رسالة عاجلة إلى الطروادي الفذّ

رسالة عاجلة إلى الطروادي الفذّ ..

وقائد غُوّار الثقافة

ناجي علوش...

مراد السوداني

السلام عليك عليّاً رضيّاَ .. مفرداً جمعاً

السلام على أبي إبراهيم . .وبعد :

ربّتما شهر أو يزيد وأنا أدوّر هذه الرسالة حتى أصابني دوار هتّاف، حتَّ قلبي وأورثني غمّة فقلت: "احتمل غمّة البرمكيين". بتعبير الشاعر الراحل عفيفي مطر، وها أنذا أخطّ لك أيها الكبير المُحْتَمِلْ، والعنيد الجسور هذه السطور..لتكون شاهدة في زمن السقوط والارتهان والإقعاء على موائد اللئام..زمن السلام الجنائزي والمثقف المباع ، زمن الردّة والارتداد، وتكالب الأدعياء على الأخضر الماكر..زمن الشَلْف ومَحْضِ السفالات..وتقاسم الجوائز الثقافية مع الأعداء.

*

كنت شبلاً في الانتفاضة الكبرى لعام1987 حين قلّبت ما وقع تحت باصِرَتي من سيرتك ومسيرتك.. واليوم أعيد القراءة والدرس فأحسست بالذنب والتقصير تجاه أحد الأسماء الكبرى في بلادنا مؤسس ورئيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين العام 1972، الشاعر والمفكر ناجي علوش.

وقرأت في مذكرات الكاتب نزيه أبو نضال التي سترى النور قريباً، أسماء الأمانة العامة التي كنت رئيسها، بعضها ذهب شهيداً، وبعضها بقي على قيد جمرة الصبر والمنازلة وبعضها وجد المال فمال وأخاله يخشى ذكر اسمك..

فقد أورثته الإنتهازية داءها العضال فاحتاز غير شقّة في غير بلد ونسي أصحاب الفضل.

وتساءلت: إنّ فلسطين التي منحها الرجال جذوة الروح والجسد تستحق منّا الأفضل..بعد أن عمّ الخذلان حتى طمّ، واستنسر بغاث القوم..وسقط من سقط في الطريق..ولأنّ الوفاء وردتنا الأبقى التي نطوّق بها أعناق الرجال..وكان لا بدّ لنا أن نفيد من تجارب الآباء والرواد المؤسسين لنعبر هذه العتمة ونواصل الطريق رغم قلّة الزاد والعلّيق الجرّاح والعَلَق النّهاب..

لابدّ أن نغترف من قُرَاح الفعل المجيد وقولة الحق الصّداحة حتى يكون الزمن أكثر احتمالاً. وحتى نعلّم أبناءنا أن الوفاء فريضة وأن للرجال علينا حقّاً، أن نتّبع خطاهم من أجل العالية الشاهدة الشهيدة فلسطين، وأن نجعل أسماءهم الثقافية الكبرى في صدر منهاجنا الذي غفل عن الكثير منهم لجهل أو لموقف أو لتمويل...الخ

وفي ظلّ الواقعية السياسية الخائبة..باتت هلوسة قتل الأب سياقاً. تحديداً في المشهد الثقافي..حيث وجد البعض في التنكّر للآباء أسلوبهم الأجل !! وفي إهالة التراب على السادة الكبار ومشروعهم المعرفي طريقة مثلى للصعود إلى قمة الوهم والهوان ولتحقيق ذات عاجزة عن مطاولة جبال البلقان. ولأنها فلسطين الأنقى والأبقى فهي لا ترضى سوى بالجدير والحقيقي، الذي تليق به ويليق بها..وأنت أيها الشاعر والمفكر والمناضل الجمع، واحد من الذين خُلِقوا ليعطوا، ولم تمدَّ يدك، بل مددت قدمك..لأنه آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدمه، في ظل من ينسى أو يتناسى..فقد استطعت وبحق أن تكون مثقفاً جسوراً لا يؤجرّ قلمه ولا قلبه إلاّ للبلاد..فَحُسْتَ في غربة غريبة، وحزنت وبكيت وجعت وظلمت وبقيت تطلق حتى اللحظة: بالدم نكتب لفلسطين..فقد صارت شعاراً منذ العام 1972، وحتى اللحظة..وها نحن أبناؤك في الأرض المحتلة نقول: سيأتي من يحمل الدرع ثانية والرمح كذلك ولن تسقط الراية، لأن ثمة من يأتي ليتابع الخطى، خطى الشهداء والشهداء الأحياء..وعلى الرغم من أن بعض المثقفين والكثير منهم في بلادنا المحتلة تمت بَرْدَخَتُهم، بالترهيب تارة وبالترغيب تارة وبأموال ومشارط المانحين وإل( (NGO,sدام فضلها على مؤسساتنا ومثقفينا؟!! والكتابة وفق مزاج المحرّر الذي تحتضن صحيفته رثّ الكلام وما داهن من القول - فإنّ البلاد بخير والمقولة بخير . .كيف لا وأنت قائد حرب غُوّار الثقافة بامتياز..والبادئ أكرم.

*

الأستاذ العميم ناجي علّوش ..

يومياً في الطريق من قريتي دير السودان مروراً ببيرزيت وما بينهما من حاجز احتلالي لئيم، أتذكّر ناجي علوش وكمال ناصر .. وقد طلبت شخصياً من بلدية بيرزيت أن نعمل معاً لوضع تمثال للشهيد كمال ناصر..ومنذ سبع سنوات ما زال الوعد وعداً..

فالشهداء سيعودون هذا الأسبوع .. وكل لحظة..لكنهم سينكروننا يا أبا إبراهيم لأننا وجدنا التجارة بالذهب والدم فتاجرنا.. وبات وطننا "وطن المجاعة والفراغ" بتعبير الباقي حسين البرغوثي.

أمّا عن مكتبتك التي تبرعت بها لجامعة بيرزيت فإننا ومنذ خمس سنوات ننتظر الموافقة على أن ينقلوها للبلاد. لم تفهم الموظفة المكتبية البائسة أن هذه المكتبة من حق أجيالنا .. وقد تبرع بها ناجي علوش وهي رأسماله الباقي من أجل أبنائنا .. ولكننا سنحضرها إن شاء الله وننفذ الوعد. يكفيك فخراً أن اسمك مازال يرجّ المدى..

فهذا دليل صدق وحقّ .. فالقلّة العارفة هي التي تصنع التاريخ وتغيّره كذلك .. والمثقف النقدي هو الذي يحرس الحلم ويبقى بعد انهيار ما تبقّى لكم..والمثقف الكفء هو رأس الحربة المقاتلة وهو الوازن الأكيد في ظلّ اختلال الموازين وانقلاب المعايير وتشويه الحقائق والإنكار المدان.

العزيز العالي ناجي علوش..

    "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". (صدق الله العظيم)

فهذه ضريبة الصدق في القول..وضريبة المثقف الكفء الذي يأبى أن يقف على باب السياسي..وهذه ضريبة هذه الفلسطين التي تقودنا من قلوبنا نحو حقيقتها الباذخة..وهذه ضريبة الالتصاق بالفقراء والجماهير والانحياز لروحهم الوسيعة.

*

لقد كتبت هذه الرسالة العاجلة بعد تأزيم لافح ومرّ..وقد قرأت مقالتك عن الشهيد القائد (أبو داوود).. وبكيت، نعم لأن الرجال يذهبون دون وصيّة أو وداع..كما يرحل الطرواديون على محفّة الماء..حيث تتعالى أجسادهم نيراناًً ووهجاً يفضح العتمة والإنكسار..وكلّما دهمنا الليل تفهق أفعالهم البيضاء فينكسر الحزن والويل والسقوط.

عزاؤنا أن تجارب الرجال ستبقى هادياً للأجيال القادمة التي ستخلق ظرفها ومساحتها حتماً وباقتدار .. لنركِزَ علم البلاد على سفوحنا المحررّة بسواعد البطولة..قل متى هو، قل عسى أن يكون قريبا.

الكبير الجميل ناجي علوش...

ماء كثير جرى تحت النهر وفوقه وعلى حفافيه..أصدقك القول أن الثقافة اليوم في الأرض المحتلة صنفان: ثقافة تخلّت عن كل شيء في كل شيء لتحصل على ما يجود به المانحون وأذرعهم واستطالاتهم..فيكون مالٌ وترجمات واستضافات وتطبيع، لتفتح الثقافة رجليها لتضع قدماً بأقصى المشرّقين وقدماً بأقصى المغرّبين، هؤلاء تهيأ لهم الفضاءات والمنابر الصفراء..ولكنّهم غثاء كغثاء السيل، يلفظهم شعبنا ويشير إليهم بإصبع الإتهام.

أما الصنف الآخر فهوهو باق ٍ كزيتوننا المحارب.. على الرغم من أنياب الجوع والحصار والمحو والإلغاء .. إلاّ أنه يغني لفلسطين ويقولها سرّاً وجهراً.. لقد صار غريباً في أيامنا أن نقول فلسطين!! ولا بدّ من توخي الحذر حتى لا يظنّ المثقف الحُمُورِيّ أننا مازلنا نعيش في عالم آخر وفي حلم مختلف ؟!

ولا تحزن أيها الكبير لعدم تلقف دور النشر في بلادنا لمشروعك العالي.. ففي بلادنا محمد يرث وأحمد لا يرث.. وستأتي اللحظة التي يكتشف المثقف وغيره أنه تخلّى عن دوره ومسؤوليته..

سندافع عن الثقافة والمثقف بالقول والفعل لأنّ " الأمة التي لا يوجد بها مثقفون كبار لا يوجد بها سياسيون كبار"، على حدّ تعبير الشهيد الفادي صدام حسين..وفلسطين أنبتت الشجر العالي الذي لا يرضى بسماء أقل..ودورنا أن نعمم مشروعهم الكتابي ليكون بين يدي الأجيال..

العزيز الحرّ ناجي علوش..

طوبى لك وأنت تجسّد البلاد مقولة عالية وعناداً مقدّساً.

طوبى لك وأنت تحرس أرواحنا من الانكسار والسقوط في اللحظة.

طوبى لك وأنت ترفع الكلام إلى آخره حتى تندحر الظلمة وتتراجع أسدافها.

طوبى لك وأنت تعانق جوز بيرزيت والخلّة والرجوم وحقول الزيتون ونبع الماء كطير شريد.

طوبى لك وأنت تعلي قنطرة النزال والمواجهة مع العدو وتمنح الأجيال سناكي الأقلام، لتبقى "الكلمة البندقية" بوصلة المثقف حتى التحرير الناجز.

طوبى لك وأنت تعيش مع أبناء شعبك ملحمة الصبر الفلسطيني والمنازلة الهادرة.

طوبى لك وأنت تجوع ولم تبع صوتك في مزاد وبقيت على عهد الشهادة والشهداء نقياً بهياً كنجمة الصبح، غنياً عن العالمين.

طوبى لك وأنت الحقيقي الجدير بالثقة والتقدير.

طوبى لك حتى ترضى..

فنحن على طريق فلسطين نزرع الأمل وننحاز للفرح والحياة ونطوّق أعناق الأبطال بالبنفسج البرّي وشقائق النعمان، وننتصر..

وإلى لقاء قريب ...

فلسطين المحتلة