رسائل من أحمد الجدع ( 66 )

أحمد الجدع

إلى السيد قاسم أمين (قاسم محمد أمين) .

أنت الذي شغلت المجتمع المصري بكتابك "تحرير المرأة" ، ثم شغلت العرب والمسلمين بهذه البدعة السيئة التي كان لها أثر مدمر على الأسرة المسلمة .

دعنا نبدأ من الجذور :

احتل الإنجليز مصر عام 1893م ، وكان لا بد لهم أن يثبِّتوا احتلالهم ، وكان هناك أبعاد كثيرة لا بد لهم أن يصلوها حتى يحققوا ذلك ، ومنها إفساد الأسرة ، ولا تفسد الأسرة إلا إذا فسدت المرأة ، والمرأة هي الحصن الحصين لكل أسرة .

لم يضيع الإنجليز وقتهم ، فكلفوا محام مصري اسمه مرقص فهمي وهو من الموالين لهم ، أن يبدأ في الدعوة لإفساد المرأة المصرية ، وإذا فسدت المرأة المصرية فسدت المرأة العربية ثم فسدت المرأة المسلمة ، فألف هذا المحامي عام 1894م كتاباً بعنوان "المرأة في الشرق" وضع فيه خطة إفساد كاملة تنبني على الخطوات الخمس التالية :

1- القضاء على الحجاب .

2- إباحة الاختلاط .

3- محاربة الطلاق (ورد الزواج إلى المبادئ النصرانية) .

4- إلغاء تعدد الزوجات والاقتصار في الزواج بواحدة ، (وهذا أيضاً ارتداد إلى النصرانية) .

5- إباحة زواج المسلمات من غير المسلمين .

وتبع هذا الكتاب كتاب آخر بعنوان "المصريون" ألفه الدوق "داركير" طعن فيه بالمصريين وبكل ما هو جميل فيهم ، وركز على وضع المرأة ، وسخر من الحجاب ودعا المصريات إلى خلع الحجاب وإلى الخروج من منازلهن ... إلخ .

وافتتحت الأميرة "نازلي فاضل" صالوناً يؤمه من يؤمنون بالحضارة الغربية بكل ما تحمله من سيئات ، ومنهم : سعد زغلول ، ومحمد عبده ، وكل طامع بما عند المحتل الإنجليزي ، وكانت الأميرة أكبر داعية لخروج المرأة من بيتها سافرة ، وكان لها تأثير واسع لأنها أميرة ذات نفوذ ، وكان عمها الخديوي إسماعيل حاكم مصر الذي يؤمن بالحضارة الغربية والذي أنفق أموال مصر على ملذاته والذي بنى الأوبرا وصالات الرقص في مصر .

وفي هذا الجو تصدَّيتَ لكتاب "المصريون" وفندَّت مقولاته ، ودافعت عن الحجاب دفاعاً مجيداً ، ويجدر بنا هنا أن نقول بأن امرأتك كانت سيدة فاضلة محجبة ، لم تذعن لرأيك الذي أعلنته فيما بعد بالسفور نزولاً على إرادة الأميرة نازلي فاضل وبتشجيع سعد زغلول ومحمد عبده !!

وعندما علمت الأميرة نازلي بموقفك هذا ثارت ثائرتها ، واعتبرته طعناً بسلوكها ، فأسرع سعد زغلول ومحمد عبده بتهدئتها ، ثم أحضروك إلى صالونها ، ولم تكن قد عرفته بعد ، فاعتذرت لها ووعدتها أن تمحو ما قد سلف منك من تأييد الحجاب والدفاع عنه وعن القيم التي يؤمن بها شعب مصر المسلم !

هذا لم يكن صريح الاعتذار ، ولكنه كان مضمونه ، وكان ما حث عليه سعد زغلول ومحمد عبده !!

وأصدرت كتابك المشؤوم "تحرير المرأة" .

روى لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897م بالشيخ محمد عبده وبك وبسعد زغلول ، وأنك أخذت تتلو عليه فقرات من كتابك تحرير المرأة ، ووُصِفت هذه الفقرات بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه !!

أي أن كتابك "تحرير المرأة" من إيحاء الشيخ محمد عبده أو من تأليفه أو تأليف بعض فصوله أو من مراجعته وتصحيحه .

كما روى نمر فارس صاحب جريدة المقطم ما جرى في صالون الأميرة نازلي فاضل وبحضور الشيخ محمد عبده وعدد من الكتاب والصحفيين من أمثال محمد بيرم ومحمد المويلحي والذي انتهى باعتذارك ثم بتوثيق علاقتك بالأميرة ، ثم ارتدادك عن رأيك الأول في الحجاب وتأليف كتابك "تحرير المرأة" الذي تدعو فيه إلى السفور وخروج المرأة من بيتها ، وهو ما كانت تدعو إليه الأميرة نازلي فاضل .

كما أشارت فيما بعد هدى شعراوي (نور الهدى بنت محمد سلطان باشا) إلى هذه الحادثة وإلى تطور العلاقة بينك وبين الأميرة ، ودفعك إلى إصدار كتابك المشؤوم .

هذه الأحداث كانت كلها وأنت لا زلت في العشرين من عمرك ، وقد كان لسعد زغلول ومحمد عبده سلطان عليك ، وقد رأيت أن التقرب من هذين العلمين مكسباً ، وقد كانا نكبة عليك لو علمت ، ثم إن تقربك من الأميرة نازلي بنت مصطفى فاضل وهو ابن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا ، وفتنتك بصالونها الذي يضم كبار السياسيين والصحفيين والأدباء ، فتنك صالونها وسيطر على لبك ، وجعلك تخضع لسحرها وإرادتها وتنقض ما كنت كتبته دفاعاً عن الحجاب ودفاعاً عن الأسرة ، وتؤلف كتابك "تحرير المرأة" الذي جرّ على مصر ، وجرّ على العرب والمسلمين الويلات العظام .

لا ينفعك أنك حاولت أن تتنصل من هذه الآراء بعد أن لمست الهوة التي وقعت فيها وأوقعت فيها الأسرة المسلمة ، فقد توفاك الله عام 1908م عن خمسة وأربعين عاماً ، فقد ولدت عام 1863م ، فمت شاباً في الأشد ، ولله في ذلك حكمة هو يعلمها .

قد يروق لقارئ هذه الرسالة أن يعرف عن تاريخك شيئاً ، فأقول :

تلقيت تعليمك الابتدائي في مدرسة رأس التين بالإسكندرية ، وكانت هذه المدرسة تضم أبناء الطبقة الغنية (الراقية كما يزعمون) ، ثم انتقلت إلى القاهرة مع أبيك ، فسكنتم في حيّ الحليمة ، وكان يعتبر آنذاك حيّ الطبقة الغنية ، أو ما يقال لها "الأرستقراطية" .

بعد أن حصلت على الثانوية حصلت على ليسانس الحقوق والإدارة عام 1881م ، ثم سافرت في بعثة دراسية إلى فرنسا ، فدرست القانون في جامعة مونبيليه ، وحصلت على الشهادة عام 1885م .

وفي أثناء إقامتك بفرنسا جددت صلتك بجمال الدين الأفغاني ومدرسته ، حيث كنت المترجم الخاص لمحمد عبده في باريس !

أبوك محمد بك أمين ، ابن لأمير من الأكراد ، تزوج امرأة مصرية ، فكنت بكرهما .

عدت إلى مصر بعد أن خالطت المجتمع الفرنسي ، ويبدو أن حرية المرأة الفرنسية قد راقت لك ، فقد كنت في تلك الأثناء في مطلع شبابك ، فقد حصلت على شهادة القانون من فرنسا ولك من العمر اثنان وعشرون عاماً ، أي أنك ذهبت إلى فرنسا وأنت في الثامنة عشرة !

ألفت كتابك "تحرير المرأة" عام 1899م ولك من العمر ست وثلاثون سنة ، وكان تأليفك لهذا الكتاب بدعم من الثلاثي سعد زغلول ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد ، ثم رددت على ناقدي آرائك بكتاب بعنوان "المرأة الجديدة" أصدرته عام 1901م .

كانت علاقتك بسعد زغلول وأخيه فتحي زغلول (قاضي دنشواي ، وما أدراك ما دنشواي) علاقة متينة ، يوجهانك حيث يريدان !

قاسم أمين : لقد أوقعت الفتنة العظمى في البيت المسلم ، وأنت الآن بين يدي ربك ، وهو اعدل الحاكمين .

أسأل الله تعالى أن يثبتنا على صراطه المستقيم .