أصداء (الجهاد) في شعر د. محمد حكمت وليد

الجهاد في الإسلام :

الجهاد لغة : هو بذل الجهد في سبيل أمر ما .

وأما الجهاد اصطلاحاً : فهو قتال الكفار المعتدين بالسيف والمال والنفس ..

والجهاد في الإسلام على وجوه، منها:

أولاً: جهاد دعوة، وبلاغ:

جهاد دعوة وبلاغ، حتَّى تصلَ رسالة الإسلام إلى كل أذن سميعة، وحتى تبلغ أنواره كلَّ عين بصيرة، ثُمَّ الناس بعد ذلك أحرار في اختيار الدِّين الذي يحبون، والمعتقد الذي يريدون، وهذا الجهاد هو الأصل والأكبر والباقي في الأُمَّة ما بقيت السموات والأرض، في كل آن ومكان.

المنهج الدعوي كما رسمه، وحدد معالمه القرآن الكريم:

ظلَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة ثلاثةَ أعوام تقريبًا من بَدْءِ نُزُول الوَحْي عليه يدعو إلى الله - تعالى - سرًّا، وفي خفية، حتَّى نزل عليه أمينُ السماء جبريل - عليه السلام - بقول الله - تعالى -: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، وبقول الله - تعالى -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].

فقام - صلَّى الله عليه وسلَّم - من فوره، وتصدَّى للدعوة إلى الله جهارًا نهارًا باذلاً كل جهد ممكن في سبيل إبلاغ دعوة ربه، متحملاً كل أعباء الدعوة والرسالة ومشقاتها، صابرًا على ما يلاقيه من قومه من إعراض وعناد وسفاهة وأذى .

لقد شمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ساعد الجد، وخرج مجاهدًا في سبيل الله يدعو الناس إلى الإيمان بالله الخالق الرَّازق، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا شريك له في مُلكه، ولا منازع له في حُكمه، وإفراده بالعبادة والطاعة، ونبذ عبادة ما سواه من أصنام وأوثان، وإلى الإيمان باليوم الآخر وما فيه من مُساءلة، وحساب، وثَواب، وعِقاب، وإلى الإيمان بنبوته - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتصديق برسالته، وتبليغه عن الله، ملتزمًا بالمنهج الذي حدَّده له القرآن في تبليغ دعوته، ومجاهدة خصومه، والذي يَجب أن يلتزم به الدُّعاة من بعده في كل زمان ومكان، وألا يحيدوا عنه.

وتتَّضح حدود هذا المنهج، وتتبين ملامحه في قول الله - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

إن الدعوة إلى الله الواعية الذَّكية والبليغة المؤثرة، والتي تُؤتي ثِمارها - تتحرك في مجالات ثلاثة:

1- الحكمة:

وهي سَوق الأدلة، وإبراز الحجة، وإعمال الفكر، وإقامة البراهين، ومُخاطبة وإقناع العقل بعقائد هذا الدين، وجمع الناس عليه.

2- الموعظة الحسنة:

والمراد بها الكلمة البليغة المُؤثرة التي تصلُ إلى أعماق النَّفس، فتستثير العاطفة والوجدان، وتبلغ شغاف الجَنان، فتؤثر في القلب واللب؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63].

3 - المجادلة بالتي هي أحسن:

والمجادلة بالتي هي أحسن هي المُناقشة الهادئة للخصم، والمحاورة الهادفة التي يُرجى منها إيضاح الحقيقة، وكشف النِّقاب عن وجه الحقِّ، وتصفيته من الشَّوائب التي قد تشوه جماله، وتعكر صَفْو حسنه، لا المجادلة العقيمة التي يراد بها المغالطة والتضليل والغلبة وإفحام الخصم.

والدعوة إلى الله بهذا المنهج القُرآني الرَّباني هي أحد أسس التَّربية الإيمانية، التي كلف الله بها نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والدُّعاة من بعده، والهداة المصلحين من أمته.

وهى عُنصر مُهِم في مداواة الأمراض النفسيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقية، فإنَّ النفس البشرية مجبولة على الأنفة والكبر والإعراض والتمرد، فإذا لم يسلك الدَّاعية والمصلح معها الطريقة الحكيمة برفق ولين في معالجتها، تَمردت وعصت، فكان لا بد من التعامل معها برفق ولطف ولين، من غير فظاظة ولا تعنيف.

إنَّ الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن - هي التبشير والإنذار والتحذير، وسوق الأدلة في رفق ولُطف؛ حتَّى يتهيأ المدعُوُّ، وينشط لقبول الدَّعوة، ويستجيب لسماع النصيحة، ولقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثلَ الأعلى لهذا كله، وعلى سبيل المثال أخرج البخاري في صحيحه: ( 4817 ): عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصَّفا، فجعل ينادي:‏ ((يا بني فهر، يا بني عدي)) لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرجَ، أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أنْ تُغير عليكم، أكنتم مُصدِّقي))، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا،‏ قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))،‏ فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1 - 2].

وأخرج الإمام مسلم: ( 522 ) عن أبي هريرة، قال: لما أنزلت هذه الآية: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمعوا، فعم وخصَّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النَّار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسَكم من النَّار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النَّار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أنَّ لكم رحمًا سأبلُّها ببلالها)).

لقد بدأ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جهادَه الدعويَّ في تبليغ رسالته بدعوة أهله وعشيرته، وأقرب الناس إليه، فكيف كان الحديث معهم في إبلاغ الدَّعوة؟

لما اجتمعوا عليه، والتفُّوا حوله، سألهم في رفق ولطف: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أنْ تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلاَّ صدقًا)).

وهكذا أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدليل صدقه منهم، وأجراه على ألسنتهم؛ لتقوم الحجة منهم على أنفسهم، قبل أن يخبرهم بنبوته، فهو الصَّادق الذي لا يكذب بشهادتهم.

وما دام هو الصادق بشهادتهم، فمنطق العقل يوجب عليهم أنْ يسمعوا لقوله، ويصدقوا بما جاءهم به، ويؤمنوا بكل ما دعاهم إليه.

الله أكبر، هذا هو ذكاء النبوة، وتلك هي فطانة الدَّاعية في سَوْق الحديث إلى المخاطب، ومخاطبة المدعو، واستدراجه في إقامة الحجة على نفسه، ثم ماذا؟

هل سفَّه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحلامهم؟ هل سب آلهتهم؟ هل ذكر آباءهم وأجدادهم بسوء؟ هل رماهم بالكُفر والشِّرك من أوَّل لحظة؟ هل استثار مشاعرهم بكلمة نابية، أو أدمى أحاسيسهم بلفظة جارحة؟

اللهم لا، كلُّ ما في الأمر أنه بيَّن لهم أنَّه نذير بين يديه عذاب شديد، إنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعوهم من جانب الرَّحمة بهم، ويخاطبهم خوفًا من وقوع عذاب الله عليهم، ويُكلمهم من منطق الشفقة عليهم؛ حتَّى لا يقعوا في العذاب الشديد، فإنه رجلهم والصادق الأمين فيهم بشهادتهم، وإن الرائدَ لا يَكْذِبُ أهلَه.

وسكت القوم، ولم يجيبوا بشيء، ورُبَّما كانوا يفكرون في جدية ما جاء به ودعاهم إليه، غَيْرَ أن واحدًا منهم غلبت عليه جهالته، وأنطقته سفاهته، فقال له في غير مبالاة: ((تبًّا لك)).

يا سبحان الله! أهكذا يكون الرد على المبلِّغ الصادق، والداعية الناصح، والمنذر الرحيم الشفوق؟!

ومع هذا فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما ثَبَتَ عنه أنَّه قابل جهلاً بجهل، ولا ردَّ إساءة بإساءة، ثم ها هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعمم ويخص، ويحذرهم جماعة بعد جماعة، حتَّى وصل إلى أقربهم منه، وألصقهم به بضعته وريحانته السيدة الزَّهراء، فهي لا تستثنى من هذا التحذير، وذلك الإنذار: ((يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).

وبعد هذا كله، فسواء صدقوا أم كذبوا بما أخبرهم به، وسواء قبلوا وأقبلوا على ما دعاهم إليه، أم رفضوا وأعرضوا عنه، فإنَّ لهم رحمًا يصلها ولا يقطعها، ويحسن ولا يسئ إليها؛ ((غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا)).

الله أكبر، ما أعظمك وأكرمك يا رسول الله! وما أرحمك وأحلمك أيُّها الداعية الكريم! وما أذكاك وما أفطنك أيها المنذر الذكي الفهيم في كل كلمة نطقت بها، وفي كل لفظة تفوَّهت بها! وصدق الله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

الدعوة بالقرآن الكريم:

رأينا فيما سبق الداعية الأوَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أول لقاءٍ علني مع قومه، لم يزد عن كونه دعا وأنذر، ونصح وحذر، ثُمَّ ها هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخوض غمارَ الجهاد الدعوي داعيًا إلى الله، ومبلغًا رسالة ربِّه في حزم وعزم، وقوة وثبات.

وإذا كان سلاحُ المعركة في الجهاد العسكري هو السيف، يُقاتل به ولي الأمر الأعداءَ المعتدين، والظلمة المتسلطين، والكفار المتربصين - فإنَّ سلاحَ المعركة في ساحة الجهاد الدعوي هو القرآن يُجْهز به الداعية على الخصم في كلِّ ميدان من ميادين قضايا العقيدة والإيمان؛ يقول الله - تعالى - مخاطبًا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]؛ أي: جاهدهم بالقُرآن جهادًا كبيرًا، فالقرآن في يد الداعية هو سيفُ الجهاد الدعوي بالأمس، وهو أيضًا سيف الجهاد الدعوي اليوم وغدًا، وإلى أن تقوم الساعة.

لقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كل محفلٍ ونادٍ يتلو على قومه كتاب الله، به يبشر وينذر، وبه يذكر ويحذر، وبه يُحاور ويجادل؛ امتثالاً لقول الله - تعالى -: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].

وقوله - تعالى - على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19].

وأيضًا أسلوب الدَّعوة إلى الله لم يخرج عن المنهج الذي رسمه الله في كتابه في قوله - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

فإن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَحِدْ عن هذا المنهج قَيْدَ أنملة.

ثانيًا: جهاد عسكري قتالي:

وهو الجهاد المسلح ضدَّ قُوى الشرِّ والبغي الظاهرة، والمستعلية في الأرض، وهو بدوره ينقسم إلى:

أ- جهاد من أجل تأمين المجتمع المسلم، والحفاظ على سلامته وأمنه، ويكون لصد المعتدين، ورَدِّ ورَدْع المغيرين عليه، وكسر شوكتهم؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].

ويقول تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194].

ب- جهاد وقتال الطغاة والجبابرة الذين يستعبدون النَّاس، ويفرضون عليهم كُفرهم وشركهم، ولا يعطونهم حُرِّيتهم التي منحهم الله إيَّاها، وهي حق طبيعي لهم في اختيار الدِّين الذي يريدون، والمعتقد الذي يبتغون؛ قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193].

جهاد وقتال الناكثين أيمانهم، والغادرين في عُهُودهم، والطاعنين في الدين، والمشككين في عقائده، ولم يلتزموا معنا بميثاق، ولم يرقبوا في مؤمن إلاًّ ولا ذمة؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12].

جـ- جهاد وقتال من أجل تخليص الأقليَّات المسلمة المستضعفة الرَّازحة تحت ولاية كافرة، تُحاربها في دينها ومعتقدها، وتفرض عليها ضلالها وكُفرها، وتَحول بينها وبين القيام بأداء شعائر دينها؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12].

هذه هي مُبَرِّرات الجهاد العسكري القتالي، ومن هنا تسقُط المقولة المغرضة التي تشيع أنَّ الإسلام انتشر بالسيف، وأنَّ القتال شُرِعَ من أجل إجبار النَّاس غير المسلمين على الخروج من دينهم، وإكراههم على الدخول في الإسلام.

إنَّها فرية كسيحة لا تستندُ إلى دليل، ولا يشهد لها واقع صحيح، والقائل بها مُفترٍ أفَّاك مجافٍ للحق، ومُتفوه ببُهتان.

ثالثًا: جهاد تربوي إصلاحي:

وهو جهادُ قُوى الشرِّ الخفية داخل الإنسان، وغايته تزكية النَّفس، وتطهير القلب، وتصفية السِّرِّ بالأعمال الصالحة، ومداومة الطاعات، والبُعد عن المعاصي والمُخالفات، والتَّخلي عن الرَّذائل وذميم الصفات، والتحلي بمكارم الأخلاق.

إنَّه جهاد النفس الأمَّارة بالسوء، النَّزَّاعة للشر، جهاد الهوى الصَّارف عن طريق الله، والمبعد عن نورِ هُداه، حتَّى يصل العبد متدرجًا في مراقي الكمال إلى أسمى مَراتب الحب، وأعلى وأشرف منازل القُرب من الله الذي خلقه وسَوَّاه؛ يقول تعالى: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ﴾ [الحج: 78]، ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 10].

ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المجاهد من جاهد نفسَه في طاعة الله))؛ صححه الحاكم وغيره.

ويقول أيضًا: ((أفضل الجهاد أنْ يُجـاهد الرجـل نفسَـه وهواه))؛ صحيح الجامع الصغير.

الجهاد الدعوي في مكة:

الحقُّ أن الجهاد فريضة إسلامية من أول لحظةٍ بعث فيها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودليلنا على ذلك قوله - تعالى - مخاطبًا رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سورة الفرقان: ﴿ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]، وسورة الفرقان هي سورة مكية كما ذكر العلماء.

غير أن الجهاد الذي فرض بمكَّة هو جهاد الدعوة والبلاغ، وهو جهاد بالقرآن لا بالسيف، كما تدل عليه الآية السابقة: ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾؛ أي: بالقرآن.

وهو أيضًا الجهاد الكبير؛ كما وصفه الله - تعالى - في الآيات: ﴿ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾.

وهذا الجهاد الدعوي الكبير هو وظيفة الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - ومُهمته الأولى، ووظيفة الرسل من قبله حتَّى تقوم حجة الله على عباده؛ كما قال تعالى: ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].

كما هو وظيفة ومُهمة الدُّعاة المبلغين عن الله من بعده؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رُوي عنه: ((بلِّغوا عني))، أمَّا الجهادُ الذي فرض بالمدينة - وهو الجهاد العسكري القتالي - فجهادُ السيف، وهو جهاد المعتدين والمتسلطين من أعداء الله الكافرين، الذين لا يرعون في مُسلم ولا مسلمة إلاًّ ولا ذمة، جهاد الطاعنين في الدِّين والمُشككين في عقائده والسَّاخرين من شرائعه، والنَّابذين لعهود الأمة ومواثيقها، وقد شرع الله هذا الجهاد بعد أنْ قامت للمسلمين في المدينة دولة استكملت كلَّ مقومات وجودها، وهي: "دار الإسلام"، وهى المدينة المنورة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.

"المجتمع الإيماني الكامل"، ممثلاً في المهاجرين والأنصار.

"السلطة التنفيذية"، وهو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الإمام القائم بالأمر، والحاكم المنفذ لحدود الله.

بعد أنِ استكملت الدولة عناصرَها في المدينة جاء الإذن الإلهي للمسلمين بالجهاد القتالي، ونزل قوله - تعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].

ويَجْدُر بنا الآن أن ننبِّه إلى أنَّ كلا الجهاديين - الدعوي والعسكري - فريضة إسلامية مُحكمة في موضعه، وليس أحدُهما مغنيًا عن الآخر، ولا ناسخًا له؛ إذ لا دليلَ ولا برهانَ على النسخ، كما أوضحنا من قبل

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/publications_competitions/0/6515/#ixzz4gfEOKPf1

شروط وجوب الجهاد في سبيل الله :

الشروط الواجب توافرها في جهاد الطلب عشرة، هي:

(1) الإسلام: فلا يُقبل الجهاد من الكافر؛ لأن الجهاد عبادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف: 10-11].

وعن البراء -رضي الله عنه- قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ مقنّع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل وأسلم؟ قال: (أسلم ثم قاتل) فأسلم، ثم قاتل، فقتل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَمِل قليلاً وأُجِرَ كثيراً)[ 18 ].

وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ؛ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَانْطَلِقْ)[ 19 ].

(2) العقل: فلا يجب الجهاد على المجنون.

عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[ 20 ].

(3) البلوغ: فلا يجب الجهاد على الصبي الصغير.

والدليل حديث علي -رضي الله عنه- السابق، وحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: (عَرَضَنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فِي القِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي)[ 21 ].

(4) الذكورة: فلا يجب الجهاد على النساء، عن عائشة -أم المؤمنين رضي الله عنها- أنها قالت: يَا رَسُولَ الله، نَرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفَلا نُجَاهِدُ؟ قال: (لا، لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)[ 22 ].

قال ابن بطال رحمه الله: "عن عائشة رضي الله عنها، اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: (جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ)، وَقَالَ مرّة: (نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ)، هذا الحديث يدلّ على أن النّساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات في قوله: {انفروا خفافًا وثقالاً} وهذا إجماع من العلماء"[ 23 ].

وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولأنها ليست من أهل القتال؛ لضعفها وخورها"[ 24].

(5) السلامة من العجز: فلا يجب الجهاد على العاجز غير المستطيع بسبب علّة في بدنه تمنعه من الركوب أو القتال، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ*وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة: 91-92]. قال ابن كثير رحمه الله: "بيّن -تعالى- الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفكّ عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجِلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما؛ ولهذا بدأ به، ومنه ما هو عارض بسبب مرض عنَّ له في بدنه شَغَلَهُ عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره؛ لا يقدر على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا"[ 25 ].

وقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح: 17].

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أملى عليه {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}[النساء: 95] {وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: 95] فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملّها عليّ، قال يا رسول الله: والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان أعمى؛ فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي؛ فثقلت علي حتى خفت أن ترضَّ فخذي؛ ثم سُريَّ عنه؛ فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ})[ 26 ].

(6) القدرة على مؤنة الجهاد: من تحصيل السلاح، ونفقة المجاهد وعياله وغيرها، قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة: 91-92].

وفي هذه الأربعة الأخيرة يقول ابن حزم رحمه الله: "واتَّفقُوا أن لا جهاد فرضاً على امرأة، ولا على من لم يبلغ، ولا على مريض لا يستطيع، ولا على فقير لا يقدر على زاد"[ 27 ].

(7) الحرية: وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد.

عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَمَرَّ بِأُنَاسٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَاتَّبَعَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: فُلَانٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أُجَاهِدُ مَعَكَ. قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ سَيِّدَتُكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا، فَإِنَّ مَثَلَكَ مَثَلُ عَبْدٍ لَا يُصَلِّي إِنْ مُتَّ قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهَا، وَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ. فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَقَالَتْ: آللَّهِ هُوَ أَمَرَ أَنْ تَقْرَأَ عَلَيَّ السَّلَامَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتِ: ارْجِعْ فَجَاهِدْ مَعَهُ)[ 28 ].

(8) إذن الوالدين: وذلك للحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)[ 29 ].

قال ابن قدامة رحمه الله: "وإذا كان أبواه مسلمين، لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما، روي نحو هذا عن عمر، وعثمان. وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وسائر أهل العلم ... ولأن برّ الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين يقدم. فأما إن كان أبواه غير مسلمين، فلا إذن لهما، وبذلك قال الشافعي. وقال الثوري: لا يغزو إلا بإذنهما؛ لعموم الأخبار ... وإذا خُوطب بالجهاد فلا إذن لهما، وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركها، يعني إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر إذن والديه؛ لأنه صار فرض عين، وتركُه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله"[ 30 ].

وقال ابن حزم رحمه الله: "واتَّفقُوا أن من له أبوان يضيعان بِخروجه: أنّ فرض الجهاد سَاقِط عنه"[ 31 ].

(9) إذن الدائن: والأصل فيه حديث أَبِي قَتَادَةَ، (عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ)[ 32 ].

قال ابن قدامة رحمه الله: "ومن عليه دين حالٌّ أو مؤجل، لم يَجُزْ له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه، إلا أن يترك وفاءً، أو يقيم به كفيلاً، أو يوثّقه برهن. وبهذا قال الشافعي"[ 33 ].

(10) إذن الإمام: الأصل أنّ جهاد الطلب يكون بإذن الإمام وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبعث البعوث ويؤمّر عليهم.

قال ابن قدامة رحمه الله: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"[ 34 ].

وقد "صرح الشافعية والحنابلة بأنه يكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير المولى من قبله؛ لأن الغزو على حسب حال الحاجة، والإمام أو الأمير أعرف بذلك، ولا يحرم؛ لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس، والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد"[ 35].

الشروط الواجب توافرها في جهاد الدفع:

لا يشترط في جهاد الدفع ما يشترط في جهاد الطلب، إلا القدرة، فيجب على كل أحد أن يدافع بما يقدر، قال ابن تيمية رحمه الله: "أما قتال الدفع فهو أشدّ أنواع دفع الصائل عن الحُرمة والدين؛ فواجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان مِن دفعه، فلا يشترط له شرطٌ، بل يُدفع بحسب الإمكان، وقد نصّ على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم"[ 36 ].

وقال الكاساني رحمه الله: "فإذا عمّ النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل، فبقي فرضاً على الكل عيناً بمنزلة الصوم والصلاة، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها؛ لأن منافع العبد والمرأة في حق العبادات المفروضة عيناً مستثناة عن ملك المولى والزوج شرعاً، كما في الصوم والصلاة، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه؛ لأن حق الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم والصلاة، والله تعالى أعلم"[ 37 ].

وقال النووي رحمه الله: "ويجوز أن لا يَحُوجَ الْمُزَوَّجَةُ إلى إذن الزوج، كما لا يَحُوجَ إلى إذن السيد، ولا يجب في هذا النوع استئذان الوالدين وصاحب الدين"[ 38 ].

وقال ابن القيم رحمه الله: "فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد ... ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه"[ 39 ].

وقال ابن قدامة رحمه الله: "وأما إذا تعين عليه الجهاد، فلا إذن لغريمه؛ لأنه تعلق بعينه، فكان مقدماً على ما في ذمته، كسائر فروض الأعيان"[ 40 ].

إذن الإمام في جهاد الدفع:

إن كان للمسلمين إمام يمكن استئذانه فيجب؛ لأن أمر القتال موكول إليه، فإن لم يمكن استئذانه كما لو فاجأهم العدو فلا يجب استئذانه. قال الإمام أحمد رحمه الله: "إن كانوا يخافون على أنفسهم وذراريهم فلا بأس أن يقاتلوا من قبل أن يأذن الأمير، لكن لا يقاتلوا إذا لم يخافوا على أنفسهم وذراريهم إلا أن يأذن الإمام"[ 41 ].

وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولأنَّهم إذا جاء العدو: صار الجهاد عليهم فرض عين، فوجب على الجميع، فلم يَجُز لأحدٍ التخلف عنه، فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير، لأنَّ أمر الحرب موكولٌ إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين، إلا أن يتعذر استئذانه؛ لمفاجـأة عدوّهم لهم، فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليهم، لتعين الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لِقَاحِ النبي صلى الله عليه وسلم[ 42 ]. فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجًا من المدينة، تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع). وأعطاه سهم فارس وراجل"[ 43 ].

كذلك لا يجب استئذان الإمام في دفع الصائل، وهو المعتدي على النفس والمال والعرض، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ)[ 44 ].

فإن لم يكن للمسلمين إمام: فيجب على المسلمين أن يتخذوا أميراً أو قائداً لينتظم لهم أمر القتال، ويوحّد كلمتهم.

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "إذا عُدِم السلطان لزم أهل الشوكة الذين هم أهل الحل والعقد ثم أن ينصبوا قاضياً، فتنفذ حينئذ أحكامُه للضرورة الملجِئَةِ لذلك"[ 45 ].

وقال أبو المعالي الجويني رحمه الله: "لو خلا الزّمانُ عن السّلطان فحقٌّ على قُطّان كلّ بلدةٍ، وسكّان كلِّ قريةٍ، أنْ يقدّموا مِن ذوي الأحلام والنُّهى، وذوي العقول والحِجا مَن يلتزمون امتثالَ إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنّهم لو لم يفعلوا ذلك، تردّدوا عند إلمام المهمّات، وتبلّدوا عند إظلال الواقعات"[ 46 ].

1 - رواه البخاري، رقم (25)، ومسلم، رقم (21)

2 - رواه مسلم، رقم (1731)

3 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، (1/289)

4 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/2453)

5 - المحلى بالآثار (5/340)

6 - مجموع الفتاوى، (28/358)

7 - فتح القدير، (5/437).

8 - المحرر الوجيز، (2/289)

9 - الفروسية (1/188)

10 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، (2/558)

11 - أحكام القرآن للجصاص، (4/312)

12 - الفتاوى الكبرى، (5/539)

13 - رواه البخاري، رقم (2766)

14 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (7/98)

15 - رواه البخاري، رقم (1834)، ومسلم، رقم (1353)

16 - فتح الباري، (6/39)

17 - الجامع لأحكام القرآن (/151)

18 - رواه البخاري، رقم (2808)

19 - رواه مسلم، رقم (1817)

20 - رواه أبو داود، رقم (4403)، وأحمد، رقم (1362) وغيرهما

21 - رواه البخاري، رقم (2664)، ومسلم، رقم (1868)

22 - رواه البخاري، رقم (1520)

23 - شرح صحيح البخاري، (5/75)

24 - المغني، (9/198)

25 - تفسير ابن كثير، (4/174)

26 - رواه البخاري، رقم (4592)

27 - مراتب الإجماع (1/119)

28 - رواه الحاكم في مستدركه، رقم (2553)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي

29 - متفق عليه: البخاري، رقم (3004)، ومسلم، (2549)

30 - المغني، (9/208-209)

31 - مراتب الإجماع (1/119)

32 - رواه مسلم، رقم (1885)

33 - المغني، (9/209-210)

34 - المغني (9/208)

35 - الموسوعة الفقهية الكويتية (16/136)

36 - الفتاوى الكبرى (5/538)

37 - بدائع الصنائع، (7/98)

38 - روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 214)

39 - الفروسية (1/188)

40 - المغني (9/209)

41 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله، رقم (959) ص (259)

42 - اللقاح جمع لقحة، وهي الناقة اللبون التي ترضع صغيرها

43 - المغني (9/ 213-214)

44 - رواه مسلم، رقم (140)

45 - تحفة المحتاج في شرح المنهاج (7/261)

46 - غياث الأمم في التياث لظلم (1/386-387)

شعر الجهاد في الأدب الإسلامي :

كتب د. محمد بن سعد الدبل بحثاً قيماً عن شعر الجهاد في الأدب الإسلامي جاء فيه :

((شعر الجهاد في الأدب الإسلامي ممتد الرُّواق مِن عهد النبوة المحمدية، وعهود الخلفاء الراشدين، وسلف الأمة مَن اقتدى بهَدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطبق القرآن الكريم والسنة النبوية منهجًا وشريعة ونظام حياة.

وشعر حسان بن ثابت سجل حافل لغزوات الرسول من بدر ورثاء الحمزة وشهداء أحد، وفتح مكة التي يقول فيها :

عدمنا خيلنا إن لم تروها       تثير النقــــــــــــع موقعها كداءُ

يبارين الأسنة مشرعات      على أكتافها الأسلُ الظماء

إلى آخر تلك القصائد التي تفيض بمشاعر الحماس والثورة والجهاد ضد المشركين .

إن على مؤرِّخي الأدب في العصر الحديث، وعلى نُقاد الشِّعر أن يَقفوا وقفة طويلة متأمِّلة في ذلك العطاء الذي حفظته لنا كتب التاريخ والسِّيَر ودواوين الشعراء، على هؤلاء جميعًا أن يفسحوا في تاريخهم التحليلي فيوجدوا مجالاً لشِعر الدعوة الإسلامية تحليلاً وتفسيرًا ونقدًا هادفًا بَنَّاءً، وأن يتجاوزوا دواوين الشعراء إلى أمهات كتب التاريخ، فلسوف يجدون كثيرًا مما قيل في شِعر الفتوح الإسلامية، وفي غزوات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وفي غزوات خلفائه، وفي معارك الحروب الصليبية وفي الحرب المعاصرة بين المسلمين وأعداء الإسلام، وسوف يَجدون في هذا اللون مِن الشعر - أعني شعر الجهاد - سوف يجدون ما يبرز قيم الإسلام، ويُذكي في أرواح الشبيبة المؤمنة معاني البطولة والفداء للإسلام ومجد الإسلام وللمسلمين جميعًا في كل أرض،....) .

وكتب د. وليد قصاب – حفظه الله -  يقول عن أدب الجهاد والمواقف الإنسانية فيه :

(ازْدَهَر أَدَب الحَرْب - "الذي صار أدبَ جهادٍ بِمَجيء الإسلام" - ازْدِهارًا شَدِيدًا، وصَارَتْ لهذا الأدب طَوَابعه وَسِماته المميّزة، وكان ازدهاره بسببِ خُرُوج المسلمين؛ لِنَشْر دينهِم، والجهاد في سبيل الله؛ لإعْلاءِ كلمة الله، وقد رَافَقَ الأَدَبُ الفُتُوحات، ومضى الشعر خاصَّة يسجل كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من شُؤُون المقاتلينَ، وَيَتَجَنَّد لِخِدمة معركة الإسلام، وما رافَقَها من بُطُولات، وأمجادٍ، وأحداثٍ.

ولكن شعر الجهاد في تُراثنا الأدبي الإسلامي، لَمْ يَتَوَقَّف عند وصف المعارك، أو حث الجُنْد على القتال، أو تَعْبِئة الرُّوح المَعْنَويَّة في نفوسهم، أو تَخْليد أبطال المَعَارِك وقادتها، أو هِجاء الخُصُوم والتَّحذير مِن مَكْرِهم وموالاتهم، أو رِثاء الشُّهداء، الذين كانوا يَتَساقطونَ دفاعًا عن دين الله، وشَرَف الأمَّة؛ بل جَمَع إلى هذه المعاني الجهاديَّة النَّبيلة ألوانًا منَ المَوَاقِف العَسْكَرِيَّة الإنسانيَّة، التي تمسُّ شغاف القُلُوب، وتصدر عن إيمان حارٍّ، ويقينٍ صادقٍ..)) .

وقد دوّن الأدباء والنقاد عدة كتب عن شعر الجهاد في الحروب الصليبية للدكتور محمد علي الهرفي .

وشعر الجهاد في عصر الموحدين ، للدكتور شفيق الرقب، وأصداء الغزو المغولي في الشعر العربي ، للدكتور مأمون جرار، وكتب الدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي عدة أبحاث عن شعر الجهاد في الحروب الصليبية وغيرها، وقد أجاد الأخوان د. محمد رجب البيومي، ود. عبد القدوس أبو صالح فجمعا كتاباً تحت عنوان (من شعر الجهاد في العصر الحديث ) .

 ولقد تخيَّرت بعض النماذج مِن شعر الجهاد في العصر الحديث، ناهيك بما تزخر به كتب الأدب من نصوص ذات مدَد فياض مِن هذا الشعر.

ولنَستمتع الآن بقول شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة "أحمد محرم" من قصيدته "إيطاليا في طرابلس" جاء في مطلعها :

كيف القرار ونار الحرب تَستعِر      والهول مُضطرم البركان مُنفجِر؟

ويحَ العيونِ أيغشاها النُّعاس وقد  شفَّ الهلالَ عليها الحزن والسهر؟

يَبيت يَخفق مِن خوف ومن حذر     حران يَرقُب ما يأتي به القدر

ريع الحطيم فأمسى وهو مُنتفض    وأقلقت يثرب الأحزان والذِّكَرُ

ويح الحجيج إذا حانتْ مناسكهم  ماذا يرى طائف منهم ومعتمر؟

أيطرَب البيتُ أم تبكي جوانبه    حزنًا ويُعوِلُ فيه الركن والحجر؟

أين ابن عم رسول الله يُطفئها  حربًا على كَبدي مِن نارها شرر

أين "اللواء" وخيل الله يبعثها     عمرو ويَصرُخ في آثارها عمر؟

أين المعامع ترفضُّ النفوس بها  هلكى ويَستنُّ فيها النصر والظفر

أين النفوس ترامى غير هائبة    أين العزائم تَمضي ما بها خوَرُ؟

إليك - ربي - ولا منٌّ عليك بها  فما لنا دون ما تَبغي بنا وطر

أين التواريخ تُستقصى عجائبها  وأين ما وعَتِ الآثار والسير؟

حرب بلا سببٍ ماجَت فيالِقُها   فالبرُّ يرجُف والدأماء تَستعِر

يا موقد الحرب (بغيًا) في (طرابلُسٍ)  بأي عذر إلى التاريخ تَعتذر؟

أذاك والعصرُ عصر النور عندكم  فما يَكون إذا ما اسودَّتِ العصُر؟

أين الألى زعموا الإنصاف شِرعتهم  وقام قائمهم بالعدل يَفتخِر؟

يا أكثر الناس إنصافًا ومعدلة   العدل يُصعَق والإنصاف يُحتضر

نعمَ الشريعة ما سنَّت حضارتكم   الحق يُخذل والعدوان يَنتصِر!

لسنا وإن عزبَت أحلامنا وخوَتْ  مِنا الرؤوس بقول الزُّور نَنبهِر

متى أرى الجيش والأسطول قد شَفيا داء الذين زجرْناهم فما ازدَجروا

داء الحضارة في أسمى مراتبها  فما على الكلب أن يَعتاده السَّعَر[1]

إن هذه النغمات الإسلامية للشاعر أحمد محرم تغري بنا إلى المضي مع الجهاد الإسلامي المُظفَّر عبر التاريخ الحافل الطويل؟

[1] شعر الجهاد في العصر الحديث (ص: 50) وما بعدها، جمع د: عبد القدوس أبو صالح، والدكتور محمد رجب البيومي.

أصداء الجهاد في شعر د. محمد حكمت وليد :

تناول الشاعر محمد حكمت وليد عدة موضوعات في شعره، فهناك الاتجاه الإسلامي، وشعر الجهاد هو ذروة سنامه، وهناك شعر القضية الفلسطينية، وأفغانستان، والبوسنة والهرسك ، ثم جاءت (الثورة السورية) ...وسوف نقف عند هذه الموضوعات جميعاً في بحثنا هذا .

الجهاد هو السبيل :

يرى الشاعر محمد حكمت وليد أن الحياة بغير الجهاد هي الذل بعينه، فالجهاد خير من استجداء السلام من الشرق والغرب يؤكد الشاعر هذا المعنى، فيقول مستنكراً على قومه وأبناء أمته :

أتبغون الحياة بلا جهادٍ        وتبغـــــــون الديارَ بلا قتال

وتستجدون أمريكا لتقصي      نتنياهو وأمــــــــــــــريكا تُمالي

هي الأحلام فارتاحوا عليها    وناموا نوم ربات الحجالِ

وأعلوا في أراضيكم قصوراً         مشيدةً وفيئوا للظلالِ

والاستفهام في قوله (أتبغون الحياة بلا جهاد) يفيد الإنكار والتهكم، وصيغ الأمر الكثيرة تدل على ثورة العاطفة وروح الغضب لدى الشاعر (فارتاحوا، ناموا، وأعلوا ، وفيئوا...)، وهي تدل على السخرية والتهكم أكثر مما تفيد الطلب .

إن إيمان الشاعر العميق بالله منحه روحاً عزيزة قوية تواجه ما يعرض في حياته من صعوبات وملمات، يقول في قصيدته (سياسة القيعان المتلاحقة ) داعياً إلى رفض حياة الذل والهوان، كما أنه يدعو إلى (الجهاد) فهو السبيل الوحيد لحياة العزة والكرامة، وفيه الدواء الشافي لأمراضنا التي استعصت على الأطباء :

إلامَ الذل يا أبناء قــــــــــــــــــــومي      وفي أخلاقكم طيبُ الخصالِ

إذا لم تستطيعوا كسب سلم        يشـــــــــــــــــــرفكم فعودوا للقتال ِ

ففي سيف الجهاد سبيل عزّ       وفيه الطــــــــــب للداء العضال ِ

وفي ظلّ الجهادِ جنانُ عدنٍ       ووعدُ النصرِ من ربّ الجلالِ - ديوان تراتيل لانتفاضة الأقصى : ص 40، 41 .

وكيف لا يمجد الشاعر (الجهاد) ، وشعاره في الحياة : ((الجهاد سبيلنا ))، ((والموت في سبيل الله أسمى أمانينا))، ولكنه جهادُ الأبطالِ الشرفاءِ الذي يحيي الأمة حياةً طيبةً، ويعيد مجدها وكرامتها، وليس فيه ظلم وعدوان على الضعفاء والشعوب البريئة المقهورة .

ويضمن الشاعر البيت الأخير معنى الحديث الشريف ( واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) ، ويا له من معنى كريم يعيد المجد للمسلمين .

وأبيات شاعرنا تترجم العزة التي تمنح المؤمنين الصادقين الثقة بموعود الله، في المواجهة، وهي تترجم عن كبرياء محببة تعتز بالذات مهما كانت قوة العدو، وهذه الكبرياء تدفعه ليعبر عن رسالته في الحياة رسالته التي يحملها قلمه المعبر عن أصالته ومحبته للحرية ومعالي الأمور وابتعاده عن الغزل المبتذل، يقول معبراً عن ذلك في قصيدته : (قلمي ) :

لا تراعي ليس هذا قلمي       قلمي حرّ ويفــــــديه دمي

قلمي ما باع يوماً شعره        لبغي ..أو شــــــــــــــقي مجرمِ

لا يبالي وهو في إقدامه       سلمت روحي أم لم تسلم ِ

فالشاعر يقدم دمه وروحه فداء لدعوته وفكره، ويرفض بيعه للطغاة والبغاة والأشقياء، ويجعل من دمه مداداً لهذا القلم المكافح المناضل، وهذا هو (جهاد الكلمة) .

وفي مقابل هذه الروح المعتزة العالية نجد روحاً متواضعة للصغير والكبير والقريب والبعيد، فقد امتلأ قلبه حباً ووفاء وحناناً وعطفاً على كل من حوله، وشعره الأسري يترجم عن هذه الروح الرقيقة والإحساس المرهف ..، ولكل مقام مقال .)) . الواقعية في شعر د. محمد حكمت وليد : 23 .

التحريض على الجهاد والثورة :

بعد أن أفلست جميع محاولات السلام وبعد جميع محاولات تمييع قضية فلسطين وبيعها لم يبق أمام المسلمين سوى طريق الجهاد.

 فهو الطريق الوحيد لاسترجاع الحقوق، وما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة :

قولوا بربكم متى تتحركون ؟

ومتى بأخطار اليهود ستشعرون

وإلى متى الأعرابُ يقتلُ بعضهم بعضاً

وإسرائيل تسرق أرضهم ومياههم

ونخيلهم وديارهم

وتسومهم ذل الهوان فيسكتون

ويشيدُ الشاعر بثورة أطفال الحجارة، ويمجد تلك البطولات الجماعية لشعبنا الفلسطيني المجاهد، فيقول :

بالله أهل الانتفاضة

أيها الفرسان في زمن العثار

يا من نفضتم عن مصاحفنا الغبار

وأزلتم من قلبنا المكسور ذل الانكسار

وبعثتم الأمل الكبير إلى القضية عند دور الاحتضار

يا من يرون النصر يأتي في الملمات الكبار

وصهيلُ جيش محمد قد عادَ في وضح النهار

تمجيد الشهداء :

ويشيد الشاعر ببطولات الشهداء الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله ودافعوا عن الوطن كما أمرهم ربهم :

يا أيها الشهداء في زمن الهزائم والمنون

يا رائحين إلى الجنان لمن فؤادي تتركون

هلا تحدثتم إلينا عن منازلكم وعما تكرهون

إني أراكم في الجنان مع الملائك تنعمون

وثيابكم من سندس

وقطوفكم داني الغصون

وكؤوسكم بالزنجبيل مزاجها

والماء كالمزن الهتون

ويمجّد الشاعر (محمد حكمت وليد) شهداء فلسطين الذين رووا بدمائهم ثرى فلسطين الطاهر من أمثال :أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وفتحي الشقاقي، والطفل محمد الدرة، وقد سبق لنا أن تحدثنا عن هؤلاء الشهداء الأبرار، ونؤكد هنا أن استشهاد فتحي الشقاقي كان في مالطة عام 1995م، ويعيب الشاعر على حكام العرب الذي أثنوا على (إسحاق رابين) المجرم، ومدحوه بما لا يستحق في حين أهملوا رثاء الشهيد فتحي الشقاقي -رحمه الله تعالى- :

(فتحي) مضى يشكو لبارئه       غدرَ العدوّ وبطش المستبدينا

قد كان قاتله هذا الذي نظموا     في مدحه اليوم أشعار المحبينا

رابين ذئبٌ عدو كاشح أشرٌ         فما لأشياعنا صاروا روابينا

فتحي الشهيد جنود الله ما وهنت   وما تزال تنادينا مواضينا

ويشيد الشاعر محمد حكمت وليد ببطولات الشهيد فتحي الشقاقي –رحمه الله -، ويثني على أخلاقه وسجاياه، فيقول :

يا فارساً في جبين الشمس منتصباً       ينور الدرب في داجي ليالينا

يا نخلةً سمقــــــــــــــــــــــــــــــتْ في بيد أمتنا        ودمعــــــــــــةً ظللت أرض النبيينا

إني لأرقبُ في الأجواء ملحمةً         وأرقبُ الأرض قد ثارت براكينا

وأرقب ُ القدسَ هبّت من سلاسلها   وأرقبُ الجرحَ في الأقصى يُنادينا

لبيك يا قدس إن عزّت مُصيبتنا         نحـــــــــــــــن الحُماةُ إذا عزّ المحامونا

ها صفوةُ الخلق قد عادت لخالقها   الناسُ خلفَ الهُدى ساروا ملايينا

وغضبةُ الحق يا قُدساه قادمة ٌ          تحكي لنا عين جالوتٍ وحطينا

من كان ينسى فلسطيناً صخرتها    هيهاتَ هيهاتَ أن ننسى فلسطينا –نفسه : 70 ، 71 .

إن الشاعر ينذر الصهاينة من الغضب القادم ، ويؤكد لهم أن القدس لا يمكن لمسلم أن ينساها ، وإن المجاهدين وهم صفوة الخلق يعدون العدة للمعركة الفاصلة التي تشبه معركة عين جالوت وحطين .

الأمل والتفاؤل :

ويبقى الشاعر الإسلامي محمد حكمت وليد متسلحاً بالأمل والتفاؤل، فالأحرار ما زالوا يغرسون رمحاً في صدر الأعداء، ولم يركعوا لغير الله، لذلك فهم العدة في وقت الشدة، وهم لأمل بالنصر المحتم - إن شاء الله تعالى- :

يا أيها الأحرار في زمن السلاسل والسجون

يا من غرستم في فؤاد القهر رمحاً كاد يسقيه المنون

لم تجلسوا يوماً على باب الأعادي تحلمون

ركع الأكابر والأصاغر عند أرباب الهوى

لكنكم لا تركعون

أنتم صهيل النصر

أنتم كبرياء الجرح

أنتم تؤمنون

أن اليهود بأرضنا قوم غزاة عابرون

وسحابة صيفية

جاءت لترحل

مثلما رحل الغزاة الأولون – تراتيل لانتفاضة الأقصى : ص 23 ، 24 .

فضح جرائم الصهاينة :

كتب الشاعر محمد حكمت وليد ساخراً متهكماً من (إسحاق رابين) الذي منح جائزة نوبل للسلام بينما طائراته وجنوده تقتل الطفلة إيمان حجو، ومحمد الدرة، فقال تحت عنوان : ( هدايا رابين ) :

طال الأسى وتفطر القلبُ       فإلامَ ذاك القهرُ يا ربُّ

المسلمون نفوسهم مُلئت         كرباً وفي أوطانهم كربُ

فإلى متى أمـــــــــــــــــــوالهم نهْبُ     وإلى متى أقداسهم غصبُ

لو كان قلبي قدّ من حجرٍ     لتفطرتْ أحجاره الصُلبُ

لكنه قد صاح في ألم ٍ           حتام ذاكَ القهرُ يا ربُّ – تراتيل لانتفاضة الأقصى : ص 12 .

إن قلب الشاعر يتمزق لما أصاب الأمة من نكبات ومحن وكرب واحتلال، ويتساءل إلى متى يبقى هذا الحال المزري فجاءه الجواب :

وأتاه صوتٌ غاضب لجبٌ      ملء السماء وكلّه عتبُ

ضلّت بكم أهواؤكم شيعاً       وتفرق الحادون والركبُ

إن السراج اليوم متقدٌ         ما باله في أرضكم ..يخبو

قد سادَ فيكم كلُّ طاغيةٍ      وبكلِّ صرحٍ شامخٍ ذئبُ

تحيا الحقيقة وهي بائسةٌ      في أرضكم ويُجمَّلُ الكذبُ

أو تحسبون اليوم ويلكم          أن الحقيقة مالها ربُّ ؟؟ - نفسه : ص 13 .

وينبه الشاعر لشعوب المسلمة أن تصحو لأمرها؛ لأن الخيرين في أرضهم قد قتلوا، وسجن العابدون، وغادر الصالحون، ويوشك الله أن يعم الأمة بعذاب من عنده لأنها تقاعست في حماية الأخيار :

الخيرون اليوم قد قتلوا       في أرضكم وتفرق الصّحبُ

العابدون لربهم حُشروا      ملء السجون وما لهم ذنبُ –نفسه : ص 13 .

صبرا وشاتيلا :

ويفتح الشاعر سجلات التاريخ فماضي اليهود مليء بالدماء القتل ويذكر مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها آلاف القتلى والشهداء على يد المجرم شارون وإيلي حبيقة والكتائب في لبنان :

ويحكي اليوم قصته

أنينُ الرضع الضعفاء في صبرا

وشاتيلا

على شط الغروب دماؤهم خضبت

غيوم الأفق بالنارنج والذهب

دماء فارت التنور في ساحاتها سيلا

من الغضب

وأنهاراً من الأحجار واللهب

دماء أشعلت حلماً

توارى خلف ستر الليل من حقب

وتحكيها ..دموع القهر والتشريد

والتعب

وأسراب من العطشى

بأرض القدس والنقب

تسف الرمل في الصحراء

تمضغه ..

وما في دارها ماء

وما في أرضها قمح لمغتصب

وتبحث في تلال الرمل عن

موسى ....

وعن سيناء ...

وموسى نام في التابوت تحمله ...

إلى فرعون أمواج من الغضب –تراتيل لانتفاضة الأقصى : 27،26 .

ويندد الشاعر المسلم بمؤتمر مدريد، ويعتبره مجحفاً بحقوق الشعوب، وقراراته تعيد سيرة الذئب والغنم من جديد، فهو إملاءات الأقوياء على الضعفاء، وسمي زوراً وبهتاناً : ( سلام الشجعان ) :

(مدريد) قد جمعت قبائكم    وخطابُهم في قصرها خطبُ

يا ليت شعري ويح مؤتمر      أبطــــــــــــــــــاله الأغنام والذئبُ

رابين يهديكم ...بضاعته     حــــــــــــرباً هواناً بعدها حربُ

ووفودكم تأتيه طـــــــــــــــــــــــائعة     كي لا يُقالَ تشدّدَ العُربُ

يا أيها التاريخ ..مرحمةً         داءُ المــــــــــــــــــــــذلّة ما لهُ طِبُّ –نفسه : ص 14 .

وإذا بقيت أحوال العرب والمسلمين على هذه الصورة من الذل والهوان وحب الدنيا وكراهية الموت فإنهم سوف تغيض المياه عندهم، وتطفأ الأنوارُ، وسوف تذلهم شذاذ الآفاق وأحرص الناس على حياة، وليس هذا ظلماً لهم، بل هو الجزاء العادل، ولن يرفع الله عنهم ذلك البلاء إلا بالرجوع إليه سبحانه تعالى، وتطبيق شريعته ، ورفع راية الجهاد :

لا تعجبوا إن غاضَ ماؤكم     أو أطفئت بسمائكم الشهبُ

سيذلكم من كان ذا ضعةٍ       وسيعــــــــــــــــــــظم التقتيلُ والرعبُ

ما كان ربُّ العرش ظالمكم       أنتم ظـــــــــــــــــــــــلمتم أيها العربُ

هلاّ رجعتم نحـــــــــــو بارئكم         حتى يعـــــــــــــــــــــــودَ إليكم ُالربُّ-نفسه : 15 .

الرد على دعاة السلام :

هرول الكثير من الحكام العرب نحو السلام مع إسرائيل ، ففي عام 1976م وقع محمد أنور السادات اتفاقية كامب يفيد مع إسرائيل ، وفي عام 1991م حدث مؤتمر مدريد فهرول النظام المقاوم في سورية، ومعه حكومة الأردن ، ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث وقع الأردن اتفاقية وادي عربة، كما وقع عرفات اتفاقية أوسلو، ومنح المجرم ( إسحاق رابين ) جائزة نوبل للسلام ، وهذا التوجه الذليل نحو السلام مع العدو وما فيه من ضياع للأرض والحقوق أثار حفيظة الشاعر محمد حكمت وليد، فكتب عدة قصائد تناول فيها موضوع السلام، فكتب ( خواطر في زمن السلام )، وهي من شعر التفعيلة يقول فيها :

قيل افرحْ..

زمن السلم أطلاّ

وهلالُ السعد هلاّ ....

قلتُ كلاّ ...

ما أطلاّ...

وجراحي لم تزل تقطرُ ذلاّ ...

وحاول الإعلام المضلل أن يقلب الحقيقة فالاستسلام صار يسمى السلام ، وصار الذل والهوان يرفع له شعار غصن الزيتون ، وأصبحت الأشواك فلاّ، وأصبح العقل جنوناً، وقد التقطت ريشة الشاعر الفنان هذه الصور المخزية والمجحفة بحق الشعوب العربية والمسلمة فقال :

قيل في الأفق حمام ٌ ..أبيضُ

يحملُ الزيتون أغصاناً تدلى ..

فتمعنتُ وأبصرتُ صقوراً ..

تملأ الكونَ شروراً ..

وغراباً قد أطلاّ ..

قلتُ : يا قومُ غدرتم بي فقالوا

أنتَ أعمى !!

لا ترى الفجرَ المُطلاّ

قلتُ : أعطوني من العجز عيوناً ..

لأرى الأشواك فُلاّ

وأرى الصحراء جناتٍ وظلاّ..

وأرى العقلَ جنوناً..

وأرى الخِسةَ جُلّى ..

وأرى الخِلَّ عدوّاً ..

وعدوّ الله ..خِلاّ ..

ورغم كل هذه الأوضاع (المقلوبة)، وتبدل المفاهيم، فإن الشاعر لا يفقد البوصلة وما زالت الحقيقة ماثلة بين عينيه، فالظلم هو الظلم، ووجه الاحتلال قبيح مهما وضعوا له من مساحيق، ونتابع مع الشاعر محمد حكمت وليد، وهو يقول :

ما رأيتُ الظلمَ يوماً قد تجلّى ..

مثلما اليوم تجلّى ...

كلما زفّوا إلى العدل عروساً ..

رحتُ فيها أتملى ..

فأرى وجهاً عجوزاً دردبيساً ..

سئم العُهرَ وملاّ ..

وأرى العقل حبيساً ..

يجرعُ السمَ المُحلّى ..

وأرى الشهمَ خسيساً ..

بدمانا يتسلى ..

ويستخدم الشاعر الألفاظ الغريبة مثل ( دردبيساً )، وهي ملائمة لانقلاب الأوضاع في بلادنا فهو يرى العقل حبيساً ومكبلاً بالأصفاد، ويبصر ذلك الشهم الذي صوروه نبيلاً بينما هو يتسلى بدماء الأبرياء، ومنح رابين جائزة (نوبل) للسلام بينما هو قاتل الأطفال الأبرياء في فلسطين المحتلة .

ويفند الشاعر حجة دعاة السلام من أبناء جلدتنا الذين سوغوا الصلح بقولهم : إننا ضعفاء وقد ذهب عزنا ومجدنا منذ سنين بينما العدو فقد بسط سيطرته على أقطاب الأرض جميعاً ، ولكن الشاعر يسخف تلك العقول الكليلة ويطلب منهم بألا يعطوا للص صكاً شرعياً يثبت حقه في امتلاك الأرض :

آه يا ذاكرتي ماذا بعقل القوم حلاّ..

هل رأيتم صاحبَ الحقّ عن الحقِّ تخلى ..

قيل : إنا ضعفاءٌ ..

عزّنا راح وولى ..

وعدوّ الأرض ألقى رحله فيها وحلاّ ..

قلتُ لا تعطوه صكاً ..

أنه يملكها شرعاً وإلا ..

ملك اللصُّ مع الأرض سِجلاّ ...

وقد ظهر الصبح لذي عينين، وانجلى الحقّ بثيابه الزاهية، وتمايزت الصفوف، فأصبح الحق في وادٍ، والباطلُ في وادٍ :

يا أحبائي وجرحي راعفٌ ..

ما رأيتُ الحقَّ يوماً قد تجلّى ..

مثلما اليوم تجلّى ..

فجنودُ البغي في وادً تولَّوا ..

وفصيلُ الحق في وادٍ تولى ..

إنها لخطةُ فرقانٍ وتمييزٍ وجلى ..

ولا يفقد الشاعر ثقته بالله فهو يستمد منه الأمل بالمستقبل، ويتسلح شاعرنا بالتفاؤل الثوري، فيقول :

إنها لحظةُ ضوءٍ ..

تدعُ الأعشى بصيراً ..

بعدما تاه وضلاّ ..

إنها المعركة الكبرى أتت ..

والنصرُ من قلب انكساري

قد أطلاّ .....تراتيل لانتفاضة الأقصى : 8 ،11 .

قضية الجهاد الأفغاني :

من القضايا المهمة التي تناولها الشاعر محمد حكمت وليد قضية أفغانستان، فقد دخل العدو الكافر أرض أفغانستان، وقد حسمت القضية في حس الشعب الأفغاني والمسلمين جميعاً، وأيقنوا أنّ الروسَ معتدون، لذا لم تنفرد جماعة صغيرة بالجهاد فتتهم بالتالي بالتطرف بل هبّ المسلمون لجهاده وإخراجه من أرض أفغانستان .

كان دخول العدو بمبادئ لا شبهة عند الناس في كفرها ومعاداتها للدين كله جملة، فالمعركة معركة كفر وإيمان . وبفعل التوعية التي قام بها الدعاة إلى الجهاد تيقن الشعب الأفغاني أن أفغانستان أرض إسلامية اغتصبها الشيوعيون الكافرون وينبغي أن ترد للإسلام لا لشخص بعينه، ولا لحكم جماعة أو قومية معينة بل للحكم الإسلامي ، فانتفى خاطر الدافع الوطني أو الحزبي أو الشخصي، وصارت القضية خالصة للإسلام .

لقد سجل الأفغان انتصارات هائلة على المعتدي الروسي في معارك ومواقع عديدة واستبشر المسلمون خيراً من وراء هذا الجهاد إذ تجسدت في هذا الجهاد الحقيقة التي طالما احتجبت عن الناس في هذا العصر، وهي حقيقة المواجهة بين الكفر والإيمان، بين الحق والباطل، وبالتالي أقبلت الشعوب المسلمة مستبشرة بهذا الجهاد .

شاعرنا الذي كان قلبه ينبض بالأمل مع وجود الآلام التي تواجهها أمته ملأ قلبه الأمل الذي يرى بشائره تحقق على أرض الواقع على أرض (غزنة )، وعلى يد أحفاد ( محمود الغزنوي )، إن قلب شاعرنا قد أضعفته آلام أمته المتتابعة ها هو ذا يحيا، ويخفق، وهو يرى بشائر النصر على أيدي الأفغان، إنه يجدد البيعة مع هؤلاء الأبطال الأشاوس يقول في قصيدته التي وسمها بــــــ(أسود الجهاد ) :

ما عادت الأحلام طيف أماني        سبح لربك أنت في الأفغان

لاتعذلوا عشاق غزنة فالهوى            قدري وحبّ الغزنوية شاني

قد كان قلبي واهناً حتى إذا            ما حلّ غزنة ضجّ بالخفقان ِ

الأسلوب الإنشائي المتحرك والقائم على الأمر والنهي يعكس العاطفة المشبوبة الفرحة المستبشرة بهذا الجهاد، وتجسد الكلمات المعبرة عن الفرح والحب والعشق هذه العاطفة (سبح لربك ، لا تعذلوا عشاق ، حب الغزنوية ، كان قلبي، ..ضج بالخفقان ) إن هذا الجهاد قريب من قلب شاعرنا، ولعل مجيئ القصيدة على روي النون المكسورة، أو ياء المتكلم منحا القصيدةَ خصوصية والتصاقاً ذاتياً داخل نفس الشاعر مما جعلها ألصق بمشاعره وقلبه .

وبنفس ملؤها العزة والشموخ يصف الشاعر محمد وليد الجند المجاهدين الذين برزوا بكل شجاعة لقتال أعدائهم الروس الذين يقاتلونهم من وراء الجدران مستعينين بالأسلحة والطائرات لقتال تلك الثلة المؤمنة التي لا سلاح لها سوى الصبر والإيمان، وأنعم به من سلاح جعل قتلى العدو في تصاعد مستمر :

ومجاهدين مصـــــــــــــــــــــــــابرين رأيتهم          مثل الأسود الصيد والعقبان ِ

برزوا لجند الروس مثــــــــــــل أشاوس        والروس خلفَ معاقل الجدرانِ

عظمت عزائمهم وقل سلاحهم            إلا سلاح الصبر والإيمان ِ

وترى عداهم والخطوب تنوشهم           نعشاً يسير وراء نعش ثان ِ

يحكون للدنيا صمــــــــــــود عقيدة          في وجه أهل البغي والعدوان ِ

حقيقة الحرب هي حرب عقيدة صمودها يحكي صدقها وعدلها وقوتها في وجه الباغي المعتدي، إن عمل هؤلاء المجاهدين يستمر متواصلاً فلا غرابة أن اتكأ الشاعر على الفعل المضارع الذي يفيدُ الاستمرار .

إن الواقع الأرضي الذي شاهده العالم لم يكن يصدق الانتصارات التي يحققها الأفغان، ولكن الحقيقة العليا التي استمدها المسلم من إسلامه لخالقه يتصرف به كيف يشاء يصدق ذلك، ويجعله يواجه العدو مهما كانت قوته وشراسته بعقيدته الصامدة .

وينتقل الشاعر من النفس الشعري الممتلئ بالأمل والفرح فيعرض بواقعيته الإسلامية التي تجعله لا يزور، ولا يكذب لذا يعرض على صفحة شعره ما حلّ بأهل أفغانستان من ألم وويلات، فأرض أفغانستان أضحت تشتعل بالنار في كل مكان فاضطر أهلوها إلى الهجرة، لقد رُملت النساء، وشرد الأطفال :

ومهاجرين تتابعت أفواجهم       يمشون فوق مفاوز الأحزان ِ

عزّ المقام فأرضهم محروقة ٌ        حرقت بنار البغي والعدوان ِ

لله كم من طفلة مثل الندى    تحكي فتذرف دمعها العينان ِ

قتلوا أباها شردوا أخواتها              والأم لاجئة بباكستان ِ

آثار الحرب يعرضها بطريقة إخبارية تقريرية لا تهويل فيها ولا خيال يتعدى الحقيقة الواقعية التي يعيشها شعب أفغانستان فقد أصبحت أحزانهم متصلة اتصال المفاوز الجدباء، وتأتي الأبيات التالية تسجل لقطات مفاوز الحزن (حرق الديار، دموع الأطفال المشردين اللاجئين ) .

وينادي المسلمين بطريقة مباشرة ليوقظهم من غفلتهم مستنكراً عليهم حياة الذل والهوان :

يا مسلمون إلى متى إغفاؤكم       ولم الحيــــــــــــاة بذلة وهـــــــــــــــــــــــــوان ِ

ومتى تحسون المخاطر والعدا        برزوا حيــــــــــــــالكم بكل مكان ِ

هل تنظرون دياركم ملك العدا     ونساؤكم في الأسر كالعبدان ِ

لغة الشاعر واقعية ، وتقرب الواقع المتوقع إذا لم ينفض المسلمون عنهم التخاذل والهوان، واتكاؤه على الاستفهام الإنكاري أربع مرات في الأبيات الثلاثة يحاكي بقوته قوة من يوقظ بقوة ومضاء

هيا إلى أرض الجهاد لتنصروا       يوم الطعان كتائب الأفغان ِ

إن يسقط الأفغان فوق سنانهم     سقطت دياركم بغير سنان ِ

الدعوة والنداء للحرب هو الختام الذي يختم به قصيدته الجهادية (أسود قندهار ) إنها دعوة لمشاركة هؤلاء الأسود لحماية الأديان والأوطان ، لذا يأتي مستمداً من الحرب ودوالها ( أرض الجهاد ، تنصروا، يوم الطعان ، كتائب ، سنان ) .

لقد أثبت محمد حكمت وليد في قصيدته التي حداها وهو يتابع هذا الجهاد المبارك حسه الإسلامي، وعالج القضية بواقعية إسلامية محذراً ومؤيداً ومشجعاً لدفع عدوان الروس ، وحق له أن يشيد بهذا الجهاد الذي حقق انتصارات ظلت وستظل صفحة ناصعة في كتائب التاريخ ، يرويها الخلف عن ذلك السلف الصالح الذي كان أعزلاً ، أو شبه أعزل ومع ذلك أجبر أكبر قوة وحشية في عصرها على الانسحاب من أرض أفغانستان خوفاً من الفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد .

لقد كان أثر هذا الجهاد قوياً في العالم فها هو ذا معلق الإذاعة الإسرائيلية للشؤون السياسية عام 1978م يقول معلقاً على هذا الحدث : (( إن بعض السذج من اليهود وأصدقائهم يحاولون التقليل من أهمية ما يجري في أفغانستان وإيران وتركيا، باعتبارها بعيدة عن إسرائيل ، ولأن لإسرائيل فيها أصدقاء وحلفاء كثيرون ، ولكن هؤلاء السذج ينسون أن إسرائيل محاطة بملايين المسلمين من العرب ، وأن أخطر الحركات الإسلامية المتعصبة تنشط بينهم وتنتظر الفرصة المواتية وتفاجئ العالم كله وتفاجئ إسرائيل بصيحات الجهاد ) .

الجهاد في البوسنة والهرسك :

وما كاد الروس يرحلون عن أفغانستان عام 1990م حتى تفجرت الثورة في البوسنة والهرسك في عام 1992م، كردة فعل على جرائم الصرب ، حيث دمرت مدن وقتل عشرات الآلاف ، مما يذكرنا بزوال الفردوس المفقود ( الأندلس )، وفلسطين، حيث يقول الشاعر (أبو البقاء الرّندي) :

لكلّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصـــــــــــانُ     فلا يغرَّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ     مـــــــــــــــن سرّه زمنٌ ساءتهُ أزمانُ

 إن من المعيب في العصر الحاضر أن تدمر (مدن) إسلامية، وتمحى من الوجود، وأن تتعرض للإبادة حيث بدأت مأساة البوسنة والهرسك عام 1992م على يد مجرم الحرب الصربي ( سلوبودان ) الذي صرّح للعالم بأنه لا يهتم بأي عقوبات لأن العالم الجديد لن يسمح بجمهورية إسلامية في البوسنة والهرسك ...

فراح جنود الطاغية يقتلون الأطفال والشيوخ، ويشنقون على وسائل الإعلام رجلاً في الأربعين من عمره من ساقيه، وعلقوه أمام منزله لمدة خمسة أيام، وكانوا يقطعون جزءاً من لحم كتفه وفي اليوم الخامس أشعلوا النار في رأسه، وهو لا يزال حياً ...

ولقد وقف العالم يتفرج على هذه المأساة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً ،وكأنما يقف أمام فيلم لا تخلوه مشاهده من العنف والقتل والفتن، ويقف شاعرنا أمام هذه المأساة متفجعاً فاقداً القدرة على التعبير عن ألمه لعدم جدوى التعبير هل يعبر بالبكاء وما جدوى الدموع أمام بحار الدماء المتدفقة يقول الشاعر :

أأبكي ؟

وماذا تفيدك تلك الدموع

أأشكوا ؟

وماذا تفيد شكاتي

وسيد كل القضاة خسيس وضيع

وجلادك اليوم فوق القوانين

فوق الجميع

أأسكب دمعي ؟

وكل التماسيح تبكي عليك بحار الدموع

بحاراً تزمجر بالنائبات

وليس بها زورق للنجاة

وزورق قلبي كسير القلوع

أبيات شاعرنا تحاكي الواقع الصليبي المؤلم الذي تكلم عنه (سلوبدان) إن تباكي مجلس الأمن وكذبه  ( كل التماسيح تبكي عليك بحار الدموع ) إنها دموع كثيرة، قرارات كثيرة، ولكنها (ليس بها زورق للنجاة ) .

ويستمر الشاعر في عرض شريط إخباري عن هذه المأساة، إن الواقع المظلم الذي يراه شاعرنا يعرضه دون تزوير، ومع خيانة الناصر والمعين من البشر إلا أن إيمان شاعرنا بنصر الثلة المؤمنة يواجه هذا الواقع المظلم بالحقيقة العليا بنصر رب البرايا العليم السميع، ولذا يواجه هذا الواقع بذكر الماضي فيزداد النفس المتصاعد المتفائل بغد مشرق، وتقف سراييفو بعزيمة ماضية أمام الطغيان تواجه، ويشتعل نبض الحياة

سراييفو كنت بريق التحدي بعين الصقور

وأجمل لؤلؤة في جبين الثغور

وكنت مضاء السيوف

ونبض العزائم ملء الصدور

وكنت ضياء الحياة

ونيل الشعور

لقد عبر الفاتح اليوم بين الثغور

كطيف به كبرياء العصور

فأبصر في القيد أبناءه

وأحفاده في المزاد الكبير

إن المصيبة التي يراها الشاعر تملأ نفسه باليأس لذا يهرب إلى الماضي الذي كانت عليه سراييفو أمام الفاتحين ، ويتكئ في استرجاع الماضي على الفعل (كنت)، وهو ينقلنا من الماضي الوضاء إلى الحاضر القاتم بالفعل الماضي أيضاً عبر الفاتح، وتستمر قصيدته، وتكاد تكون دفقة شعورية واحدة، ويظهر ذلك من الانسجام الظاهر بين الإيقاعيين النفسي والنغمي، والألم والكمد يكاد يماثل هذه القافية (الدال المقيدة ) صوتاً ورسماً .

مفاسد النظام العالمي الجديد :

ويدرك الشعراء الإسلاميون أن الغرب المادي يبيع دينه في سوق المكاسب، فللمعركة في البوسنة والهرسك وجه آخر هو المطامع، لكننا لا نلحظ تحليلاً لواقع المأساة من هذه الزاوية، وإبرازاً لمكايد السياسة، فقد طغت العاطفة الدينية على منطق الشعراء، ولم يلحظوا الأبعاد الخفية للسياسة الدولية، والمراهنات التي تعقد في الخفاء والتنافس على المكاسب، إلا أن الشاعر «محمد حكمت وليد» أشار في قصيدته «لؤلؤة الثغور» إلى مفاسد النظام الجديد.. فقال مخاطباً (سراييفو):

سراييفو يا حرة في القيود

أعدت لنا ذكريات العصور الخوالي

وثار الجدود

لقد تركوك لفتك الذئاب وغدر العبيد

لقد طيعوا فوق جسدك نقش الصليب بقلب حقود

وأما بنوك من المسلمين فقد ذبحوك بذاك القعود

وأما النظام الجديد

فبأس شديد

حقد تليد

وأنت شهيدة عصر النفاق

وأنت الشهود

تعالي لنشهد موت الحضارة

مأتم ذاك النظام الجديد

منطق الظلم والغاب الذي تعيشه أوربا صاحبة ( النظام الجديد ) هو المنطلق الحقيقي الذي تحاول أن تخبئه عن العالم من خلال أعلامها الكاذب، ولكن مأساة سراييفو أبرزت هذا الوجه الحقيقي؛ إن الحضارة تموت أمام منطق الغاب الذي تظهر أحواله في ثنايا سطور شاعرنا المعبرة (فتك الذئاب – ذبحنا – القطيع ) :

سراييفو تمشين نحو الزمان الفجيع

تموتين ذبحاً

ونحن وراؤك مثل القطيع

نعيش على هامش العصر

خلف الجموع

لدينا الملايين ملء البنوك

اشترينا متاع الحياة

نريد شراء الكرامة

من ذا يبيع ؟ - تراتيل للغد الآتي : 149 .

ولم ينس الشعراء أن يدينوا العالم، ويستنكروا سوء موقفه السلبي من الجرائم المرتكبة في البوسنة، وكأن قيم العالم كلها التي دافع عنها عبر الزمن تهدر اليوم، وتذبح بتواطؤ عالمي تحت شعار قانون الغاب .

وأبيات الشاعر تظهر فيها الصراحة والقوة والواقعية في مواجهة الذات بعيوبها، إنه يضرب ذاته وقومه بسياط اللوم والتقريع، وهو في توبيخه يلفت الانتباه إلى الطاقات المضيعة : لدينا الملايين ملء البنوك – اشترينا متاع الحياة )، ويلفت نظر قومه إلى أهم شيء يجلي عنهم الواقع المقيت ( نريد شراء الكرامة من ذا يبيع

من الواضح أن الاستفهام الذي ختم به شحنته الشعورية الحينة أتى قوياً حاول أن يتغلب على الحن، وأتى مندفعاً حانقاً من وضع الأمة حاملاً في مبناه القليل ( من ذا يبيع ؟ ) إرادة الاندفاع والتغيير والثورة والمواجهة بجسارة وقوة، إن هول ما تشهده أرض سراييفو قد أعاق إلى حدٍّ كبير قدرات شاعرنا العقلية عن التفكير في حلول، لكن إيمانه بإمكان التغيير يختزله بهذا الاستفهام الاستنكاري المتفجع .

وسوم: العدد 726