مرسيليا تودع كبير شيوخها

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- قدرٌ كوني حدث يوم الثلاثاء 3 /صفر/ 1433هجري، الموافق 27/12/2011 ميلادي، خص مدينة مرسيليا دوناً عن مدن العالم، ففيما كانت أشعة شمسها تهرب أمام ظلمة صقيع الليل الأوربي، وتحرم المدينة وسكانها من أشعة النور والدفء، كانت ملائكة الرحمن تنفذ قدراً كونياً أخر، يتمثل بجمع قطرات روح فقـيه مدينـة مرسيليا وتضـعها في كفن وحنوط استعداداً للصعود بها .

ليلتها كنت جالساً على النت، أتابع ثورة النعوش اليومية- الثورة السورية-، وإذ بي تصلني رسالة على الهاتف، نعى لي فيها أحد الأحباب الشيخ، وعلى الرغم من أن ما كنت أتابعه مؤلم ومحزن، فأنا أطالع وأتلمس أخبار أهلي في سورية، فقد اعتراني وخز الصقيع، وشعرت بالعتمة تنتشر في داخل نفسي، وتركت ما كانت منشغلاً به، لأمرٍ ملك علي نفسي، فالمصيبة بفقد الشيخ العالم أبي بكر القماس- رحمه الله تعالى- تعد نكبة واختبار من المولى جلت حكمته لمسلمين ودعاة مرسيليا، فهو المرجع الحقيقي للتأصيل الشرعي في المدينة، بل في جنوب فرنسا كلها، وهو كتلة من النشاط تعدل طاقته الحركية مجموعة من الدعاة مجتمعة، وما من مخالطٍ للشيخ، إلا وتلمس الخسارة في نفسه، ولعل أكثرهم كاتب هذه السطور، فلي معه شبه لقاء يومي، نتدارس قضية علمية، أو اطلعه على ما أكتب، فيصحح لي هنة لغوية، أو يلفت نظري لبحث أوكتاب.... الخ .

وعادت بي الذاكرة لعام ونصف، هي عمر علاقتي بالشيخ، أعُدها، من أهم فترات حياتي دعوياً وعلمياً، فهي مزيج بين العلم والعمل الدعوي، تمتعت خلالها بصحبة الشيخ ، وتجرأت على الكتابة في مواضيع حساسة، وكنت أكتب ما يخطر على البال وكلي ثقة، بنصح الشيخ وتصويبه، وإن كنت أنسى فلا أنسى حرصه على مشاركتي معه في الندوات، وعبر الإذاعة، ودائماً ما يخبر الإخوة، عند اشتراكنا في ندوة، أو محاضرة، أو مساهمة في الإذاعة بأن يعرضوا علـي الفقرات أولاً لأختار ما أحب، وهو يتكفل بالباقي .

وأخذت أردد مع أمير الشعراء شوقي وهو يرثي أحد الأعلام بقوله :

 - رب ثكل أساك من قرحة الثكل = ورزء نساك رزءاً جليلا

 ونظرت إلى جهده خلال تلك المدة، فتمثلت قول أمير الشعراء أيضاً :

 - وكم استنهض الشيوخ وأذكى = في الشباب الطماح والتأميلا

الشيخ أبو بكر القماس الجزائري، نزيل مرسيليا، ولد في الخروب من أعمال مدينة قسنطينة مدينة العلم كما يجمع الجزائريون، وهومن مواليد 1964 ، تخرج من جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة، كلية الشريعة .

 وأذكر أني حضرت نقاشاً ماتعاً حول حديث :

[ إذا مات العالم انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة]، ومع أن الحديث ضعيف، بيد أن العلماء يجمعون على صحة معناه، ولم أعثر على من قوى الحديث سنداً أو متناً، ولم أقرء استشهاداً له بمعنى مقارب من دليل أقوى، وقبل وفاة الشيخ بأيام، سطر علامة الشام في علوم القرآن الدكتور محمد بن لطفي الصباغ – أمتع الله به- رثاءً، لشيخ الحنابلة على موقع الألوكة، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل، وذكر الحديث وطرقه، ثم استنبط فهماً للحديث أثلج صدري، حيث قال في مقالته المذكورة:

( ذلك أن العالم تشترك في تكوينه عوامل متعددة من الصعب إن لم يكن من المستحيل تكررها في أخر...) .

عندها تذكرت الشيخ أبا بكر- رحمه الله- وما كان يحدثني عن طلبه للعلم، وعن علماء الجزائر ودورهم في الحفاظ على جذوة العلم الشرعي متقدة في بلد استهدف دينه ولغته وجل تراثه .

و علماء الجزائر يؤثرون الظل، ويميلون إلى العمل، ولا يحفلون بالتصنيف كثيراً، وطرق سمعي من فم الشيخ أبي بكر أسماء كتبت وأفتت في قضايا جد خطيرة، ألوم تقصيري في عدم كتابة أسمائهم ومنجزاتهم .

 وكل خريجوا جامعة الأمير الإسلامية في قسنطينة، يجمعون أن الشيخ أبا بكر تتلمذ على يدي الشيخ المصري محمد الغـزالي – رحمه الله- ، وكان يحظى منه بعلاقة خاصة، وصلت إلى تبادل الزيارات، حتى بعد عودة الشيخ إلى مصر، ورأيته يخالف بعض فتاوي شيخه، إلا أنه ورث عنه ميزة الغيرة على الأمة الإسلامية، ومحاربة الخرافات .

لذلك أحببت أن أدون شهادتي في هذا الحبر العامل، ولو توقعت وفاته، لدونت كثيراً مما قال، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وأول شهادة أكتبها، أني عرضت عليه أن أكتب عنه، فرفض، فحتلت للأمر بالاتفاق مع صهره / الأخ يزيد/ على أن يزودني بمعلومات شخصية، ونما الخبر للشيخ فأقسم على صهره، أن لا أعطى أي معلومة خاصة، واعتذر إلي أنه لا يزال يرى نفسه أقل من أن يكتب عنه، ومما حصل العام الماضي، أن الإخوة في مرسيليا أقاموا مؤتمرهم السنوي في بارك شانو، وعقد على هامش المؤتمر، ورشة خاصة بمناسبة حضور الدكتورة المقاصدية أسماء بلدي، حضرها الشيخ عمر درمان عضو مجلس الإفتاء في فرنسا، ، والبحاثة محمد بن مختار، والعبد الفقير كاتب هذه السطور، والشيخ -رحمه الله تعالى- فكتبت أمام اسمه شيخ مرسليا، ومن عادتي عرض مقالاتي عليه قبل النشر، فأعجب بالمقال إلا أنه اعترض علي تلقيبه بشيخ مرسليا وطلب إلي حذف اللقب فقط، فرفضت، فخرج من مكتبه وهو يحوقل .

وللشيخ أراء في تصحيح متأخري علماء الحديث، وهي بحوث لو خرجت للعلن لأحدثت ثورة في التصحيح والتضعيف المعاصر .

كما استمعت إليه وهو يلقي بعض القصائد، فسألني من تخمن الشاعر، قلت : هي شبيهة بشعر المبدع العراقي أحمد مطر، إلا أن قائلها إسلامي، قال : هي لأخيك من ديوان لم يطبع بعد .

وأشهد أمام المولى أيضاً، أنه كان أحرصنا على المكوث في المركز الإسلامي، ويوم السبت خاصة، فهو يأتي من بيته بعيد صلاة الفجرإلى ما بعد صلاة العشاء، يدرس الأطفال، وشارك أيضاً في وضع المناهج، ويخط لوحات الإعلان، ويشارك في الدروس الدعوية، والمحاضرات، والندوات، وعبر الإذاعة، وما من مجال دعوي يقوم به المركز الإسلامي في مرسيليا، إلا وله القدح المعلى .

وأجدني مضطراً لمخالفة عزيزي علي تدوينها اقتضاها المقام، فقد رغب إلي أخي الأستاذ عبد الفتاح جبلي، تجنب ذكر اسمه، عند الكتابة عن نشاط المركز، لكني في هذه العجالة، تلح علي لفتة تربوية لا مناص من ذكرها، تكتب للإخوان عامة، ولإخوان الجزائر خاصة، فالشيخ أبوبكر- رحمه الله- يقال أنه انتمى فترة من الفترات، للجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل يهمس محبي الجبهة أنه مفتيها الأول، ونفسه الجهادي لا يخطئه من عنده أي أنس بعلم، والأخ الأستاذ عبد الفتاح جبلي - المنتمي قلباً وقالباً لجماعة الإخوان المسلمين - ، هما من نفس المدينة الجزائرية، وعلى ما بين حركة مجتمع السلم الجزائرية الإخوانية، وبين الجبهة الإسلامية من تنافس، فإن الأخ الأستاذ عبد الفتاح فسح المجال للشيخ ليعمل في عقر دار الإخوان المركز الإسلامي، وعامله كأخ من إخوانه رغم عدم انتمائه لهم، ولم يحاول تقليص حجم مشاركاته، وأفرغ له غرفة من غرف المركز مكتباً ، وبفهم الأستاذ عبد الفتاح للواقع الذي يختلف من بلد إلى أخر، قرر وإخوانه الاستفادة من علم الشيخ بلا تحفظ، مع العلم أنهم أتراب في السن أيضاً، وكثيراً ما كان الأستاذ عبد الفتاح يسر إلي عن دعاة يعملون في ساحة مرسيليا، ويرفض مشاركاتهم إلا الشيخ أبابكر .

ونقطة أخيرة لافتة للنظر، عند الشيخ – رحمه الله- هي عشقه للعربية واعتزازه بها، فلا يلاقي درساً ولا محاضرة إلا بالعربية، مع اتقانه للفرنسية، وخاصة خطب الجمعة، وتعاني الساحة الفرنسية، من صنفين من المسلمين، الأولى الفرانكفونيون وهم من ولد في فرنسا، ولم يتعلم العربية، أو تعلمها بشكل ضعيف، وصنف أخطر ربما ولدوا أو تعلموا في البلدان العربية، لكنهم عشاق للفرنسية ويدعونهم بالفرنسية- الفرانكفوفولي- هؤلاء معضلة حقيقية أمام انتشار العربية، وللأسف بعضهم يدعي أنه من الدعاة فإذا حدثته أجابك بالفرنسية، وإذا وعظ أوخطب تكلم بالفرنسية، حتى ولو كان جمهوره ممن يحسن العربية أضعاف أضعاف من لا يتقنها، ورأيت أحدهم يخطب بالفرنسية الجمعة، فيرتج عليه بلغته الفرنسية المأثورة لديه، فيسأل المصليين عن لفظ كلمة في الفرنسية، فيجبه بعض الجهالة، فسئلتُ عن ذلك فقلت: أنه أبطل جمعة بعض المصليين من جهله، وأخبر بذلك، فاستشهد ببعض خطب النبي عليه الصلاة والسلام، فاستشكل الأمر علي، لعل فتوى لا أعرفها تبيح ذلك، فهاتفة شيخي الشيخ الأخضري رئيس مركز المقاصد الجزائري وهو مالكي، وتلميذ مشايخ الشام، فقال: كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الخطب ومنها خطبة حجة الوداع من خصوصيات أفعاله، والتي منها الجبلي والبياني والتطبيقي ، والأمر بالإنصات قولي وأقواله صلى الله عليه وسلم لها دلالة التكليف إلا إذا اقترنت بصارف، فقلت : إذن أخانا ضعيف فقهياً، فرد الشيخ الأخضري: بل قل عديم الفقه، لأن الإنصات في الجمعة من المعلوم حتى لعوام المسلمين .