وقال صاحبه في السجن آل غانم (6)

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

(من ذكريات رجل غُيِّب في سجن تدمر عشرين عاماً)

(6)

آل غانم

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

في سجن تدمر، لا يرفع التكليف عن مجنون ولا عاجز ولا مزمن..

محمد غانم وعائلته مثال صارخ على ذلك، يقول* صاحبه في السجن مدة سنة قد تزيد قليلاً أو تنقص:

جيء بالأب محمد وابنه ياسر إلى مهجعنا(5، 6) سنة اثنتين وثمانين، ثم ضُم إليهما الابن سعيد، وتم ذلك على الأغلب برشوة أبي عوض(1) الذي كان يعقد صفقات معروفة ويتقاسمها مع مدير السجن أو رئيسه فيصل غانم الذي عرف أنه كوّن ثروة هو وأمه بابتزاز السجناء وأهليهم(2)، ولاشك أن رئيس المهجع في تلك الفترة أشفق على الأب شبه العاجز واستعان بصندوق المهجع(3) ليجمعه بابنه.

  أصل العائلة من قرية عنجرين التابعة لمحافظة حلب، انتقلوا إلى حلب وكان الأب عامل نسيج، تعرف ياسر إلى الشباب في الطليعة المقاتلة وارتقى في عمله معهم حتى صار رئيس جناح، ويبدو أن أخاه سعيداً وصهره زوج أخته دخلا معه، اعتقل الثلاثة ثم جيء بالأب محمد أيضاً، ربما بتهمة كتم المعلومات، الصهر بقي في مهجع آخر ولم ألتق به.

سعيد مسكين جُنَّ من أثر السجن،  يبدو بسبب التعذيب أو الغم والحزن لوضع العائلة، في أحيان قليلة كان يقوم بتصرفات غريبة مثل التهجم على أحد أزعجه أو بدا له أنه يسخر منه، لكن الهدوء والعزلة كانا يغلبان عليه، فيمكث الساعات لا يكلم أحداً.. لم أكن أخالطه كثيراً حتى لا يسيء فهمي، إذ كان بعض الشباب يجتمعون حوله أحياناً، لعله من باب الفضول أو تزجية بعض الوقت.

أما ياسر فقد ظل متمسكاً بقناعاته لم يهتز ولم يتغير، بل كان يدرّس بعض الشباب حول الأمور الجهادية.

   كان الأب ضئيل الحجم قصير القامة، أخرجوه مرة للحلاقة(4)، أمسكوا به مظلة(5) فانكسر مفصل حوضه، فلم يعد يستطيع المشي، فكان ياسر يخدمه ويغسل له ثيابه ويساعده حين يريد دخول دورة المياه.

كنا نحاول مواساة الأب والتخفيف عنه،كان دائم الذكر لزوجته وابنه وابنته الذين لم يعد لهم أحد سوى الله تعالى، لكنه كان متماسكاً صابراً.

 بطريقة ما جاءتهم زيارة سنة ثلاث وثمانين، جاءت الزوجة وابنتها وابنها الذي لازال صغيراً، فوجئت بأن الأب لا يستطيع المشي، أرادت إعطاءه نقوداً، وهي في الأصل تحتاج مساعدة، جمعت ما معها ومع ابنتها من خمسات وعشرات فبلغت مائتي ليرة قدمها محمد للصندوق، في وقت كان فيه بعضنا يتلقى الألوف. عاتبناه على قبوله المال منها، وكان خجلاً جداً بقلة المبلغ، لكنها كانت أَولى بالنقود.

تأثرت جداً بهذه الحادثة.

   حوكموا وحكموا بالإعدام عدا الأب، تفرقنا وحاولت تتبع أخبارهم فعرفت أنهم أخرجوا للتنفيذ سنة خمس وثمانين، أعدم الولدان والصهر وبقي الأب.

 سمعت أن سعيداً لما قيل له قرئ اسمك وستخرج للإعدام، نظر إلى صورة حافظ الأسد المعلقة في المهجع، والتي وزعت على السجن كله بمناسبة بيعة خمس وثمانين، ثم أمسك بحذائه وراح يضرب الصورة.

 أعدم وهو مجنون.

خرج الأب سنة إحدى وتسعين أو قبلها، على أنه(عضال).

·        حاولت الحفاظ على لغة صاحب التجربة وأسلوبه ما استطعت.

         

الهوامش:

1.     كان مسجوناً بتهمة بيع السلاح للمسلحين من الإسلاميين، سلمته الإدارة ما سمي بالندوة، أشبه بدكان  توضع فيها طلبات السجناء التي تجلب من حمص أو حماة، ويدفعون ثمنها هم، فحولها إلى سوق سوداء مستغلاً حاجتهم وعجزهم عن التظلم، ولما أقيل فيصل غانم من رئاسة السجن غضب الرئيس الجديد على أبي عوض لأن عهد غانم اعتبر عهد فساد وتفلّت، وأذاقه الويل تعذيباً ومهانة. وانظر أخبار أبي عوض بالتفصيل في كتاب" تدمر شاهد ومشهود" لمحمد سليم حماد.

2.     انظر " جمال خراط" الحلقة الثالثة من هذه المجموعة.

3.     من الأنظمة التي وضعها السجناء لأنفسهم، والتي أعانتهم، بإذن الله، على مواجهة ظروف السجن القاسية متكاتفين، هذا الصندوق الذي يودع فيه كل سجين ما يظفر به من مال يتركه له أهله حين يزورونه، بعد أن يأخذ حاجته، ويستخدم المال لمساعدة أي واحد فيهم حين يحتاج. ذلك أن أوضاعهم المالية كانت تتفاوت تفاوتاً كبيراً بحسب أحوال أهاليهم وفرص زياراتهم، وبعضهم لم يظفر بزيارة إلا بعد مرور أكثر من أربع عشرة سنة على اعتقاله، بل هناك من لم يتمكن أهله من زيارته طوال مدة الاعتقال أو قريباً منها.

4.     صاحب التجربة: "كانت الحلاقة مجزرة، قد تقلع عين بالسياط( عبد الباسط دشّق فقد عينه في إحدى الحلاقات) والسوط كان كبلاً رباعياً عرّيت نهايات أطرافه الأربعة بحيث ترى النحاس في آخرها وهي التي ستهوي على الوجوه بعد أن يدور السوط حول الرأس( أنا أصبت بجرح جانب عيني تماماً انتزعت قطعة من جلدي وأحسست أن دماغي يرتج وبغثيان شديد، تلقيت هذه الضربة وأنا أدخل المهجع بعد حلاقة)

          نعود إلى الحلاقة: يخرجون عشرة: وجهك للحيط، أمام در.. واحد من الشباب يضع المعجون                     للجميع، آخر يمر بالفرشاة المبتلة، أما الحلاقة بالشفرة فينفذها واحد من البلديات( وهم سجناء من العساكر، من أعمالهم توزيع الطعام والتنظيف وما شابه) بأربع ضربات ينهي الوجه وتسيل الدماء وتختلط بالصابون، يتركوننا قليلاً لتجف وجوهنا ثم ندخل لنغسلها في الداخل، لا ننس أنه أثناء الحلاقة وقبلها نتعرض للركل والرفس والسياط والشتائم بالطبع، تسمعين الصراخ والضرب والتعذيب كأنه شيء مبرمج، شناعات، الباحة كلها تتحول إلى دم، الذي ينجو من الشفرات والسكاكين يستقبلونه بالكرابيج على رأسه على عينيه: منبطحا ولك.. يعني نعيما.

دام الوضع على هذه الحال حتى سنة ست وثمانين عندما انتشر اليرقان".

5.      يختارون السجين غير كبير الجسم، يمسك به عسكريان، واحد من يديه والآخر من رجليه، ثم يقذفون به في الهواء ويتركونه يسقط كيفما اتفق.