رسائل من أحمد الجدع (47)

أحمد الجدع

إلى الشاعر المبدع معن بن أوس المزني

لم أجد شاعراً مبدعاً اشتهر شعره وبقي هو مجهولاً غيرك .

لك الأشعار السائرة ، يتمثلها الناس دون أن ينسبوها إليك فأنت الذي تقول في من أنكر الجميل :

فيا عجباً لمن ربيت طفلاً
أعلمه الرماية كل يومٍ
وكم علمته نظم القوافي

 

 

أُلقمه بأطراف البنان
فلما اشتدَّ ساعده رماني
فلما قال قافية هجاني

 

هذه الأبيات يا شاعرنا المبدع على كل لسان ، ولكنك لو سألت لساناً من هذه الألسن لمن هذه الأبيات يقف صامتاً لا يحري جواباً !

وأنت الذي تقول :

ورثنا المجد عن آباء صدقٍ
إذا الحسب الرفيع تواكلته

 

 

أسأنا في ديارهم الصَّنيعا
بناة السوء أو شك أن يضيعا

 

ولست أدري يا شاعرنا هل يبني أهل السوء ، فأنا أرى أن أهل السوء يهدمون فقط ، فلو قلنا رجال السوء كان أفضل .

ولكن هذه الأبيات متداولة في كل عصر وكل زمان ، وهي من أصلح الأبيات ذات الأمثال لزماننا هذا الذي نعيشه بعد موتك (64هـ) بخمسة عشر قرناً .

ولك قصائد رائعة أدعو عشاق الشعر أن يقرؤوها ، وأن يحسنوا قراءتها ، منها القصيدة التي ألقيتها بين يدي عمر بن الخطاب ، يقول مطلعها :

تأوّبه طيف بذات الحوائم

 

 

فنام رفيقاه وليس بنائم

 

وهي على سنة العرب في مطالع القصائد (فنام رفيقاه ...) وفيها شعر رائق رائع .

ولك قصيدة رائعة في الفخر بقومك من مزينة مطلعها .

أتهجر نعمى أم تديم لها وصلا

 

 

وكم صرمت نعم لذي خلة حبلا

 

لقد لفت نظري قولك نُعم بدلاً من نعمى في الشطر الثاني فإذا تمعنا ذلك وجدنا أن حذف الألف من آخر نعمى يناسب قولك قبلها : وقد صرمت (أي قطعت) .

ولك القصيدة الشهيرة التي مطلعها :

لعمرك لا أدري وإني لأوجل

 

 

على أينا تعدو المنية أوّل

 

وقد قال عنها صاحب الإصابة : إنها تدعى لامية العجم .

ولي على هذا تعليق سوف يأتي في رسالة غير هذه : لامية العرب ... لامية العجم ، لماذا وكيف ؟

وكان عبد الملك بن مروان مفتوناً بشعرك ، ويعد شعرك في صلة الرحم ، ورأب الصدع مع القرابة أفضل شعر سمعه ، هذا ما أورده البغدادي في خزانة الأدب ، وأورد بعده الأبيات التي قدمها واستحسنها عبد الملك :

وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه
إذا سمته وصل القرابة سامني
فأسعى لكي أبني ، ويهدم صالحي
يحاول رغمي ، لا يحاول غيره
فما زلت في لينٍ له وتعطُّفٍ
لأستلَّ منه الضَّغن حتى سللته

 

 

بحلمي عنه ، وهو ليس له حلم
قطيعتها ، تلك السفاهة والظلم
وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
وكالموت عندي أن يحل به رغم
عليه ، كما تحنو على الولد الأُم

وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلم

 

عندما زرتَ عبد الله بن الزبير في خلافته تلاحيتما ، ولم تجد لديه ما كنت ترجو ، فقلت له : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فرد عليك ابن الزبير وهو مغيظ محنق : إنَّ وراكبها .

وإنَّ يا شاعرنا بمعنى نعم ، ولكنها في هذا الموقف أعلى بلاغة وبياناً ، فإنها تنطوي على معنى التوكيد الذي لا تحمله نعم ، والنون المشدّدة أكثر تعبيراً عن شدة الغيظ وعمق الحنق !

وكان معاوية بن أبي سفيان يقدمك على شعراء الإسلام .

أقول : نعم كنت فحلاً مقدماً ، ولكنك لست أشعر شعراء الإسلام وقد تقدمك حسان بن ثابت وكعب بن زهير ، ولكن معاوية كان شعاره : السياسة أولاً ، وقد كان ينظر إلى خلافك لابن الزبير عدو الأمويين وهو يقدمك على شعراء الإسلام .

يا شاعرنا المظلوم عند أمتك ، أمتك لا تعلم عنك شيئا ، ولكن المستشرق بول شوارتز حقق ديوانك برواية أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي ، وطبعه في لندن عام 1903م حين كان الغرب يستعد للانقضاض على بلاد الإسلام ... والمسلمون يغطون في نوم عميق ... أشبه بنوم أصحاب القبور .