رسائل من أحمد الجدع (28)

رسائل من أحمد الجدع (28)

أحمد الجدع

إلى القاضي ابن شداد (بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع الأسدي )

أكتب إليك من خلال كتابك الرائع في سيرة صلاح الدين الأيوبي ، والذي جعلت له هذا العنوان : " النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية " .

ولعل كثيراً من العرب والمسلمين لا يعلمون أن اسم صلاح الدين هو : يوسف بن أيوب .

الكتاب كما هو واضح من عنوانه يتحدث عن مناقب صلاح الدين الأيوبي وعن جهوده الجهادية التي أدت إلى استعادة بيت المقدس والمسجد الأقصى من الصليبيين بعد أن انتصر عليهم في المعركة الفاصلة في سهل حطين في مرج بني عامر في شمال فلسطين بالقرب من مدينة جنين .

إن الانتصارات التي حققها صلاح الدين كانت بسبب التفاف المخلصين حوله ، وكان ثلاثة من الأدباء والعلماء لا يفارقونه في ليل أو نهار في حلّ وترحال ، في السلم والحرب ، هؤلاء الثلاثة هم : أنت يا بن شداد وزميلاك القاضي الفاضل والعماد الكاتب .

كتابك هذا ظل حبيس المخطوطات حتى إذا ما قرر الغرب أن يغزو البلاد الإسلامية وأخذ يخطط لذلك ، كان من طرائقه التعرف على المسلمين من خلال الاطلاع على أهم كتبهم ، وكانت جلها قد نقلت إلى المكتبات الأوروبية بالنهب والسلب .

في منتصف القرن الثامن عشر وفي عام 1732 م قام المستشرق الهولندي ألبرت سولنتش بترجمته إلى اللغة اللاتينية، ثم أعيد نشر هذه الترجمة بعد وفاة مترجمها عام 1755 م ، ثم طبع طبعة ثالثة في ألمانيا عام 1790 م ، ثم ترجم كلود كوندر إلى الإنجليزية .

وجاء طبع الكتاب باللغة العربية متأخراً ، فقد تم طبعه عام 1317 هـ 1899م ، ثم طبع بعد ذلك ثلاث مرات عام 1903 ، 1905 ، 1927 م .

ثم قام بتحقيقه الدكتور جمال الدين الشيال وطبعه في القاهرة عام 1964 م .

ثم حققه محمد محمود صبح وطبعته مطابع دار الكتاب العربي بمصر ( لصاحبها محمد حلمي الميناوي ) دون الإشارة لسنة الطبع .

إلا أن إعلاناً ألحق بآخر الكتاب لهيئة قناة السويس مؤرخاً في 20 فبراير لعام 1962 م وهذا يدل على أن الكتاب طبع أواخر عام 1961 م تخميناً .

وهذه الطبعة هي التي أقتنيها في مكتبتي الخاصة .

موقع صلاح الدين في الذاكرة الإسلامية موقع القائد المنتصر على أعداء الأمة ، وكيف لا يكون كذلك ونحن نرى في عصرنا النكد أمة تؤله المهزومين من قادتها وتتخذهم مُثلاً تقتدى !

صلاح الدين كان حقيقة ناصراً للدين ، وكم من رجال حملوا ألقاباً أو أسماءً مضافة إلى الدين وكانوا من أعداء هذا الدين .

صعد الدين شاكياً إلى الـ
يتسمون بي،وحقك لا أعـ   

 

 

ـله وقال العباد قد ظلموني
رف منهم أحداً، ولا يعرفوني

 

كتابكَ يا بن شداد قسمتَهُ قسمين : الأول منه تحدثتَ فيه عن مولد صلاح الدين ونشأته وصفاته وأخلاقه وشمائله، والثاني يشمل الناحية السياسية والحربية لعهد صلاح الدين منذ تربع على دست الحكم في مصر ، وجهاده ضد الصليبيين ، مفصلاً غزواته وما جرى فيها حتى مماته .

لقد قمت في كتابك بسرد الحقائق التاريخية المحددة العبارات ، معتمداً في سردها وذكرها على المشاهدة بنفسك ، وخاصة في الفترة التي اتصلت فيها بصلاح الدين منذ سنة 584 هـ إلى سنة 589 هـ .

من تلاميذكَ المشاهير :

1- ابن خلكان صاحب كتاب " وفيات الأعيان " .

2- ابن واصل الحموي مؤرخ الأيوبيين الذين افتخر بأنه تلميذك .

3- ابن شامة صاحب كتاب " الروضتين في أخبار الدولتين " .

أنا أعلم يا سيدي أنكَ ولدتَ عام 539 هـ ( 1145 م ) في الموصل ، ونشأت عند أخوالك من بني شداد، وأعرف أن شداداً هو جدك لأمك .

وأعرف أيضاً أنك التحقت بصلاح الدين بعد أن فتح القدس في 27 رجب 583 هـ وكنت قاضي عسكره وأول قاض للقدس بعد فتحها وأول ناظر لأوقافها .

وأنت القائل عن صلاح الدين : " انظر إلى الهمة التي لم يشغلها عن الغزاة ، أخذ حلب ولا الظفر بها ، بل كان غرضه الاستعانة بالبلاد على الجهاد ، فالله يحسن جزاءه في الآخرة كما وفقه للأعمال المرضية في الدنيا " .

القاضي ابن شداد : رحمك الله ، ورحمنا معك .

                

رسائل من أحمد الجدع ( 29 )

أحمد الجدع

العالم الجليل عامر بن شراحبل الشَّعبي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنت عالم مميز لا يظهر مثلك علماً وذكاءً في كل قرن إلا مرة واحدة .

اختلف في عام مولدك ، فقالوا أنك ولدت في خلافة عمر بن الخطاب عام 21 من الهجرة النبوية الشريفة ، وقيل سنة 28 هـ .

من مناقبك أنك سمعت الحديث الشريف من أكثر من خمسين صحابياً، وأدركت أكثر من خمسمائة صحابي .

كنت معجزة من معجزات عصرك ، وكنت حافظاً ، وما كتبت شيئاً قط .

لا أريد في هذه الرسالة أن أعدد فضائلك وهي كثيرة ، ولكني أريد أن أحدث من يقرأ هذه الرسالة بحديث يدل على ذكائك وفطنتك .

فقد روي أن ملك الروم أرسل إلى عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي أن يرسل إليه عالماً من علماء المسلمين يحاور علماء النصرانية ، فأرسلك إليه .

وعندما وصلت إليه وجدت حشداً من علماء النصارى في مجلسه ، فقاموا يسلمون عليك ، وكما هي العادة (الدبلوماسية ) فقد أخذ ( رئيس التشريفات ) يقدمك إليهم واحداً واحداً بأسمائهم وصفاتهم ، وعندما وصل إلى رئيس الرهبان وقدمه إليك ، بدأت هذا الرئيس بالسؤال عن أحواله ، ثم فاجأته بالسؤال عن أبنائه ، فضج الحاضرون يستنكرون هذا السؤال زاعمين أنهم ينزهون الرهبان عن الولد ، فنظرت إليهم وقلت : يا سبحان الله ، تنزهون الرهبان عن الولد وتجعلون لله ولداً ؟

أُفحم القوم ، ولم يردوا عليك جواباً .

ثم إنهم أسروا لملكهم أن يتخلص منك حتى لا تفسد عليهم دينهم .

ثم إن ملك الروم قال لمن حضر ، من علماء النصرانية ، سوف لا أقتله ، ولكني سأغري عبد الملك بقتله !

وعند وداعك سلمك ملك الروم رسالة مختومة وطلب منك أن تسلمها إلى خليفتك ، وعندما وصلت إلى مقر الخلافة في دمشق سلمت الرسالة إلى عبد الملك ، فلما افتضها لم يجد فيها إلا جملة واحدة : عجبت لقوم فيهم مثل الشعبي ويولون الملك غيره .

فالتفت عبد الملك إليك وقال : أتدري ماذا يقول العلج ، إنه يقول : عجبت للمسلمين فيهم مثل الشعبي ويولون الملك غيره !

وهنا تجلت عبقريتك ، وتجلى ذكاؤك ، فقلت لأمير المؤمنين : هذا لأنه لم يرك يا أمير المؤمنين !

فقال لك عبد الملك : أتدري ماذا أراد العلج بقوله هذا ؟ لقد أراد أن يغريني بقتلك .

وهنا أيضاً يتجلى ذكاء عبد الملك وفهمه ... وكذلك يجب أن يكون الخلفاء !

ومن طرائف أخبارك أن رجلاً من المسلمين اختصم وزوجته في مجلسك ، فقضيت للزوجة عليه ، فقال الرجل أبياتاً يتهمك فيها بقضائك ، زاعماً أنك قضيت لها لجمالها :

فُتن الشعبي لما
فتنته ببنانٍ
قال للجلواز قد
فقضى جوراً على   

 

 

رفع الطرف إليها
وبخطي حاجبيها
مها وأحضر شاهديها
الخصم ولم يقض عليها

 

وعندما دخلت على عبد الملك بن مروان تبسم وقال : فتن الشعبي لما ... ، ثم قال لك : ما فعلت به ؟ فأجبت: أوجعته ضرباً ... فاستحسن عبد الملك ما فعلت وقال لك : أحسنت .

ويروى أنك مررت بغلام وهو ينشد : فتن الشعبي لما ......

وعندما رآك توقف عن الإنشاد ، فقلت له متمماً : رفع الطرف إليها ، وهذا يدل على سعة صدرك وتسامحك .

أيها العالم الجليل : لقد وجدت أنهم اختلفوا في سنة وفاتك كما اختلفوا في سنة مولدك ، فقال بعضهم إنك مت سنة 82 لهجرة المصطفى ، وقال آخرون أنك مت سنة 105 للهجرة .

رحمك الله ، ورحمنا معك .

                

رسائل من أحمد الجدع ( 30 )

أحمد الجدع

الأستاذ الدكتور أحمد عبد اللطيف يوسف

مؤلف كتاب : مصر في الكتاب والسنة الصادر عن دار المعارف بمصر ضمن سلسلة اقرأ عام 1973 م أي قبل حوالي أربعين عاماً .

يكتسب الكتاب أهمية بالغة في أيامنا هذه وقد تخلت مصر عن دورها القومي والإسلامي وانضمت إلى المحور اليهودي النصراني .

بدأت يا سيدي كتابك بالحديث عن تاريخ الأنبياء في مصر ، ذكرت إبراهيم وموسى وهرون ويوسف ويعقوب وعيسى بن مريم ، وقد كان لكل واحد من هؤلاء موقعه في تاريخ مصر .

وذكرت أن إبراهيم الخليل قد تزوج المصرية هاجر فولدت له إسماعيل جد العرب الإسماعيليين ومن ولد إسماعيل كان رسول البشرية محمد بن عبد الله الذي تزوج أيضاً مارية المصرية ليكون المصريون أخوال العرب وأخوال المسلمين.

ثم إنك دخلت في الجزء الأخير من الكتاب فيما جعلته عنواناً لكتابك ، وهو مصر في القرآن الكريم والسنة النبوية .

ذكرت الآيات الكريمة التي ذكرت مصر تصريحاً وتضميناً ، وإن كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على أهمية مصر لدين الله في الأرض ، وقد ذكرت الأنبياء الذين ولدوا بمصر أو مروا بها .

وأريد في هذه الرسالة أن أذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي أوردتها في كتابك ، حتى يعيها المسلمون ، إذ إن معظم المسلمين لا يعرفون هذه الأحاديث .

عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله إلى الملوك والأمراء والسادة ، خص المقوقس حاكم مصر بالرسالة التالية :

" بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم كل القبط (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ( آل عمران – 64 ) .

وقد رد المقوقس فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية هي مارية القبطية التي أنجبت له ولده إبراهيم .

ثم نقلت الأحاديث التالية :

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، موجهاً كلامه للمسلمين : " إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحما " .

وقال أيضاً : " ستفتحون مصر ، وهي أرض يسمى فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهم ذمة ورحما".

وقال أيضاً : " الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ، ويكونون لكم عدة ، وأعواناً في سبيل الله " .

وأوردت أحاديث أخرى كلها تدور حول هذه المعاني .

وقرأتُ فيما قرأته قول القائل : " مصر كنانة الله في أرضه " والكنانة جعبة السهام " ، والسهام أداة من أدوات الرمي، والرسول هو القائل : " ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " يحث المسلمين على تعلم الرماية ، والرماية في زماننا تشمل المدافع والطائرات والصواريخ ....

وكأن الذي قال : " مصر كنانة الله في أرضه " يعني أنها مصدر القوة للإسلام والمسلمين والأحداث التي مرت في تاريخ الإسلام قد أثبتت ذلك " .

عندما غزا الصليبيون بلاد الإسلام ، وانهارت قواهم أيام الزحف الصليبي القادم من أوروبا ، لم ينقذهم إلا جيوش مصر الزاحفة بقيادة صلاح الدين الأيوبي المنتصرة في معركة حطين ، وقد استرجعوا بعدها بيت المقدس .

وعندما دهم التتار بلاد الإسلام في حملات سريعة وساحقة لم يردهم عن بلاد الإسلام سوى جيوش مصر الزاحفة بقيادة قطز الذي صرخ بالمسلمين عند احتدام القتال ، وا إسلاماه ، فانتصر في عين جالوت وهزم التتار .

وعندما احتل اليهود سيناء ووصلوا قناة السويس وحصنوا مواقعهم فيما يسمى خط بارليف ، وأشاعوا أنها تحصينات لا تقهر ! ردت عليهم مصر الكنانة فهدمت الخط واستعادت سيناء في أيام معدودات .

مصر لها ذمة ورحم ، مصر كنانة الله في أرضه .

ستعود مصر للإسلام ، ستعود جعبة سهام المسلمين ، يرمي الله بها أعداءه ، وإن غدا لناظره قريب .