رحلة إلى إيطاليا(4)

د. عثمان قدري مكانسي

رحلة إلى إيطاليا(4)

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

اتصل بي قبل رمضان 1425 بأيام السيد" رضوان " ولا أقصد خازن الجنان ! فلست على هذا المستوى من التقوى ، لكنه الأخ الفاضل رئيس إدارة مسجد " بولونيا " في إيطاليا التي بت أشتاق إليها وأحن إلى أيامها ، فقد كانت زياراتي إليها موفقة ورغبتي في التواصل مع أهلها من المسلمين متنامياً ... يسألني الأخ الكريم إن كان بالإمكان أن أحل ضيفا عليهم في هذا الشهر المبارك ، ورغّبني في الدعوة أن أم المؤمنين قد ترافقني . و" قد " هذه للتحقيق ، فوافقت راغبا رغبة المشتاق إلى أحبابه ، وهم أحبابي لا شك ، فقد عرفتهم منذ سبع عشرة سنة أو أكثر ، وفي بولونيا على الأخص . كما أن زيارتي الأولى إلى إيطاليا كانت في شهر تشرين الأول من عام ألف وتسع مئة وثمانين من القرن المنصرف . .. فعهدي بهذا البلد –إذاًـ ربع قرن من الزمان .. وإذا تأصلت الصلة بين الإنسان وأرض الله – أينما كانت – ذكرياتٍ وعلاقاتٍ إنسانية وإخوانية ودعوية تولّدَ اندماجٌ وتفاعل إيجابي يعمق الصلة ويدفع إلى اللقاء المتناسق بين خلق الله سبحانه إنسانا وحيوانا وجماداتٍ ... وعلى هذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لجبل أحد حين ارتجف :" اثبت أحد، اثبت . فإن فوقك نبيا وصديقا وشهيدين ".وقد كان معه الثلاثة الكرام أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وذو النورين عثمان .. وتشرفي بذكر هؤلاء السادة العظام في هذا المقام مع رابعهم علي رضي الله عنهم جميعا يعْرُج بي إلى كتابي " قصص رواها الصحابة رضي الله عنهم " فقد أهديتهم الكتاب فقلت :

إلـى الـصديق والفاروق iiأهدي
وذي الـنورين  فاسمي من iiنداه
إليهـم أنتـمي قـولاً iiوفـعـلاً
ولـست  بمـدرك منهـم يسيراً
فـيا  أصحاب خير الخلق iiعذراً
عـساني أبلغ الفـردوس iiفيكـم





 
كتـابـاً صغتُـه دُراً بعِـقـدي
ورابـع هـؤلاء الـصِّيد iiجدي
فـإن ألـحـقْ بهـم فالودُّ iiودي
ولـكـنْ  حبُّهم في الله iiسعـدي
فـأنـتـم قدوتي ، واللهُ iiقصدي
إلـى  الـرحمن في جنات عدْن

    اصطحبت كتاب الدعوة الموجه إليّ وإلى السفارة في عمّان فأبرزته للقنصل مع الأوراق الثبوتية الأخرى ، فتجلّى توفيق الله تعالى لنا إذ نلنا التأشيرة بعد أسبوع ، في السابع من رمضان وكان يوم الخميس ومن ثَمَّ حملتنا الطائرة الأردنية إلى روما في صبيحة اليوم التالي -الجمعة – ولم يكن في استقبالنا أحد . فبولونيا تبعد عن المطار قرابة خمس مئة كيلو متر ، ونحن نعرف الطريق إليها ، فقد سلكناه مرات عديدة . لكن الأمراختلف هذه المرة ، فقد كنا ننطلق من المطارإلى روما بالحافلات أو السيارات ، أما الآن فالقطارات تنطلق إلى قلب المدينة العريقة من المطار نفسه .والذي يفرض علينا الإقرار بتقدم أوربا أمور كثيرة منها : أن الحكومات فيها تسعى لاسترضاء الشعب في زيادة الخدمات وتحسينها ،وتحاول جهدها أن ترتفع بمستوى الحياة وتذللها للناس كي تكسب أصواتهم الانتخابية فتبقى في سدة الحكم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا . أما حكومات البلاد العربية فقد كفت نفسها مؤنة التشبث بالحكم،  والتصقت به التصاق أوتاد الجبل بأعماق الأرض !

فلا حاجة للاهتمام براحة الشعب والسهر على مصالحه ما دامت مصالحها تتعاظم دونه .. فمدينتي حلب – مثلاً كانت زهرة المدن العربية نظافة وجمالا ، وكانت عمان عاصمة الأردن قرية صغيرة إذا ما قورنت بها .. وبعد ثلاثة عقود من سيطرة الحزب الميمون ـ وكلمة الميمون اسم من أسماء القردة ـ ينفر منها الزائرون فهي كما- يزعمون ـ قرية كبيرة كئيبة المنظر ظلت حبيسة القرن الماضي ، بينما تجد عمان من أنضر العواصم العربية ... ومن مآثر الحكومات العربية الساهرة على أمن الوطن والمواطن أن أمريكا على الرغم من جورها تلتزم بقوانينها فلا تهشم عظام من تحقق معهم ولو كانوا عربا إن كانوا في بلادها ، وأوربا كذلك تلتزم بعض الحقوق الإنسانية ، وعلى هذا فقد تكفلت الحكومات العربية بهذا القدر من خدمة السادة الغربيين الذين يرسلون إليها هؤلاء المساكين لتطحن جماجمهم،  وتخلط لحمهم بعظامهم . فالقوانين السائدة في بلاد الإسلام والمسلمين أنه" لا حرمة للإسلام ولا للمسلمين " !!!!...

    استغرق الطريق إلى روما نصف الساعة ، وفي محطة القطارات الضخمة termini centraleانتظرنا القطار الذاهب إلى بولونيا أقل من نصف ساعة ، ثم حين ركبناه سار في موعده المحدد ينهب الأرض نهبا مخترقا الأنفاق الجبلية ، ومعتليا الجسور والأنهار لا يكل ولا يمل حتى قطع أربع مئة وعشرين كم في ثلاث ساعات وعشرين دقيقة .

     كان الأخ " دانيال "  - الذي سمى نفسه بعد إسلامه " محمداً" وتزوج مصرية ، فأنجبت له عمر وعائشة وعاش في مصر سنتين ـ ينتظرنا في رصيف النزول ، فعرفناه وعرفنا دون سابق معرفة ، كما يلتقي الصديقان والأخَوان بعد فراق ، يشتاق أحدهما للآخر ، فالإسلام جمع بين الأرواح المؤمنة ، فيعرف المسلم أخاه بيسر وسهولة ويبتسمان ثم يتعانقان ، فقلباهما متعلقان بنور الله ، يفترقان ويجتمعان على ذلك ... يا ألله ما أحلى الحب فيك ، يا ألله ما أقوى الرباط في شرعك ؟!  يارب   يا رب اجمع المسلمين على رضوان منك وحب في جلالك :

أحـن إلـيـك أخي المسـلمـا
وأرجـو مـن الله فـي كل iiآنٍ
فـأنـت  حبيبي وأنت iiصديقي
وفـيـك الأُخـُوّةُ تثمتر iiنـوراً
مـصيري  مصيُرك حلواً iiومرّاً
قـضـى  الله أنّ الرباطَ iiالعظيمَ
يـشـد الأواصـر بين iiالعبـادِ
ويـنـشـئ جـيلاً قوياً iiعزيزاً
ويـقـتلع  الكفـر من iiجحـره
أراك  عـلـى البعد مهما iiنأيتَ
وأشـقـى  إذا شمتُ فيك iiهواناً
وتـرتاح  نفسي إذا عشت iiَحراً
وأنـت الـشفاء لجرحي iiالسقيم












 
وأســأل  ربيَ أن iiتسـلـمـا
ومـن  كـل قـلبيَ أن iiتنعمـا
وأنـت نـصـيريَ أن iiأُظلمـا
وفـيـك الـودادُ كغـيثٍ iiهمى
كـلانـا إلـى المَكرُمات iiانتمى
ربـاطَ  الـعـقيدة ، ما أكـرما
ويـحـيي  القلوب بشرع iiالسما
يـطـاول فـي العـزة iiالأنجما
وفـي  الله يـبـذل غالي iiالدِّما
بـهـذي الـحـيـاة ليَ التوأما
حـمـاك الإلـه ومـا iiأرغمـا
وتـسعـد  روحيَ أن iiتغـنمـا
وكـنتَ لـه دائمـا بلسـمــا

كانت سيارة الأخ محمد دانيال قريبة من محطة القطار ينتظره هناك أخ بوسني هاجر إلى إيطاليا أثناء الحرب الصربية الكرواتية البوسنية فتلقفه وإخوانه المهاجرين الجاليةُ المسلمة في إيطاليا فضربوا بذلك أروع الأمثلة في المحبة الإسلامية ، وقد حدثنا الدكتور محمد نور دشان حين كنا في مخيم أنكونا الصيفي عام ألفين ما فعلوه حين استقبلوا إخوانهم المهاجرين البوسنيين .

      وصلنا المسجد بعد أذان العشاء بساعتين – في الثامنة والنصف – فتناولنا إفطارنا ذلك اليوم في مطعم المسجد ، حيث يفطر هناك يوميا ثلاثون مسلما أو أكثر من فقرائهم ومن لا أسرة لهم ، وقد تجتمع عدة أسر تجلب معها إفطارها فيكون تظاهرة جميلة يشعر فيها الحاضرون بنعمة الإسلام عليهم . ثم صليت وزوجتي المغرب جمع تأخير وأقيمت صلاة العشاء بعدها مباشرة في التاسعة ، وقد اعتزم الإخوان هناك تأخير صلاة العشاء والتراويح ليتسنى للكثير من المصلين حضور الصلاة في المسجد أيام رمضان المبارك. لم أشعر بالتعب فقد صليت فيهم العشاء والركعات الأربع الأولى من التراويح ، ثم كانت المحاضرة بين جزأي صلاة التراويح – وهي ثمان ركعات-  يوميا في حدود الثلاثين دقيقة ، قد تزيد أحيانا. أما قبل صلاة العشاء بثلث الساعة كل يوم  فقد تعمدت أن أقرأ باباً من رياض الصالحين شارحا ومفسراً أو مقطعا من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فنستشف ما وراء السطور من المواقف التربوية والإيمانية ، وكنت حريصا على أن يشاركني الحضور بعض التصورات والاستنتاجات ليتعودوا استنباط الفوائد وصيد الخواطر . وليس من عادتي حيازة الحديث فهذا أدعى إلى غفلة الحضور وقلة الانتباه وضياع الفائدة . إن مشاركة الحضور في المحاضرة –إجمالاً- أدعى إلى اليقظة وحسن الفهم ، وهذا ما يريده المحاضر الحريص على وصول الفكرة إلى الأذهان .

     كان المسجد على اتساعه في بنائه الجديد الذي صار جاهزا لاستقبال المصلين قبل بدء رمضان بشهر تقريبا يغص بالمصلين من كل بلدان العالم الإسلامي ،  من الهند إلى المغرب إلى أمريكا... والحمد لله رب العالمين وكان الأخ " سعيد " المصري إماما له على مدى سنوات عدة إلى أن اعترفت الصحة الإيطالية بشهادته في " طب الأسنان " التي نالها من مصر ، فانتقل إلى عمله الجديد في اختصاصه ، وهم يبحثون عن إمام وخطيب لمسجدهم العامر في بلاد الإسلام الجديدة " إيطاليا " مدينة " بولونيا" .

      كانت العشرة الأخيرة من رمضان دليلا على تمسك المصلين برمضان والفائدة من خيراته ، شأنهم شأن المسلمين عامة يتعاملون بمنطق التاجر العجول الذي يريد اقتناص الربح الكثير بالجهد القليل !! ولا يخلو هذا العمل من دفقات إيمانية متأصلة في نفوسهم ،كان عليّ أن أنفذ إليهم منها لأبين لهم أن رب رمضان هو رب الشهور كلها وأن عليهم أن يقووا الصلة بالله عز وجل ، فيكون رمضان مدرسة للتهذيب ونزح الران عن القلوب والأفئدة ، والثبات على عهدنا مع الله تعالى في السعي لرضاه .

في المسجد جماعة من المسلمين يحبون الإسلام لأنهم يحبون الله تعالى ، لكن أسلوبهم فج وطريقتهم غليظة فظة ، سببها الجهل بأمور الدين ويحسبون أنهم على هدى واضح ، يسيئون إلى الإسلام من حيث يريدون الدعوة إليه وينفرون الناس منه إن كانوا غير مسلمين ، وينفرون إخوانهم منهم لجلافة طبعهم وقِصَر نظرتهم إلى الحياة وفهمهم المبتور لمقاصد الدين الحنيف ، أما القائمون على المسجد ففيهم الواعي المتفهم وفيهم الجاهل المتعالم ، فيكبل الثاني الأول ويخرب عليه وهو يظن أنه يحسن صنعا ً. ولا يستطيع القسم الأول – الفاهم الواعي – أن يكبح جماح من معه لأنه عبء ثقيل عليه ، يخرب عليه عمله وبهذا يكون مقيد اليدين أمام الآخرين – أصحاب الأسلوب الفظ – وقد عانيت من القسمين اللذين كان بعض منهما يتراشق بألفاظ لا تنم عن ذوق ولا فهم ولا دين، والناس في الصلاة ! وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعا . وهذا ناجم في أغلب الأحيان عن التسرع في التصرف،  وانعدام الحكمة ، وعن الجهل في العلم الشرعي ، فقد وجدوا أنفسهم في بلاد الغرب يكادون ويكاد أبناؤهم يضيعون في آلة المادة الطاغية فتسنموا العمل الإسلامي وهم غير أهل لحمل هذه الرسالة فتعثروا تعثرا شديدا . وأعتقد أنهم إذا رزقواداعية واعيا حكيماً وكانوا صادقين في دعوتهم – وأحسبهم كذلك – فسيكون للعمل الإسلامي على أيدي الصالحين منهم أثر إيجابي طيب إن شاء الله تعالى .

      إن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد وعد بفتح الرومتين ، وقد فتح الله تعالى على يد الخليفة محمد الفاتح القسطنطينية ، وليكونن إن شاء الله على يد المسلمين الإيطاليين الفتح الثاني ، فالظهور السريع للإسلام في عقر دار النصرانية على مدى عقدين من الزمان إرهاص واضح ودليل دامغ على صحة ما أخبرنا به الصادق الأمين ورسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ، ولن يكو فتح روما إلا بعد مقدمات تمهد لهذا الفتح العظيم ، فالدعوة الإسلامية يتسع مداها والإيطاليون إن أحسنا سبيل الدعوة أربعة أقسام :

    أما القسم الأول فهم الذين أسلموا لله تعالى وملأالإيمان أفئدتهم ، فهم منا ونحن منهم ، فإذا عرفوا الإسلام تمام المعرفة كانوا الدعاة إلى قومهم ، فقريش أعلم بشعابها ، ولكل قوم مفاتيح ، وهم أعلم بالطريقة إلى قلوب قومهم  .

   وأما القسم الثاني فأصحاب العقول الواعية التي تعرف الحق من الباطل لكن نفوسهم ضعيفة لا يسلمون إلا أنهم لنا مناصرون ، ولقضيتنا داعمون ، ولا بد أن نعاملهم المعاملة الحضارية التي نكسب بها ودّهم ونستميلهم إلينا .

  وأما القسم الثالث فهم الذين وجدوا من المسلمين الأخلاق الحسان ، والأدب الجم ، والمعاملة الطيبة التي تجعلهم على الرغم من بعدهم عنا حياديين ، يكفوننا شرهم كما كفونا بِرّهم .وهذا ربح للعمل الإسلامي بطبيعة الحال .

  أما القسم الرابع فهم شياطين الإنس الذين لا يرون في المسلمين إلا الأعداء الألدّاء ، فالقسم الأول كفيل بهم ، وقديما قالوا : لا يفل الحديد إلا الحديد . ولم يكن العرب كلهم مسلمين ، فلا غرو أن تجد من غيرهم من هو بعيد عن الإسلام .

     إذا أراد الإنسان أن يزور بلدا لمجرد التعرف إليه أو البقاء فيه مدة يسيرة استأجر ولم يكلف نفسه ما يكلفها من ينوي البقاء ويستوطنه ، ولعل من حكمة القدر وحتى يمضي الله سبحانه وتعالى ما يريد سهل للعرب والمسلمين أن يهاجروا إلى إيطاليا وزين لهم أن يروها بلدهم ، فبدأوا باستئجار الصالات المناسبة لتكون مصليات يؤدون فيها صلواتهم اليومية ، ثم بدأوا منذ سنين بشراء بعض الكنائس المطروحة للبيع فقلبوها بعون الله مساجد ، أو الأبنية التي تصلح ابتداء لمثل ذلك ، ثم بدأوا يشترون الأراضي المناسبة لبناء المساجد في كل أنحاء إيطاليا كما يفعل إخوانهم في أوربا فقد زرت مدينة صغيرة قرب بولونيا "باتزاني " وصليت فيهم وحاضرت بعنوان " اغتنام الفرص" وكان مسجدهم جميلا جدا وواسعا ، حوله مرافق المدينة متوفرة ، من يدخله ترتح نفسه ويسعد بما يرى من ترتيب واعتناء ، ويكاد المسجد على رحابته يمتلئ بالمصلين فتتذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام " ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ..." فتقول منشرح الصدر : صدقت يا حبيبي يا رسول الله .. وأزور مدينة جبلية تبعد عن بولونيا مئة كيلو متر " فركاتو " فأرى مسجدها يغص بالمصلين يقرأون قبل صلاة العشاء سورة مريم ، فأسلم عليهم وأعيش معهم على مدى نصف ساعة أدب إبراهيم عليه السلام في دعوته أباه والناس من حوله.  ثم أصلي بهم العشاء ... وجاء الإمام  يقرأ من سورة الأحزاب الركعات الأربع الأولى ، فعشت معهم في رحاب الأدب النبوي في بيت الزوجية نصف ساعة أخرى وأجزم أن الإسلام ألقى بجرانه في أوربا ولا سيما إيطاليا فأقول : إن الفتح فتحان : الأول عقيدي ثقافي والثاني يأتي عما قريب تشريعا وقوة ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ... وأزور مدينة " جنوة " العريقة على ساحل البحر المتوسط وهي تبعد ثلاث مئة كيلومتر جنوب غرب بولونيا وقد عشت فيها رمضان 1422فأخطب فيهم الجمعة وأجلس فيهم إلى مابعد العصر ،نتذاكر تلك الأيام وما فعلوا في مسجدهم الجديد وعلاقتهم بغير المسلمين فيدعوني الأخ " إدريس "نائب رئيس المسجد حفظه الله تعالى وهو اللولب الذي وهب نفسه الليل والنهار لخدمة دينه إلى الإفطار على مائدة جمعية نصرانية تدعو للسلام والوئام مع المسلمين ، فأحمد الله تعالى – وهو سبحانه أهل الحمد والثناء – أن جعل للإسلام مرتكزات قوية في عقر بلاد التثليث .

       أما بولونيا فمدينة لطيفة تجمع بين القديم والحديث ، الأرصفة في منتصفها مسقوفة مقنطرة ، وكثرة الخانات فيها ملفت للنظر ، يذكرني بخانات حلب فخامة وتنظيما يحيط بها " المحلّق " إحاطة السوار بالمعصم مارا بأبوابها القديمة . وفيها كذلك المسلة المائلة ، المدعّمة بالإسمنت وهي بناء عال يذكر ببرج بيزا،  لكن عرضها لا يتجاوز سبعة أمتار،  وهي ذاهبة في العلوّ .

     لم أر رغبة في زيارة كنيستها الضخمة إلا أننا زرنا كنيسة القديس " لوقا " وهي قائمة على سفح الجبل المطل على بولونيا فكنت وأنا في داخلها أرفع صوتي بقول " لاإله إلا الله محمد رسول الله " ولعل خوفي أن أموت فيها أو في إحداهن جعلني أستنكف عن زيارة كنيسة بولونيا العريقة ... ومن اللطيف الغريب أن أخانا الحبيب محمد الزرقاء " أبا جميل " المقيم فيها منذ ثلاثين سنة  أخذنا إلى بناء قديم له أربعة زوايا تشكل مربعا ً قطره عشرة أمتار ، وبين الزاويتين المتصالبتين مسافة أكبر إذ وقف اثنان رأسُ كل منهما إلى الزاوية ، وأعطى كل منهما ظهره للآخر وتكلما بصوت منخفض سمع الآخر حديثه بوضوح .

    حدثني جمع من الإخوة في بولونيا أنهم رأوا من أفضال الله تعالى عليهم في مسجدهم القديم الصغير أن الجو مهما كان ممطرا والسماء مكفهرة ثم حان وقت صلاة الجمعة أو صلاة العيد فإنه يتحسن وقت الصلاة والخطبة ليتمكن الناس من أداء فريضة الجمعةأوسنة العيد ، فيتوقف المطر، وتخف شدة الرياح . فإذا انقضت الصلاة عاد المطر كما كان أو أشد وعاودت الريح هبوبها ... حتى جاء  يوم الأحد غرة شوال 1425 قبل عشرة أيام من كتابة الرحلة – فهي طازجة  كما ترون- والمطر ينزل بغزارة في بولونيا والبرد شديد ، .. والخيمة التي سمحت لنا بها البلدية كي نقيم فيها صلاة العيد تتسع لأقل من ثلاثة آلاف مصل .... ورأيت الفضل المتكرر بأم عيني ... انقشعت الغيوم في الساعة السابعة صباحا ، أي قبل الصلاة بساعتين ، وكانت الشمس ترسل أشعتها على المكان فتظهر البهجة والبسمات على وجوه القوم وشفاههم وهدأت الريح ، فكان الجو لطيفاً تماما واجتمع أكثر من سبعة آلاف مصلٍ   نعم وأكثر من هذا العدد ، ثلثا المصلين خارج الخيمة يكبرون ويهللون ، والأولاد يلعبون ويقفزون ، صليت فيهم ثم خطبت ، ثم سلم المسلمون بعضهم على بعض ، وبدأوا بالانصراف جماعات إلى المطاعم والأندية ... تلبدت السماء بالغيوم واشتد عصف الرياح ثم انهمر المطر بغزارة يعوض ما فاته ... سبحانك ربي سبحانك... الخير بيدك .. والفضل منك ... وأنت الرب المعبود والسيد الودود  لا إله إلا أنت ...اللهم اجعل قلوبنا بك موصولة ، فلا قاطع ما وصلت ولا مانع لما أعطيت ...

       من أعظم اللحظات التي يعيشها المسلم في هذا الزمن الرديء أن يسمع ويرى دخول إنسان جديد في هذا الدين المبارك العظيم ، فيثبت إيمانه وتقوى عزيمته ويستمد حرارةً في الإيمان وبرودة في اليقين .فقبل صلاة العيد والناس يكبرون ويهللون ، ويتردد صدى هذا الإعلان الهادر في جنبات الخيمة وخارجها على بعد مئات الأمتار ، وبعض المسؤولين من غير المسلمين ضباطاً وجنوداً ينظمون السير وعملية الدخول إلى مصلى العيد يمسك بيدي أحد الإخوة المنظمين يقودني إلى المنصة فآخذ مكاني بين المكبرين والمهللين ، وقد قاربت الوقت التاسعة والنصف موعد صلاة العيد يتقدم أخ صومالي ومعه شاب أمريكي في الخامسة والعشرين من عمره يخبرني أن هذا الأمريكي الذي لا يعرف العربية ولا الإيطالية عازم على إعلان إسلامه والنطق بالشهادة . فقال : متى تسمح بإعلان إسلامه ؟

قلت : معاذ الله أن أكون من يسمح أ ويمنع ، أنما هو الله سبحانه يرى في عبده الخير ، ويراه يسعى إليه فيمده فيه ويدفعه إليه ." ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ، كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً"

قال : أي الوقت تراه مناسباًأن يعلن إسلامه فيه؟ قبل الصلاة والخطبة أو بعدهما ؟

قلت مبتسماً : كنت أداعبك يا ولدي في هذا اليوم البهيج ... والأولى أن يعلن إسلامه قبيل الصلاة والناس حاضرون ليكون هذا الإعلان شاحناً لنفوسهم وقلوبهم . أما بعد الصلاة فالكثيرون منهم ينفتلون خارجين .... ولما قمت وأراد الناس القيام قلت لهم إن أخا جديدا سيكسبه الإسلام وتكسبه الدعوة ، فسألته بالنجليزية التي لا يحسن غيرها : أتقر بأن الله واحد لا شريك له ولا ولد ؟وأن عيسى رسول الله وليس ولده ؟ وأن محمداً رسول الله ؟ فكان يؤكد ذلك ، ثم نطق الشهادة باللغة الإنجليزية وأنا ألقنه إياها ، ثم نطقها بالعربية فضج المصلون بالتكبير والتهليل ، وسلمنا عليه بسلام الإسلام وهنأناه بالهداية والإسلام .  وقمنا إلى الصلاة فكانت أول صلاة له بعد الإسلام هداه الله تعالى وثبته على الصراط المستقيم . ... لكنني أهمس بقوة في آذان الدعاة أن ارعوا إخوانكم الجدد وراقبوهم وقدموا لهم العون ولا تتركوهم ، فكم من الناس أسلموا ثم ارتدوا حين تُركوا . فالله الله فيهم لا تدعوهم لشياطين الإنس والجن يفتنونهم ويضلونهم ...

    كان الإعلام الإيطالي هناك ورجال الأمن بيننا يسمعون ويتابعون الوضع باهتمام ... تسألني صحفية عن الإرهاب في الإسلام : فقلت لها ليس المسلمون إرهابيين ، وليس في الإسلام إرهاب ،إن الإرهابيين من دخلوا بلادنا فدمروها وقتّلوا أهلها . قالت فكيف رأيتم الإيطاليين ؟ قلت: حضاريين في بلادهم وأهل لطف . هداهم الله للإيمان ، وشكر لهم حسن ضيافتهم .

   قضينا يوم العيد في منطقة جبلية . البرد شديد لكن الصالة دافئة ..الرجال في زاوية والنساء في زاوية أخرى والأولاد بينهم يلعبون ، وكل من الطرفين منشغل بالحديث الأخوي المنفتح الذي يقرب القلوب بعضها من بعض . ... لم يكن طعام العيد منسفاً أردنيا ، ولا مسخناً فلسطينياً ، ولا كبسة سعودية ، ولا بريانيّا خليجياً ولا كبة سورية أو لبنانية ...لقد كان طعامنا في العيد " بيتزا إيطاليةً" ...