بكاء في حضن الطاهر وطار

بكاء في حضن الطاهر وطار

ياسين سليماني

[email protected]

عندما عرفتُ وطار اندهشت لشعوري المفاجئ بأبوته الطاغية... أنا الذي كنتُ دوما متحفظا في علاقاتي مع الناس...  وجدتني في حضرة هذا العظيم كإله يوناني قديم أنخرط في أحاديث طويلة معه... كان وطار حينها أقرب من أب وأكبر من أديب... كان وطار حينها إنسانا قلّما جالستُ مثله كرما ونبلا.

 هكذا هو تاريخ الأدب فيه شخصيات عظيمة بارزة ، لم يكن أصحابها مجرد أدباء بل كانوا مزيجا قويّا من الأنبياء والمعلّمين والزعماء ، كانوا بالنسبة للإنسانية جرعة روحية قوية تهز العالم بعنف وتدفعه إلى الأمام مئات الخطوات ولذلك تصبح الدنيا بعدهم وتحت تأثيرهم غير ما كانت عليه قبل وجودهم... وطار من بين أهم هؤلاء.

عندما تقرأ لوطّار تشتم رائحة التراب الذي كثيرا ما لعبنا به وفيه... رائحة مكان لا يزال عهدك قريبا به... كما تشتم عبق ذكريات تحس أنها جزء منك... شاركتَ في توليفتها... كان وطار العظيم الذي لم يرحل قادرا على التغلغل إلى قلبك كطفل صغير بابتسامة واحدة ... ووحده وطار من أشعرني أنا الشاب الصغير يوم التقيته أول مرة كيف تتواضع النخيل الشامخة والجبال الراسخة... لم أشعر بهذا مع غير وطار... لا قبله ولا بعده...

سيدي الغالي... قرأت قبل أيام كلمات تركها لنا عظيم إنجليزي تعرفه جيدا... اسمه شكسبير... كنت حينها أفكر في كلمات أقولها يوم الاحتفاء بك فصادفتني مقولته تربت على كتفي مواسية بابتسامة حزينة...

"ما الذي يمكن أن يصنعه الموت إذا كان عليك أن ترحل؟

تاركا نفسَك حيّاً في ذريّة تخلفك؟

أنت جميل إلى أبعد الحدود...

أجمل من أن يغزوك الموت..."

أجل يا سيّدي ... أنت أجمل من أن يغزوك الموت وتعلن استسلامك له.

يقولون عنك أنّك راحل... لا والله... فما أنت براحل ونحن الآن مدعوون إلى عرس تقيمه بأريج كلماتك...

ستبقى بيننا دوما تسكننا ما ظلّ ضمير الأدب صاحيا فينا ، أمّا أنت ... فاجلس هناك مرتاحا ... مرتاحا جدا... فقد كان قدرك أن تفعل الكثير فيما الناس ساكنون كحجارة فرعونية بائدة... وآن لك أن تترجّل عن جوادك الذي كثيرا ما أنهكك ، لترى ما يفعله هؤلاء بعد أن ودّعتهم...

كلمة أخيرة أقولها لك سيّدي... نحن لم نفقد أديبا كبيرا ... فكتاباتك الكبيرة ما زالت توطّد علاقتنا بك... ولكننا فقدنا إنسانا ذا قلبٍ يحب بعنف ويدافع عن حبه بعنف أيضا... هذا الإنسان هو الذي نحيّيه في هذا اليوم ونستشعر فداحة الخسارة التي مُنّينا بها عندما غادرنا وأعلن أو لم يعلن أنه لن يعود إلينا ... إلى هذا القلب الكبير نوجّه برقيات حب كانت دوما عاجلة نقول له فيها " لن ننساك يا عمّي الطاهر... لن ننساك أيها الولي الطاهر الذي بقي في مقامه الزكي"