الحداثة ومجال الرؤية

تسعى الحداثة لأن تكون وفيّة لمقولاتها، وهي تحرص على ذلك ضمن "مجال الرؤية" لا خارجه. إنها منسجمة في هذا مع نزعتها المادية التي تؤمن بالمحسوسات أساسا ولا تكاد تعترف بالماورائيات التي لا يقع الاكتراث بها غالبا. بوسعنا خارج مجال الرؤية هذا أن نخوض مغامرة اكتشاف وجوه أخرى لأنظمة تعلن ولاءها للحداثة، وهي وجوه مناقضة أحيانا لما ينتصب في مشهد الوعي المرئي والمشهود.

لهذا صلة بمدى قدرة نظام يرفع شعار الحداثة على أن يتخطّى المحسوسات، فلا سلطان له على النيات مثلا، أو على الخفاء الذي يقع خارج نطاق التغطية. قد تصادف جمهورَ الحداثة الداخلي ممارساتٌ مرعبة خارج مجال الرؤية، فهذا المجال يوافق غالبا نطاق التغطية الذي يصعب على الرقابة القيمية أن تتجاوزه، ولن تعجز أنظمة تعلن ولاءها للحداثة عن التنصّل من ممارسات مشينة ببعض الإجراءات أو بشحنة من المقولات الأخّاذة التي بها تتباهى، لكن مع استمرار التقيد بالمجال المرئي تقريبا الذي يشبه تحديد مساحة نظر الحصان.

تكرّست في بعض الهوامش الأوروبية "غير المرئية" أنظمة تشغيل تحاكي الاستعباد، ومن الواضح أنّ السلطات تغضّ الطرف عن تقاليد العمل المزرية في الحقول الزراعية في جنوب إيطاليا وإسبانيا التي يرضخ لها مهاجرون لم يتمكنوا من الحصول على أذون عمل. ترسو الثمار الناضجة في أسواق أوروبا الحديثة دون أن تثور تساؤلات جادة عن ظروف العمالة التي اشتغلت عليها والتي لا تملك صوتا أو نقابات.

تتخذ الحالة أبعادا جسيمة للغاية مع ضلوع شركات أوروبية كبرى بتكريس علاقات إنتاج استغلالية في بيئات فقيرة خارج القارة تحصل بموجبها على معظم الأرباح، ثم تُلقي بالفتات لمجتمعات محلية أعياها الشقاء في الحقول والمزارع والمناجم. استمرت هذه الملابسات الاستغلالية الواقعة خارج "مجال الرؤية" عهودا طويلة، ثم وقعت استدراكات جزئية شحيحة مشبّعة بنزعة دعائية، بضغط من حالة وعي تراكمت لدى جمهور الحداثة الداخلي أسفرت عنها جهود منظمات باشرت التقصي ونشرت الحقائق على الملأ.

اشتغلت النازية على مجال الرؤية هذا، فسعت إلى إخراج فظائعها منه صوب الهوامش، فجعلت معسكرات التركيز، مثلا، معزولة عن الحواضر، وكان يجري "شحن" البشر الذين وقعت شيطنتهم على متن قطارات بائسة إلى تلك الهوامش، كأنهم مواد أولية منزوعة الروح وفاقدة الكرامة لإخضاعهم لفنون التوحش غير المرئي لجمهور الرايخ الثالث.

كما تركّزت فظائع الحرب في جبهات القتال البعيدة نسبيا، الواقعة ضمن ما صنّفه النظام النازي "مجالا حيويا" (Lebensraum) والمصطلح الشائع في علوم الحيوان يحاكي مفهوم المجال الحيوي للكائنات. يبدو مثيرا للاهتمام كيف يتوحّش السلوك البشري في هذا "المجال الحيوي" أيضا طالما أنه واقع خارج "مجال الرؤية"، فتكون له بهذا أنياب وأظفار، تجسدها جيوش لا تحتمل "الأمم المتحضرة" رؤيتها وهي تجر عجلاتها في قلب حواضرها إلا في ذكريات احتفالية كبرى.

جاء انتقال فظائع الأطراف إلى المركز إيذانا بسقوط النظام في العهد النازي، فقد تقلّص "المجال الحيوي" باضطراد في خواتيم الحرب العالمية الثانية لأنّ النظام لم يعد يراهن على الأطماع التوسعية، بل أخذ يتشبّث بأمل البقاء داخل الحدود. باتت الحياة مرعبة للألمان عندما أصبحت وقائع الأطراف مرئية لهم، فالحرب انتقلت إلى الداخل واستحالت حواضرهم أنقاضا، وهي مشاهد كانت تعرفها الجبهات القاصية وحدها، ولم تكن مرئية لجمهور النظام ومجتمعه في الحياة المدنية أو حتى في التصنيع الحربي.

ليست الجيوش وحدها التي تباشر التصرف الخشن خارج مجال الرؤية، فالأنظمة التي تعلن ولاءها للحداثة تتذاكى فوق ذلك عندما تمنح أجهزة بعينها سلطات تصرف واسعة مسكوتا عنها، شرط أن تحتفظ بتفاصيل عملها طي الكتمان. هذا ما تجسِّده أجهزة الاستخبارات الخارجية التي تحوز "رخصة القتل" إن ارتأت ذلك، ومن احترافها تدبير القتل بطريق وكلاء يجري استعمالهم في هيئة قفازات للمهام القذرة.

ليس من شكّ في أنّ اطلاع مجتمع الحداثة في الداخل على ممارسات تقترفها أجهزته تلك في الخارج سيبعث صدمات محققة ومفاجآت مذهلة. لهذا ولأسباب أخرى يبقى عزل الخارج عن الداخل حاجة لا غنى عنها، وسيكون على الجمهور الداخلي التسليم بالرواية الرسمية عن ما يقع خارج مجال رؤيته، وإن عكفت بعض الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية على المشاكسة بتقديم مفاتيح للفهم وإطلالات نادرة على ما يجري خارج المشهد.

وعندما يحار مجتمع الحداثة في الداخل لأنه لم يفهم "لماذا يكرهوننا" في الخارج يتعيّن عليه الاستسلام لتأويلات كالتي دفع بها جورج بوش الابن قبيل شن حملاته الحربية في العالم الإسلامي. والحال أنّ الأمم التي رأت من أنظمة الحداثة جيوشا جرارة وجرائم قصف وممارسات احتلال وسياسات إذلال وتقويضا لآمالها بالحرية والسيادة على أرضها ومواردها عايشت خبرات لم تدركها جماهير الحداثة في الداخل.

أربكت تطورات التصوير والتشبيك والبث هذه المعادلة بعد أن ظلّت تعمل طويلا بلا عوائق، فمجال الرؤية لم يعد خاضعا لمعادلة المركز والأطراف التي حكمته عبر التاريخ البشري. أصبح البشر يملكون قدرات تتيح فرصا للتلصّص على ما يقع خارج أسوار القلعة الحداثية المحصنة مع استراق السمع أيضا، وإن جرى ذلك على نحو جزئي ومشوّش. لكنّ النظام الذي يعلن ولاءه للحداثة لا يرضخ لهذا التحوّل، إذ عليه التدخّل لضبط التفاعلات المرئية، عبر ركوب موجتها، والسعي إلى التأثير على أولوياتها واهتماماتها، وبالأساس بممارسة سلطة التأويل إزاء تدفقات الأنباء والصور والمقاطع، مع الاغتراف من قوالب نمطية مستقرة في أعماق الوعي الجمعي وإذكاء أحكام مسبقة مترتبة عليها بما يخدم أولوياته ومصالحه. يجري حسب هذا المنحى اجتزاء صور ومقاطع بعناية من بيئات مخصوصة وترويجها انتقائيا بما يخدم حمى التشويه. تسهر مؤسسات ومنظمات على هذا المنحى الانتقائي الذي تحتفي به وسائل إعلام واسعة الانتشار، إدراكا منها أنّ الصورة تحظى في وعي الجمهور بامتياز التعبير المزعوم عن المشهد الذي اجتُزئت منه.

تمضي أنظمة تعلن ولاءها للحداثة (وما بعدها) في مساعيها للحجر على مجال الرؤية ومنعه من الانفلات خارج النطاقات المرغوبة، فهي تحرص على استبعاد إنسان مدنيّتها ذي الحسّ المرهف من مواكبة ما يجري في ميدان السلوك الوحشي المخصص للأطراف. تنتصب فضائح سجن أبوغريب الأميركي في العراق شاهدا على هذا التوحش الحديث، لكنه قصاصة عابرة في المشهد الذي يتواصل بأشكال متعددة.

يجري مثلا استدعاء الطائرات بدون طيار مع السعي لتوظيف الروبوتات لإنجاز مهمات تشمل القتل الأعمى، ثم يتم تسويق حملات القتل والتدمير على أنها "عملية جراحية دقيقة". يقع في هذا الشأن تزييف مجال الرؤية، مثلا باحتكار مشاهد فوقية لا تملك سوى أنظمة الحداثة تقديمها، من قبيل صور القصف الرسمية التي تخلو من التفاصيل الإنسانية. تبدو مقاطع القصف من الجو التي تتم تغذية الشاشات والشبكات بها أشبه بلعبة فيديو شيقة، فلا تترك للجمهور في مجتمعات الحداثة خيارا سوى التحفّز لإصابة الهدف بدقة مع إطلاق صيحة "واو!".

تترسخ طقوس التلاعب بمجال الرؤية باستعمال المشاهد والصور والرمزيات المرئية، وقد وقع استغلال البرقع الأفغاني مثلا ضمن المقدمات الذرائعية النفسية لشن الحرب على أفغانستان سنة 2001. أقحمت تلك الحرب ورقة حقوق الإنسان مع الإلحاح على ضرورة تحرير النساء من الاضطهاد، رغم أنّ ذلك لم يكن مطروحا بأي شكل عندما ساد الوفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان قبل ذلك.

وقد ظهر البرقع أو النقاب بعد ذلك رمزا يقع التذرّع به في أرجاء أوروبا للتعدي المعنوي على المسلمين وسنّ قوانين استثنائية تنتقص من حريتهم الدينية وتقضم من حقوقهم ومكتسباتهم المقررة دستوريا بموجب قيم الحداثة ومبادئها الكبرى. لم يكن مفاجئا بالتالي أن يقع حظر المآذن في سويسرا في استفتاء شعبي سنة 2009 تحت تأثير حملات وملصقات أظهرت امرأة منتقبة دون أن يتساءل جمهور الحداثة عن علاقة النقاب بالمئذنة.

لهذا التطور صلة بتفاعلات أسبق، فكثيرا ما يتحدّد مجال الرؤية هذا بنطاق الإحساس بالذات الجمعية "نحن"، فيقع عزل "الآخر" وجدانيا على نحو لا يغدو معه مشمولا بامتيازات الذات الجمعية إياها، وهذه من خبرات العهد النازي أيضا. تحتاج الأمم والمجتمعات إلى "الآخر"، وقد تخترعه وتضعه ضمن قوالب نمطية ذهنية ساذجة. تعود هذه الحاجة إلى تقليد تعريف الذات من خلال البحث عن مُقابلها أو نقيضها، وهو ما يتيح فرصة تفريغ شحنات معنوية باتجاه طرف مخصوص، وقد يقع إسقاط حمولة الإحباطات الذاتية عليه بتحميله أعباء وأوزارا يكون هو المسؤول عنها و"لسنا نحن".

هكذا تتوفر الذرائع اللازمة لعزل الآخر ونبذه، وإخراجه من الفردوس المعنوي الذي تسري فيه امتيازات الحداثة، حتى إن تمّ هذا في النطاق الداخلي لمجتمع الحداثة من الناحية الجغرافية. من تعبيرات هذه الحالة شعارات تطلقها بعض الأوساط في البيئات الأوروبية مثل: "لا تسامح مع غير المتسامحين"، و"لا ديمقراطية مع غير الديمقراطيين"، و"لا حرية لأعداء الحرية". مقتضى هذه المقولات الشائكة هو تعطيل القيم والمبادئ والالتزامات في مساحات بشرية معينة كي لا يستفيد منها هذا "الآخر" الكريه بغير وجه حق.

لإنجاز هذه التدهور تباشر الصناعة الإعلامية والثقافية أقدارا من الشيطنة والتشويه والتحريض، فيستعدّ مجتمع الحداثة ذهنيا لخطوات العزل المعنوي تلك وقد يطالب بها أو يشكو من تباطؤها كلما وقع تسخينه أكثر فأكثر. وما إن يُطلَب من الأغلبية التصويت على حقوق أقلية باتت منبوذة فلن يتردد الجمهور بالانخراط في مسيرة الردّة القيمية التي تتذرّع بقيم الحداثة في مسلكها هذا الذي يتملّص من القيم ذاتها.

كان مثيرا للتندّر أنّ فرنسا عندما قررت سنة 2004 حرمان تلميذات المدارس المسلمات من حقهن المقرر في ستر شعورهن علت نداءات من العالم الإسلامي لتذكير باريس بأنها "أم الحريات". لم يلحظ القوم أنها كانت كذلك أيضا عندما فرضت سلطانها بالقهر على أجزاء واسعة من العالم الإسلامي ذاته وعلى نطاقات أخرى خارجه. لم يشعر النظام الذي أعلن ولاءه للحداثة بأي تناقض عندما اختصّ شعبه الأبيض بقيم الجمهورية التي سرت على الجماعات الفرنسية التي استوطنت المستعمرات أيضا، لكن "بالطبع" ليس على الشعوب المقهورة. حدّد هذا التقليد "مجال الرؤية" في وقت مبكر، فهذه القيم هي ببساطة "لنا وليست لكم".

نشأت فيما بعد معضلة لاحقة مع تدفقات الهجرة من شعوب المستعمرات السابقة إلى الداخل الفرنسي، وبموجبها أصبح ملايين المسلمين يحملون مواطنة فرنسا ولا يكادون يعرفون وطنا سواها. إنّ هؤلاء واقعون عمليا في منطقة رمادية تتداخل فيها سمات الخارج مع الداخل، ويجري الاعتراف الرمزي بهم بالقدر الذي يتصرفون به وفق مدونة سلوك تبدو ظاهرة في النماذج التي تفضلها الدولة وأجهزتها، مثل وجوه مسلمة تعاقبت على مقاعد وزارية وتصرّف بعضها بانصياع كامل لتقاليد البلاط الجمهوري.

لا يأخذ مسلك الحرمان من امتيازات مقررة نمطا واحدا، لكنّ العثور على أحد نماذجها الصارخة متاح في تلك الرقعة المقتطعة من كوبا المسماة غوانتانامو. هناك تحديدا قررت الولايات المتحدة إقامة معسكر اعتقال للمتهمين بالإرهاب بعد أن غزت قواتها أفغانستان. لو اختارت واشنطن سجنهم فوق الأرض الأميركية فسيسري قانونها عليهم، بكل ما يترتب عليه من قيود على سلوك السجانين ومن حقوق وامتيازات للسجناء.

لكنّ القرار الأميركي كان واضحا بإخراج أولئك تحديدا عن أي تعريف معتمد مسبقا، فهم ليسوا سجناء سياسيين ولا أمنيين ولا جنائيين ولا حتى أسرى حرب، إنهم أعداء إرهابيون من صنف مستقل بذاته لا يستحق أن تشمله أي حقوق تُذكر. وفي اختيار الموقع خارج الأرض الأميركية ما يتيح امتياز الحجب الوجداني كي لا يشعر مجتمع الحداثة بما يحدث، فعليه الاكتفاء عن طيب خاطر بالرواية الرسمية الجاهزة للترويج، وما إن جاءت الصور والتقارير والشهادات المسرّبة من معسكر إكس راي في غوانتانامو حتى صدمت جمهور الحداثة الداخلي في كل مكان، وطالب بإغلاقه، لكنّ ذلك لم يحدث.

ما إن يتراكم الوعي في بعض أوساط مجتمع الحداثة بواقع الهوامش والأطراف على نحو يتناقض مع الوعي النمطي في الوسط المجتمعي فإنّ الحالة ستحفِّز على نشوء مبادرات إصلاحية ومحاولات للاستدراك، وقد يعلن بعض الناشطين تمردهم على النظام الذي بوسعه هضمهم دون عناء.

ثمة تطورات مهمة جرت، مثل حالة منظمة السلام الأخضر "غرينبيس" التي نهضت منذ تأسيسها سنة 1971 في فانكوفر في كندا بدور طليعي ألهم جماعات عدة في أن تسلك مسلك التعقب والكشف وفضح الممارسات التي تجري في الأطراف ومحاولة إعاقتها. خاض ناشطو المنظمة التي توسعت عالميا مغامرات غير مسبوقة في عرض البحر لفضح ممارسات تقترفها الشركات التي نهضت ضمن اقتصاد الحداثة عبر سفنها التي تدفع بها في عرض البحر، كما تحدّت تلك المنظمة التجارب النووية الفرنسية في أعماق المحيطات.

تراكمت في غضون ذلك خبرات المجتمع المدني وجمهور الحداثة الداخلي بأهمية التوعية وكشف الحقائق، مستفيدة من قدرات غير مسبوقة أتاحها كسر احتكار الصناعة الإعلامية لفرص البث والتواصل الجماهيري علاوة على اتساع صحافة التحقيقات. لم تكن الأنظمة التي تعلن ولاءها للحداثة قد استعدّت لهذا التحدي الذي يتيح لجمهورها الداخلي فرص التعرّف على ما تفعله خارج مجال الرؤية، بما في ذلك حمى التسريبات الشبكية التي شقّتها ويكيليكس. قد يبدو هذا عهدا جديدا، لكنّ الأنظمة برهنت حتى الآن على قدرتها على احتواء التداعيات وربما توجيهها وفق ما يطيب لها.

ما زال مجال الرؤية قاصرا عن تمكين الأمم التي تعلن ولاءها للحداثة من إدراك عموم المشهد والوعي بأبعاده وملابساته وأثمانه الفادحة واقعيا وأخلاقيا، لكنّ المؤكد أيضا أنّ التحولات ما زالت تتفاعل وأنّ التاريخ لم يبلغ نهايته بعد.

وسوم: العدد 742