو غاب عنا ..سليم        وأديم الثرى ...أهيل عليه

ونلاحظ الشاعر وهو يكثر من الصيغ الإنشائية كالأمر ( اذهبي ، اعبري ، والثميه ، وقبلي ، ..) والنهي مثل ( لا تقولي ، وكررها مرة ثانية لا تقولي، ليؤكد على الفكرة ) ،  لقد ألمّ المرض بأبي الخير فهرع الشاعر محمد حكمت وليد لعيادته، وحمل معه باقة من الورد، فاعتذر الأخ سليم بسبب شدة الآلام، ونقل بعدها إلى الرياض، وهناك فارق الحياة، فذبلت الورود التي أعدها الشاعر هدية له، وراح الشاعر يخاطبها ، ويطلب منها أن تقبل وجه الراحل الحبيب، وألا تقول مضى، وغاب نجمه؛ لأنه ما زال يسكن بين الضلوع وفي سويداء القلب، ويتابع الشاعر قوله :

إنه الآن بين حــــــــــــــــــــــــــــــور وعين ٍ        ومقام تهفو النفوس إليه

غاب عن أرضنا وما غاب عنا         وأغـــــــــــــــــــــــــــاريده تدل عليه

كان حلماً فوق النجوم مضيئاً      لا يفتُّ الظلامُ في عضديه

كان الشاعر سليم عبد القادر حلماً منيراً يسبح في الأعالي، لا يؤثر فيه الظلم والظلام، عرف رسالة الشعر الهادف، ودوره في إصلاح المجتمع، والدعوة إلى العدل والسلام، ومقاومة السجن والسجان، وفضح الطواغيت :

ورأى شعبه ينوءُ ..بظـــــــــــــــــــــــــــــلم ٍ          فدعاه يرتاح في جفنيه

كان سلماً والسجن حربٌ عليه    كان حراً والقيد في معصميه

لم يهادن ولم يداهنْ ودرب الحـــــــــــــــــــ ـــــــــق شوكٌ يقتاتُ من قدميه

ولغير الله –جلّ ربي علياً              لم يُرَ ساجداً على ركبتيه

جنة َالشعرِ هل حننتِ إليهِ           وعرفتِ الأشواق في عينيه ِ

هل سكبت البريق في ناظريه         وسكبتِ الألحان في أذنيه

وسكبت الرؤى ربيعاً بهياً             كرؤى العندليب في جنتيه

لم يعرف الشاعر الراحل سليم زنجير النفاق والمداهنة، ولم يسجد جبينه إلا لخالقه ترك وراءه جنة من الشعر تشتاق إلى ألحانه العذبة :

باقة الورد إن وردك جو               ريٌّ شذيٌّ يختالُ في برديه

فاسكبي فوقه القوافي عطوراً       من شذى شعره أفيضي عليه

حكمة في بلاغة ..وخيال            عبقريٌّ سما إلى ..سيبويه

وقريض كالنبع ِعذبٌ نميرٌ            فاض من قلبه على شفتيه

ويناجي الزهرة ، ويطلب منها أن تسلم على الراحل الكريم

يا بنة الورد سلمي لي عليه        واحضنيه إن صرت بين يديه

واحمليه إلى الشآم عزيزاً             فوق غيماتها لتبكي ..عليه

أوصليه إلى الديار وقولي            جاءك اليوم من حننت إليه

جاءك اليوم عاشق مستهام ٌ        يحملُ الورد ..فاقبلي وردتيه

عشق الشام والورود ..فهيا          أقرئيه السلام من عاشقيه

لقد عشق الزهور والياسمين كما عشق الشام، ويحث الشاعر الورود أن تحمل الراحل إلى دمشق التي أحبها، وأحبته، وراحت تشتاق إليه :

يا لتلك الحياة ..فلم ٌ قصيرٌ             ينتهي حالما انتبهنا إليه

وأبو الخير منه مــــــــــا فرَّ يوماً              حاملاً روحه على كفيه

ربح البيع يا ســــــــــــــــليم وهذا       مقعد الصدق قد وصلت إليه

فهنيئاً جوار ربٍّ كريم ٍ               طالما كنتُ قد سعيت إليه – تقاسيم على قيثارة الوطن - ص 68، 69 .

لقد ربح البيع يا أبا الخير فهنيئاً لك مقعدك في الجنان في جوار رب كريم لا يظلم عنده أحد ، طالما جاهدت في سبيله، ودعوت إلى الله في الصباح والمساء، ورفعت شعارك الخالد ( الموت في سبيل الله أسمى أمانينا ) .

-لن ننسى :

 بدأت الانتفاضة في فلسطين عام 1987م بعد أربعين سنة على الاحتلال فكتب الشاعر محمد حكمت وليد ديواناً بعنوان ( تراتيل لانتفاضة الأقصى ) جسد من خلاله بطولات الشعب الفلسطيني ،وخلد الشهداء، فكتب قصيدة من شعر التفعيلة في رثاء الطفل محمد الدرة الذي استشهد في بداية الانتفاضة الفلسطينية، فكان رمزاً لبشاعة المؤسسة الإسرائيلية وهمجيتها ورمزاً لانكسار الأمة وهوانها :

لن ننسى دمك الغالي يا أغلى الولدانْ

لن ننسى صرختك الحرّى

تثقب سمع العالم .. تخترق الأزمان ..

لن ننسى الرّعب القابع في عينيك ْ

لن ننسى الوحش الصهيوني

يُصوّت نحوك كل رصاص الحقد الأعمى والأضغانْ

لم يرحم فيك براءة طفلٍ

لم يرحم فيك الإنسان

أمسكتَ بظهر أبيك كفرخٍ مذعورٍ بين العُقبان ْ

وأبوك يُنافحُ عنك ذئابَ الغدرِ

وغابت صيحته بين الذؤبانْ

ورصاص الحقد الأعمى

حولك ..فوقك ..تحتكَ

ثم انطفأ القنديلان المذعوران ..

وعلى الشاشة عينُ العالم تشهدُ موتَ الطفل

وجُرمَ القتل ِ..

وتشهد كيف تذوبُ شموعُ الحُبِّ

وتوقدُ نارُ البغضِ ..ويحترق الوجدان

ويؤكد الشاعر محمد حكمت وليد أن المذبوح هو الوطن، وليس الشهيد محمد الدرة فلقد ديست كرامة الأمة حتى راح شذاذ الآفاق يقتلون أطفالنا بين أيدينا، ونحن نتفرج، ولا نحرك ساكناً :

أمحمد ..لستَ الطفل المذبوح .. ولستَ القربانْ

أمحمد .. أنت الوطن المذبوح من الأغوار إلى بيسان

أمحمد .. أنت كرامةُ شعبٍ ديست بالأقدام وبا لخذلان

لن ننسى دمك الغالي يا أغلى الولدانْ

لن ننسى غدرُ بني صهيون ٍ ..وتطبيع العُربان

أعمى الذلُّ بصيرة عبدان التطبيع فساروا نحو الذئب

بأغصان الريحان

ذاكرة لتاريخ تُسجّلُ

والأيام حُبالى ..تحملُ بالبركانْ

لن تبتلعوا القدس ..

كفاكم بغياً ..

إن القدس ..ولحمَ القدس المرّ ..

سيقطع أمعاء الذؤبان ..

ويقسم الشاعر أن لحوم أهل فلسطين شديدة المرارة، وسوف تقطع أمعاء الذؤبان البشرية لأحفاد القردة والخنازير من اليهود وأعوانهم :

أقسمُ بالله الدّيانْ ..

لن ننسى دمك الغالي يا أغلى الولدانْ

لن ننسى كيف تُدنسُ أرض القدس ..

ويرقص فيها المخمورون ..

وكيف يهانُ الناس ..وتغتصبُ الأوطانْ

ويؤكد الشاعر بأن الأمة لن تنسى خسة أمريكا وعملاءها من خدام العم سام الذين خذلوا الشعوب المستضعفة، وباعوا الأوطان لأعداء الحرية الإنسان :

لن ننسى خسّة أمريكا

لن ننسى كل المأجورين من الأعوانْ

لن ننسى خسة من جرحونا جرحاً في الأعماق مدى الأزمانْ

ولن ننسى دم الشهيد محمد الدرة الذي لم يجف بعد ما دامت الأمهات تنجب الأطفال، وتصنع الرجال الذين يحملون راية العدل والقرآن :

لن ننسى موتك .. لن ننسى

ما دام بتلك الأمة ..طفل يحبو ..

أم تحمل ..ولد يقتل.. شيخ يخترق الإذعانْ

وشباب يفدي أرض القدس ..

ويحمل رايات القرآن .. –ص 87 – 90 من تراتيل لانتفاضة الأقصى .

لقد جاء موضوع الرثاء عند الشاعر ثراً غنياً قريباً من المشاعر تحلى بالواقعية الإسلامية وكانت ألفا الشاعر موحية معبرة رقيقة عذبة ملائمة للموضوع أما التراكيب فكانت قوية متماسكة يأخذ بعضها برقاب بعض كان خياليه محلقاً والصورة الفنية مبتكرة بعضها تقليدي قديم استطاع توظيفها ليرسم لوحة فنية رائعة ويدبج معانيه النبيلة بقالب فني جميل أخاذ وقد نوع الشاعر في الموسيقا الشعرية كما نوع في أساليبه الشعرية فكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة وكان مجيدا في كلا النوعين .

المراجع

1-لسان العرب -لابن منظور, كتاب الراء فصل(رثى) - صفحة149

2-معجم مقاييسُ اللّغة لأبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا الجُزْءُ الثاني كتاب الرّاء: ـ (باب الراء والثاء وما يثلثهما)‏ مقاييس اللغة الجزْء الخامس ص219

3-المعجم الوسيط ص46 إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار

4-المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام- لمقبول علي بشير النعمة- صفحة 13

5-الرثاء - للدكتور شوقي ضيف - ص:5

6-مراجع في رثاء الأندلس زمن المرابطين والموحدين

7-محمد، عبد الرحمن حسين: رثاء المدن والممالك الزائلة في الشعر الأندلسي حتى سقوط غرناطة، القاهرة/ مطبعة الجبلاوي،1983.

8-الزيات، عبد الله محمد: رثاء المدن في الشعر الأندلسي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي،1990.

9-الكافوين، شاهر عوض: الشعر العربي: في رثاء الدول والأمصار حتى نهاية سقوط الأندلس، أطروحة دكتوراه مقدمة في جامعة أم القرى،2002.

10-إبراهيم، عبد وهيب: شعر النكبة في الأندلس( من قيام دولة الموحدين إلى سقوط دولة بني الأحمر) رسالة ماجستير.

11-قاسم، فدوى عبد الرحيم: الرثاء في الأندلس عصر ملوك الطوائف، شهادة ماجستير،2002.

12-عبود، رعد ناصر: رثاء المدن في الشعر الأندلسي(عهد الموحدين) رسالة ماجستير.

13-المفلح، منى بنت عبدالله: رثاء المرأة في الشعر الأندلسي: عصر ملوك الطوائف والمرابطين : دراسة موضوعية وفنية ـ رسالة ماجستير.

13-مهجة الباشا: رثاء المدن والممالك في الشعر الأندلسي، شراع للدراسات والنشر، دمشق 2003 .

14- ديوان تراتيل للغد الآتي

15- ديوان تراتيل لانتفاضة القدس

16- تقاسيم على قيثارة الوطن

15-مقالة الواقعية الإسلامية في شعر محمد حكمت وليد – بقلم د. سمية الرومي – المنشور في مجلة الآداب بسوهاج في مصر – ع 33 – مجلد 1- ديسمبر 2012م .

وسوم: العدد 716