الشيخ إبراهيم الحريري: فارسٌ أتعبَ فرسَه

الشيخ إبراهيم الحريري:

فارسٌ أتعبَ فرسَه

د. محمد عادل شوك

قبل تسع سنوات حطَّتْ بي الرِّحال في مدينة ( أبها )، أستاذًا في كليات البنات، و كعادة الغريب أن يُجِدَّ السعي للقاء من يخفِّفُ عنه آلامَ الغربة، و يُؤنسه في بلاد هو فيها كحال المتنبي ( في شِعب بوان )، و قد كان من جملة من سعيتُ للقائهم، و التعرف عليهم من أجل هذا الشيخ ( أبا محمد الحريري ).

و الطريف في أمر لقائي الأول به، أنني كنتُ أسمع هذا الاسم يتردد في كثير من المجالس التي كنتُ أحضرها مع ثلَّة من الأحباب السوريين، و لاسيما الشيخ الوقور ( محمد شردوب )، الذي كان أول من لقيني في حينها، و فتح لي قلبه قبل بيته.

أقول: و الطريف في أمر لقائي بالشيخ ( إبراهيم الحريري ) أنه بادرني بالسؤال عن ساعة قدومي إلى أبها، و لمّا عرف أن الأمر كان منذ أشهر عدّة؛ اعتذرَ لي عن تأخره في لقائي، و التعرّف عليّ، علمًا أنه لا سابق معرفة بيننا حتى يلومَ نفسه على ذلك.

و منذ تلك الساعة المباركة و هو يلقاني بصدر منشرح، و يفسح لي المجال للحديث عن آخر التطورات السياسية في بلدنا الحبيب، و في عدد من البلدان التي أعرف عنها بعضًا من الأخبار، و لاسيما ما يجري في العراق، و اليمن، حيث أقمتُ فيهما مدة من الزمن.

إنّ ممّا عرفته عن الشيخ أبي محمد جعلني أحرص على زيارته و التردّد على بيته، زائرًا، و مدعوًّا، و كذا حضوره إلى منزلي  المتعب له، و لزوجته الفاضلة رحمها الله ( حيث كان في الطابق الثالث، و الصعود إليه بالدرج المزعج ، الذي لا يناسبه نظرًا للمشاكل الصحية التي كان من ألدّ مزعجاتها الدرج العالي )، و مازلت أذكر له آخر زيارة كان لي الشرف فيها، عندما ألقى جسده المُتعب من مرض السرطان، و الضغط، و غيرهما، فشعرتُ أنه على وشك أن يلمَّ به ما لا يسرُّ بسبب الصعود إلى بيتي؛ فما كان منه إلاَّ أن أشار إليّ بيده، و بعد أن عادت له أنفاسه همس في أذني: إنّ ما أشعر به من راحة حين لقاء الإخوة و الأصحاب ليجعلني آتي على نفسي، و أحمّلها ما ترى.

 رحمك الله يا أبا محمد على كريم خلقك، و محتدم أصلك.

لقد عرفت في الشيخ إبراهيم كرم الضيافة الذي يذكرنا بسجايا العروبة، و وصايا الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم، و عرفت فيه فراسته في معرفة الرجال، و إنزالهم المنزلة اللائقة كلاًّ منهم، و عرفتُ فيه الرأي الفاحص و السديد في الحكم على الأمور، و عرفتُ فيه الصبر على النوازل، و البلايا، و عرفت فيه إحاطته بكنوز المعرفة في علوم الشريعة، و العربية؛ فلقد كان أستاذًا للغة العربية في كلية الفيصل للعلوم الإدارية، و عضوًا في المجمع الفقهي في جُدّة.

  و عرفتُ في خلاصةً من تجارب الحياة، تأتت له من معاصرة قامات كبيرة من علماء، و رجالات سورية، و العالم الإسلامي مذ كان طالبًا في دمشق الفيحاء، حتى حطت به الرحال في بلاد الحرمين الشريفين ( طالبًا في الجامعة الإسلامية، ثمّ مهاجرًا ).

و عرفتُ فيه الوسطية في التفكير، و السلوك؛ حيث كان يمقت التشدّد أيًّا كان مصدره و صاحبه. إنّه وسطي في رُآه السياسية، و التنظيمية، و الدينية، و الفكرية، بله المعاشية.

لقد عرفتُ فيه مغالبة الصبر على الرزايا؛ فلقد ابتُلي بالهجرة؛ فصبر، و بالفاقة أحيانًا، فتجمّل، و بالنوازل تنزل بأمتنا، فكان ملجأً لإخوانه، و بفقد الأهل و الأحباب، فاحتسب ذلك عند الله، و أخيرًا بالمرض، فكان مثلاً في الرضا بقضاء الله و قدره.

لقد عرفت في الشيخ الجليل ما جعلني أفخر بلقائي به، و التعرف عليه طيلة هذه السنوات التسع.

ممّا رأيت أقول: لقد أتعبت فرسَك يا أبا محمد، و آن لك أن تُخلِّي سبيلها، و حسبك أن ترقد الآن في جوار الله قرير العين هانيها.