زوجتي العزيزة

علي صدر الدين البيانوني

بسم الله الرحمن الرحيم

زوجتي العزيزة ، أولادي الأحبة ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :

فإني أحمد الله عز وجل أن اختارنا لمحبته، فإن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وأشكره سبحانه وتعالى أن ألهمنا الصبر على بلائه، وأعاننا عليه، فله وحده الحمد والشكر والمنة والفضل، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى أله وصحبه والتابعين، والسائرين على طريقه المستقيم إلى يوم الدين.

أما بعد، فقد أردت أن أخاطب قلوبكم أيها الأحباب، بعد أن عزّ الخطاب، وأحببت أن أذكركم بما ينفعكم في محنتكم هذه إن شاء الله، بل في حياتكم كلها، إن وعَيْتم ما أقول وفتحتم مسامع قلوبكم إليه، فاسمعوا وعوا:

لا شك أننا نعيش في محنة قاسية، قدرها الله علينا منذ الأزل، لكن مما يخفف علينا وطأتها، ويعيننا على الصبر عليها، ويسهل علينا اجتيازها بسلام، أن نتذكر ما يلي:

لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، إيماننا بذلك، يجعلنا نعتقد أن الذي أصابنا لم يكن ليخطئنا، لأنه قضاء الله، ولا رادّ لقضائه.

الابتلاء دليل على محبة الله للعبد، فالله إذا أحب عبداً ابتلاه، ولعل الله عز وجل، قدر لنا منزلة لا تبلغها أعمالنا، فأراد سبحانه لنا بهذا الابتلاء أن يكفر عنا سيئاتنا، ويرفع منزلتنا عنده.

الابتلاء سنة الله عز وجل في أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والسائرين على هداهم، وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل.

لم يثبت علينا سوى أننا نعمل للإسلام ونشر دعوته بشكل منظم، والله يعلم أننا لا نبغي من وراء ذلك إلا مرضاته، ولا نقصد إلا وجهه، ولذلك فنحن مطمئنون إلى أننا في سبيل الله.

لطف الله عز وجل بنا، كان ظاهراً واضحاً منذ أول لحظة، وكان الله معنا بتأييده وعونه وتثبيته، خصوصاً في أشد الأوقات وأصعبها، وسأحدثكم عن ذلك من العجائب الشيء الكثير إن شاء الله.

المحنة وإن كانت في ظاهرها مشقة وشدة، وكرباً وهماً وغماً، إلا أنها في حقيقتها نعمة من الله ورحمة، فلو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، والخير دائماً فيما يختاره الله، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا.

يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له.

أنعم الله علينا في هذا السجن بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، زيادة على ما أنعم به علينا من قبل، أذكر لكم فيما يلي طرفاً يسيراً منها تسلية لنفوسكم، لتعرفوا عِظم فضل الله علينا، وتحدثاً بنعمه:

تعلمت في السجن أموراً كثيرة بشكل عملي، بعد أن كنت لا أعرفها إلا نظرياً. منها: الصبر والمصابرة، الرضى بقضاء الله من أعماق القلب، التسليم المطلق لله وتفويض الأمر إليه، تخلية القلب من الشواغل عن الله ومن حب الأغيار... الأنس بالله عز وجل، والشعور بمعيّته، واستعذاب العذاب في سبيله، تأييد الله لي وتثبيته إيّاي في الشدائد.

سرعة استجابة الدعاء في كثير من الأمور بشكل لا أعرفه من قبل.

الطمأنينة والسكينة وراحة القلب

الرؤى الصالحة المبشرة الكثيرة جداً والحمد لله

مراجعة حساب الماضي في هدوء وصفاء، والعزم على تصحيح الأخطاء وتسديد الخطوات.

الخلوة مع الله عز وجل وفوائدها الكثيرة

من نعم الله علينا أن كفانا هم التفكير فيما نحتاج إليه من مال، وأغنانا عن مساعدات الآخرين، بأن بقيَ الراتب مدفوعاً.

وغير ذلك كثيرٌ وكثيرٌ جداً. فالحمد لله أولاً وآخراً.

وصايا عامة

أوصي زوجتي الغالية وأولادي الأحبة بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، فاتقوا الله  مااستطعتم، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، وأن الله يحب المتقين.

واستعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين، واعلموا أن مع العسر يسراً، وأنه ليس بعد الضيق إلا الفرج، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأنه إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وأن كل يوم نقضيه في المحنة صابرين محتسبين، يقابله عند الله أجر عظيم، وعندما نلقى الله عز وجل ونرى ما أعده لنا من خير، سنقول ياليتنا قضينا في المحنة والبلاء أكثر!... فاستعينوا بالله واصبروا واحتسبوا، ولتكن قلوبكم راضية بقضاء الله، مطمئنة إلى فرجه ورحمته، وإياكم والجزع والسخط، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، واستعينوا بالصبر والصلاة، وأكثروا من ذكر الله، وادعوه ضارعين إليه، أن يغفر لنا ويرحمنا ويفرج عنا ما نحن فيه ، وإياكم أن تعلّقوا قلوبكم بغير الله فيكلكم إلى غيره، والله عز وجل بيده وحده الأمر كله، وقلوب الخلائق بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، ولا تيئسوا من روح الله، إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.

وأذكركم بما يلي:

1.حافظوا على الصلوات في أوقاتها وصلّوها بخشوع وحضور قلب مع الله، واحذروا من الغفلة فيها، ولا تنسَوا الأذكار والدعاء بعدها.

2.حافظوا على صلاة التهجّد، ولا تتهاونوا فيها.

3.أكثروا من الدعاء والاستغفار عند السحر.

4.أكثروا من الدعاء في صلاة النفل وبعد الفروض وفي ثلث الليل الآخر وفي السجود وبين الأذان والإقامة.

5.حافظوا على تلاوة القرآن يومياً، واقرءوه بتدبر وفهم، وصلّوا صلاة الحاجة كل يوم.

6.استمرّوا في تعليم ميسون وأحمد تلاوة القرآن. وليكن لهما درس كل يوم على الأقل.

7.تعاونوا على أعمال البيت، وليحترم الصغير الكبير، وليعطف الكبير على الصغير

8.اسمعوا وأطيعوا لأمكم، ولإخوتكم الأكبر منكم

9.برّوا أمكم وجدّيكم وجدّتيكم، واسمعوا لهم وأطيعوا وخصّوا والدي ووالدتي بالبر، ولا تنقطعوا عنهما، واستفيدوا من توجيهاتهما، واطلبوا منهما خاصة الدعاء.

10.ابتعدوا عن معاصي الله وسخط الله، وأكثروا من الطاعات وتزوّدوا من دنياكم لآخرتكم، فإن خير الزاد التقوى.

11.احترموا أعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم، وكل من له حق عليكم, ولا تنقطعوا عنهم.

من الأبيات التي نترنم بها في زنزاناتنا المنفردة:

تالله ما الدعـــــــوات تُهزم بالأذى            أبــــداً وفي التــــاريــخ بـــــــرّ يميني

ضع في يديّ القيد ألهب أضلعي      بالسوط ضع عنقي على السـكين

لن تستطيع حصارَ فكري ساعة          أو نــــزعَ إيمـــــــــاني ونــــــــورِ يقيني

فالنـــــــــور في قلبي وقلبي في يدَيْ        ربــي، وربــي حــــافـــظي ومعيني

وختاماً أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ولا تنسَوْني جميعاً من دعواتكم، وإلى فرج قريب بإذن الله ولقاء حبيب، لكم مني جميعاً أطيب التحيات وأخلص الدعوات وأحلى القبلات. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

يوم الاثنين 10 رمضان 1395        الموافق : 15 أيلول 1975

أبو أنس

وسوم: العدد 769