كعب بن مالك (شاعر الحرب النفسية)

" رائعة التهديد والإغراء بالخضوع "

1- المقدمة (تعريف بالشاعر)

كعب بن مالك بن أبي بن كعب السلمي الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل أسلم باكراً ببيعة العقبة، وعاش حياته مدافعا عن الدعوة الإسلامية بلسانه وبسيفه، حضر جميع الغزوات مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتخلف إلا عن غزوتي بدر وتبوك، وهو أحد الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فقاطعهم المسلمون أكثر من خمسين يوماً، بأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -حتى أنزل الله سبحانه وتعالى توبته عنهم، وأثناء هذه المقاطعة وصلت رسالة لكعب من ملك غسان يحرضه على اللحوق به، ولكن كعباً رمى بها في التنور، وصمد كعب، أمام هذا الامتحان الشديد، بعد أَنْ صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القول حتى مَنَّ الله عليه بالتوبة والغفران، ومات كعب سنة خمسين هـ عن سبع وسبعين سنة بعد أن كف بصره في أواخر أيامه(31).

يمتاز شعر كعب بتمثيل المعاني القرآنية وألفاظه مألوفة وأسلوبه سهل واضح، وهو بذلك يقترب من عبد الله بن رواحة في الأسلوب والأداء، ويختلف عنه بطول النفس الشعري وكثرة الإنتاج، وهو من رواد المخضرمين، الذين تحملوا مسؤولية مواجهة الجاهلية بالسيف واللسان، حيث وظف سيفه وشعره في الدفاع عن الدعوة، إلى أن أظهرها الله وامتدت إلى الجزيرة العربية بكاملها.

2- تحليل القصيدة

لما انهزم المشركون يوم حنين، ترقبت قبائل العرب في الحجاز الأمر، وعاشت في حالة من القلق والذعر، أمام انتصارات الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام الهيبة النامية للإسلام في جزيرة العرب، وكانت هذه القصيدة اللسان الرسمي في الإشاعة بغزو الطائف أو دوس... حتى أَنَّ دوساً خافت لما سمعت هذه القصيدة، فجاءت عجلى بوفدها لتبايع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلن إسلامها دون مقاومة.

كان الشاعر عند العرب هو الوسيلة الإعلامية الأولى والخطرة، التي تعبر عن المواقف والمشاعر وتنقل مجريات الصراع الدائر، وتوصله إلى القلوب بطريقة مؤثرة، في توجيه الرأي العام، ويتوقف نجاح الشاعر على قدرته في توظيف موهبته، وحسن أسلوبه في الدخول إلى النفوس، وقد كان كعب بن مالك رضي الله عنه نعم الشاعر الفارس الذي يدرك خطر الكلمة وأثرها في مخاطبة القلوب، وقد استطاع وسط الترقب والقلق الذي يساور القبائل أمام الإسلام الممتد النامي، أن يشن حرباً نفسية تنمي عنصر الخوف والهلع في نفس الخصوم، وكان موفقاً منذ بداية القصيدة (قضينا من تهامة كل وتر وخيبر ثم أجمعنا السيوفا) إنه كلام الواثق، الذي يحاصر الأعداء في نفوسهم، حتى تضيق ذرعا، فتندفع نحو الخضوع دون مقاومة. فسيوف المسلمين انتهت من السيطرة على الحجاز (خيبر والمدينة ومكة) ثم عادت إلى أغمادها لتستريح قليلا ً، ولو أن هذه السيوف عاقلة وخيرت في رغبتها، إلى من ستتجه المرة القادمة لاختارت وقالت نريد قبيلة دوس أو ثقيف. وزعيم هذا الجمع المنتصر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - (رئيسهم النبي وكان صلباً نقي القلب مصطبراً عزوفاً) وهو صاحب الكلمة المطاعة، الصابر نقي القلب مصطبراً عزوفاً وهو صاحب الكلمة المطاعة، الصابر على الشدائد، العزوف عن الدنيا، صاحب الحلم والعلم، وليس بطائش ولا ضعيف الرأي، لأنه يتلقى الأمر من ربه، إن تخضعوا للسلم فقد سلمتم، وأصبحتم منا، وإلا فإننا أهل المجالدة والقتال والصبر ابتعثنا الله رحمة للمسالمين، وحرباً على المعاندين والكافرين، نجدع أنوفهم ونذلهم ونكسر شوكتهم، وكم من معاند حاول ففشل، وقد نجح كعب في إشعار المخاطب أنه محاصر، ولا مفر له ولا فائدة من العناد فوصل إلى أهدافه يوم أن استثمر انتصارات المسلمين ووظفها في الحرب النفسية، فكشف ضعف الأعداء وعدم قدرتهم على معاداة الدعوة، والازدراء لمن يعاديها، وفي هذا محاصرة لبقايا العناد والمكابرة في النفوس، وإضعاف لصبر الأعداء على المجالدة، وإغلاق لأبواب الأمل في وجوههم، وتوسيع لسيطرة الرعب، والضعف، ودعوة للإذعان، وتشكيك لهم في النهج والعقائد التي ساروا عليها، وقد انكشف الحق وتجلى بنوره واضحاً أمام العيون، وظهر الباطل وخذلانه، فاللات والعزى وود مهدده بالهدم والتكسير وسوف تسلب قلائدها وزينتها، إنه خلع لبقايا الوثنية وتوهين وتهوين لها في النفوس، حتى يسهل على هذه النفوس الانقياد والتسليم، وإذا وصل هذا التهديد إلى قلوب السادة والقادة، الذين يتولون أمر المشركين ويحرضون على الإسلام، فعندها ينتقل الانهيار النفسي بسهولة ويسر إلى الجماهير المضللة التابعة لهم، وليس هذا الأسلوب غريباً على صحابي جليل تربى على القرآن واخذ منه دروساً في الحرب النفسية وفقه معنى قوله تعالى (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) الأنفال: 57

3- البناء الفني والمذهبية الأدبية

1- يلتقي كعب ابن مالك مع حسان وعبد الله ابن رواحة وغيرهم من شعراء الشمولية الإسلامية في الابتعاد عن المبالغة والخيال الهائم، وربط القول بحدود التجربة والتعبير والترابط بين الصدق الشعوري والفني.

2- تختلط المشاعر الذاتية بالجماعة وتندمج بها إلى حد الذوبان، حيث جاء الخطاب والتوجيه والتهديد كله بصيغة الجمع، وهذا يدل على قدرة هذا الدين في ربط مشاعر اتباعه وتوظيفها بنجاح في أهدافه.

3- تمتد الشمولية كخيط القلادة الذي يربط الاعتقاد والمشاعر والفعل والأداء الفني باتساق تام لا شذوذ فيه عن الأهداف التي أرادها الإسلام من هذا الفن.

4- يعتبر كعب بن مالك الشاعر الثاني بعد حسان من ناحية طول النفس الشعري، وغزارة الإنتاج، وفنية الأداء بين شعراء المدينة، حيث استطاع التكيف مع معطيات المرحلة والعقيدة وتطويع فنه وموهبته لخدمة الإسلام.

5- استعمل كعب مجموعة من الأساليب والبلاغيات والفنيات بمستويات متفاوتة وضمن الحاجة والغرض الوظيفي للأداء الفني، مما ساعده على التحكم في الخيال وتطويعه لأهداف الصدق الشعوري والفني، دون النزول بالمستوى الشعري عن بلاغة عصره.

وسوم: العدد 728