رسائل من أحمد الجدع (45)

رسائل من أحمد الجدع (45)

أحمد الجدع

إلى الشاعر الكبير أبي الحسن التهامي ( علي بن محمد بن فهد التهامي )

يا أبا الحسن : سرت في حياتك مسيرة المتنبي في حياته، طلبت المجد كما طلبه ، وسعيت للإمارة سعيه لها، وجبت البلاد في سبيل ذلك كما جابها، ولكن الفرق بينك وبينه أنه كان يستعلن بذلك ولا يخفيه ، وكنت تكتم أمرك وتنفيه .

تقول في إحدى قصائدك :

وكم قائلٍ سجنوه على
أيطلب الملك من ليس منه     

 

 

تطلبه الملك من كهفه
ولا من بنيه ولا صنفه

 

لم يعرف لك المؤرخون مولداً، وقالوا إنك مت عام 416 هـ .

نسبوك إلى تهامة فقالوا لك التهامي ، وتهامة في جزيرة العرب معروفة ، ولمن لا يعرفها فهي الساحل الواقع ما بين البحر الأحمر وجبال السروات ، وأطلق بعضهم هذا الاسم على مكة المكرمة ، لهذا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم التهامي.

وأجود أشعارك تلك القصيدة التي رثيت بها ولدك ، وهي أشهرها أيضاً ، بل إن هذه القصيدة هي التي أحلتك منزلة عالية في الشعر العربي .

والرثاء يا سيدي هو أبو العواطف، فليس هناك من عاطفة أعمق غوراً وأبعد صوتاً وأوسع صدى من الرثاء .

ولهذا كانت قصيدتك الرائية في رثاء ولدك أجود شعرك ، فاحتلت منزلتها المقدرة بين قصائد الرثاء في الشعر العربي .

هذه أبيات من قصيدتك ، ومن أراد المزيد فإلى ديوانك :

حكمُ المنية في البريَّة جارِ
بيْنا يُرى الإنسانُ فيها مخبراً
طُبعت على كَدَر وأنت تريدُها
ومكلّف الأيام ضدَّ طِباعها
وإذا رجوت المستحيل فإنما
فالعيشُ نوم والمنية يقظة   

 

 

ما هذه الدنيا بدار قرار
حتى يُرى خبراً من الأخبار
صَفواً من الأقذاء والأكدار
متطلبٌ في الماء جَذوة نار
تبني الرَّجاء على شفيرٍ هار
والمرءُ بينهما خيالٌ سار

 

ومنها :

جاورتُ أعدائي ، وجاور ربه
أشكو بُعادك لي وأنت بموضعٍ
والشرقُ نحو الغرب أقربُ شُقَّة
هيهات قد علقتك أشراكُ الردى
ولقد جريتَ كما جريتُ لغايةٍ

 

 

شتان بين جواره وجواري
لولا الردى لسمعتَ فيه سراري
من بُعد تلك الخمسةِ الأشبار
واعتاقَ عمركَ عائقُ الأعمارِ
فبلغتها وأبوك في المضمار

 

ويروي ابن خلكان في وفيات الأعيان أن واحداً من أصحابك رآك في منامه فسألك : ما فعل الله بك ؟ فأجبته: قد غفر لي ، فقال لك : بأي الأعمال ؟ قلت : بقولي في مرثية ابني الصغير :

جاورتُ أعدائي ، وجاور ربه

 

 

شتان بين جواره وجواري

 

أقول : لا أستبعد أن يكون هذا الحلم صادقاً، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبه إلى مثل هذا، وقال بأن الله يشكر عبده في أقواله التي يدافع فيها عن دينه ويظهر فيها إيمانه، وهذا البيت يسلك في هذا السبيل .

يا أبا الحسن : إن مما راقني من شعرك هذان البيتان :

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي
وإنما اعتاض رأسي غير صبغته

 

 

ولا وفائي ولا ديني ولا كرمي
والشيب في الرأس دون الشيب في الهمم

 

ومن أبياتك التي فاخرت فيها بشعرك :

وعجيبٌ أني اعتمدت بنظمي
فكأني حبوتُ داودَ درعاً
ومن الشعر في الحضيض حضيضٌ

 

 

أحسن العالمين نظماً ونثرا
بعدما ليَّنَ الحديد وأجرى
ومن الشعر في الكواكب شِعْرَى

 

مما نعرفه عنك : أنك وليت الخطابة في مدينة الرملة بفلسطين في أيام حسان بن مفرج بن دغفل الطائي الذي كان مستقلاً ببادية فلسطين ، فحملت رسائله إلى بني قرة بمصر، ولكنك وقعت في أيدي المصريين ، فسجنوك ثم قتلوك في سجنك ، ولم يعرف لك خبر بعد ذلك .

طبع ديوانك لأول مرة في مطبعة الأهرام بالإسكندرية عام 1893 م قبل أكثر من مئة عام، أما هذه النسخة التي بين يدي فقد طبعت في المكتب الإسلامي في بيروت عام 1384هـ 1964 م ، وقد أنفق على طباعتها الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني حاكم قطر الأسبق ، ووزعها على أهل الأدب مجاناً .

أبا الحسن التهامي : سلام الله عليك في مضجعك ، وغفر الله لك وأنا معك .