كلماتٌ وعَبَرات.. في وداع الجدّة الكريمة (زوجة أ. عبد الله الطنطاوي الحاجة عائشة الريحاوي)

لطالما تمنّيتُ في طفولتي أن يكون لي جَدٌّ وجَدّة!

وكم حلمتُ بأن أنادي اسمَيهما..

وما تخيّلتُ أنّ هذه الأمنية قد تتحقق يوما مّا؛ فآخر أجدادي تُوفّي وأنا صغيرة جداً ولم ألتقِ به.

إلى أن شاءَ اللهُ وأكرمني بجَدَّين حنونين كريمين وأنا في عمر العشرين!

(وهما أجداد زوجي: العم الأديب عبدالله طنطاوي حفظه الله، وزوجته الكريمة رحمها الله).

كانا لي ولأولادي الدفء والعطاء والبركة والحنان، نهلتُ من جميل عطائِهما، ولطالما سعدتُ بزيارتهما ولم أرتوِ بعد،،

"نانا عائشة"

كنتُ أوّل من ناداها باسمها هذا كي يُميز أولادي أيّ الجَدّتين أقصد،

وكم وكم تندّرَتْ على هذا النداء وضحكتْ من قلبها الطيّب، حيث لم تعتدْ عليه من قبل!

ثمّ قبِلَته وأحبّته كثيراً، خاصة من فم ابنتي الصغيرة التي كانت بالكاد تلفظُه بأحرفٍ مكسورة، فتطلبُ منها إعادته وتكراره مرات ومرات لتتغنّى به!

حمدتُ الله أن ألهمني شُكرها على هذه المشاعر الجميلة التي مَنحتني إياها قبل وفاتها.

وأن أخبرتها -عند كلّ مرة تذكر فيها الموت وأن ندعو لها- بأنّنا سنفتقدها كثيراً،، وسنذكرها بكلّ خير

..

شكرا لكِ (يا نانا) حتى بعد رحيلكِ!

لن أنسى حكاياكِ الجميلة التي لا تحلو جلسة الجدّات إلا بها،

فكَم سهرنا على تفاصيلها الصغيرة،

وكم ضحكنا، وتآنسنا بها،،

تلك الحكايات المليئة بعبق الأصالة والحضارة، من شتّى الأمكنة والأزمان.

كانتْ تارة تأخدنا إلى مسقط رأسها في (حلب) مع ذكريات الطفولة والصبا، وتارة أخرى تنقلنا إلى (اعزاز) مع أهل الزوج الكرام، وكيف كانت مثال الكنة المحبوبة،

ثم ترحل عبر الزمن،، 

وتصل بنا إلى (بغداد)، وتقف كثيراً في هذه المحطة المليئة بالمجدِ وألم الفقدِ معاً!

ثمّ تطيرُ بعيداً وتحطُّ بنا آخراً في (عمّان)، حيثُ هجرتها الأخيرة، واجتماعُ البنات الغاليات حولها واستمتاعها بالإقامة بينهُنّ، والتنعّم بقربهنّ.

ولن أنسى كيف كانت تُضفي البهجة على الوجوه بحديثها، وتنثرُ المرح في كل زاوية من زوايا المنزل الذي تزوره، وتتركُ فيه حيويّة نتمنى لو تطول..

وسيذكر أولادي تعليقاتها على التنظيم والترتيب وشغفها بهم، وسيفتقدون تقييمها المستمرّ لهِندامهم ومِشيتهم ووِقفتهم وحديثهم، النابع عن حبها للأدب واللّباقة وحُسن المظهر

رحلتِ يا جدتي الغالية

وبقيَتْ ذكراكِ ومكانتكِ في قلبي لن يملأها أحد

رحلتِ وما زالت قصصكِ في ذاكرتي، تُترجم دروساً وعبراً في الحياة،

وستبقى مواقفكِ الظريفة زاداً فكاهياً لروحي التي كانت تأنسُ بزيارتك دوماً..

رحمكِ الله بعدد أيامكِ وأكثر،

رحمكِ الله بحجم ما قدّمتِ وتعبتِ وأكثر،

رحمكِ الله بحجم صبركِ على ما ابتُليتِ به من فقدان الابن الغالي، وبحجم ما ذرفتِ من الدموع عليه وأكثر،،

أسأل الله يُنزلك مقام الصابرات المحتسبات، وأن يجعل مكانك في علّيين في الجنّات..

وأن يُبدلك قصراً خيراً من بيتكِ الذي تغنّيتِ به كثيراً في أيامكِ الأخيرة،

تتجولين بين أركانه بعافية تامة لا يمسّك تعبٌ ولا نصبٌ ولا وصبْ،،

وتختارين به مكاناً مخصصاً لكِ كما تحبّين،،

وأريكةً مريحةً تتكئينَ عليها قريرة العين، هانئة البال، مجبورة الخاطر،

بين الورود الحمراء كما كنتِ تُفضّلين!

وأسأله تعالى أن يُعلي مقامكِ بحجم ما دعوتِ لنا بدعواتٍ تفيضُ محبة ورضا منكِ علينا،،

وأن يُحسن وفادتكِ بمقدار ما تسابقتِ إلى الإحسان والجُود بالمالِ في شتّى سُبل الخير، وإسعادِ الغير.

ألفُ سلامٍ على روحكِ الطاهرة، إلى حين اللُّقيا بكِ -بإذن الله- في دار السلام.

..

حفيدتك المُحبة

وسوم: العدد 1062