رسالة إلى النبع العذب والحلم المنتظر بلا تعب!!

رسالة إلى النبع العذب

والحلم المنتظر بلا تعب!!

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

هي رسالة إلى أمي، تلك المرأة التي لم تَعْتَدْ أن تفيض كلماتها بعبارات الحب كما ينبغي أن تفيض، ولكنها بكل تأكيد تعيش الموقف، موقف الحب وعاطفة الأمومة بكل صارمة، فهي الوحيدة المخلصة الوفية، مهما مرت السنوات الخدّاعات، وتقلبت النساء المتقلبات المتحولات تبقى هي الثابت الوحيد، لن تغير موقفها مني مهما كانت العواصف عاتية، ومهما كانت الأنواء جارفة، هي وحدها من ترمم ما تكسر فيّ من أمل وتعيد سكب زجاج الروح المتناثر في أرضية النفس اللاهبة المعذبة.

تذكرني شخصيتك يا أمي بشخصية أم درويش، تلك المرأة القوية الصارمة التي كانت مسيطرة جادةً وحادة، وتعطي للأسرة شكلها التي تريد، ولأنها تمتلك رؤيا جارحة في شفافيتها المفتوحة على آفاق لا حد لها من البصيرة النافذة الثاقبة، فوحدك من تعيدين للوجود معناه المفقود وألقه المسروق في انعدام الرؤية في ضباب كثيف يمحو الدروب المطموسة بذرات السآمة الفادحة.

إليك أمي أكتب، ولأول مرة أكتشف أنني كم كنت غبيا عندما كنت أغيب وأغيب، ولا تصافح عيناي محياك الذي يطغى ويتغلغل في عميق الوجدان، لأول مرة أكتشف بعد كم هائل من الوجع أنك الوحيدة التي تؤهلني لأتحدث بحرية في ظل تلاطم الأمواج العاتية، وحدك من يستطيع أن يدافع عني حتى آخر دمعة وأول ابتسامة.

أمي ليست معنى بيولوجيا فقط، بل هي معنى يفيض بالرقية الحاملة طبا شافيا من وله قديم وحديث، هي معنى مركب من تأملات صنعتها الحياة على أوتار تقلباتها المفضية إلى سلام روحي ومعنوي ومادي أخاذ، تجعلني وأنا بين يديها طفلا محتاجا للحنان والرأفة، فليس من امرأة سواك مستعدة لأن تكون لي كما ينبغي، أو أن تحبني كما ينبغي، فأنت وحدك من يحق لها أن تقول: أحببتك يا قطعة من روحي كما ينبغي، تمنحني العذر المبطن لصناعة أحلام المستقبل، أراك تتأسفين على اندلاقه هباء في معمعة المجهول.

يتكالب الناس، ويتفاقم ما تنتجه سمومهم وسهامهم المصوبة نحو نهاري المفعم بالسواد، لتكوني وحدك النصير المدافع بالمنطق الخاص عن وجودي في تشابكت روحي وتبتلها في الخواء الشقي، يسقيني الآخرون كؤوس الحنظل، وأخريات كؤوس السراب، وأنت من تمتلكين إكسير الحياة، كيف لا وأنت أمي، التي كنت لي الحاضنة والمرضعة والمربية والحانية، فليس يفجأني أن ألقاك إلى جانبي تحمينني من كل طارقة الهموم وخاطرة البلاء المصبوب مشرعا كما الرياح بلا قرار.

أتذكرك، وأتأسف على أنني أضعت لحظات كان بإمكانها أن تكون الأجمل والأحسن، أتذكر أن لقمة بسيطة من طعام بسيط كنت تتقينه صناعة وإعدادا، أو هكذا دائما أراه، هو أشهى من كل ما تصنعه أيدي الماهرات من النساء، فتضطر شهيتي أن تكون شرهة لتلتهم ما أعددته من ذلك المجبول بالروح ونسغ القلب، وأكتشف بعد لحظات أنني ما زلت جائعا نهما، أطالبك بالمزيد، وأنت لا تفتئين تحثينني على المزيد من متابعة القضاء على مائدة أفرغتها بدمي شوقا لذلك التمازج الغريب الطبيعي المكتشف متأخرا بأنني لا بد أن أظل طفلا أثيريا بين راحتيك، تعطيني ولا تبخلين وتساعدينني على البقاء حيا مشرقا بالأمل، فلا أحد إلاك يعرف معرفة اليقين بأن كل النساء عابرات صاحبات مقعد مؤقت في القلب، لأنهن باختصار لا يملكن قلبا مثل قلبك، ولا رؤية كبصيرتك، وسيكون درويش فاتنا هذه المرة معبرا عما يختلج ويرتعش بين الكلمات، وهو يقول على لسان أمه في قصيدة تعاليم حورية:

تقول لي مثلاً :

تزوَّجْ أَيَّةَ امرأةٍ مِنَ الغُرباء, أَجملَ من بناتِ الحيِّ , لكنْ لا

تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سواي. ولا تُصَدِّقْ

ذكرياتِكَ دائماً. لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ,

تلك مِهْنَتُها الجميلةُ. لا تحنَّ إلى مواعيد

الندى. كُنْ واقعيَّاً كالسماء....

عهدا أمي أن أظل واقعيا كما أنا، فلست بواثق إلا بقلبك وبرؤيتك المتسعة، فأنت وحدك من فتح باب إنسانيتي لأكون أجمل، ولأبحث في الحلم عن امرأة هي صنوك في الشوق العذب الجميل، فهل ستصدقين قلبي هذه المرة بأنني أبحث عمن تشبهك معنى وروحا وصفاء رؤيا ونقاوة قلب، إني أخشى من غيابكما وأخشى من ضياع الحلم، فلعله ما زال ممكنا.

لك سلام الروح يا أمي

ولك سلام الروح يا فاتنتي المعلقة في تباريح الغياب، فلعلك تصلين يوما مرفأي لترقدي حيث دفء القلب منتظرا بهجته على يديك يا امرأة مصوغة من رحيق الورد.

فإلى أمي وإليكِ أيتها الحلم السلامُ السلام!!