مقدمة كتاب في نظرية الشعر الإسلامي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين وبعد:

... التفكير الإسلامي أَو التصور، اتصال بالواقع، وربط للمعلومات، واكتشاف للعلاقات وتعرف على الحقائق التي تختبئ خلفها، ضمن منهاج معين يشرف على بناء المعلومات، من التحليل وحتى النتائج، وبحياد تام، حتى يصل الإنسان إلى القناعة المطمئنة، والحقيقة الناصعة التي لا لبس فيها.

أما قيمة الحقيقة، فهي في مُركب المشاعر التي تتحرك في قلب الإنسان، أمام الحقائق المدركة، وهي لا تعرف الحياد، بل تحدد موقف القلب، وقيمة الحقائق عنده، بمركب من مشاعر القبول أَو بمركب من مشاعر الرفض.

والأدب الإسلامي ينطلق من التعبير عن قيمة الحقيقة (المركب الشعوري القلبي) أَو (المقاصد والنوايا) حيث تربت هذه القيمة على فكر حمل التصور أَو العقيدة الإسلامية، بعد أن استقرت على الثقة الراسخة بها. ومن هذا المنطلق نقول، أنه بالإمكان أَن نبحث عن أدب إسلامي ناضج، إذا تغلغلت العقيدة في فكر الشاعر المسلم وأشرفت على تنظيف قلبه من أغيار الجاهلية.

عندها يكون الشاعر قادراً على تشكيل المشاعر التشكيل الإسلامي، حيث تتربى المشاعر، والأهواء، والميول، والمقاصد، على التبعية الكاملة لمنهج الله، وسنة نبيه عليه السلام (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)(1).

والسبب في ذلك، أن العقيدة هنا بمثابة التربة، والمشاعر والأهواء بمثابة الغراس، والسلوك التعبيري عنها (الأدب) بمثابة الثمار.

وبهذا الاعتبار، تكون المعاني والإيحاءات الإسلامية في الأدب دائرة حول تحبيب الناس في عقيدة التوحيد الخالصة من كل شرك، وتزين لهم منهاج النبي عليه السلام، وتتفاعل مع محبته، وريادة دينه للحياة، حياة الناس بشمولها وعمومها، وحمل منهاجه في تفسير الحياة في كل صغيرة وكبيرة.

ونتصور أن الشاعر يكد ويتعب للحصول على مرتبة فنية، هدفها الوصول إلى قلوب الناس، من ايسر الطرق وأحبها إلى نفوسهم، دون تقعر أَو غموض؛ لأَن غاية المنى عنده، أَن يصل إلى قلوب المخاطبين، بأسهل الأساليب وأيسرها وأبعدها عن التنطع والابتذال، وأقدرها على تحقيق المستوى الفني المبدع، الذي يحمل إلى الناس كد الشاعر، وإبداعه وجهده في تحقيق هذا الإبداع.

وخير مثال على صحة المنهجية التي طرحنا، هو الرعيل الأول من شعراء الدعوة، في جيلها الفريد: حسان بن ثابت، لبيد، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة وغيرهم، ممن تفاعل مع هذا الدين وعقيدته بصدق واضح، أدى إلى طرد التصور الجاهلي من أنفسهم، ورمية كما يرمى الثوب الخلق دون أسف عليه. وبهذا استطاع هذا الجيل أنْ ينتج أدبا إسلاميا متميزاً، في المذاق والنكهة وله نماذج مشهورة في (طلع البدر علينا) و(أقسمت يا نفس لتنزلن) و(تطاول هذا الليل) (إنَّ الذوائب) (ولست أُبالي حين اقتل مسلما) وغيرها.

وحيث تسير طلائع الأدب الإسلامي الحديث، لتحمل مسؤوليتها مع الداعين إلى الله سبحانه وتعالى، وسط نعيق غربان التغريب والتشريق، عليها أن تتذكر التجربة الأولى لأدب الدعوة، فتأخذ منها الدروس وتبني عليها البناء، لأننا ندرك خطر الأدب في توجيه النفوس. فنحن قوم كلفنا الله بحمل الرسالة وتبليغها، ونريد للأدب أن يكون وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، ولا نريد به استعلاء ولا إدهاشاً للمخاطبين.

فالأديب المسلم لا يريد إدهاش الناس بقدراته الفنية، لنيل إعجابهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تعلم صرف الكلام لَِسْبيَ قلوب الرجال أَو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا ً)(2)، مع إيمانه بأن اكتساب القدرة الفنية، جزء مهم من معالم هذا الفن، ولكنها وسيلة وليست غاية.

إن دعاة التغريب جعلوا من التعقيد الفني غاية، لقتل الأمة في لغتها تحت اسم التطور، وهم الذين تآمروا على حركة الإحياء، التي ظهرت مع بداية هذا القرن، لحرف مسارها، حيث كان هدف الإحياء هو إيصال الأمة بتراثها ولغتها وأدبها وفكرها، كي تتمكن من التتلمذ عليه، والتفاعل معه إلى مرحلة النضج في تقليده.

وهذا هو الطريق الطبيعي، والصحيح للأُمم التي تبحث عن الأصالة، وتريد النهضة التي لا تتعثر؛ لأن الإحياء يُنشط ذاكرة الأمم الأَصيلة في الانتماء، ويرشدها إلى البداية الصحيحة لنهوضها، وبه تتم عملية الانتماء إلى جذور الأمة والالتحام بها.،من هنا تبدأ عملية الولادة الطبيعية للإبداع والابتكار في حياة الأمم.

لقد استعجل دعاة التحديث بطرح نظريات التغريب في الأدب، حتى يتم عزل تيار الإحياء، بهدف اجهاضه والقضاء عليه، وبذلك يسهل عليهم طرح التحديث بأقل العقبات؛ تمهيدا لربط الأمة بثقافة التغريب الأوروبية، وامتداداً للتغريب الشامل الذي يغزو الأمة من جميع الجوانب: العقائدية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية.. حيث انتشرت الدنيوية (العلمانية) في الجانب العقائدي والسياسي، ومن ثم استيراد الأخلاق الغربية، في السفور وتحرير المرأة، وتشجيع الاختلاط والألبسة الغربية، وتم تحليل الربا والاحتكار والبنوك والقيم الرأسمالية في الاقتصاد، وشُجعت الفلسفات الغربية والشرقية والمذاهب الأدبية والنقدية والشعرية في الثقافة، وطُرحت الأفكار الإقليمية والعصبيات العرقية، كبديل ومنافس للأُخوة الإسلامية والعربية.

وبهذا افترق التياران: تيار الإحياء والأصالة، وتيار التغريب، وبدأ تيار التغريب المدعوم من كثير من المؤسسات والصحافة يحاول أَن يغير وجه الثقافة العربية، وبالذات الأدب وعندها سيطرت ظاهرة الغموض على أدبه وسميت "إبداعاً" وبدأت عملية الاستهزاء بالتراث والخروج عليه، بل والسخرية منه تحت اسم روح العصر والتحديث.

وفي المقابل قضى عمالقة تيار الإحياء الأدبي نحبهم، فخلف من بعدهم جيل لم يستطع الصبر على الطريق ومشاقها، فتبعثرت الجهود، وانتهز تيار التغريب الفرصة، فسيطر على الساحة الأدبية والثقافية، مما جعل الأدب العربي ساحة خصبة لتيارات التغريب ومستوردي ثقافة (جُحر الضب) الأوروبي.

وفي العقد السادس من القرن المنصرم ، بدأت تيارات الصحوة الإسلامية، تطرح مفهوم الشمولية، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، لأنه دين الله سبحانه وتعالى، وبدأ المهتمون منهم بقضية الأدب، يطرحون لافتة " الأدب الإسلامي " استكمالاً لشمولية الإسلام، ومواجهة لسيل التغريب الجارف، الذي يهدد الأدب العربي، ويهدد الأمة في لغتها وثقافتها، بل ويؤدي إلى تشويه وجدانها ومسخه.

وكانت المحاولات الإسلامية تنطلق من النوايا الطيبة، والغيرة على كيان الأمة الثقافي والأدبي، واستطاع تيار الإحياء الإسلامي في محاولاته أن ينتج في (الجانب الإبداعي) أدبا إسلامياً في معظم الأنواع الأدبية المشهورة من شعر ورواية ومسرحية ومقال وحديث إذاعي وخاطرة..... وغيرها.

وعلى الرغم من نجاحه في الإنتاج الأدبي، إلا أنه كان عائما في مقاييسه النقدية، ولذلك ظل أدبه يحتكم إلى المقاييس التي توجه الأدب العربي المعاصر، ومما ساعد في البقاء على هذا الحال، هو أنَّ الحركة النقدية، التي حاولت أن تنظر للأدب الإسلامي كانت حركة (عفوية فوضوية)، يوجهها الحماس الفردي والتصور المحدود، في جو من الهزيمة النفسية، أَمام نظريات الأدب الغربي الوافدة على يد دعاة التغريب، ولذلك جاءت تنظيراتهم أشبه بردود الفعل، لأنهم صمموا على الانطلاق في تنظيراتهم، من طموحاتهم وهواجسهم ومخاوفهم، دون اكتراث لمنهج فقهاء الأمة في فقه دينها، وهو الجمع بين علوم الشرع والعلم التخصصي للقضايا التي يُفتى فيها... والكلام في ذلك يطول...

وفي كتابي هذا اجتهدت أن يكون عملي محدداً بهدفين:

الأول: وضع مقدمة منهجية توضح طريق الانتقال من فكر الصحوة الإسلامية "العام العائم" إلى فكر النهضة الإسلامية "المتخصصة" ليكون النهج ميسراً أمام النظرية الإسلامية الأدبية المبحوث عنها، وحتى نستفيد من ذلك في محاكمة فكر الصحوة وإيضاح الطريق الذي ينقلنا من (قوقعة الفكر العام) إلى منهج الفكر المتخصص للأدب وغيره.

الثاني: تحديد (الوثائق الشرعية) لاستخلاص النظرية الأدبية، من القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وأدب الصحابة والراشدين، لتأكيد أهمية مصادر استخراج المقاييس النقدية للفن الإسلامي، حتى يكون التنظير " شرعيا إسلامياً " والتذكير بـ (المصادر الأدبية) من تاريخ الأدب العربي وإنتاجه الأدبي عبر العصور، والمدارس الفنية التي سادت هذا الأدب كما يفهمه أهل الصنعة والعلوم الأدبية؛ ليكون التنظير " أدبياً متخصصاً " وبذلك نجمع للتنظير الصفتين (الإسلامية والمتخصصة) حتى يكون الإفتاء قائما على العلم، وبعد ذلك يأتي الدمج بين (النظرية والتطبيق) من خلال دراسة أمثلة من النماذج الرائعة لهذا الأدب، تمهيدا لاستخراج المقاييس النقدية له.

وهو ما نشرناه في المقالات السابقة في موقع أدباء الشام .

وسوم: العدد 742