أحمد الخليلي.. شاعر هوايته التجديد

السيد إبراهيم أحمد

السيد إبراهيم أحمد

[email protected]

لا أدعي أنني قرأته القراءة التي تتيح لي أن أقيم تجربته بشكل إجمالي، ذلك أن هذا الشاعر الديسمبري الجنوبي قد أفنى وقتًا طويلاً في معانقة موهبته حتى صارت نهرًا غذته روافد كثيرة من ثقافاته الغير منتظمة والمتنوعة، والتي نهلت من بيئته، ومن عقيدته، ومن محاولات حثيثة منه للخروج من شرنقة التقليد، والدخول في عالم التجريب وصولاً إلى شكل أو قالب يتفرد به بحيث يكون دليلاً عليه.

أنه الشاعر أحمد الخليلي، القنائي، المولود في منتصف العقد الستيني من القرن الماضي، والذي غادر مقعد الدراسة في مرحلته الإبتدائية منتهجًا طريق العقاد ومحاولاً التمسك بقاطرة الثقافة الذي أخذ منها بحظٍ وافر، والتي غذاها ليس فقط بالعلوم المدنية بل بالعلم الديني وخاصة علم القراءات والذي أحرز من خلاله شهادة أهلته للعمل بالأوقاف، ولذا فقد تعود لسانه النطق والكتابة بالعربية الفصيحة الصحيحة التي غذاها بقراءته المتعمقة في ديوان العربية الأول "الشعر"، والإبحار في كتب الأدب يروي منها نهمه نحو التزود بخلفية ثقافية واسعة وهي حالة دائمًا ما تصاحب من فاته استكمال مشواره التعليمي فيعوضه بالتكالب المعرفي وهو مكسب له، وأسبق من غيره أحيانًا.

أصدر الخليلي ديوانين بالفصحى، هما: "شفَّاف حتى الهواجس" عام 1998، "ريق من الطمى" 1999، وديوان بالعامية:"شقاوة الغلاوة" ضمن سلسلة اشراقات الهيئة العامة للكتاب عام 2008، كما أن له مجموعة قصصية وحيدة: "مرهم وشوق وجُرحٌ أخضر".

   ونتيجة لإبداعه المتميز الذي لفت إليه أنظار العديد من قامات الشعر والنقد في مصر، أن حصد العديد من الجوائز، منها: جائزة الشباب عن قصور الثقافة بالمركز الأول عام 1997،والمركز الأول فى إتحاد الاذاعة والتلفزيون عام 1999،وكذا المركز الأول في المسابقات التالية: مسابقة محلية عن نادى الادب فى 1996، مسابقة محمود مهدى فى 2002، مسابقة مجلة الياسمين الاليكترونية على مستوى الوطن العربى.

   وبعد كل ما تقدم عن الخليلي لك أن تتساءل: أين هو على خريطة الإبداع سواء في منبته الجنوبي، أو في فضاء عاصمة بلاده الثقافية؟!.. ولكن هل هذا هو حال الخليلي وحده؟.. مثل كل الأقاليم الحبلى برياحين الإبداع الموشكة على الخروج، تلك التي استوت على جودي الإبداع، وماتت أو ستموت وهيَّ بعد لم تراوح أرضها، لأننا في مصرنا الغالية نمتلك "الشكلانية" ونهدر المضمون، نبني قصور الثقافة ويسكنها مقاطيع القوى العاملة الذين لا يحسنون القراءة ولا الكتابة، فكيف سيقرأون قصائد معتقة أنضجها نبيذ الدم، وحرقة السهر، والصبر على قنص المعاني، وغواية التنقيب عن الجديد؟!

   سار الشعر في نهره يتهادى هانئًا تارة بالتقليد، عاصفًا تارات عبر عصور الإبداع العربي بالتمرد على القديم، والرحيل نحو شواطيء التجديد، وإن كان التمرد على الشكل التقليدي للقصيدة العربية قد عانق بدايات القرن العشرين حين عرفنا الشعر المرسل ضد التقيد بالوزن والقافية، ليحدث في تلازم قوي التجديد في المضمون ومحاولة التمرد أو التجديد في اللغة عبر أطروحات وجدل طويل بين من يرى انفصالية العلاقة أو اتصالها بين الشكل والمضمون من خلال التداخل والتجاذب بينهما، ومن ثم لايملك الخليلي التراجع عن غواية التجديد من خلال مس المضمون بموضوعات تخصه نفسيًا وبيئيًا يحاول الإفلات من شبهة التقليد أو المحاكاة، باحثًا عن التفرد والشخصانية، ومن ثم فقد أغرم شاعرنا باللعب على وتر اللغة متنقلاً بين الفصحى والعامية تارةً بالفصل وتارةً بالمزج تطعيمًا وتلقيحًا.

  يظن أحمد الخليلي أنه كان الأسبق في هذا بيد أن الشاعر الكبير فؤاد حداد نجح أن يُدخِل العامية والقاهرية منها خاصةً في نسيج أعماله،كما كان يفعلها الروائي إبراهيم أصلان الذي يرى أن مهمة الكتابة تكمن في تحرير الكلمات من صيغها الثابتة، وذلك حين تتغير الكلمة داخل الجملة، فتتحرر وتمنح المتلقي إمكانية أن يفكر بنفسه. ورأيه يأتي شبه اتفاقًا لما قاله اللغوي والفيلسوف الروسي باختين: (إنه من الواضح أن اللهجات بدخولها إلى الأدب ومساهمتها في لغته، تفقد صفة كونها أنساقًا اجتماعية لسانية مغلقة. إنها تتشوه، وحاصل الكلام فإنها تكف عن أن تكون ما كانت عليه بصفتها لهجات).

  ربما صب هذا التجديد ميزةً لإبداع الخليلي، وربما شكل في نفس الآن عائقًا في التواصل المعرفي والفني من بعض إبداعه مع بعض متلقيه، وخاصةً في النصوص الفصيحة حين تخترمها بعض العامية القح التي يعوّل عليها الخليلي والتي يبارز بها أذن من اعتاد الفصحى الخلوص فيزعجه اللفظ العامي الذى اقتحم عليه تذوقه، وربما أرى أن هذا الأمر يشكل عاملاً طاردًا في بعض الأحيان، أو قطعًا للوشيجة بين الخليلي وبين جمهوره.

غير أن قصيدته التي يتعالج فيها اللفظ التراثي العامي الموحي مصريًا، والكلام الحديث من الرحبانية مع النص الفصيح: "أنملة على وترِ  شجيّ"من ديوانه: "شفاّف حتى الهواجس"، يعاجل فيها الخليلي مستمعه بضربة مفاجئة تسرقه من نفسه حين يبدأ تلك القصيدة بكلمات شاعر أبوللو الكبير صالح جودت: الويل الويل يايُمّه.. دق الهوى ع الباب من يمّة الاحباب، وحين يستفيق يكون في منتصف نهر الفصاحة، يجهز عليه بنسمة فيروزية شهيرة:

 حال يجيئك صوتى تُطرب منّى وكأنى أسمعتك فيروز تُغنّى

لشوارع خاليةِ إلا من شجنِ رحبانّى

يتغّير نسج الكلمات .. حبيتك فوق لسانى حائرةُ.. فعيونك الصيف وعيونك الشتا.. ملآنه ياحبيبي بثلج البُعد وحرّ البُكا..

إذن فالخليلي يتعامل مع العامية التي تزور قصيدته الفصحي بسبق الإصرار والتعمد أن تأتي مجردة .. صريحة.. بلا مواربة..وهيَّ ما تشكل الصدمة التي أشرت إليها، وعلى سبيل المثال قصيدته "الطفلة وقروشِ خمسة":

لازالت زنوبة فى البنت

تموج بلهجتها

   لسه م الزمن القُريّب مرسومه

على جدار الحوش القديم

ع القلب الحميم صُبح ومسا كل حاجه

تنعشق تنرشق زى الحبيبة ف قلب

حبيب

ليها نفس معناها القديم تحيي الحياة

بين صبية لسه بيلعبو التاتا

لسه بيتعلمو فنّ الحياة

تَغُلب على الخليلي بيئته فيورد في لوحاته التشكيلية الزاخرة بزخارف الحياة والحماسة والناس بعضًا من رموزها كشجرة السنط وشجر النخيل، التي يؤنسنها ويكسوها حلل أوصافه الطبيعية الأصيلة دون افتعال أو تصنع:

(ودور الطين سباها الشوق لظل السنط المتوارى

خلف بريق فسفوري لا يمنح إحساسًا

بالظل لا يعفو من غَسَقِ عَفَوى)

............

(وأنشودة الفرّوج فى القيلولة

تتناغم وترانيم القمرّي وحنّو ظلال السَنطِ

كرشَّةِ ماءِ فوق تُراب الشوق

تُزخرفهُ بالدمع علي طُرقاتِ لأمشاجِ تبتليه)ِ

  أن هذا القوصي القابع في الجمالية البعيدة يعاقر القصيدة بحب ودهشة وامتلاك أدوات الحداثة مع القصيدة، والذي لايمل من ممارسة هواية التدريب والنحت والتجديد ليتماس مع أولئك النجوم التى أسكرتها الشهرة، ورصعها نجوم الحضور، ففيه من أنفاس من سبقوا الأصالة، والنزوع نحو المعاصرة، غير أنه احتفظ بصهيله جذلاً فرحانًا، يتحقق فيه ما قاله لأدونيس في كتابه "مقدمة للشعر العربي": (أن يكتب الشاعر قصيدة لا يعني أنه يمارس نوعًا من الكتابة، وإنما يعني أنه يحيل العالم إلى شعر يخلق له فيما يتمثل صورته القديمة صورة جديدة، فالقصيدة حدث أو مجيء، والشعر تأسيس باللغة، والرؤيا تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما من قبل).

  وإذا كان علماء اللغة يرون استحالة إصدار أحكام على آراء كاتبٍ ما دون تحليل مسبق للغة هذا الكاتب، إذن بات من الضروري توافر النقاد على معالجة لغة الشاعر المجدد أحمد الخليلي، والعكوف على استخراج الدلالات والتفاعلات اللفظية المبثوثة من خلال بنية أو دراسة التراكيب النحوية والبلاغية الموحية في كل كتاباته، ومن المؤكد أن مقالاً واحدًا لن يفي بتلك الدراسة التي لو شاء لها كاتبها تتبع عامية الخليلي التي تفوق فيها على نفسه، ولو أراح نفسه من عناء الفصحى وانكب عليه وحدها لطغت شهرته، ولكنه شاعر لا يطارد اللفظ السائغ، والمعنى الشائع، وربما تلمح هذا من عناوين دواوينه أو قصائده.

   ولا أدل على تأثره من اللعب على الجناس اللفظي، والتقابل الذي يحدث الجرس الداخلي للموسيقى المبثوثة في تلافيف القصيدة مما أشتهر به الموال الصعيدي وفن الواو، ما نلمحه ونختم به ذلك الذي جاء في قصيدته الإنسانية الرائعة المنفعلة لا المفتعلة "على إيه"، من ديوانه الذي لم يصدر بعد، والمكتوب بالعامية المصرية "لو خرم يخّشش هوا":

فليخْرُج الحُرَّاس ماعدش فيه ف الرّاس  غير حبَّة خُرافه 

مع هلوسة ووسواس

فليخرج الأنجاس فوق قمّة المشهد

المِيضة راحت عليها تجديد فى صورة هَدّ

مبقاش داخلنا بجد لا خشوع

ولا شعرة توحّد حّد

ما أقبح الإنسان بلا ماركة ولا عنوان 

ما أقبح الرُتبة بلا إنسان

يا واكل وشارب ورغم دا هارب 

بتحصى بالملّيم إحصى كدة نَفَسَك 

عِد كام نفسك 

فليخرج الحُراّس مبقاش خلاص ف الراس 

غير خطة مسمومة

لفكرة محمومة ف ضمير مِنداس

على إيه حتترّصوا ماالحال قريت نَصُه

مضروب اهو ف نُصه 

من ساعة العميان ما أقسموا بصّوا

والشوَّافين خايفين ومهَّيفين ومهوفين

والحِس أصبح نار للى بيحسّو 

صُبّ لى واتوصى خلينا ننسُو