حديث الجمعة : (( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد))

من المعلوم أن الله تبارك وتعالى لما فضّل بعض خلقه على بعض في الرزق، لم يمنع المفضولين من أنصبة لهم عند من فضّلهم ،ففرض لذلك عبادة الزكاة ، وزاد عليها الترغيب في التطوع  بالصدقات، وتعهد بأن يخلفها كما تعهد بمضاعفة الأجر عليها مصدقا لقوله تعالى : (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه  وهو خير الرازقين )) وقوله أيضا : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء  والله واسع عليم )) . وترغيبا للعباد في الإنفاق اعتبر الله تعالى ذلك قرضا يقترضه منهم ويرده لهم أضعافا  فقال جل وعلا : ((من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم )) . وزيادة لهم في الحث على الإنفاق جعل الصدقات تمحو عنهم السيئات كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " . ويكفي هذا ليكون حافزا على الإنفاق والناس طافحة صحفهم بالخطايا وكلهم خطّاء .  

ولا شك أن هذا العرض السخي من الله الكريم، يجعل المؤمنين يقبلون على الانفاق لأنه  يخلف، وهو قرض يؤدى أضعافا مضاعفة ، وأنه وقاية من الخطايا.

ومقابل سخاء هذا العرض، اشترط الله سبحانه وتعالى شروطا لتتم صفقة القرض بينه وبين المنفقين وأولها أن يكون هو جل شأنه  المقصود بالإنفاق مصداقا لقوله تعالى : ((  وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله )) ،وكل إنفاق لا يراد به وجهه سبحانه وتعالى ،فهو صفقة باطلة  وخاسرة بسبب الرياء المفسد لها .

 وثاني الشروط  ألا يلابس الإنفاق  شيء من المنّ والأذى كما جاء في قوله تعالى : ((  يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس )) ،وقد سوى الله تعالى في هذه الآية الكريمة  بين المرائي في الصدقة وبين المؤذي والمنّان فيها ذلك أن كلاهما لا تقبل منهما.

 وثالث الشروط أن يكون الإنفاق من الطيب لا من الخبيث مصدقا لقوله تعالى : ((  ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد )) وقد نزلت هذه الآية كما ذكر المفسرون في من كانوا يتصدقون بتمر رديء على أهل الصفة ، وهو ما لم يقبله الله تعالى ونهى عنه لأن المتصدق بالرديء لا يقبله لنفسه، فكيف يرضاه لغيره علما بأن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى، لهذا يشترط فيها أن تكون من الطيب لأن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا . وإذا كان المخلوق لا يقبل الخبيث لنفسه فأولى ألا يقبله لخالقه، وهو الطيب والغني الذي يحمد لغناه ولفضله ،وأن ما ينفق كله ملكه والخلق مستخلفون فيه مصدقا لقوله عز من قائل : (( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )) ،وإنه لمن سوء الأدب مع الله عز وجل أن يقرض من الخبيث وقد استخلف القارض في الطيب ، علما بأن هذا الأخير لا يقبل الخبيث  لنفسه ،ولكنه يعطيه غيره وهو يعلم أن الله تعالى لا يقبله لغيره كما لا  يقبله هو لنفسه .

الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو تنبيه المسلمين  من خسارة  صفقات إقراض الله عز وجل ونحن في شهر الصيام الذي كان يكثر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات ، وقد كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان ، وقد جعله الله تعالى لنا إسوة وقدوة  لنستن بسنته في الإنفاق في شهر الصيام . ومما يفسد صدقات كثير من الناس في رمضان ألا يكون المقصود بها وجه الله تعالى بل يفسدها الرياء حين يصير القصد من ورائها الخلق لا الخالق كما يفعل كثير من الناس في وقتنا هذا حيث يشهدون الخلق على ما ينفقون مع أنه يكفي بالله جل وعلا شاهدا على ذلك كما قال سبحانه وتعالى : ((  وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم )) .وحسب المنفقين أن يكون الله تعالى عليما بما ينفقون ، وهو ما يغنيهم عن إعلانه وإشهاره ، وينجيهم من الوقوع في الرياء المفسد لإنفاقهم أعاذنا الله وإياكم منه.

 ومما يفسد الإنفاق أيضا هو تيمم الخبيث إما في نوعه أو في قيمته أو في مصدره  حيث يعمد كثير من الناس إلى الإنفاق منه مع أنهم لا يرضونه لأنفسهم

وإذا كان الله تعالى قد عاب على من أنفقوا تمرا رديئا أو حشفا ،واعتبره من الخبيث ، فإنه لا يقبل الانفاق مما يكون مصدره حراما لأنه أشد خبثا وإن كان مما يستجيده  أو يستطيبه الناس في نوعه  ،لأن الخبث يلابسه بسبب خبث مصدره .

ومما يفسد إنفاق الناس أيضا أن يتبعوه بالمن والأذى حيث يصيرون هم والذين يراءون في إنفاقهم سواء فلا يقبل الله تعالى منهم شيئا مما ينفقوه .

ومن المفروض أن يكون حرص الناس على تخلصهم من خطاياهم في أيام معدودات أودعها الله عز وجل في شهر رمضان الفضيل لانتهاز فرصتها دافعا لهم على الحرص على خلو إنفاقهم مما يفسده من رياء أو خبث أومنّ وأذى خصوصا وأن الغاية من العبادة في هذا الشهر صياما وقياما وإنفاقا هو رجاء تكفير الله تعالى ما تقدم من ذنب . ورب إنفاق في رمضان يكفر ما لا يكفره الصيام والقيام.

وكما ينصح المنفقون بتجنب مفسدات الإنفاق، ينصح أيضا  بذلك من يحصلون على الصدقات بعدم الإقبال على الخبيث منها أو على التي يصاحبها رياء أو بعقبها المنّ والأذى ، وعليهم أن يقبلوا  منها ما كان القصد منه وجه الله تعالى، وكان طيبا وكان غير ممنون أو متبوع بأذى . وعلى المحاويج ألا يبالغوا في إظهار الاحتياج  في هذا الشهر الفضيل أو يتخذوا السؤال حرفة و يسألون الناس إلحافا، ويلاحقونهم وهم يتسوقون لإحراجهم خصوصا إذا كانوا ممن يعيشون على الكفاف ، فينغصون عليهم ذلك القليل الذي تعبوا من أجل الحصول عليه  والذي لا يفضل لهم شيء منه للتصدق . وكما أن الأذى يمنع عن المنفقين فهو أيضا ممنوع على من يسألون الناس الصدقات من الذين  يسخطون إذا لم يعطوا منها، ويلومون ويعاتبون، وربما يسبون ويشتمون من لا يعطيهم ، أو يبلغ بهم الأمر حد الاعتداء عليه .

اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى الإنفاق الذي يرضيك إنفاقا يراد به وجهك الكريم ، ويكون طيبا ، ولا يفسده  رياء ولا خبث ولا منّ ولا أذى . اللهم وتقبله منا واجعله وقاية لنا من النار، وامح به عنا السيئات ، واكتب لنا به الحسنات ، واجعله لنا عونا على طاعتك ، واجعله دأبا لنا ما أحييتنا آمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .    

وسوم: العدد 927