ايطاليا (2)

د. عثمان قدري مكانسي

ايطاليا (2)

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

سنغيّركلمة واحدة في المثل " مصائب قوم عند قوم فوائد" فنقول موانع قوم...ففي صيف عام تسعة وتسعين وتسع مئة وألف دعي أحد الأساتذة إلى المخيم الصيفي لاتحاد الجمعيات والهيئات الإسلامية في إيطاليا. وكان عضوا في مجلس شورى الإخوان المسلمين السوريين الذي ينعقد في الوقت الذي تبدأ فيه فعاليات المخيم الإيطالي تقريبا . فرشحني إلى ذلك المخيم ، فسافرت إلى " أنكونا " المدينة الجميلة على ساحل البحر الأدريتيكي جنوب" فينيسيا " بثلاثين كيلومترا تقريبا . وهي نظيفة صغيرة الحجم ، يخترقها نهر متوسط ..هادئة تشعرك بالأنس ، ذات جمال أخّاذ... فإذا ارتقيت الجبل إلى الشمال الغربي منها عشرين" كم " في طرق منعرجة وصلت إلى قرية " أرشيفيا " فإذا تسلقت بسيارتك سفح القمة مئات الأمتار – في دقائق قليلة- وجدت فندقا صيفيا مطلاّ على الوديان من حولك في منظر بهيج ،متعة للناظرين ، وإلى الغرب ملاعبَ ومقهيين ريفيين بسيطين...

الفندق من طابق أرضي في بهو الاستقبال ، وهو كبير كنا نستعمله للصلاة ، وإلى الغرب منه قاعة للمحاضرات الشتوية ، وقد جعلت لنوم الأولاد أيام المخيم، وإلى شرق البهو شرفة سماوية كبيرة تتسع للمئات ، كانت المحضرات الصباحية والمسائية والأنشطة تعقد فيها.

  وفي الأسفل المطعمُ الضخم ، يتسع المئات . كان ثلاثة أرباع طعامنا في المخيم " سباغيتي " مما جعلني أضرب عن المعكرونة بعد عودتي من إيطاليا ثلاثة أشهر على الأقل لأنساها ولأعيد التوازن بينها وبين الأطعمة الأخرى..  وفي الطابق السفلي نفسه قاعة لممارسة الرياضة . لكننا كنا نمارسها في الهواء الطلق ، بين الأشجار وعلى الطرقات .

   أما الغرف ففي الطابقين العلويين ، وهي عرف صغيرة يحتلها الأسر والصبايا اللواتي أوصلهن أولياء أمورهن ولم يشاركوا في المخيم .أما الرجال ففي الطرف الغربي للفندق ساحة سماوية تنصب فيها الخيام ، ويوزع في كل خيمة عدد متجانس منهم. والفندق على جماله يعتبر من فئة النجمة الواحدة ، إن كان لأمثاله بين الفنادق تصنيف .

   وصلنا إلى مطار" أنكونا" ليلة بدء المخيم ، ولم نجد من يستقبلنا مع أن من تركناهم في عمان تكفلوا بإخبار القائمين على المخيم بوصولنا ، لكنني تعرفت في الطائرة على أستاذ من جماعة العدل والإحسان المغربية التي أسسها الأستاذ عبد السلام ياسين حينما بدلنا الطائرة الإيطالية من ميلانو، وكان رجلا لطيفا ذا أخلاق عالية .. جاء من يأخذه إلى المخيم ،فحملنا معه.... تحدثت بلغة الجمع لأني سافرت والأستاذة عائشة شعبان يرافقها ابنها يمان وكان طالبا في السنة الثانية الجامعية .

استقبلنا في المخيم الدكتور محمد نور دشّان رئيس الاتحاد الإسلامي ، وهو أخ صديق أعرفه منذ أكثر من عشرين عاما ، كان شابا في الخامسة والثلاثين من عمره في أوائل التمانينات . مفعما بالحيوية والنشاط، ولم أفاجأ كثيرا حين رأيت الشيب يزين فوديه ويغزو رأسه، فأنا كذلك صورة تؤكد أن الإنسان مرتحل إلى الله تعالى ، وأنّ كل مرحلة يمر بها دليل على ذلك ، إلا أنه والحق يُقال لم يزل كما عهدته..  سريع الحركة.. يقظ البديهة.. دائم الابتسام .. ذا عينين تغزِلان ذكاء.. لطيف المعشر ... وبهذا كان جديرا بقيادة اتحاد الجمعيات والهيئات الإسلامية في إيطاليا .

  يبدأ يوم المخيم بصلاة الفجر ، بعدها خاطرة أو كلمة صغيرة لا تتجاوز ربع الساعة ، ثم ذكر لله تعالى وأدعية وأوراد ... راحة ، أو قراءة من القرآن الكريم .. رياضة جماعية خارج الفندق على السفوح ساعة يتخللها أناشيد وهتافات ، وتباسط أخويّ ...وفي الثامنة إفطار خفيف وصلاة الضحى ... وفي التاسعة تبدأ المحاضرات إلى الواحدة ظهرا .ثم الغداء الجماعي ، والقيلولة ، أو اللقاءات بين الأصدقاء الذين يغتنمون مثل هذه المناسبات ، فيجددون العهد بينهم ، أو ينشؤون علاقات وصلات جديدة ، والمسلم ألوف مألوف .

    وفي الخامسة عصرا إلى الثامنة محاضرات أخرى، أو تُطرح أفكار جديدة تفيد المسلمين في مجتمعهم الغربي الجديد لتناقَش وتُنضج ، وليشعر المسلم أن عليه أن يكون فاعلا ومنفعلا ، وأنّه عامل إيجابيّ في مسيرة المسلمين في إيطاليا وأن عليه أن يتحمّل المسؤولية في توجيه أبنائه وإخوانه والحفاظ عليهم من لجج الفساد والانحراف في مجتمع يموج بها وتضطرب سفينة الهداية في خضمّه ، فلا بد من اليقظة والعمل الدؤوب للوصول بالأسرة والمجتمع المسلم إلى بر الأمان والإيمان ، وإلا ابتلع الطوفان وتتابُعُ الأمواج وقوتُها كلَّ شيء ، فذاب فيه   وكان ما نتحاشاه ، الخسارة في الدنيا والآخرة – لا سمح الله – وعلى هذا يراهن الغرب ، وإلى هذا يسعى ، وله يخطط ، وكم ضاع من المسلمين في الغرب بسبب الإهمال ، وانعدام التربية والتوجيه .

  تتنوع المحاضرات .. أدب وإخلاق ودعوة ، تحت عنوان عام ينضوي المخيم تحت لوائه ، وتهدف المحاضرات والأنشطة لتحقيقه . يتخلل ذلك أناشيد وأنشطة فكرية ومسابقات . وقد نلتقي بزائرين ومسؤولين إيطاليين من علية القوم وأصحاب القرار ، نستمع إليهم ويستمعون إلينا بأسلوب حواريّ متحضّر ، فيتعرف هؤلاء إلى المواطنين المسلمين الإيطاليين – لا أقول إلى الجالية المسلمة – فكلمة " الجالية " تعني أننا معشر المسلمين ماكثون إلى زمن سوف نجلو بعده ، ويعود  كلٌّ إلى المكان الذي قدم منه !! لا لا ،إن المسلمين في كل مكان مواطنون ، وينبغي أن يشعروا بمواطنتهم ليفيدوا ويستفيدوا ... يحافظون على دينهم ، وينشرونه في الأرض ،  ويقدمون القدوة الصالحة ، فيكونون دعاة إلى الله ، ومثالا حسنا يهتدي بهديه الناس .

  كان مسؤول المخيم في تلك السنة أخ من غرب إيطاليا ، دخل نور الإسلام قلبه ، ومازج روحه وعقله ، درس العربية وعب من فيض الإسلام ، ثم أكرمه الله تعالى بترجمة معاني القرآن إلى الإيطالية ، وطبَعَه طبعات عديدة ، واقتناه الكثير من الإيطاليين ، أسأل الله أن يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم . هذا المسؤول إلى لطفه وحسن إخلاقه كان حازما في قيادته للمخيم ، حريصا على إنجاحه ، فوفقه الله تعالى إلى ذلك .

  تقسم إيطاليا إلى ثلاثين محافظة ، في الجنوب عشر ، وفي القسم الغربي عشر ، وفي القسم الشرقي عشر . ولكل عشر محافظات رئيس ... زار المخيم رئيسة المحافظات الشرقية . ووعدت الحاضرين أن تبذل جهدها ليأخذ المسلمون حقوقهم أسوة ببقية المواطنين الإيطاليين ، كما زار المخيم بعض النوّاب فأحسنوا الحديث. وكان للدكتور أبي صبحي دشان دور محمود في خدمة المسلمين . كما أن نائبه في الاتحاد الدكتور " أبا الخير بريغش " ذكي الفؤاد ، داعية متميز ، يبذل وقته ماله في خدمة إخوانه ودعوته – ولا أزكي على الله أحدا – فقد عرفته عن كثب منذ سنوات طويلة ، لا يألو جهدا في سبيل هدفه ، وهو محاضر بارع ، يغتنم الفرص يحدث فيها الإيطاليين عن الإسلام ويدعوهم إليه .

للشباب الذكور تدريباتهم المناسبة لأعمارهم ، في مكان قريب من المخيم الرئيسيّ يقوم به موجهون أكفاء ، زرتهم مرتين على ما أظن ... كانت الزيارة طويلة،  فيها من التباسط والتحبب ما جعل بعضهم يحرص على مراسلتي ، وجاء بعضهم في السنة التالية إلى عمان لزيارتي

   للنساء في الفترة المسائية نشاطهنّ الخاص - وللأخت أم اليمان دور مميز في ذلك مع بعض الداعيات -  وأذكر أنني ألقيت عليهنّ محاضرتين ، وأفدنني بأخلاقهن وصبرهن على أزواجهنّ وتربية أبنائهنّ ما جعلني أقر بأنهنّ مجاهدات ، وعلى ثغرة خطيرة من ثغر الإسلام. جزاهن الله الخير،  وأقر أعينهن بصلاح أولادهنّ .       

     وكذلك للفتيات ، فيما يخص الجانب الأنثوي ودور المرأة في المجتمع الغربي ، وتربية الأبناء على الإسلام والأخلاق الحميدة دروسهنّ الخاصّة ، قام بذلك المربيات الفاضلات ،  يساعدهن في ذلك الأساتذة المحاضرون ، والقائمون على تربية الفتيات من المقيمين . فللفتيات نشاطهن المميز أثناء السنة ، وسعدت حين وجدت الفتيات في مخيم قريب من الفندق يشرف عليهن حراسةً وخدمةً طاقم كامل من المربين الجيدين .

  الليلة الأخيرة هي ليلة السمر الجماعي والمؤانسة ، تمثيليات ، قصص قصيرة مبتكرة فيها دعابة ، أناشيد دينية ، وأغان محتشمة ، ومسابقات علمية ودينية متنوعة ..... ثم توزيع الهدايا على الفائزين بها،  وعلى القائمين بخدمة المخيم .

    وفي يوم الجمعة صباحا أوصلتي الدكتور أبوصبحي إلى مطار أنكونا ، ومنه إلى ميلانو حيث استقبلني المهندس " محمود عسفة " مهندس أردني درس في ميلانو وبقي فيها . سألته : لم فضلت الإقامة في بلاد الغربة ؟

قال : وجدت نفسي هنا

قلت : كيف ؟

قال : سأكون في إربد نقطة في بحر من الذين يعيشون ليأكلوا ويشربوا فقط .

قلت : وهنا ؟

قال : دعوة ، وشعور بالذات ، وإحساس بأنك تقوم بما يجب عليك تجاه المسلمين وغيرهم.

     هنا الحياة الحقيقية ، وهنا بناء لجيل سيكون –إن شاء الله – حزمة النور المنتشر في          أرجاء أوروبا .

استضافني في بيته حتى حان وقت صلاة الجمعة وخطبتها ، فأخذني إلى ملعب مسقوف لكرة السلة وكرة الطائرة ، تابع لإحدى بلديات ميلانو... يستأجره المسلمون كل جمعة ساعتين فقط لإقامة شعائر صلاة الجمعة .... مُدّت البسط وسجاجيد " الموكيت " . كان عدد المصلين يقارب الألف ، وكان موضوع الخطبة " تربية الأولاد في بلاد الغربة " .... استعدت ذكرياتي مع بعض الأصدقاء القدامى كالدكتور" بهاء الدين غريواتي "

 من حلب ، وهو متزوج من ابنة الأستاذ " كمال قدسي" الذي فر بدينه بعد أن قتل النظام المجرم في سورية ولديه المجاهدين الشهيدين عبد الله وعصام رحمهما الله تعالى رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته ....ثم

تغدينا في مطعم أخ فلسطيني سماه " مطعم القدس " قرب البلدية الرئيسية في ميلانو .

    استغرقت الطائرة في طؤق العودة ساعتين وربع الساعة في حين أن رحلة الذهاب إلى ميلانو كانت في ساعة ونصف الساعة .. لقد كانت الطائرة من الطراز القديم ، تمشي متمهلة وعلى ارتفاع اثني عشر ألف

 قدم ، يريني الأرض والبحيرات والانهار والغابات الكثيرة بشكل واضح وأرى الناس بسياراتهم ، وعلى

 أقدامهم كأنهم أمامي على شاشة التلفاز . لقد كانت رحلة ممتعة أنستني طول الرحلة وقصرت المدّة 

    استقبلني في المطار الأخ هشام القدسي أخو الشهيدين ، عبد الله وعصام ، وأخذني مباشرة إلى مغارة ضخمة للصواعد والنوازل - وقد سبقنا إليها جمع من أهل المخيم- ليس لها في العالم مثيل على ما أعتقد ، فطولها كما يقول الدليل أكثر من اثنين وعشرين كيلومترا ، ولا أدري مدى عرضها ، لكن تجوّلنا فيها لم يتجاوز الكيلومترات القليلة ، فالطرق متلوية . تدخل مرة كهفا ،ومرة تسير على جسر وقد يصل ارتفاع

المغارة إلى سبعين مترا ، وإلى أكثر من ذلك أحيانا . جوها بارد طبعا ً. ويتجاوز الصاعد أو النازل حجم شجرة ضخمة بارتفاعات شاهقة ، وقد تصل إلى أشبار ، ويؤلف الماء بركا صغيرة وكبيرة . وقد تجد

عشرين دليلا أو أكثر، مع كل دليل بين العشرين والثلاثين زائراً . مغارة ضخمة لم يكتشفوا بعدُ امتداداتها. فسبحان خالق الكون ومصوّره .

بريشا

   تقع هذه المدينة الصناعية الجميلة في الوسط الأعلى من إيطاليا ، بين ميلانو التي تبعد عنها تسعين

كيلومترا ، ومدينة " تورنتو " في الشمال الشرقي قرب سويسرا المدينة التي يقطنها الدكتور أبو الخير

 بريغش ... بريشا تشعرك بالهدوء والطمأنينة ، كان فيها عام ألفين مخزن، فيه قبو ....هذا هو المركز الإسلامي فيها ، ويقع في حي ضيق .. يشتكي القاطنون فيه من بعض تصرفات المسلمين غير الواعية !!

 يضع أحدهم سيارته في مكان غير مناسب مثلا ، أو يكثر من استعمال البوق بشكل مزعج ودون سبب ، أو يجلس على الرصيف فيحرج المارة ، أو يبيع الحشيش والمخدرات فيعطي انطباعا مقرفا عن المسلمين .. لأنه واحد منهم .!! هذا بالإضافة إلى الجهل المستحكم في عقول البعض والمعشعش فيه . فتسعة أعشار المسلمين البالغ عددهم في إيطاليا مليوناً ونصف المليون من العرب المغاربة الذين يأتون تهريبا إلى إيطاليا عن طريق مالطة من جهة البحر، وهم عمال فقراء – والفقر ليس عيبا – إلا أنه لا يساعد على الدراسة والثقافة ، وهم مسلمون عاطفةً لا فهما ، ومؤمنون وراثة لا عقيدة . حاشا أن يكونوا كلهم كذلك . ففيهم الدعاة العاملون العمالقة  من أرى نفسي صغيراً أمامهم ، ولكنهم جنود للدعوة مجهولون ، سأذكر بعضهم حين أتحدث عن " جنوا " إن شاء الله تعالى . ولهذا السبب وغيره كانت المراكز الإسلامية المدارسَ الميدانيةَ والحاضن الإيجابي الأصيل لهؤلاء الإخوة المهاجرين .

   دعاني الدكتور" أيمن صباغ " رئيس المركز الإسلامي في بريشا وأنا في المخيم إلى قضاء رمضان القادم فيها ... وهكذا كان . نزلت في بيته ، فأهله في الإمارات . ويبعد المصلى عن بيته أكثر من كيلومتر واحد . تعرفت الطريق في الأيام الأولى ، ثم بدأت أذهب إليه وأعود منه مشيا على الأقدام . وكانت صلاة العشاء تقام بعد أذانه بساعتين أوأكثر حين ينتهي الناس من أعمالهم .

     غالبا ما نصلي العصر جماعة ، بعدها درس في السيرة النبوية الشريفة ، أو قراءة في رياض الصالحين ، أو تفسير لسورة أو آيات ، أو فقه الصيام ...

  أما الإفطار ففي بيوتات الإخوة ، وأكثرهم – كما ذكرت – من المغرب ، وكانت " الحريرة " أول ما يتناولها الصائم بعد التمر ، وهي ثقيلة على معدتي لأنها دسمة ، وكان طعمها لذيذاً .ثم نقوم لصلاة المغرب، ثم الخبز الذي لا يخبز إلا في رمضان ، وقد يخلط بالحبة السوداء أو شيء يشبهها ، ثم المقبلات ، بعدها الطعام غير الرئيسيّ ... أما الكسكس والمرق فبد الانتهاء من العشاء وقيام الليل . إلا أنهم يقدمون كل شيء فبل الصلاة حين نفطر عندهم لأننا لن نستطيع العودة بعد الصلاة ، إلا إذا كنا نفطر في بيت قريب من سكنانا .

       كان الإمام مغربيا حافظاً للقرآن الكريم، قد هذبه القرآن ، يصلي فينا الصلوات كلها،  فروضها وقيام الليل ، وكانت الخواطرمنتصفَ صلاة  " التراويح " . وقد لا تتعدّى ربع الساعة أما إذا كانت محاضرةٌ فقبل صلاة الوتر.

     وصارت صلاة الفجر يومي السبت والأحد تقام في المصلّى حتى يعتاد المصلون ارتياده في أغلب الصلوات .

      كنت أجد كثيرا من الشباب قلبه معلق بالمصلّى فأحمد الله على ذلك ، وأدعو لهم بالثبات على الدين والتزام التقوى .... دعاني بعض الشباب العزاب إلى الإفطار عندهم فلبيت راغبا التعرف على أحوالهم على سجيتهم وطبيعتهم .... دخلت البيت فإذا فيه أكثر من خمسة عشر شاباً ، كلهم صائم والحمد لله ، فلما حان وقت الإفطار وأفطرنا على تمرات قاموا إلى الصلاة جميعا، اغرورقت عيناي بالدموع .. لك الحمد يارب أن هديتهم في هذه الغربة إلى التقوى والصلاح . وتذكرت حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ليبلُغنَّ هذا الدينُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ...

       وليصلنّ هذا الدين روما فتفتحنّ كما فتحت القسطنطينية ، ولن يكون هذا الفتح بين عشية وضحاها ، أن له مبشرات ومقدِّمات وإرهاصات ، وليدخلن كثير من الإيطاليين الإسلام ، ولن يكون غريبا،  وسيعيشه الكثير واقعا لا حلُما ، حتى يأذن الله بالفتح المبين .

      كان حلم الإخوة القائمين على العمل الإسلامي أن يكون لهم مركزإسلامي كبيريجمع شتات المسلمين في هذه المنطقة ، والحلم يحتاج إلى سعي ، والسعي يتطلب همة ومغامرة وتخطيطا . ففي الأيام الأخيرة من رمضان عثر الإخوة على مساحة من الأرض على تقاطع مهم في الطريق إلى ميلانو تبلغ أكثر من حمسة آلاف متر مربع ، أقيم على ألفي متر منها  بناء ضخم من طابقين ، لكنه كان مهجوراً ، ، ليس فيه سوى الأعمدة والسقوف والجدران ، يعيش فيه المشردون من اللصوص ومن يشابههم.... فرأوا فيه ضالتهم ، وسرعان ما شرح الله صدورهم له ، فاتفقوا على شرائه ، وبدأت التبرعات وعملية البناء .... زرتهم بعد سنتين فوجدت البناء يكاد يكون كاملاً ، المحراب يتسع لألف مصلٍ في الطابق الأرضي وفي السدّة ، أما في القسم الآخر فإنك تجد في أسفله غرف الإدارة والاستقبال ، أما فوقُ فست غرف دراسية .. أما دار الإمام فعلى السطح مشرفة على ما حولها ، وهناك غرفة تتسع لعدد من الضيوف الموسميين .

       وكنت اقترحت على الإخوة أن يهتموا باستضافة الزائرين في المركز نفسه ، ما يوفر عليهم نفقة الفنادق الباهظة ومواصلات الذهاب والإياب والزمن ، ويهب فرصة أكبر للاستفادة منهم .فكان جناح الاستقبال جاهزا ، واستقبل الإخوة المسلمون فيه عام ألفين واثنين شيخين فاضلين .

           كنا نزور المدن القريبة من بريشا في الأسبوع ثلاث مرات نقريبا في رمضان عام ألفين للميلاد ، ولعل القارىء يقول : لم لا تذكر السنة الهجرية ألفاً وأربع مئة  وعشرين ، فرمضان منها لا من السنة الميلادية ؟! .. فأقول : صدقتَ وأنت تعرف غلبة التاريخ الميلادي على كل شؤون حياتنا سوى التاريخ الذي لا بد منه لإقامة الشعائر الدينية ،من صيام وحج وزكاة ...

            نزور المدن القريبة ... نفطر في بيت أحد الإخوة ..ونتجاذب أطراف الحديث في أهداف المسلمين الإيطاليين خاصة والأوربيين عامةًّ .وعن المشاكل التي يثيرها جهلة المسلمين من أصحاب الفهم الضيّق والعقول القاصرة ، فتنعكس سلبا على المجتمع المسلم ، وربما يتسع الخرقُ على الراقع !! من ذلك أن رئيس البلدية في تلك المدينة ، ويتعذر استذكار اسمها بعد أربع سنوات من الزيارة تردد على مصلى المسلمين يريد بناء جسور معهم لخدمتهم ، وليكسب أصواتهم في انتخابات البلدية القادمة ، فرحب به المسلمون والقائمون على شؤونهم ، وطلب من مسؤوليهم أن يزوروه في مكتبه . .. وهناك وعدهم بأرض يبنون مركزهم الثقافي عليها ، وأن اللبلدية ستقدم لهم مبلغامن المال يبدأون به مشروعهم.... وعاد هؤلاء مستبشرين يعرضون على إخوانهم في المصلّى ماجرى بينهم وبين رئيس البلدية ، وبعد أسبوع زاروه في مكتبه ففوجئوا أن بعض قاصري العقول ذهبوا إليه قائلين : نحن لا نحتاج إلى أموال المشركين في بناء مركزنا الإسلامي ...! ونسي هؤلاء أو جهلوا أنهم يعيشون بين ظهرانَيْهم ، وأن الدولة تأخذ الضرائب منهم كما تأخذها من بقية أطياف الشعب الإيطالي لتصرفها عليهم مرة أخرى ، وأن هذا حق من حقوقهم!! ... وطلب إليهم أن يجمعوا صفوفهم ويكونوا رأيا واحدا ً، فهو وإن كان يريد خدمتهم فإنه يسعى لخدمة نفسه أوّلاً ، ولا يريد أن يضّيِّع مستقبله السياسي .

            ثم بعد صلاة العشاء محاضرة في رمضان والأخلاق الإسلامية – جعلنا الله تعالى من أصحابها – فقد روى الحسن عن الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن : أنّ أحسن الحسن الخلقُ الحسن .... أو في تربية الأبناء ، فهم أمانة في أعناقتا . والخلق الحن يحببنا إلى الناس فيسمعوا من ، ثم يأخذون عنا ، " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..." .. مشاكل المسلمين كلها ناتجة عن جهلهم بدينهم ، وعدم اهتمامهم بتربية أبنائهم ... ترد على ذهني كثير منها قاصمة للظهر ، أذكر حادثة واحدة لتروا عميق المآسي التي يخلفها الجهل والغربة في غير بلاد المسلمين .

       جاءني أحدهم شاكيا حين وجدني وحدي يبثني همّه الذي أثقل كاهله :

-       ابنتي تريد أن تزورني ، وأنا أرفض ذلك رقضا قاطعا .

-       لماذا وأنت أب ، والأب ينبغي أن يضرب مثلا في العطف والرحمة؟

-       لفد تزوّجت دون إذن منّي .

-       لئن أخطَأَت وعاقَبْتَها مدّة من الزمن للعفو عنها خير ، هل تسمح لأمها وإخوتها أن يزوروها ؟

-        نعم ، ولكنني أقسمت بأغلظ الأَيْمان أن أتبرّأ منها ، فليست ابنتي ، ولست أباها. -       وهل زوجها سيء إلى هذه الدرجة التي تجعلك ترفضه وترفضها بسببه ؟

-       لا، أبداً ، هو الذي يدفعها إلى تجديد بناء العلاقة الأسرية وإعادة المياه إلى مجاريها.

    قلت في نفسي : هناك كلام يريد الرجل أن يقوله ، ولكنه لم يحسن التعبير عنه ، أو هو أمر جلل يمنعه أن يرميه وحده ، فلْأشجعْه .

-       أهو نصرانيُّ ؟ ورغبت أن يقول : لا ، فترتاح نفسي .

طفر الدمع من عينيه ، وهزّ رأسه باللإيجاب ، ثم قال : نعم .

-       وكيف اختارته ؟ أين كنت ؟

-       رفضت ذلك وهددتُها ، وقلت لها : إنّه ليس منّا . فأعلنتْ أنها تحبه.

قلت لها إنه كافر . فلم تهتم بذلك ... ستكونين مثله... الحب أعمى قلبها .

-       أيسعى هو إلى رضاكم ؟ ويريد وصالكم ؟

-       نعم .. حاول ذلك مرارا .

لم أشأ أن أزيد همومه ، فأقول له إن ابنته مرتدّة  ، أوإنها لم تعرف الإسلام ابتداء ....إنه هو الذي تركها لأهوائها وشهواتها ، ولم يعلمها دينها ، همّه أن يجمع المال ، وأن يشتري ما يلزم البيت من طعام وشراب ...اهتم بأولاده مادّةً ، ولم يعلم أنه مسؤول عنهم وراعٍ لهم ... ونسي أن الرزق من عند الله ، وأن عليه أن يهتم بالدين والأخلاق قبل كل شيء  .. فضيّع ابنته . وصحا إلى أبنائه الآخرين يجمعهم ويلم شتاتهم قبل أن يضيعوا جميعا. لكنّ الثمن كان باهظا .

     -  بُعدُك عنها لن يعيدها إلى دينها ... لكن اغتنم رغبتها وزوجها في إرضائك . وبيّن لها بعد أن تأنس إليك عظيم ما ارتكبتْه ، وادعها وزوجها إلى الإسلام ، عسى الله أن يجعل هدايتهما على يديك . ثم اطلب من مسؤولي المركز أن يساعوك في ذلك ، وسأخبرهم بما جرى بيني وبينك ... هذا غيض من فيض .... إن المسلمين  في بلادهم يحتاجون إلى من يذكرهم دائمابالله ، ويدلهم على الطريق ، فما بالك بمن يجهلونه منهم ولا يجدون من يسدد خطاهم ، ويأخذ بأيديهم إلى جادّة الصواب ، ويعينهم على فهم دينهم والعمل بمقتضاه ؟

ولا ننس أن الإضاءات المشرقة في بلاد الغرب كثيرة وتتزايد بعون الله تعالى ، ليكون فتح القلوب والعقول مقدمة لفتح ما وعدنا به الله تعالى على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

   أثناء بقائي في بريشا دعيت لخطبة الجمعة في ميلانو القريبة منها أكثر من مرة مما جعلني أتعرف عليها أكثر وعلى بعض المسلمين فيها ، فبدأت أتقبلها ، وقد كنت أنقبض كلما ذكرت أمامي أو دخلتها ، ولا أدري السبب ، وما كل شيء له تفسير ... ففيها عديد من الإخوة والأحباب يدعونني إليها فلا أجد في صدري رغبة في الذهاب ولكن الأمر بدأ يتغير ، وهذا دليل على أن الإنسان عدو ما يجهل .

استأجر الإخوة من بلدية بريشا خيمة ضخمة تتسع لأكثر من خمسة عشر ألفأ . لإقامة شعائر صلاة عيد الفطر ، وكان العيد يوم الجمعة ، فامتلأت كلها وبقي كثير من الناس خارجها ، وكانت الخطبة عن التعايش الإنساني بين المسلمين والنصارى ، فكان تجاوب راعي الأبرشية هناك إيجابيا وكان لقاءات بين الطرفين جيدة . صلينا بعد طلوع الشمس بساعتين ، وانتظرنا إلى وقت الظهر فصلينا الجمعة وكانت اللقاءات الودية بين المسلمين تثلج الصدر . ثم انطلقنا جماعات إلى مطاعم يشرف عليها المسلمون نتغدّى ونقضي يوما ممتعا في زيارات لأماكن سياحية جميلة .

وفي اليوم التالي كان موعد الناس رائعا ، يلتقي الأصدقاء من مدن مختلفة متباعدة في مكان وسط يجمعها ، فتقضي يوما بأكمله يفرغون فيه أشواقهم , أو قل يجددون فيه أشواقهم هذه ، وهناك لقاءات للجالية المسلمة – وذكرت كلمة الجالية لأنها ماعادت هذه الأيام تحمل معنى الجلاء والعودة – متعددة . منها

مؤتمر ريمني السنوي

  " ريمني " مدينة سياحيةعلى بحر الأدرياتيك تحت أنكونا وفينيسيا ، صغيرة مشهورة في أوربا بكثرة فنادقها وملاهيها وخماراتها ونوادي القمار فيها ، يقصدها السياح في الصيف فيعبون من الشهوة الحرام التي يجدونها هناك على قدم وساق يذكي أوارها شياطين الإنس والجن ... وترى الناس سكارى ، وهم في الحقيقة سكارى . لا يدرون ما ينتظرهم من عذاب الله الأليم .

  في هذا المكان بالذات ، وفي منتصف الشتاء القارس تنقلب الأمور ثلاثة أيام بلياليها من فسق وفساد إلى تقوى وذكر لله تعالى ، فإلى القرب من النهر بعيدا عن البحر بناء ضخم فيه قاعة كبيرة تتسع للآلاف من الناس ، بملحقاتها من قاعة للطعام وكافتيريا واستراحة يجتمع الدعاة من المسلمين ، مع أسرهم في عطلة رأس السنة ، فتزدحم بهم على اتساعها وتزدهر كثير من الفنادق بروادها المسلمين ، فتقول سبحان مغير الأحوال . وتسأل الله تعالى أن تكون المدينة       طول السنة هكذا ،

   عدد المؤتمرين في ريمني أكبر بكثير من عددهم في المخيم الصيفي في أرشيقيا وقد يصل إلى خمسة آلاف أو أعلى ، فالجميع في عطلة ، والمؤتمر ثلاثة أيام لا ثمانية . من 26 كانون الأول إلى 29 منه ووافق هذا مثيله في رمضان ، فدعيت إليه وألقيت فيه محاضرة وخاطرة . وكان من الأساتذة الذين دُعوا إلى المؤتمر الشيخ الأردني" عبد الفتاح أبوزنط" وكان جريئا في طرح الأفكار ، ولعله كان يبالغ في الاعتداد بنفسه أيضا . وحضر من الجزائر والمغرب أستاذان كريمان أفاد جميعهم جزاهم الله كل خير .

   ومن الأمور الحسنة أيضا أن يصلي الناس الفجر في بهو الفندق الذي ينزلون فيه ، ومن ثَمّ خاطرة قد تطول أو محاضرة ، فتجد الفندق كأنه خلية نحل .

طهارة يمتاز بها المسلمون أينما كانوا وحيثما حلوا ، لا يريدها الفاسقون الضالون فقديما قال قوم لوط غير راغبين بهذا النبي الكريم ولا بأهله وأتباعه:" أخرجوهم من قريتكم ، إنهم أناس يتطهرون".  وحديثا قالها الفرنسيون على لسان رئيسهم ،ثم على لسان أحد أعضاء برلمانهم : هؤلاء المسلمون يأبون الاتصال الجنسي بين المراهقين والمراهقات ويدعون –بزعمهم – إلى الطهر والفضيلة  .