فتن ومحن في العصر الأول 2

التذرع بالإصلاح في الإسلام؟!:

بدأت محاولات تتذرع بالإصلاح للدولة الإسلامية الناشئة التي بدأت تتوسع في نواحي العالم، وأقاليمه، وهذه المحاولات منها ما كان يعتمد على تأويل آيات القرآن، والأحاديث النبوية كما يفهمها أصحابها الذين لم يفقهوا، ولم يتفقهوا على الصحابة الكرام، فجاءت تأويلاتهم بعيدة عن حقيقة النص القرآن، وحقيقة النص النبوي، ومن هذه الحركات من كان أصحابها إما مغترّين، وتابعين لشخصيات تظن بنفسها الإيمان الحق، وغيرها على باطل، وإما فرق يهمها ضرب الإسلام، ووقف توسعه وتقدمه، وانفراط عقد دولته، وهم الأكثر، ومنها من كان أصحابها هم أعداء هذه الأمة، ويريدون تقويض دولتها وإزالتها، ومن هذه المحاولات:

فتنة الخوارج:

سبق وذكرت أن ما حدث بين معاوية وعلي ب قد يعتبره بعضهم خروجاً على الإمام، مع أنه لم يبايع أصلاً، ولم ينكث بيعته، فهو يعترف بعلي إماماً بعد الأخذ بثأر عثمان، كما جاء في الروايات، فإن الخوارج بجميع فرقهم، وأصنافهم، كانوا جنوداً لعلي رضي الله عنه، وأتباعاً له، وهم الذين قبلوا التحكيم، بل ألجؤوا علياً إليه، ثم كفّروه بقبوله لهذا التحكيم، وطلبوا منه أن يتوب من كفره بسبب قبوله التحكيم، كما فعلوا بأنفسهم من تكفير وتوبة، ولذلك تكون حركات الخوارج أول الحركات طعناً في نظام الحكم في الإسلام، بعد حركات الغوغاء، والفوضويين على عثمان رضي الله عنه، والذين يريدون تقويض دولة الإسلام بقتل إمام المسلمين، ونشر الفوضى في ديار الإسلام، وهذا ما حصل بعد قتلهم لإمام المسلمين عثمان رضي الله عنه، وفرّق ابن تيمية : بين الخوارج، وبين أهل الجمل وصفين، فيقول: «وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ: الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَبَيْنَ: أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِين، وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَد، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ... وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ رضي الله عنه فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ؛ وَأَمَّا قِتَالُ صَفِّينَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ»([91]).

وكثرت أسماء المحاربين لعلي، والخارجين عليه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ: الحرورية؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ النهروان: لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ، وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ: الإباضية، أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ، والأزارقة: أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، والنَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري»، ويتميز هؤلاء الخوارج بتوسيع دائرة التكفير، حتى تشمل كل مرتكب لذنب يعتبرونه هم كبيرة، ويتابع العلامة ابن تيمية :: «وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ، بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ، فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان، وَمَنْ وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا، فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ  مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ، فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَظَلَمُوا، فَصَارُوا كُفَّارًا»([92]).

فاستشهاد الإمام عثمان رضي الله عنه أدى إلى خروج علي إلى العراق، بعد أن كان مركز الدولة في المدينة، ليحمي عائشة أم المؤمنين من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين خرجوا إلى هناك، وإصرارهم على التغيير الذي يريدونه، ولم تفلح محاولات الصحابة: عائشة، وطلحة، والزبير y وغيرهم من المسلمين، ويقول ابن تيمية :: «لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان، وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ، وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ: خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ، وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ، وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ».

فهؤلاء الخوارج لا يمكن أن يكونوا دعاة إصلاح، وخبرهم من أخبار النبوة، وفيهم أحاديث كثيرة كما ذكر العلامة ابن تيمية، ويتابع: «وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِن السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، فَقَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؟) قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمِّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: (وَيْلَك، أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ)، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: (لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي) قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ)، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: (إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ)، اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ»([93]).

ومن هنا كان من الخطأ أن نضع حركات المرتدين، والغوغاء أهل الفتنة قتلة عثمان، والخوارج الذين كانوا شوكة في خاصرة الإسلام، من عهد علي رضي الله عنه إلى أواخر العهد الأموي أن نضع هذه الحركات في باب الإصلاح، إنما هي حركات إفساد، وحرب على الدولة الإسلامية الفتية.

وبذلك تكون أول بداية للتأثر بهذه الإحن التي وغرت الصدور فأدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه، وأدت كذلك إلى نقل دار الخلافة من المدينة المنورة التي كان الحصن للحصين للدولة الإسلامية، فانتقلت إلى الكوفة في العراق، وبذلك تشتت أمر المسلمين، كما تشتت العواصم، فبعدها انتقلت من الكوفة إلى دمشق، ثم انتقلت من دمشق إلى العراق، وفي العراق تنقلت بين البصرة، وبغداد، وسامراء، ثم بغداد، وبعدها إلى القاهرة، ثم إستانبول، إلى أن تم القضاء عليها في بداية القرن العشرين، في القرن الثالث عشر الهجري.

إذن فمن الممكن أن نشير إلى اتفاق أهل الإسلام منذ عهد الصحابة y، وإلى عهدنا، أن الخوارج هم أول فتنة حربية تعرض لها إمام حاكم للمسلمين، دون خلاف في ذلك، وكذلك التابعين ومن بعدهم من الأئمة، والعلماء، ولذلك أطلقوا عليهم اسم الخوارج، واتفقوا كذلك على أن علياً رضي الله عنه كان محقاً في حربهم؛ لأنهم أصلاً ليسوا دعاة إصلاح، وكذلك من جاء بعده من بني أمية كانوا محقين في حروبهم لهم، وأن هؤلاء الخوارج كانوا شوكة تقضّ مضاجع المسلمين.

وأفكار هؤلاء الخوارج في تكفير المسلمين بدأت تتسرب إلى نفوس الناشئة في كل عصر، حتى وصلت إلى عصرنا، ولم يقتصر هؤلاء الناشئة على التكفير، بل كفّروا من لم يكفّر مَن كفّروهم أيضاً، بل كفّر كثير منهم من لم يعتقد معتقدهم، وبذلك بدأت الأمة في العصر الحديث تصحو على صيحات الخوارج بالتكفير، وبدأت هذه الصيحات تطرق كل الأبواب، وتنتشر بين أفراد من طلبة العلم، خصوصاً إذا علمنا أن هؤلاء الطلبة بضاعتهم في الفقه مزجاة، ونظرتهم إلى الاختلافات العلمية بين العلماء والفقهاء قاصرة، وثقتهم بكثير من أهل العلم معدومة، إلا بأنفسهم، وأفكارهم، وآرائهم التي أصبحت – بزعمهم – عقيدة المسلمين الحقة، وبذلك يبوء الخوارج الأُوَل بإثم من جاء بعدهم، وتقمص آراءهم، أو بعض آرائهم، فالسمات بين الفريقين مشتركة، بزيادة جهل في فهم النصوص، والخروج إلى معان ليست فيها، فأهل العلم في عصر الخوارج الأول هم الصحابة والتابعون، فشن الخوارج عليهم الحروب العسكرية، والعقدية، فقاتلوهم وكفّرهم، وكفّروا عوام المسلمين، فقتلوا من استطاعوا، ونهبوا دورهم، وأموالهم، وسبوا نساءهم، وكان أحدهم يفعل ذلك وهو يقول كما يذكر الإمام المبرد في الكامل: «قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد، واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح، فجعل يسعى فيه إلى قاتله، وهو يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾»([94])، وهذا ما نشاهده من فعل أغلمة الخوارج هؤلاء، وبذلك يكون أعداء الإسلام استطاعوا أن يجلبوا المحن إلى هذه الأمة باسم الدين، فالفكر الخارجي هذا كان يستعمله أعداء الإسلام في كل عصر، وإلى الآن، نجد صوره ظاهرة باسم أن الصحابة رجال، يخطئون ويصيبون، ثم يبدأ قائلهم بانتهاك أعراض الصحابة الكرام، يختار من الصحابة من يلائمه لنهش عرضه حسب المكان، والزمان، والإنسان الذي يخاطبه.

ب- في العصر الأموي:

إن الفتنة التي عصفت بالأمة في نهاية عصر الراشدين، وكان نتيجتها استشهاد الإمام عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب ب، وحدوث معركتين عظيمتين بين المؤمنين: الجمل، وصفين، هذه الفتنة جعلت عدداً من الناس ينظرون إلى الحكم الأموي نظرة تختلف عن نظرتهم إلى الخلفاء الراشدين، فمنهم من بقي مؤيداً، ومناصراً للإمام القائم، كائناً من كان، قال الحافظ ابن حجر ؒ: «كَانَ رَأْيُ مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ فِي الْقُوَّةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي السَّبَقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ أَنَّهُ أَحَقُّ، وَرَأْيُ ابن عُمَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَايَعُ الْمَفْضُولُ إِلَّا إِذَا خُشِيَ الْفِتْنَةُ؛ وَلِهَذَا بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ابْنَهُ يَزِيدَ، وَنَهَى بَنِيهِ عَنْ نَقْضِ بَيْعَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ، وَبَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَان.

فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِي هِرَاقَةُ الدِّمَاء،ِ وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلِي عَلَى غَيْرِ الَّذِي أَرَدْتُ قَوْلُهُ»([95]).

 ومنهم من كان منعزلاً بنفسه، لا يقدم لهم عوناً، ولا يرفع عليهم سيفاً، أو أن يكون عليهم معيناً، ومنهم من كان يرى أنهم ليسوا أهلاً للإمامة، فنابذهم، أو دعا لمنابذتهم، وأكثر الأمة، وهم السواد الأعظم الذين لم تخدعهم الشعارات، فقبلوا حكمهم، وجاهدوا معهم.

ولذلك نحاول هنا الاستطلاع على هذه الأقسام، لنرى مدى صحة الطريق التي يمكن أن يتبينها المسلم في حياته، والمنهاج الذي يجب أن يتبعه، دون اقتراب من نهج الذين يحاولون دائماً أن يعيدونا إلى مربع الفتنة، لأن هذا هو عمل أصحاب الإحن، وهو إذكاء القلوب بما يحرق الإجساد والنفوس؛ للقضاء على جذوة الإيمان الصحيح الصريح، وتغليفه بإيمان زائف، يتزيى بزي الطاعة، وهو كله فتنة، وإنفاذ لأهل الإحن، للغوص في تفتيت الأمة بالمحن والبلاءات.

دعاوى الإصلاح، وإعادة الحق:

وأهلها هم الذين ينابذون الإمام (الحاكم) ولهم أهداف، وطرق لتحقيق هذه الأهداف، ولقادتهم وأئمتهم أيضاً أهداف، وطرق خاصة لتحقيقها، وليس كل الأئمة (الحكام) يصلون إلى ما وصل إليه الإمام الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، بل ولن يصلوا إلى قريب منه، وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن عقول المطالبين بالحق بقوة السلاح، ولا عن عقول المسلمين خلال التاريخ منذ استشهاد عثمان، وحتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، لأن عثمان رضي الله عنه تخرّج من مدرسة النبوة مباشرة، فأُشرب الأدب النبوي، والأخلاق النبوية، وعُجنت نفسُه وقلبُه وذاته بها، ولم يتخلّ عنها، ولم يرضخ للغوغاء والسفلة، وكلفه ذلك دمه الزكي الذي سال على كتاب الله، فاستشهد رضي الله عنه صائماً تالياً ذاكراً.

والناس على مدار التاريخ الإسلامي يريدون حاكماً يحمل مواصفات شخصيتين: عمر بن الخطاب في شدته وقوته، وعثمان بن عفان في عفوه وكرمه، ولينه مع خصومه، وعدم البطش بهم، ويحاكم هؤلاء الناس حكامهم على هذين المعيارين، فإذا كان هيناً ليّنا، اعتبروه ضعيفاً، وقالوا له: كن كعمر بن الخطاب قوياً يرهبه الناس، وإذا كان جباراً بطاشاً فتاكاً، قالوا له: كن كعثمان بن عفان عفواً سهلاً، يتحمل رعيته، وعلى ما يبدو أن هذه النظرة بدأت تنمو منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وإن كان معاوية قد استطاع أن يكون قريباً من هاتين الشخصيتين معاً في أكثر أوقاته وأحواله، إلا أنه خرج عنهما في بعض ساعاته، وهي نادرة، وأما من جاؤوا بعده رضي الله عنه لم يستطع أحدهم أن يكون واحداً منهما، فما بالك بهما معاً، والناس ما زالوا ينتظرون من حكامهم هذه المواصفات، ويغيب عن بالهم أن نظرة الحاكم – عادلاً كان أم ظالماً، مسلماً كان أم كافراً – هو أن يستتب له الحكم، ليحقق ما يريد، إلا ما يروى عن معاوية بن يزيد بن معاوية، يقول ابن كثير :: «بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ- وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ- فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَاسِكًا، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ شَهْرًا ونصف شهر، وقيل ثلاثة أشهر وعشرون يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فاللَّه أَعْلَمُ»([96])، فلم يعهد له يزيد، ولا أخذ له بيعة، وإنما كعادة العرب قبل الإسلام، الملك ابنه ملك، والأمير ابنه أمير، وقد رأينا ذلك مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اقترحوا عليه أن يكون ابنه خليفة من بعده، فلم ينكر الفكرة، ولكنه أشفق على أحد من أهله وولده أن يحمل هذا العبء الثقيل، فقال: «حسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه»، ولما جاء أهل الشام ليؤمروا معاوية بن يزيد، فرفض هذه البيعة، ويحاول المؤرخون أن يعللوا ذلك عن ضعفه الذي اعترف به في قوله لمن بايعوه كما ذكر ابن كثير $: «ويروى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ، ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([97]).

وهذه الرواية ليست ثابتة بهذه الطريقة، لأن ابن كثير : ذكرها بصيغة التضعيف، ولم يذكر لها سنداً، والطبري : لم يذكر شيئاً عن هذا الموضوع، وإنما قال «بويع لمعاوية بن يزيد» دون ذكر لأي إسناد، وهذا مخالف لطريقة الطبري في سرد رواياته حيث ترك الإسناد، وحتى لم يذكر مصدره لا إسناداً ولا خبراًـ حتى خليفة بن خياط رحمه اللَّه ذكرها بطريقة غريبة فقال: «واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([98]).

ويؤيد هذا ما قاله ابن حبان في صحيحه دون ىإسناد وإنما من خلال سرده للتاريخ: «ثُمَّ بُويِعَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً»([99]).

بينما ذكر الطبراني بإسناده (وهو مقبول عند المحدثين): «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ كُلُّهُمْ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِلَّا أَهْلَ الْأَرْدُنِّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رُءُوسُ بَنِي أُمَيَّةَ وَنَاسٌ مِنِ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَفِيهِمْ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِينَا أَهْلَ الشَّامِ فَيُنْقَلُ ذَلِكَ إِلَى الْحِجَازِ لَا نَرْضَى بِذَلِكَ»([100]).

فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده، فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([101]).

وهذه الرواية تؤيد ما ذكره خليفة بن خياط دون إسناد حيث قال: «وفيهَا [أي سنة أربع وستين] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول، وَأمه مَيْسُونُ ابْنة بجدل الْكَلْبِيَّة، وَمَات [أي يزيد] وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة، وَقَالُوا ابْن بضع وَأَرْبَعين سنة، وَكَانَت ولَايَته ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر، واثنتين وَعشْرين يَوْمًا، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يول أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة، وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة »([102]).

وأيد هذه الروايات ابن عساكر بقوله: «فلم يزل مروان بالشام حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية بن يزيد بالعهد بعده فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق»([103]).

وقد تكون رواية البلاذري أقرب إلى القبول: «ومات يزيد بْن معاوية، وبويع لابنه معاوية بْن يزيد، وهو أَبُو ليلى فنادى: الصلاة جامعة، ثُمَّ تبرأ منَ الخلافة وجلس في بيته ومات بعد شهرين»([104]).

فهو هنا يذكر البيعة بصيغة المجهول، والذي يقوي أنها لم تكن بيعة بالطريقة التي يراها أصحاب الإحن بأنها بيعة على طريقة معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد، لأن منطقة الشام كلها لم تدخل في هذه البيعة إن صحت، هكذا تذكر أكثر كتب التاريخ، أن المنطقة كلها خرجت عن السيطرة الأموية إلا قليلاً من منطقة الأردن، وهي بعيدة عن دمشق وما حولها، والذي أعادها للسيطرة الأموية هو مروان بن الحكم.

وكما نرى أن معاوية هذا : ضعيف باعترافه كما ذكروا، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر أيضاً رضي الله عنه، فلم يقل المؤرخون عن أبي بكر إنه ضعيف، كما قالوا عن معاوية بن يزيد، مع أننا نلاحظ من هذا النص فهم معاوية الرائع لاختيار الحاكم، عندما ربطها بأبي بكر وعمر، ثم أحالها إلى الشورى، وهو لم يأت إلى هذا المقام عن أي طريق من هذه الطرق، ولذلك هرب من هذا الأمر، وكأنه : يريد أن يثبّت أنها لم تصله بالوراثة، وإلا لكان له بيعة، ولما استطاع الفكاك منها، وفي أذهان الناس أن الحكم ليس وراثياً، وقد اتهموا جده معاوية بهذا، فأرجعهم إلى الطريقة الصحيحة لاختيار الحاكم.

وأرى أن ما مُدح به معاوية بن يزيد لتركه الخلافة لوثة جاءت من الآثار الرافضية في التاريخ قديماً، وفي فهمه حديثاً، وهذا سنراه في عدة أحوال في تاريخنا، فمدحهم لعمر بن العزيز على حساب كل حكام بني أمية، حتى سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقدموه على خلافة الحسن بن علي ب، فقالوا عنه الخليفة الراشد الخامس، وأظن أن مؤرخي المسلمين تماهوا مع مؤرخي الروافض فوقعوا في براثنهم، وكالوا المديح والمدائح في عمر بن عبد العزيز :، وأغفلوا ذكر الحسن ومعاوية ب، مع النظرة الأولى تدحض هذه الفكرة، لأن الحسن بن علي هو كما يرى كثير من الروافض أنه من الأئمة، إلا أنهم يغصّون بذكره، وكثيرون منهم يخرجونه من طائفة الأئمة المعصومين؟!.

والمديح هنا لمعاوية الثاني : من هذا الباب، من باب محاولة النيل من الخلافة الأموية باستثناءات يدّعونها، مما أدى إلى وقوع الكثيرين ممن كتبوا التاريخ، أو يتكلمون في التاريخ، فوقعوا في النيل من كل بني أمية عدا الاستثناءات لذر الرماد في العيون، وهذا هو الحقد والإحن التي تملأ نفوس أعداء الإسلام بتشويه التاريخ.

ولذلك – أعود بعد هذا الاستطراد – إلى ما كنا فيه، فالحاكم – غالباً - لا يترك كرسيه – صالحاً كان أم فاسداً – فالصالح يريد أن يقدم لأمته ما يستطيع من إصلاح وخير، ويخشى أن يكون مَنْ بعده فاسداً، أو فاسقاً، أو لا يستطيع حمل الأمانة، ويخشى أن تعم الفوضى، ففي تلك الأيام لم يكن هناك مجالس نيابية يعترف بها الشعب لاختيار الحاكم وانتخابه، فيخشى أن يسود الهرج بين الناس، فينتقل الناس من مفسدة إلى مفسدة من أجل مصلحة، وأما الإمام الفاسد، فلتعلقه بأمور الدنيا، وحبه للملك والتملك، وشهوة السلطان، يتعلق بالحكم، فيضرب، ويقتل، ويسفك الدماء في سبيل الحفاظ عليه ما استطاع.

وبما أن غالب الحكام سيدافعون عن سلطانهم، ولو أن كل حاكم ترك سلطانه، لا يذود عنه الخائضين والمارقين، لأصبحت الأمة في هرج مرج، يسوسهم الشذاذ والأفاقون، فعلى العلماء، والقوّاد والعاملين والناصحين أن يضعوا هذا الأمر في حسابهم، ولا تدفعهم الحمية والغيرة والحماس إلى عدم التبصر، فينطلقون بالأمة إلى مصير غير محسوب، وغير معروف، خاصة وأن أئمة بني أمية كانوا لا يقبلون رفع راية غير راية الإسلام، ولم يخرجوا عن الإسلام في مختلف حيوات مواطنيهم وشعوبهم، ومناداتهم ودفع الناس إلى رفع راية الجهاد، مع فساد أخلاق بعض منهم – إن صح -، إلا أنهم تركوا الناس وأفكارهم ومعتقداتهم، وتدينهم، وأقاموا الأحكام في القضاء والحياة العامة، وحتى في السياسة، وكان همّ هؤلاء الخلفاء هو قوة الدولة، وقوة سيطرتها على أقاليمها، ورفع راية العدل في الأحكام، واتباع السنن، وإقامة الجهاد في سبيل الله، كما سنرى ذلك من خلال استعراضنا في السطور القادمة، وبقي الأعداء وأصحاب الإحن متربصين لهذه الأمة الفتية، ويستغلّون كل حادثة، أو فكرة لنشرها بين العامة، وفي أيامنا أصبحت هذه الأفكار تسود بين الخاصة، وكثير من أهل العلم.

وقد اعتمد أعداء هذا الدين في تلبيسهم على المسلمين منذ استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على فكرة التوريث بتولية عهد من الخليفة القائم، لمن بعده بعد وفاته، وجعلوها ديدنهم لينالوا من خلفاء المسلمين، وقد أدرك كثير من الصحابة والتابعين هذه اللعبة القذرة التي تولاها هؤلاء المشعبذون المارقون باسم الشورى، ولذلك نجد أن علماءنا لما كتبوا في الأحكام السلطانية ذكروا كيفية إقامة الخليفة، وكيف يمكن أن يكون له أشكال، وأرى أن هذه الصور التي يذكرها هؤلاء العلماء يُقصد بها أن كل مرحلة، أو وضع تاريخي، أو ظرف معين يمكن أن يتبع إحداها في تنصيب الإمام، لتبقى وحدة الأمة هي الأمر المهم في هذا الباب، والعلماء في كتبهم الأحكام السلطانية ذكروا أن للإمام أن يعهد لرجل بعده، دون ذكر للشورى، يقول الإمام أبو يعلى :: «ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد، وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر ب، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة y، ولم يعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد»([105]).

ويؤيد هذا ويقدم له الشرح الأوفى إمام الحرمين الجويني : فيقول: «فَأَمَّا مَنْ يُوَلِّيهِ الْعَهْدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَهَذَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَزَرُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَكَهْفُ الْعَالِمِينَ، وَأَصْلُ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ ثَابِتٌ قَطْعًا مُسْتَنِدٌ إِلَى إِجْمَاعِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ب وَوَلَّاهُ الْإِمَامَةَ بَعْدَهُ، لَمْ يُبْدِ أَحَدٌ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكِيرًا، ثُمَّ اعْتَقَدَ كَافَّةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ مَسْلَكًا فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ فِي حَقِّ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ الْمُوَلَّى، وَلَمْ يَنْفِ أَحَدٌ أَصْلَهَا أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَنْ تَرَدَّدَ وَتَبَلَّدَ، فَفِي صِفَةِ الْمُوَلَّى أَوِ الْمُوَلِّي، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَهْدِ، فَثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ»([106]).

وهذه الصيغة يتظاهر هؤلاء الذين تحوك في قلوبهم الإحن بقبولها، ويقفزون مباشرة إلى فكرة التوريث، التي ما هي إلى في بعض صورها تقع تحت هذه الصورة، وهي اختيار الخليفة المتقدم للخليفة المتأخر، فيعينه، وهي الصورة نفسها التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه عندما اختار عمر خليفة من بعده، مع أنه كان يسأل الناس القادمين إلى المدينة دائماً عمن يرونه صالحاً للأمر بعده [أي بعد أبي بكر]، وعمر قام بنفس الأمر، ولكنه وسع الدائرة قليلاً، فجعلها ضمن ستة، ولكن هؤلاء الأعداء يحتجون بأن معاوية جعله في ابنه، وليس في غير ابنه، مع أن التاريخ يذكر لنا أن عملية اختيار ابنه كانت بعد مناقشة بينه وبين أصحابه حول هذا الموضوع، وكيف أنه هو عرض عليهم أربعة يختار واحداً منهم، ليس فيهم ابنه يزيد، وإنما هم: الحسين بن علي، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبعد حوار حول الأصلح من بين هؤلاء للحكم، وليس الأصلح بالتقوى والعبادة والمنزلة، لأن الحكم دائماً له أحكامه الخاصة به، وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يختار أمراءه وقواده، فلم يكن يقدم فيهم أحبهم إليه، وأتقاهم، وإنما كان يقدم الصالح للعمل الذي سيوكله إليه، لأن كل عمل له مواصفات خاصة لمن يتقلده، ولذلك قال لأبي ذر رضي الله عنه: كما يروي أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)([107]).

ولذلك لا ينظر من الأفضل في الصلاح والتقوى والمكانة، بقدر ما ينظر لمصلحة الأمة في تسيير أمورها، ومسيرة جهادها، وهذا ما سنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما اختار عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه بقليل لقيادة سرية فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الناس إسلامهم، وأحب الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأحس عمرو بن العاص أن مكانته قد وصلت إلى مرتقى عالياً، قد يدنو من مقام أبي بكر رضي الله عنه، فذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه، ليرى مكانته أين، فعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَمَنَعَهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا بَكْرٍ، فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا، قَالَ: فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَمَنَعَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَكَوْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، فَيَكُونُ لَهُمْ مَدَدٌ فَيُعْطِفُوا عَلَيْهِمْ، فَحَمِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (لِمَ؟)، قَالَ: لَأُحِبُّ مَنْ تُحِبُّ، قَالَ: (عَائِشَةُ)، قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ)([108]).

وفي الصحيحن: عن عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) فَعَدَّ رِجَالًا»([109]).

وعلق الحافظ ابن حجر على رواية الصحيح هذه فقال: «قَوْلُهُ [أي عمرو بن العاص]: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ زَادَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا رَسُولَ الله، فَأَحبهُ، أخرجه ابن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ إِسْمَاعِيل عَن قيس وَقع عِنْد ابن سَعْدٍ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِ عَمْرٍو لَمَّا أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَيْشِ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ لِذَلِكَ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ، فِي رِوَايَة قيس بن أبي حَازِم عَن عَمْرو عِنْد ابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ، قُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي النِّسَاءَ، إِنِّي أعني الرِّجَال، وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابن حِبَّانَ أَيْضًا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ أَهْلِكَ نَسْأَلُكَ، وَعُرِفَ بِحَدِيثِ عُمَرَ اسْمُ السَّائِلِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)، فَعَدَّ رِجَالًا، زَادَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ فَسَكَتَتْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بَعْضُ الرِّجَالِ الَّذِينَ أُبْهِمُوا فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَبِي عُبَيْدَةَ »([110]).

وموطن الشاهد في هذه المسألة أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما أعطي قيادة معركة لجنود فيهم أبو بكر وعمر، ظن ارتفاع مكانته فوق هؤلاء الجنود عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اكتشف مكانته من خلال سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الموضوع، والمقصود أن اختيار الخليفة أو القائد، لا لمكانة أو فضل، بل لقيادة ودراية في الأمور المطلوبة في القائد أو الخليفة.

والمشكلة التي اتُّهم فيها معاوية رضي الله عنه أنه اختار ابنه، وهنا تبرز مسألة الأحقاد والإحن التي وغرت صدور هؤلاء الحاقدين، الذي يريدون لهذا الدين أن يندثر، فبدؤوا منذ عهد معاوية رضي الله عنه، وما يزالون، وينعق بأقوالهم كثيرون من أهل العلم، والفكر في العصر الحاضر، دون أن يدركوا ما هم فيه من تنفيذ أحقاد هؤلاء، حتى أصبح الإسلام في محنة دائمة، ترى فيه كثيراً من علمائه، ومفكريه، يلهجون، ويجترون ما يقوله هؤلاء السبئية، وأتباعهم، وهم لا يدركون أن معاوية عندما بحث الأمر مع بعض الصحابة، أمر من يكون بعده، اقترح أربعة أسماء ليس فيهم ابنه يزيد، ولكن اقتراح يزيد كان من غيره، والذي اقترح اسم يزيد لا لفضل يزيد على من اقترحهم معاوية رضي الله عنه، وإنما للقوة التي يملكها يزيد، فيستطيع بسببها أن يخضع من يريد الانفصال عن جسد الدولة، ويمزقها، لأنهم كلهم كانوا يتوقعون زيادة الاضطرابات بعد موت معاوية رضي الله عنه، فالخوارج ما يزالون يقاتلون الدولة، والروافض ما زالوا يسيرون بدعاويهم بين أفراد الأمة، وينقلونها من مكان إلى مكان، منادين بالثورة على الإمام الظالم المتعدي على الإمامة [؟؟!!]، والمنطقة الوحيدة التي كانت بعيدة عن هذه الدعوات الخارجية، والسبئية هي بلاد الشام، ولذلك كان رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأنه يملك جيشاً متوازناً، موحداً، وأقنعوه أن علياً رضي الله عنه وهو أفضل من معاوية وأبيه، وباقي المسلمين في ذلك الوقت، ولكنه لم يملك هذا الجيش المتوازن، بل كان جيشه ممزقاً مضطرباً، ولم يكن أصحابه يطيعونه، وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري  عن علي رضي الله عنه أنه: «كتب كتاباً، ودفعه إلى رجل، وأمره أن يقرأه على الناس يوم الجمعة إذا فرغوا من الصلاة، وكانت نسخته: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عبد اللَّه علي أمير المؤمنين إلى شيعته من أهل الكوفة، سلام عليكم، أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، من تركه ألبسه اللَّه الذلة، وشمله بالصغار، وسيم الخسف وسيل الضيم، وإني قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، واجترأ عليهم عدوهم، هذا أخو بني عامر قد ورد الأنبار، وقتل، فينزع حجلها من رجلها، وقلائدها من عنقها، وقد انصرفوا موفورين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو أن أحداً مات من هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان جديراً، يا عجباً من أمر يميت القلوب، ويجتلب الهم، ويسعر الأحزان من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فبعداً لكم وسحقاً، قد صرتم غرضاً، تُرمون، ولا تَرمون، ويُغار عليكم ولا تغيرون، ويُعصى اللَّه فترضون، إذا قلت لكم سيروا في الشتاء، قلتم: كيف نغزو في هذا القر، والصر، وإن قلت لكم: سيروا في الصيف، قلتم: حتى ينصرم عنا حمارة القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم واللَّه من السيف أفر، والذي نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من السيف تحيدون، يا أشباه الرجال، ولا رجال، ويا أحلام الأطفال، وعقول ربات الحجال، أما واللَّه لوددت أن اللَّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، ووددت أن لم أركم، ولم أعرفكم، فقد واللَّه ملأتم صدري غيظاً، وجرعتموني الأمرّين أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب.

للَّه أبوهم، هل كان فيهم رجل أشد لها مراساً، وأطول مقاساة مني ؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا (ذا) اليوم قد جنفت الستين، لا، ولكن لا رأي لمن لا يطاع)»([111]).

إذن هذا رأي من أشار على معاوية باستخلاف يزيد، لأن الجيش الذي لا يستطيع سيدنا علي رضي الله عنه قيادته بقوة، ولا يملك طاعته بقناعة، وإخلاص، فستكون دولته مهزوزة مضطربة، لا بسبب فشل القائد، بل بسبب اضطراب المقود، وامتلاؤه بهؤلاء الأفاقين من أتباع ابن سبأ، وأعداء الإسلام المتظاهرين باتباعهم لهذا الدين، وهؤلاء اعتبروا استخلاف يزيد مطعناً، وأنه جعلها كسروية هرقلية [كما يتشدقون دائماً]، ويحتجون بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رفض وضع ابنه عبد اللَّه مع أصحاب الشورى، ولكن رفض عمر الفكرة عندما طلبوها منه من أجل الهرقلية أو فكرة التوريث التي اختلقوها، وقد رويت هذه القصة بصورة متعددة، وهذه بعضها:

رواية البخاري :: «فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ - كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلاَ خِيَانَةٍ»([112]).

وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل : في فضائل الصحابة: «أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي الشُّورَى، فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، وَابْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ : قَدْ قُلْتُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُمْحَيَنَّ مِنْهَا، حَسْبُنَا آلَ عُمَرَ الْكَفَافُ، لاَ لَنَا وَلاَ عَلَيْنَا»([113]).

وهي واضحة بتعليلها، وليس فيها أي استنكار للأمر، وهي بصورة أوضح، كما أورد ابن حجر في فتح الباري بروايات أخرى فقال: «وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَدَائِنِي بِأَسَانِيدِهِ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَرَبَ لِي فِي أُمُورِكُمْ، فَأَرْغَبَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِي، قَوْلُهُ: وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْمَدَائِنِي بِأَسَانِيدِهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اسْتَخْلِفْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ اللَّه بِهَذَا، وَأخرج ابن سَعْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ اللَّهَ بِهَذَا، أَسْتَخْلِفُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟ قَوْلُهُ: كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، أَيْ لِابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى فِي الْخِلَافَةِ أَرَادَ جَبْرَ خَاطِرِهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمُشَاوَرَةِ فِي ذَلِكَ»([114]).

إذن تعليل رفض عمر خوفاً من الهرقلية أو الكسروية لم يرد في أي رواية، وذكر التوريث أو رفضه، كذلك لم يرد في أي رواية، وإنما التعليل الذي ورد على لسان عمر فيه أمران: الأول حسب آل عمر أن يُكوى واحد منهم بهذا الأمر (الخلافة)، والثاني أن عبد اللَّه بن عمر ب لا يصلح لمثل هذا الأمر؛ لأنه لا يحسن أن يطلق امرأته، إشارة للحادثة المشهورة في طلاق ابن عمر لامرأته التي أثارت جدلاً كبيراً بين الفقهاء، وكل فقيه أفتى بفهمٍ لها يخالف فهم غيره من الفقهاء.

إذن لم يستنكر عمر بن الخطاب ذكر ابن عمه سعيد بن زيد في أمر الخلافة، ولا ذكر ابنه، ويقول لهم: لسنا كالملوك، وإنما اعتبر أعباء الخلافة كافية ليحفظ منها ابن عمه سعيد بن زيد، وابنه عبد اللَّه بن عمر، ويزيد على ابنه عمر عدم صلاحيته لمثل هذا الأمر، وهذا ما كان حجة من أضاروا على معاوية رضي الله عنه باستبعاد الأربعة الذين اقترحهم ليكون أحدهم خليفة بعده، فالقضية ليست قضية توريث، وإنما قضية حمل للأعباء، وصلاح للقيام بهذا الأمر، وهذا ما فعله معاوية رضي الله عنه لما اختار ابن يزيد، وإن ما وقع به بعض الصحابة من استنكار لهذا الصنيع كان فيه تفاوت كبير، بين الاستنكار النفسي اللفظي، كاستنكار ابن عمر، والاستنكار اللفظي الصريح الصارخ بالإنكار كعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، والاستنكار اللفظي العملي للحسين بن علي ب، وسنرى ما سيجر ذلك من فتنٍ يستغلها المغرضون، ويستفيدون منها بإيقاد نار الفتنة والحروب بين المسلمين، وليس غريباً أن يقع عدد من الصحابة، وكثير من المسلمين في براثن هذه الفتن، فهي كانت سرية خفية، حتى أن مثل عمار بن ياسر ب، ومحمد بن أبي بكر ب وغيرهما وقعا فيها، فأدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم أودت هذه الفتن المصنوعة المرتبة بذكاء بالحسين بن علي ب، وما تزال إلى الآن هذه الفتنة موقدة للنيل من الصحابة، فتبدأ بمعاوية رضي الله عنه، وتنتهي عند الروافض بأبي بكر وعمر وعثمان، وما دونهم من الصحابة y.

ا- حجر بن عدي:

حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن الأدبر([115])، كان – كما يروي ابن سعد كان «حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ جَاهِلِيًّا إِسْلَامِيًّا [مخضرماً]، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ رُوَاةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، وَشَهِدَ حُجْرٌ الْقَادِسِيَّةَ، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ مَرْجَ عَذْرَى، وَكَانَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ ... مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَشَهِدَ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ ... وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا»([116]).

ويقول الإمام ابن كثير :: «وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ لَهُ وِفَادَةً، ثُمَّ ذكره في الأول مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْ عَمَّارٍ، وَشُرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُصَحِّحُونَ لَهُ صُحْبَةً»([117]).

وهناك اتهام يوجهه المؤرخون لحجر بن عدي :، بأنه كان ممن ينالون من عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال ابن كثير :: «وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ عُثْمَانَ، ويطلقون فِيهِ مَقَالَةَ الْجَوْرِ، وَيَنْتَقِدُونَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُسَارِعُونَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّوْنَ شِيعَةَ عَلِيٍّ، وَيَتَشَدَّدُونَ فِي الدِّينِ»([118]).

ويستدلون على ذلك بما أورد ابن كثير كذلك عمن قبله من المؤرخين: «وَكَانَ إِذْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، إِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا فِي خُطْبَتِهِ يَتَنَقَّصُهُ بَعْدَ مَدْحِ عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ، فَيَغْضَبُ حُجْرٌ هَذَا، وَيُظْهِرُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُغِيرَةُ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ، فَكَانَ يَصْفَحُ عَنْهُ، وَيَعِظُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُحَذِّرُهُ غبَّ هَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ السُّلْطَانِ شَدِيدٌ وَبَالُهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ حُجْرٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ قَامَ حُجْرٌ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَصَاحَ بِهِ، وَذَمَّهُ بِتَأْخِيرِهِ الْعَطَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَقَامَ مَعَهُ فِئَامٌ النَّاسِ لِقِيَامِهِ، يُصَدِّقُونَهُ وَيُشَنِّعُونَ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَدَخَلَ مَعَهُ جمهور الأمراء، فأشاروا عليه بردع حجر هذا عما تعاطاه من شق العصا، وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَمِيرِ، وَذَمَرَوهُ، وَحَثُّوهُ عَلَى التَّنْكِيلِ، فصفح عنه، وحلم به.

وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ بِمَالٍ يَبْعَثُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عِيرًا تَحْمِلُ مَالًا، فَاعْتَرَضَ لَهَا حُجْرٌ، فَأَمَسَكَ بِزِمَامِ أَوَّلِهَا، وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ شَبَابُ ثَقِيفٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَلَّا نَأْتِيكَ بِرَأْسِهِ؟ فَقَالَ: ما كنت لأفعلن ذَلِكَ بِحُجْرٍ، فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ عَزَلَ الْمُغِيرَةَ، وَوَلَّى زِيَادًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِلِ الْمُغِيرَةَ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله عنه، وَجُمِعَتِ الْكُوفَةُ مَعَ الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ، دَخَلَهَا وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى حجر جماعات من شيعة علي، يقولون أمره، ويشدون عَلَى يَدِهِ، وَيَسُبُّونَ مُعَاوِيَةَ، وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْهُ»([119])، ونرى هنا شدة احترام المغيرة رضي الله عنه لحجر بن عدي، ومعاملته بالحسنى، وعدم النيل منه، أو أذيته، ونصحه بشكل دائم، ويؤكد هذا أيضاً ما ذكره ابن كثير :: «فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، دَعَا بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنِّي أَعْرِفُكَ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وأباك على أمر قَدْ عَلِمْتَ- يَعْنِي مِنْ حُبِّ عَلِيٍّ-، وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُقْطِرَ لِي مِنْ دَمِكَ قَطْرَةً، فَأَسْتَفْرِغَهُ كُلَّهُ، أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ مَنْزِلُكَ، وَهَذَا سَرِيرِي فَهُوَ مَجْلِسُكَ، وَحَوَائِجُكَ مَقْضِيَّةٌ لَدَيَّ، فَاكْفِنِي نَفْسَكَ، فَإِنِّي أَعْرِفُ عَجَلَتَكَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نفسك، وإياك وهذه السقطة، وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ أَنْ يَسْتَنَزِلُّوكَ عَنْ رَأْيِكَ، فَقَالَ حُجْرٌ: قَدْ فَهِمْتُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَتَاهُ الشِّيعَةُ»([120]).

وأيضاً نرى حتى زياد بن أبي سفيان قدّره، وعلم منزلته ورفعتها، فأتاه بالنصيحة، والكلام الليّن، دون تهديد شديد، وإنما نصحٌ يدل على حبه، والخوف عليه، ولكن لمَّا: «كَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، ذَكَرَ فِي آخِرِهَا فَضْلَ عُثْمَانَ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ، أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ حُجْرٌ كَمَا كَانَ يَقُومُ فِي أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ لِلْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ زِيَادٌ، ثُمَّ رَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرًا مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ لِئَلَّا يُحْدِثُ حَدَثًا،  فَقَالَ:

إِنِّي مَرِيضٌ.

فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَمَرِيضُ الدِّينِ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَحْدَثْتَ شَيْئًا لَأَسْعَيَنَّ فِي قَتْلِكَ.

ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ أَنْكَرُوا عَلَى نَائِبِهِ بِالْكُوفَةِ- وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ-، وَحَصَبُوهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»([121]).

وأظن – إن صحت الرواية – بغض النظر أن الوالي ظالم أو عادل، فليس من الممكن أن يترك الأمر هكذا دون معالجة، أو إصلاح لهذا الأمر الذي ينشر الفوضى، ولذلك نرى أن زياداً لمّا سمع بهذا الأمر: «فَأَعْجَلَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَخَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي جماعة من أشراف الْكُوفَةِ لِيَنْهَوْهُ عَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَأَتَوْهُ، فَجَعَلُوا يُحَدِّثُونَهُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ يقول:

يا غلام، أعلفت الْبَكْرَ؟

لِبَكْرٍ مَرْبُوطٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ:

أَمْجَنُونٌ أَنْتَ؟ نُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ تقول: أعلفت الْبَكْرَ.

ثُمَّ قَالَ عَدِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا الْبَائِسَ بَلَغَ بِهِ الضَّعْفُ كُلَّ مَا أَرَى، ثُمَّ نَهَضُوا فَأَخْبَرُوا زِيَادًا بِبَعْضِ الْخَبَرِ، وَكَتَمُوهُ بَعْضًا، وَحَسَّنُوا أَمْرَهُ، وَسَأَلُوهُ الرِّفْقَ بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ والمحاربة، فأتى به وبأصحابه، فقال له:

مالك ويلك؟

قال: إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لِمُعَاوِيَةَ.

فَجَمَعَ زِيَادٌ سَبْعِينَ من أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ:

اكْتُبُوا شَهَادَتَكُمْ عَلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ.

فَفَعَلُوا»([122]).

ولكن أمر حجر : لم ينته هنا، فإنه بقي يناهض الأمير، وبدأت تنمو له جماعة تحذو حذوه، وبذلك يكون بداية لثورة قادمة، وهذا ما كان يستشفه المغيرة رضي الله عنه، ويحاول إبعاد حجر عنه، وبعده حاول ذلك زياد بن أبي سفيان، ولكن يبقى الفارق الكبير بين زياد والمغيرة، وصار أمر حجر أقوى من السابق،  فعندما أطال زياد الخطبة حصبه حجر، وحصبه معه الناس، فاضطر زياد إلى الكتابة إلى معاوية ليبلغه ما فعل حجر، فأمر معاوية بإرساله إليه، روى الحاكم «عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ زِيَادًا، أَطَالَ الْخُطْبَةَ، فَقَالَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصَّلَاةُ، فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: الصَّلَاةُ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْحَصَى، وَضَرَبَ النَّاسُ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْحَصَى، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ كَتَبَ فِيهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ: أَنْ سَرِّحْ بِهِ إِلَيَّ فَسَرَّحَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا؟ إِنِّي لَا أُقِيلُكَ، وَلَا أَسْتَقِيلُكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا انْطَلِقُوا بِهِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُ، فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَأْذِنُوا لَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُطْلِقُوا عَنِّي حَدِيدًا، وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَادْفِنُونِي فِي ثِيَابِي فَإِنِّي مُخَاصِمٌ»([123]).

وذكر ابن أبي شيبة: «كان محمد [ابن سيرين] إذا سئل عن الشهيد يغسّل؟ حدث عن حجر بن عدي إذ قتله معاوية قال: قال حجر: لا تطلقوا عني حديداً، وتغسلوا عني دماً، ادفنوني في وثاقي ودمي، ألقى معاوية على الجادة غداً»([124]).

وأخرج ابن عساكر: «قال ابن سيرين:

لم يكن لزياد همٌّ لما قدم الكوفة إلا حجراً وأصحابه، فتكلم يوماً زياد وهو على المنبر، فقال: إن من حق أمير المؤمنين، من حق أمير المؤمنين – مراراً –

فقال: كذبت ليس ذلك.

فسكت زياد، ونظر إليه، ثم عاد في كلامه فقال: أن من حق أمير المؤمنين، أن من حق أمير المؤمنين.

مراراً نحواً من كلامه، فأخذ حجر كفاً من حصاً فحصبه، وقال:

كذبت، كذبت، كذبت عليك لعنة الله.

قال: فانحدر زياد من المنبر، وصلى، ثم دخل الدار، وانصرف حجر فبعث إليه زياد الخيل والرجال: أجب.

قال حجر: إني واللَّه ما أنا بالذي يخاف، ولا آتيه أخاف على نفسي.

قال هشام: قال ابن سيرين: لو مال لمال أهل الكوفة معه، ولكن كان رجلاً ورعاً، وأبى زياد أن يقلع عنه الخيل والرجال، حتى اصطلحا أن يقيده بسلسلة، ويرسله في ثلاثين من أصحابه إلى معاوية، فلما خرج أتبعه زياد برداً بالكتب بالركض إلى معاوية، أن كان لك في سلطانك حاجة، أو في الكوفة حاجة، فاكفني حجراً، وجعل يرفع الكتب إلى معاوية حتى ألهفه عليه، فقدم فدخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين.

قال معاوية: أو أمير المؤمنين أنا؟

قال: نعم، ثلاثاً.

فأمر بحجر، وبخمسة عشر رجلاً من أصحابه قد كتب زياد فيهم، وسماهم، وأخرج حجراً وأصحابه الخمسة عشر، وقد أمر بضرب أعناقهم.

فقال حجر للذي أمر بقتله: دعني فلأصلي ركعتين.

قال: صلِّ.

فصلى ركعتين خفيفتين، فلما سلّم، أقبل على الناس فقال:

لولا أن تقولوا جزع من القتل، لأحببت أن تكون ركعتان أنفس مما كانتا، وايم اللَّه لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني، فما هاتان بنافعتي شيئاً.

ثم أخذ برده فتحرم به، ثم قال لمن يليه من قومه، ومن يتحرن به([125]): لا تحلوا قيودي، ولا تغسلوا عني الدم، فإني اجتمع أنا ومعاوية غداً على المحجة انتهى»([126]).

ورواية ابن أبي شيبة مختصرة: «لما انطلق بحجر إلى معاوية قال:

السلام عليكم يا أمير المؤمنين.

فقال: أو أمير المؤمنين أنا؟

قال: نعم.

قال: لأقتلنك.

قال: ثم أمر به ليقتل.

فقال: دعوني أصلي ركعتين.

فصلى ركعتين تجوز فيهما، فقال:

لا ترون أني خففتهما جزعاً، ولكني كرهت أن أطول عليكم.

ثم قتل»([127]).

وروى الحاكم «عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: رَأَيْتُ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ: «أَلَا إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لَا أَقِيلُهَا، وَلَا أَسْتَقِيلُهَا سَمَاعَ اللَّهِ وَالنَّاسِ»([128]).

إذن قتله معاوية بعد أن دخل عليه وألقى عليه السلام بإمرة المؤمنين، ويكفي معاتبة عائشة ل لمعاوية بقتله حجراً، واعتذار معاوية عن قتله، فيروي ابن كثير: «وَرُوِّينَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وذلك بعد مقتله حجراً وَأَصْحَابِهِ.

قَالَتْ لَهُ: أَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ يَا مُعَاوِيَةَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ؟

فَقَالَ لَهَا: فَقَدْتُهُ حِينَ غَابَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي مِثْلُكِ يَا أُمَّاهُ.

ثُمَّ قَالَ لَهَا: فَكَيْفَ بِرِّي بِكِ يَا أُمَّهْ؟

فَقَالَتْ: إِنَّكَ بِي لَبَارٌّ.

فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا عِنْدَ اللَّهِ، وَغَدًا لِي وَلِحُجْرٍ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ U.

وفي رواية أنه قال: «إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ جرير أن معاوية جعل يغرغر بالموت وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ لَطَوِيلٌ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فاللَّه أَعْلَمُ»([129]).

وروايات أخرى حول عائشة ومعاوية وحجر، فروى ابن سعد: «وَقَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِرِسَالَةِ عَائِشَةَ وَقَدْ قُتِلُوا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ حِلْمُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: غَيْبَةُ مِثْلِكَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي»([130]).

ويذكر الصفدي الحادثة مع ملاحظات عدة عليها: «وَقد تقدم ذكره [حجر بن عدي]، وَكَانَ سَبَب قَتله أَنه كَانَ من أَصْحَاب عليّ، فَكَانَت تصدر مِنْهُ حركات لَا تعجب وُلَاة الْكُوفَة، فَقَالَ لَهُ زِيَاد بن أَبِيه: إِنِّي أحذِّرك أَن تركب أعجاز أمورٍ قد هلك من ركب صدورها، فَلم ينْتَه، فنفذ زِيَاد إِلَى مُعَاوِيَة: إِن كَانَ لَك بالعراق حاجةٌ، فَاكْفِنِي حجراً وَأَصْحَابه، فَأمر بهم مُعَاوِيَة، فَقتلُوا نصفهم بعذراء([131]) سنة إِحْدَى وَخمسين، وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر، وَقيل ثَلَاثَة عشر، وَكَانَ حجر مِمَّن قتل، وَقيل قتل ستةٌ أَو سَبْعَة، وَجَاء رَسُول مُعَاوِيَة بِالْعَفو عَنْهُم، وَقدم عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام برسالة عَائِشَة تسأله أَن يخلي سبيلهم، فَقدم وَقد قتلوا.

فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَيْن عزب عَنْك حلم أبي سُفْيَان؟

فَقَالَ: غيبَة مثلك عني من قومِي.

وحجَّ مُعَاوِيَة فَاسْتَأْذن على عَائِشَة، فَحَجَبَتْهُ، ثمَّ أَذِنت لَهُ.

فَقَالَت لَهُ: مَا حملك على قتل أهل عذراء حجر وَأَصْحَابه؟

قَالَ: يَا أم الْمُؤمنِينَ إِنِّي رَأَيْت قَتلهمْ صلاحاً للأمَّة، وَإِن بقاءهم فَسَاد للْأمة.

فَقَالَت: سَمِعت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُول: (سيقتل بعذراء أناسٌ يغْضب اللَّه لَهُم، وَأهلُ السَّمَاء).

أما خشيت أَن أخبئ لَك رجلاً فيقتلك؟

فَقَالَ: لَا، إِنِّي فِي بَيت أَمَان.

وَكَانَ يَقُول عِنْد مَوته: إنّ يومي من ابْن الأدبر لطويل، وانتحب ابْن عمر لما بلغه قَتله، وَنَدم مُعَاوِيَة على قَتله، وَعرف مِنْهُ النَّدَم وَالْخَوْف عِنْد الْمَوْت.

وَقَالَ: مَا قتلت أحداً إلاّ وَأَنا أعرف فيمَ قتلته، وَمَا أردْت بِهِ مَا خلا حجراً»([132]).

ورواية ابن كثير تؤيدها: «وروى أحمد عَنْ عَفَّانَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ- أَوْ غَيْرِهِ- قَالَ:

لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ:

أَقَتَلْتَ حُجْرًا؟

فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَجَدْتُ قَتْلَ رَجُلٍ فِي صلاح الناس، خير مِنِ اسْتِحْيَائِهِ فِي فَسَادِهِمْ»([133]).

وهكذا قتل حجر بن عدي :، مع أنه لم ينكث بيعته لمعاوية رضي الله عنه، ولكن بناء الدولة، وسلطان الحكم، لا يتحمل معارضة تنادي بالإصلاح عن طريق الفوضى، وضرب الولاة، والمناداة بالتأليب عليهم، لا عن طريق الإصلاح المدني – كما يقال في هذا العصر - فلا يمكن القبول بعبث العابثين في إفشاء الهرج والمرج، مما يؤدي إلى إفساد الحياة الاجتماعية، ونرى هنا أن المغيرة رضي الله عنه حذّر حجراً من هذه الطريقة، وكذلك حذره زياد، إلا أن حجراً : لم يستطع السماع لهذه النصائح، وهذا ما أشارت عليه الرواية المنسوبة إلى عائشة ل: «أَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَعَّدُهُ وَتَقُولُ: لَوْلَا يَغْلِبُنَا سُفَهَاؤُنَا لَكَانَ لِي وَلِمُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ حجراً شأن، فلما اعتذر إليها عذرته»([134])، إذن فعائشة ل تدرك خطر هذه الطريقة، فأقلعت عنها، وإننا نرى أن حجراً ♫ تحمّل الأمراء أمره كثيراً وطويلاً لفضله، وعلمه، ولكن عندما أدرك معاوية رضي الله عنه أن أمره بدأ يستفحل عند أهل العراق، وبدأ أصحاب الفتنة وأعداء الإسلام من متسربلين لباس الروافض والعلوية والمجوس الذين قتلوا عمر وعثمان وعلياً y، فلم يجد معاوية بداً من إيقاف هذا الأمر، فقتله، فجاءت النتيجة مؤلمة مفجعة، حتى على معاوية رضي الله عنه الذي سبقت الرواية عنه: «وَرَوَى ابْنُ جرير أن معاوية جعل يغرغر بالموت وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ لَطَوِيلٌ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فاللَّه أَعْلَمُ»([135]).

من خلال كل ما أسهبت فيه من ذكر قصص حجر بن عدي، وعدم التعليق على صحة الروايات، إلا أنها بمجموعها تشير إلى مدى الدعايات السبئية في قضية عثمان، وعلي، ومعاوية، فقد أثرت في كثير من الرجال الصالحين من التابعين، وانساقوا خلالها، وهذا يدل على مدى نفوذ هذه الفئات التي تريد لهذا الدين أن يقع أهله بعضهم ببعض، ولم تعد كأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوائل حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه بفكرة اغتيال الخليفة، بل بدأت تبدو بثوب شعبي شرعي، فالكل ينادي بالشورى، وبرفع الظلم، وباتباع السنن القويم، والهدي الرشيد، والابتعاد عن الشقاق والنفاق، وأصحابه من غيظهم، والإحن التي في صدورهم، وتجربتهم في استشهاد عمر وعثمان ب، وأنها لم تنتج ما يريدون، فبدؤوا يبحثون في قضايا سياسية، وفكرية، واعتقادية، فأظهروا الشقاق بين المسلمين بادّعاءات الإمامة، والانحراف عن الشورى في الحكم، وكيف أصبح توريثاً، لا شورى؟.

ب- الحسين بن علي بن أبي طالب ب:

هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، السِّبْطُ الشَّهِيدُ بِكَرْبَلَاءَ ابْنُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وَرَيْحَانَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وُلِدَ بَعْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَسَنِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ»([136]).

عَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحِبَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا.

ثُمَّ كَانَ الصِّدِّيقُ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَصَحِبَ أَبَاهُ وَرَوَى عَنْهُ، وَكَانَ مَعَهُ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا...، فَلَمَّا آلَتِ الخلافة إلى أخيه، وأراد أن يصالح، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسَدِّدْ رَأْيَ أَخِيهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ حَثَّهُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ...، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ مع أخيه الحسن، فيكرمهما معاوية إِكْرَامًا زَائِدًا...، وَلِمَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ، كَانَ الْحُسَيْنُ يَفِدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيُعْطِيهِ، وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَزِيدَ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَمَّا أَخُذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ، هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ سِتِّينَ، وَبُويِعَ لِيَزِيدَ، بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَمَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ: الْحُسَيْنُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَارِّينَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا»([137]).

ويروي الطبراني «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ مُعَاوِيَةُ لِيَزِيدَ حَجَّ، فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَا يَزِيدَ فَبَايِعُوا، فَقَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، فَإِنَّ أَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ، وَجَدِّي خَيْرٌ مِنْ جَدِّهِ، وَإِنَّ أُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّهِ، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّ جَدَّكَ خَيْرٌ مِنْ جَدِّهِ فَصَدَقْتَ، رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّ أُمَّكَ خَيْرٌ مِنْ أُمِّهِ فَصَدَقْتَ، فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ بِنْتِ مِجْدَلٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّ أَبَاكَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ، فَقَدْ قَارَعَ أَبُوهُ أَبَاكَ، فَقَضَى اللَهُ لِأَبِيهِ عَلَى أَبِيكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَلَهُوَ أَرِبُ مِنْك وَأَعْقَلُ، مَا يَسُرُّنِي بِهِ مِثْلُكَ أَلْفٌ»([138]).

ويروي الطبري : رواية عن الكلبي، وهو غير ثقة، وأبي مخنف لوط بن يحيى، وهو خبيث كذاب، لا يصدق برواية، ولكن هكذا وصلت الرواية مفصلة، وقد تكون محشوة بالأكاذيب، ولا يمكن أن تكون صحيحة بكل التفاصيل، فيقول: «وأما الْحُسَيْن، فإنه خرج ببنيه، وإخوته، وبني أخيه، وجلّ أهل بيته، إلا محمد بن الحنفية؛ فإنه قَالَ لَهُ: يَا أخي، أنت أحب الناس إليّ، وأعزهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بِهَا مِنْكَ، تنحَّ بتبعتك عن يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وعن الأمصار مَا استطعت، ثُمَّ ابعث رسلك إِلَى النَّاسِ فادعهم إِلَى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت اللَّه عَلَى ذَلِكَ، وإن أجمع الناس عَلَى غيرك لم ينقص اللَّه بِذَلِكَ دينك، وَلا عقلك، وَلا يذهب بِهِ مروءتك وَلا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصراً من هَذِهِ الأمصار، وتأتي جماعة مِنَ النَّاسِ، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عَلَيْك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هَذِهِ الأمة كلها نفساً وأباً، وأماً أضيعها دماً، وأذلها أهلاً.

قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: فإني ذاهب يَا أخي.

قَالَ: فانزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار، فسبيل ذَلِكَ، وإن نَبَتْ بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إِلَى بلد حَتَّى تنظر إِلَى مَا يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك أصوب ما تكون رأياً، وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، وَلا تكون الأمور عَلَيْك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً»([139]).

فمثل هذا الرأي، وإن كان فيه ما فيه، فكان قريباً منه رأي عبد اللَّه بن مطيع عندما سأل الحسين: «جعلت فداك! أين تريد؟

قَالَ: أما الآن، فإني أريد مكة، وأما بعدها، فإني أستخير اللَّه.

قَالَ: خار اللَّه لك، وجعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكة، فإياك أن تقرب الْكُوفَة، فإنها بلدة مشؤومة، بِهَا قتل أبوك، وخُذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي عَلَى نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، لا يعدل بك وَاللَّهِ أهل الحجاز أحداً، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فو الله لَئِنْ هلكت لنسترقن بعدك»([140]).

وقد كثر ورود الكتب على الحسين رضي الله عنه من بلاد العراق، يدعونه إليهم، وذلك حين بلغهم موت معاوية رضي الله عنه، وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فراراً من بيعة يزيد، يعني أن الفئة التي تريد ترويض الأمة لتقويض الدولة بدأت تتحرك وتنفث سمومها، وأفكارها القاتلة، وتستعمل رؤوساً لها مكانتها في الأمة وبين العامة، وخصوصاً قتلة عثمان وعلي ب الذين استوطنوا العراق، واتخذوه وكراً لدفع الفتنة ورعايتها، وتنميتها وتقويتها.

ويروي الإمام ابن كثير تفصيلاً لهذه الأمور أكثر فقال: «ثُمَّ بَعَثُوا بَعْدَهُمَا نَفَرًا مِنْهُمْ قيس بن مسهر الصدائي، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْكَوَّاءِ الْأَرْحَبِيُّ، وَعُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيُّ، وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ كِتَابًا إِلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ بَعَثُوا هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ السَّبِيعِيَّ وَسَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، وَمَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بْنُ رِبْعِيٍّ، وَحَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ، وَيَزِيدُ بْنُ الحارث بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي: أما بعد، فقد اخضرّت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الْجِمَامُ، فَإِذَا شِئْتَ فَاقْدَمْ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مجندة، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، فَاجْتَمَعَتِ الرُّسُلُ كُلُّهَا بِكُتُبِهَا عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَجَعَلُوا يَسْتَحِثُّونَهُ وَيَسْتَقْدِمُونَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِيُبَايِعُوهُ عِوَضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَيَنَالُونَ مِنْهُ، وَيَتَكَلَّمُونَ في دولته، وأنهم لمَّا يُبَايِعُوا أَحَدًا إِلَى الْآنَ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَكَ إِلَيْهِمْ لِيُقَدِّمُوكَ عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْعِرَاقِ، لِيَكْشِفَ لَهُ حَقِيقَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَالاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَأَمْرًا حَازِمًا مُحْكَمًا بَعَثَ إِلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي أَهْلِهِ وَذَوِيهِ»([141]).

وسبق أن قدم على الحسين يطالبه بخلع معاوية، والثورة عليه: الحسين بن عتبة الفزاري في عدة معه بعد وفاة الحسن، فدعوه إلى خلع معاوية، وقالوا: قد علمنا رأيك، ورأي أخيك، فقال: إني لأرجو أن يعطي اللَّه أخي على نيته في حبه الكف، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين([142]).

وهنا نرى - إن صحت الرواية - أن الحسين يرى أن حكم معاوية وتوليته ابنه يزيد من عمل الظالمين، وهو عدم الالتزام بالشورى، وهذا ما يدعوه إلى التفكير بإزالة هذا الظلم.

وسرى الخبر إلى مروان بن الحكم «وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُونَ حُسَيْنٌ مَرْصَدًا لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُمْ مِنْ حُسَيْنٍ طَوِيلًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدِهِ لَجَدِيرٌ بِالْوَفَاءِ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَنْ قَدْ جَرَّبْتَ قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيكَ وَأَخِيكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَاذْكُرِ الْمِيثَاقَ، فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي أَكِدْكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ، وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي جَدِيرٌ، وَالْحَسَنَاتُ لَا يَهْدِي لَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً، وَلَا عَلَيْكَ خِلَافًا، وَمَا أَظُنُّ لِي عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا فِي تَرْكِ جِهَادِكَ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِكَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِن أَثَرْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إلا شراً، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ... فلما احتضر مُعَاوِيَةُ دَعَا يَزِيدَ، فَأَوْصَاهُ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وقال له: انظِرْ حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول اللَّه، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، فَصِلْ رَحِمَهُ، وَارْفُقْ بِهِ، يَصْلُحْ لَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ، وَخَذَلَ أَخَاهُ»([143]).

ومع أن هذه الروايات لا يمكن الاطمئنان إليها، ولا الاعتماد عليها، ولكن ما حدث بعد ذلك من قيام للحسين بن علي في مواجهة يزيد يؤيد عموم هذه الروايات، وإن كانت تفصيلاتها فيها شوائب كثيرة مختلفة، وإن الظن بسيدنا الحسين رضي الله عنه وقوة عقله، وصحة تفكيره هي التي ترجح تأنيه، وعدم ثورته على معاوية رضي الله عنه، ولكن ما حدث بعد ذلك يكون مما راجت به كتب مثيري الفتنة من ابتعادهم عن ثلب معاوية بما ثلبوا به يزيد من فسق وفجور وضلال، حتى أن الروايات ما زال إلى الآن يتحمل إثم كبرها كثير من المؤرخين القدماء والمفكرين المحدثين ممن يدّعون أنهم مفكرون إسلاميون، ومثقفون في خدمة هذا الدين.

وبعد وفاة معاوية رضي الله عنه، ثارت ثائرة العراقيين، وظن أصحاب الإحن والحقد على هذا الدين أن الفرصة قد حانت بموته، لأنهم توقعوا أن من بعده لن يستطيع الحفاظ على حكمه، وبذلك تسقط دولة الإسلام، فيحققوا ما يريدون من انهيارها، واقتلاعها من جذوره، فتظاهروا بحبهم للحسين، وطاعته، والقتال معه لنصرة الحق الذي يدعونه، فطلبوا من سيدنا الحسين رضي الله عنه القدوم عليهم؛ ليقوموا معه على يزيد بن معاوية؛ ليعيدوا الحق إلى نصابه، وينصروه على أعدائه، فأرسل الحسين رضي الله عنه ابن عمه مسلم بن عقيل إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر – كما سبق ذكره – ودخل عقيل العراق خفية.

ووصل خبر مسلم بن عقيل إلى عبيد اللَّه بن زياد، فبدأ بالبحث عنه، ولما قبض عليه أقبل «ابْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ فَقَالَ:

إِيهِ يَا ابْنَ عَقِيلٍ، أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ؛ لِتُشَتِّتَهُمْ، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَتَحْمِلَ بعضهم على قتل بَعْضٍ؟

قَالَ: كَلَّا، لَسْتُ لَذَلِكَ أَتَيْتُ، وَلَكِنْ أَهْلُ الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَتَيْنَاهُمْ لَنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ، وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ.

قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ ...

فقال مسلم: وَاللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ، وَأَنَّكَ قُلْتَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي، فَإِنِّي لَسْتُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَإِنَّ أَوْلَى بِهَا مِنِّي مَنْ يَلَغُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَغًا، وَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَيَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا» ([144]).

وهنا قبض عبيد اللَّه بن زياد على مسلم بن عقيل، وأودعه السجن، فخرج رسول هو محمد بن الأشعث الطائي - وكان شاعراً- «حتى لقي الحسين بـ(زبالة)، لأربع ليال من الكوفة، فأخبره الخبر، وأبلغه الرسالة [رسالة ابن عقيل]، فقال الحسين: كل ما حمَّ نازل، عند اللَّه نحتسب أنفسنا، وفساد أئمتنا»([145]).

وأما رسالة مسلم بن عقيل $ المشار إليها، فقد أرسل محمد بن الأشعث رجلاً يخبر الحسين، ويقول له: «إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير، لا يدرى أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك، ولا يغرنك أهل الكوفة؛ فإنهم أصحاب أبيك الّذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي»([146]).

وقبل أن تصل هذه الرسالة إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، كان قد جهز نفسه وأهله، وعقد العزم على المسير إلى العراق؛ لأنه يرى أن وجود شيعة كافية لجهاد الظالمين أوجب عليه الخروج عليهم، وأكد له هذا الرأي عبد اللَّه بن الزبير عندما دخل عليه وقال له: «مَا أَدْرِي مَا تَرْكُنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَنَحْنُ أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، وَوُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ دُونَهُمْ، أَخْبِرْنِي مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟

فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِإِتْيَانِ الْكُوفَةِ، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ شِيعَتِي بها، وأشرافها بالقدوم عليهم، وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ.

فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا لَوْ كَانَ لِي بِهَا مِثْلُ شِيعَتِكَ مَا عَدَلْتُ عَنْهَا»([147]).

ولعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه رأي قريب من هذا الرأي، إلا أنه أشد حذراً وذكاء وعلماً «ولما مات معاوية، ورام الحسين الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ، نَهَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِثِيَابِ الْحُسَيْنِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَضَرَّ في آخر عمره، فلم يقبل مِنْهُ»([148]).

«... فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ، أَوْ مِنَ الْغَدِ، جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ! إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْهَلَاكَ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ، فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِهِمْ، أَقِمْ فِي هَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يَنْفِيَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَدُوَّهُمْ، ثُمَّ اقْدمْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ، فَإِنَّ بِهِ حُصُونًا وَشِعَابًا، وَلِأَبِيكَ بِهِ شِيعَةٌ، وَكُنْ عَنِ النَّاسِ فِي مَعْزِلٍ، وَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ، وَبُثَّ دُعَاتَكَ فِيهِمْ، فَإِنِّي أَرْجُو إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تُحِبُّ»([149]).

ورواية الطبري: «... فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك، وصِبيتك، فو اللَّه إني لخائف أن تقتل كما قتل عُثْمَان، ونساؤه وولده ينظرون إِلَيْهِ»([150]).

وكتب إليه عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب مع ابنيه: عون ومحمد: «أما بعد، فاني أسائلك باللَّه لما انصرفت حتى تَنْظُرَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَوَجَّهْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُكَ، وَاسْتِئْصَالُ أَهْلِ بَيْتِكَ، إِنْ هَلَكْتَ اليوم طفئ نور الإسلام، فَإِنَّكَ عَلَمُ الْمُهْتَدِينَ، وَرَجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعْجَلْ بِالسَّيْرِ، فَإِنِّي فِي إِثْرِ كِتَابِي، وَالسَّلَامُ»([151]).

ولما أصر الحسين رضي الله عنه على الخروج، توالت عليه الركاب، وتتالت عليه النصائح تثبطه، وتحذره، وتنصحه خائفة عليه، وهي بين أمرين: إما أنها توافقه في الفكرة، ولا توافقه في الزمان، والمكان، كعبد اللَّه بن عباس، أو لا توافقه على شيء من ذلك، إلا أنها تشفق عليه، وعلى الأمة أن ينالهم سوء وهلاك.

وكان عبد اللَّه بن عمر في مكة: «فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ.

فقال: أين تريد؟

قال: الْعِرَاقَ.

وَإِذَا مَعَهُ طَوَامِيرُ، وَكُتُبٌ.

فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ، وَبَيْعَتُهُمْ.

فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ.

فَأَبَى.

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ r، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُرِدِ الدنيا، وإنك بضعة من رسول اللَّه، واللَّه ما يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا، وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.

فَأَبَى أن يرجع.

قال: فاعتنقه ابن عمر، وبكى.

وَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ»([152]).

يقول جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه: «كَلَّمْتُ حُسَيْنًا.

فَقُلْتُ: اتَّقِ اللَّه، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فو اللَّه مَا حُمِدْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ فَعَصَانِي»([153]).

ويقول أَبُو سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: «غَلَبَنِي الْحُسَيْنُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقَدْ قَلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى إِمَامِكَ»([154]).

«وَقَدْ كَتَبَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تُعَظِّمُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ، وَتَأْمُرُهُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَاقُ إِلَى مَصْرَعِهِ ... وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ كِتَابًا يُحَذِّرُهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ أَنْ يَشْخَصَ إِلَيْهِمْ»([155]).

وقال له عمرو بن سعيد بن العاص: «إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَكَ رُشْدَكَ، وَأَنْ يَصْرِفَكَ عَمَّا يُرْدِيكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى الشُّخُوصِ إِلَى الْعِرَاقِ، وإني أعيذك اللَّه من الشقاق، فإنك إن كُنْتَ خَائِفًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ، فَلَكَ عِنْدِي الْأَمَانُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ بِكِتَابِكَ بِرِّي وَصِلَتِي، فَجُزِيتَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُشَاقِقْ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالَحًا، وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَيْرُ الْأَمَانِ أَمَانُ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ باللَّه مَنْ لَمْ يَخَفْهُ فِي الدُّنْيَا، فَنَسْأَلُ اللَّه مخافة في الدنيا توجب لنا أماناً يوم القيامة عنده»([156]).

وقد أورد الطبري حواراً رائعاً بين الحسين رضي الله عنه والشاعر الفرزدق فيقول: «وخرج الحسين في أهل بيته، ونسائه، وصبيته، فلقي الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين:

- بيّن لنا نبأ الناس خلفك.

فقال له الفرزدق:

- الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، واللَّه يفعل ما يشاء.

فقال له الحسين:

- صدقت، الأمر للَّه، يفعل ما يشاء.

ثمّ حرّك راحلته، وقال:

- السلام عليك.

وافترقا»([157]) .

وانطلق رضي الله عنه من مكة نحو العراق، وكان ابن زياد أَمَرَ بِأَخْذِ مَا بَيْنَ وَاقِصَةَ إِلَى طَرِيقِ الشَّامِ إِلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَلِجُ وَلَا أَحَدًا يَخْرُجُ، وَأَقْبَلَ الْحُسَيْنُ وَلَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ، حَتَّى أَتَى الْأَعْرَابَ فَسَأَلَهُمْ، عَنِ النَّاسِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْرِي، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَلِجَ وَلَا تَخْرُجَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَتَلَقَّتْهُ الْخُيُولُ بِكَرْبَلَاءَ، فَنَزَلَ يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ.

قَالَ: وَكَانَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، وَشَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ، وَحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ، فَنَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ، فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ» ([158]).

ونرى هنا محاولة الحسين الإقلاع عن توجهه إلى العراق، ومحاولة التوجه نحو أمير المؤمنين يزيد، كما في الخبر.

وكتب عمر بن سعد إلى عبيد اللَّه بن زياد: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فإني حَيْثُ نزلت بالحسين بعثت إِلَيْهِ رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فَقَالَ: كتب إلي أهل هذه البلاد، وأتتني به رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لَهُمْ غير مَا أتتني بِهِ رسلهم، فأنا منصرف عَنْهُمْ»([159]).

ولم يوافق الجند على رأي الحسين رضي الله عنه، وساقوه إلى عمر بن سعد، واختار الحافظ الذهبي هذه الرواية: «وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَتِهِ، إِنَّ الْحُسَيْنَ رضي الله عنه قَالَ حِينَ نَزَلُوا كَرْبَلَاءَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالُوا: كَرْبَلَاءُ، قَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ، فَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ فَقَابَلَهُمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا عُمَرُ، اخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا تَتْرُكُنِي أَنْ أَرْجِعَ، أَوْ تُسَيِّرُنِي إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعُ يَدِي في يَدِهِ، فَيَحْكُمُ فِيّ مَا أَرَى، فَإِنْ أَبَيْتَ فَسَيِّرْنِي إِلَى التُّرْكِ، فَأُقَاتِلُهُمْ حَتَّى أَمُوتَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَهَمَّ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ شِمْرُ بْنُ جَوْشَنٍ- كَذَا قَالَ: وَالْأَصَحُّ شِمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ-: لَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، وَأَبْطَأَ عُمَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ شِمْرَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: إِنْ تَقَدَّمَ عُمَرُ وَقَاتَلَ، وَإِلَّا فَاقْتُلْهُ وَكُنْ مَكَانَهُ، وَكَانَ مَعَ عُمَرَ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالُوا: يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَلَا تَقْبَلُونَ مِنْهَا شَيْئًا! وَتَحَوَّلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ فَقَاتَلُوا»([160]).

وأما رواية الحافظ ابن حجر فهي: «ولم يبلغ الحسين ذلك حتى كان بينه وبين القادسيّة ثلاثة أميال، فلقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: ارجع، فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً، وأخبره الخبر، فهمّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم، فقالوا: واللَّه لا نرجع حتى نصيب بثأرنا، أو نقتل، فساروا، وكان عبيد اللَّه قد جهّز الجيش لملاقاته، فوافوه بكربلاء، فنزلها ومعه خمسة وأربعون نفساً من الفرسان، ونحو مائة راجل، فلقيه الحسين، وأميرهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وكان عبيد اللَّه ولّاه الري، وكتب له بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين، فلما التقيا قال له الحسين: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن ألحق بثغر من الثّغور، وإما أن أرجع إلى المدينة، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية.

فقبل ذلك عمر منه، وكتب به إلى عبيد اللَّه، فكتب إليه: لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي، فامتنع الحسين، فقاتلوه فقتل معه أصحابه»([161]).

ونلاحظ أن الرواية التي رواها الحافظ ابن حجر أحكم من رواية الحافظ الذهبي رحمهما اللَّه، وهي أقرب لشيء من الحقيقة الغائبة خلف هذه الروايات الطائشة، ولولا أن النتائج التاريخية التي استقرت في تطور التاريخ الإسلامي، لما احتاج الباحث أن يروي مثل هذه الروايات.

ومن مأساة الحسين نستلهم ما يلي:

-     كان الحسين رضي الله عنه أكبر، وأعظم، وأفضل من خرج بهدف الإصلاح، وإعادة الشورى كما يرى خلال التاريخ الإسلامي كله، ومع ذلك لم ينجح، وسقط شهيداً مضرجاً بدمائه بين أهله، وأولاده الذين نجوا من القتل أثناء المعركة، لأن حركته كادت أن تقضي على بناء الدولة كله، وهذا يدل على أن مثيري الفتنة، وأعداء هذا الدين استطاعوا الوصول إلى كثير من الصالحين باسم إعادة الشورى، أو باسم إعادة حكم الدين الذي – كما ادعو – بدأ يخبو من خلال حكام بني أمية، فهبّ عدة منهم على مدى التاريخ الأموي لإصلاح الأمور.

-  كان سبب خروجه – كما في الحوار الذي دار بين مسلم بن عقيل وعبيد اللَّه بن زياد -: قال عبيد اللَّه: «أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على قتل بَعْضٍ؟ قَالَ [مسلم بن عقيل]: كَلَّا، لَسْتُ لَذَلِكَ أَتَيْتُ، وَلَكِنْ أَهْلُ الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَتَيْنَاهُمْ لَنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ، وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ»([162])، وهذا يدل على مدى أثر هؤلاء السبئيين وأتباعهم في نفوس الكثير من الصالحين.

-  وفي اجتهاده أن العمل بالإصلاح يكون إذا وجد من الأنصار العدد الكافي من القوة، فيستطيع أن يقاوم الظلَمةَ والمارقين، وقد وجد أن من واجبه مقاومة الظلم بعدما تأكد من وجود العدد الكافي، فقد أرسل إليه سليمان بن صرد كتاباً يستعجله بالخروج إلى الكوفة، ثم سرّح إليه نحواً من ثلاث وخمسين صحيفة، الصحيفة من الرجل، والاثنين، والأربعة، وسرح له بعد ذلك كتاباً يقول فيه: «بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لحسين بن علي من شيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، أما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، وَلا رأي لَهُمْ فِي غيرك، فالعجل العجل، والسلام عَلَيْك»([163]).

وعندما ذهب مسلم بن عقيل إلى الكوفة بايعه أهلها، فأرسل إلى الحسين كتاب يقول فيه: «أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وَقَدْ بايعني من أهل الْكُوفَة ثمانية عشر ألفاً، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لَهُمْ فِي آل مُعَاوِيَة رأي، وَلا هوى، والسلام»([164]).

وفي رواية الحصين بن عبد الرحمن أن «الحسين كتب إليه أهل الكوفة: إنه معك مائة ألف، فبعث إليهم مسلم بن عقيل...»([165]).

-  عندما أحس الحسين رضي الله عنه بتخاذل الشيعة عنه، وأدرك أنه لا قوة تسانده، أدرك بأن عمله ليس مجدياً، ولا صحيحاً، ولذلك حاول التراجع، والعودة إلى الخليفة ليضع يده بيده، ويبايعه من جديد، ويعترف بأنه أخطأ الطريق الذي بدأه، وأن الذين دعوه لإقامة الحق هم الذين كانوا سبب خذلانه وقتله.

-  إذن لم يكن عند الحسين اعتقادٌ أن يزيد فاسق، أو منحرف، أو ضال، أو لا يحكم بغير حكم الله، وإلا لما ذكر – كما تقول الروايات – أنه مستعد للعودة من حيث أتى، أو للذهاب إلى يزيد، وإعطائه صفقة يده، ومبايعته، أو للذهاب إلى الجهاد تحت راية جيوشه، فلا يمكن أن يكون الحسين متناقضاً إلى حد أن يقبل مبايعة وطاعة فاسق، أو فاجر إن لم يكن ضالاً، على حسب روايات المغرضين والأغبياء الذين يتبعونهم في عصرنا، وينسجون الخيالات والأوهام عن خلافة يزيد باسم الدفاع عن الحسين، والحسين نفسه لم يُذكر عنه مثل هذه الأوصاف، بل كما رأينا جاءت روايات كثيرة تذكر طلب الحسين مبايعة يزيد، والذهاب إليه، أو الجهاد تحت راية جيشه.

-  يلاحظ أن المؤيدين لهذا الخروج من الأعلام الكبار من صحابة وتابعين عددهم قليل، إن لم نقل ليس فيهم إلا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، وأما باقي المؤيدين فهم شيعة الكوفة الذين خذلوه، وتركوه يصلى نيران السيوف في كربلاء، ثم ندموا على الخذلان، وما زالوا يبكون هذا الخذلان إلى اليوم، وإلى أن يشاء اللّه تعالى، ويصرخون في ندبهم: يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً، وهم أصلاً أتباع السبئية والمحاربين للَّه ولرسوله ولدينه.

-  وأما الذين لم يؤيدوه، ولم يكونوا شديدي المعارضة له، كأخيه محمد بن الحنفية، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن مطيع، وآخرين، فإنهم نصحوه بعدم الخروج، ولما أصر، نصحوه بألا تكون الكوفة مهاجره.

-  وأما الذين عارضوه في هذا الخروج، وناشدوه اللَّه والإسلام، وتعلقوا بأثوابه، وتضرعوا له، شفقة عليه، وخوفاً على مصيره، فهم كثيرون، وفيهم من أعلام الصحابة عدد كبير، منهم: جابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو سعيد الخدري، حتى أن عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ([166]) رحمها اللَّه أرسلت كتاباً إلى الحسين ترجوه أن يعدِل عن عزمه في الخروج، وغير هؤلاء كثيرون.

-  نرى أن هذا العمل لم يوافق عليه هؤلاء الأعلام الكبار، وغيرهم ممن لم نذكر من الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك، وخالفوا اجتهاد الحسين رضي الله عنه في خروجه هذا، واعتبروه خروجاً غير صحيح، وأنه سيؤدي إلى فتنة عمياء لن يكون فيها خير للمسلمين.

ج- وقعة الحرة:

وقعة الحرة من الحروب التي حدثت في عهد يزيد بن معاوية، وكان لها أثر سلبي على الدولة الأموية؛ لأنها حدثت في المدينة النبوية في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، وقتل فيها عدد من أهل المدينة، وقد تجاذبها المؤرخون الذين دونوها، كلٌّ حسب مذهبه، وأهدافه من تدوين التاريخ، ولما كان الروافض من أوائل من دوّن تاريخنا، فزادوا فيها، وأغفلوا منها، وذلك ليوافق أهواءهم، وسار من بعدهم على آثارهم من قريب أو بعيد، ولذلك كان على المؤرخ أن يتوخى الحذر في روايات هذه الوقعة التي كانت سلاح الروافض الدائم لمحاربة بني أمية.

وإذا كان الروافض يعتبرون بني أمية أعداء الإسلام منذ بداية الدعوة باسم أبي سفيان رضي الله عنه الذي كان سيد قريش بعد أبي جهل، ويتناسون أبا لهب، وهو عمّ النبي r، ويخترعون عداوة بين بني أمية وبني هاشم في الجاهلية، ويعتبرونها ممتدة في الإسلام، حتى وقع فيها كثير من المؤرخين القدامى، حتى أن المؤرخ العظيم المقريزي، كتب كتاباً مفرداً في هذا الموضوع، وأظن هذا كان من تأثر المقريزي برؤيته للدولة العبيدية التي لم يكن يشعر بخطرها على الإسلام، وتبعه على هذا معظم من كتب في التاريخ الإسلامي من المثقفين الإسلاميين، ويتناسون أن النبي r زوَّج بناته الأربع: ثلاثة منهن لبني أمية، وواحدة لبني هاشم، فالثلاث هن: زينب تزوجها أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ الْأُمَوِيُّ([167])، واثنتان: رقية، وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان الأموي، بينما زوج ابنته الصغرى فاطمة لعلي بن أبي طالب الهاشمي رضي اللَّه عنهم جميعاً، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية، ونحن نعلم أنه زوّج أبا العاص بن الربيع قبل الإسلام، فكيف تكون العداوة قائمة بين أمية وهاشم، والتزاوج بينهما في الجاهلية قبل الإسلام قائم حتى بين سيدي العشيرتين: محمد صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن حرب، وعند شدة أوار المعارك بين المسلمين والمشركين بقيادة أبي سفيان رضي الله عنه تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ل، وذكر الحافظ ابن حجر([168]): «وحكى ابن عبد البرّ أن الّذي عقد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها [أم حبيبة] عثمان بن عفان [وهو أموي]، ومن طريق عبد الواحد بن أبي عون، قال: لما بلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ابنته قال: هو الفحل لا يقدع أنفه»، فبرأي أبي سفيان أن هذا الزواج هو المناسب لابنته، فلا يعدل محمداً أحد من خلق اللَّه، مع أنه عدوه، ومحاربه منذ سنوات.

وحتى لا نكون بعيدين عن الأثر الرافضي عند المؤرخين نجد أن عالماً مؤرخاً كبيراً كتب كتاباً في هذه الحرب المزعومة بين الأمويين والهاشمين، وهو المقريزي، بكتابه الذي أسماه: «النزاع والتخاصم بين أمية وهاشم»، ولاحق هذا التخاصم منذ عهد هاشم وعبد شمس، وتغافل عن حقيقة العلاقة الهاشمية الأموية التي كانت متفقة مقابل بني مخزوم الذين كان زعيمهم أبا جهل، يقول ابن إسحق: «أتى [الأخنس بن شريق] أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف [لم يقل نحن وبنو هاشم، فهو الفرع النبوي، وإنما ذكر عبد مناف، وهو جد الأمويين والهاشميين معاً!!]، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى تُدرَك هذه؟! واللَّه لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه»([169]).

إذن، فالعداوة، والتسابق للزعامة كانت بين بني مخزوم وبني عبد مناف والد [عبد شمس وهاشم]، ولذلك عندما عتب أبو طالب على قريش حربها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أخيه محمد، وذكر عشائر قريش عشيرة تلو أخرى، فلما وصل إلى أبي سفيان (وهو زعيم بني أمية) قال عنه إنه منذ جاء النبي بالرسالة كان دأب أبي سفيان السفر الدائم خارج مكة حتى يهرب من تبعات القرابة، والنصرة، وأنه لم يجاهر بالعداوة لبني هاشم، ولكنه لا يريد أن ينصر محمداً، وهو سيّد بني هاشم، فيقول:

ومَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّي مُعْرِضًا

كَمَا مَرَّ قَيْلٌ مِنْ عِظامِ المَقاوِلِ

يَفِر إلَى نَجْدٍ وبَرْدِ مياهِه

ويزعُم أنني لستُ عَنْكُمْ بغافلِ

ويخبرُنا فِعْلَ المُناصِح أَنَّهُ

شفِيقٌ ويُخفى عارماتِ الدَّوَاخِلِ

* * *

فعبدُ مَنَافٍ أَنْتُمْ خيرُ قومِكم

فَلَا تُشركوا فِي أمرِكم كلَّ واغِلِ

لعَمْري لَقَدْ وهنتمُ وعَجَزْتم

وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ مُخْطئ للمفاصلِ

* * *

وكنتم حديثًا حَطْبَ قدرٍ وأنتم الـ

ـآن حِطابُ أقدُرٍ ومَراجل

ليَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عقوقُنا

وخذلانُنا وتركُنا فِي المعَاقلِ([170])

وهكا نجد أن الروافض استطاعوا إدخال فكرة التنافس، والتخاصم، والتحارب، بل والفجور في التحارب بين هاشم وأمية إلى تاريخنا، فكتب هذا التاريخ بين مقارب ومباعد من هذا الرأي الفسْل، ولذلك كانت وقعة الحرة أكبر مثال، أو لنقل هي قمة هذا التنازع الهاشمي الأموي، وقمة الفجور في الخصومة.

ومن الأدلة على ضحالة الرأي في العداوة بين أمية وهاشم أن وقعة الحرة هذه لم يشترك فيها الهاشميون ضد يزيد، مع وجود الكثيرين منهم، بل حذَّر عليٌ زين العابدين الهاشميين من الاشتراك فيها.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير ؒ: «ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وستين [للهجرة] يقال: فيها قدم وفد المدينة النبويّة عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ بِجَوَائِزَ سَنِيَّةٍ، ثُمَّ عَادُوا مِنْ عِنْدِهِ بِالْجَوَائِزِ فَخَلَعُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ([171])، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ جُنْدًا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ»([172]).

ضم وفد المدينة غير عبد اللَّه بن حنظلة: «...عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الحضرميّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا عَلَى يَزِيدَ فَأَكْرَمَهُمْ، وَأَحْسَنَ إليهم، وعظم جَوَائِزَهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ؛ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى صَاحِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَجَازَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ نَظِيرَ أَصْحَابِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْوَفْدِ، وَلَمَّا رَجَعَ وَفْدُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، أَظْهَرُوا شَتْمَ يَزِيدَ وَعَيْبَهُ، وَقَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ دِينٌ: يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عِنْدَهُ الْقَيْنَاتُ بِالْمَعَازِفِ، وَإِنَّا نُشْهِدُكُمْ أَنَّا قَدْ خَلَعْنَاهُ، فَتَابَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى خَلْعِهِ، وَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَجَعَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَافَقَ أُولَئِكَ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَسْكَرُ حَتَّى ترك الصَّلَاةَ، وَعَابَهُ أَكْثَرُ مِمَّا عَابَهُ أُولَئِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ قَالَ: اللَّهمّ إِنِّي آثَرْتُهُ، وَأَكْرَمْتُهُ، فَفَعَلَ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَأَدْرِكْهُ وَانْتَقِمَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: يَنْهَاهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَيُحَذِّرُهُمْ غِبَّ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ يَزِيدُ، وَخَوَّفَهُمُ الْفِتْنَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْفِتْنَةَ وَخِيمَة»([173]).

نلاحظ أن أولاد الصحابة – إن صحت الرواية – خُدعوا بما قيل عن يزيد، بينما الصحابة من كبير كعبد اللَّه بن عمر، وصحابي صغير كالنعمان بن بشير [صحابي ابن صحابي] لم يقبلوا ما قيل في يزيد، ولم يقعوا في ما وقع فيه أولاد الصحابة من الفتنة.

وقد أورد الإمام خليفة بن خياط [وكتابه من أوثق كتب التاريخ] رواية عن عودة هذا الوفد بعد ذهابه إلى دمشق، ومقابلة يزيد بن معاوية، أورد هذه الرواية التي ينقصها صحة الإسناد ففيها مجاهيل أطلقت عليهم الرواية: أشياخاً من أهل المدينة، تقول الرواية: «فَلَمَّا قدم عَبْد اللَّهِ بْن حنظله الْمَدِينَة، أَتَاهُ النَّاس فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ أتيتكم من عِنْد رجل، اللَّه لَو لم أجد إِلَّا بَنِي هَؤُلَاءِ لجاهدته بهم، قَالُوا: فَإِنَّهُ بلغنَا أَنه أجازك، وأكرمك، وأعطاك! قَالَ: قد فعل، وَمَا قبلت ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا أَن أتقوّى بِهِ عَلَيْهِ، وحضّض النَّاس، فَبَايعُوهُ.

قَالَ أَبُو الْيَقظَان [أحد رواة خليفة]: دعَوا إِلَى الرِّضَا والشورى، وَأمّرُوا عَلَى قُرَيْش عَبْد اللَّهِ بْن مُطِيع الْعَدوي([174])، وعَلى الْأَنْصَار عَبْد اللَّهِ بْن حَنْظَلَة الغسيل، وعَلى قبائل الْمُهَاجِرين معقل بْن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، وأخرجوا عُثْمَان بْن مُحَمَّد بْن أَبِي سُفْيَان من الْمَدِينَة، وَمن كَانَ بهَا من بَنِي أُميَّة، فَحَدثني وهب قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَنهم وَهُوَ بِالطَّائِف، فَقيل لَهُ: استعملوا عَبْد اللَّهِ بْن مُطِيع عَلَى قُرَيْش، وَعبد اللَّه بْن حَنْظَلَة عَلَى الْأَنْصَار فَقَالَ أميران أَن هلك الْقَوْم»([175]).

ويذكر ابن كثير هذه الرواية، بطريقة مسرحية هزلية تذكرنا بافتراء رواية التحكيم الرافضية التي سبقت هذه الحادثة بربع قرن، فيقول: «...أَنَّ أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية، وَوَلَّوْا عَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرُوا ذلك، واجتمعوا عند المنبر، فجعل الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: قَدْ خَلَعْتُ يَزِيدَ كَمَا خَلَعْتُ عِمَامَتِي هَذِهِ، وَيُلْقِيهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: قَدْ خَلَعْتُهُ كَمَا خَلَعْتُ نَعْلِي هَذِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَائِمِ وَالنِّعَالِ هُنَاكَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى إِخْرَاجِ عَامِلِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ» ([176]).

كل هذه الروايات ليس فيها رواية يمكن أن نطمئن إليها، ولذلك يمكن القول إن معركة الحرة قد حدثت، وأسبابها أن هؤلاء النفر الشباب لم تعجبهم طريقة تولية يزيد، ولا طريقته في الحكم، فرأوا أن يعيدوا الأمر شورى، ولذلك ثاروا على يزيد.

وعندها بدأ عدد من الصحابة، والباقون من أبنائهم يعتزلون هذه الفتنة في المدينة، فـ«اعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «زَيْنُ الْعَابِدِينَ»، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِأَهْلِهِ: «لَا يَخْلَعَنَّ أحد منكم يزيد، فتكون الْفَيْصَلُ... وَيُرْوَى الصَّيْلَمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ لِابْنِ مُطِيعٍ، وَابْنِ حَنْظَلَةَ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»([177]).

ويقول ابن كثير في مكان آخر: «وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ».

وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «لَمَّا كَانَ زَمَنُ الحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى المَوْتِ، فَقَالَ: لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([178]).

 كَمَا روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بسند صحيح: «عَنْ نَافِعٍ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّه وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»([179])، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه تَعَالَى، أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونَ صَيْلَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»([180]).

وإن الذين بدؤوا يجيشون الناس ضد يزيد، بدؤوا بالدعايات التي تؤدي إلى حفز الناس على القتال، وذكروا له فسقاً، وشرباً للخمر، وتركاً للصلاة.

وذكر ابن سعد في طبقاته عن الصحابي أسير: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُسَيْرٍ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتُخْلِفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّ يَزِيدَ لَيْسَ بِخَيْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلَا أَفْقَهِهَا فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمِهَا فِيهَا شَرَفًا، وَأَنَا أَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ، لَأَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَفَرَّقَ، أَرَأَيْتَكُمْ بَابًا لَوْ دَخَلَ فِيهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسِعَهُمْ، أَكَانَ يَعْجِزُ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَوْ دَخَلَ فِيهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا قَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَا أُهْرِيقُ دَمَ أَخِي، وَلَا آخُذُ مَالَهُ، أَكَانَ هَذَا يَسَعُهُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَذَلِكَ مَا أَقُولُ لَكُمْ»([181]).

 وقد اعترض عليهم ابن عمر، وكذّب دعاويهم، يقول ابن كثير: «ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد، مشى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ، قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ، فَقَالَ: وَمَا الَّذِي خَافَ مِنِّي، أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ؟ أَفَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ، فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا.

قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يكن رأيناه.

فقال لهم: أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: ﴿إِلَّا من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 86]، وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ.

قَالُوا: فَلَعَلَّكَ تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أَمْرَنَا.

قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا.

قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ، قَالَ: جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.

فَقَالُوا: فمر ابنيك أبا القاسم وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا.

قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ.

قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ.

قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ إِذَا مَا نَصَحْتُ للَّه فِي عِبَادِهِ.

قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ.

قال: إذاً آمر الناس بتقوى اللَّه، ولا يرضون الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ.

وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ»([182]).

وهذا يقوي ما قاله ابن كثير: «وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ سئل محمد بن الحنفية في ذلك، فامتنع عن ذلك أشد الامتناع، وَنَاظَرَهُمْ، وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اتهموا يزيد به من شرب الْخَمْرَ، وَتَرْكِهِ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا»([183]).

فالحال هنا أصله في إعادة الأمر شورى، واستطاع كُتّاب التاريخ المغرضون أن يزيدوا في الروايات، ويجعلوا لها امتداداً من المخالفات والمعاصي التي تغطي سيرة الأمويين، فقد بدأت منذ كان معاوية، وامتدت إلى نهاية العصر الأموي، وحتى ما كان يفعل علي ومعاوية أثناء حياتهما أن كل واحد منهما عندما يقوم بأي خطبة يبرر ما قام به من حرب لإعادة الحق إلى نصابه، وبدؤوا يصورون للناس في كتبهم أن هذا شتم، ولما استشهد علي في البداية، وجاء بعده الحسين قليلاً من الزمان، فانتهت رواية الهاشميين في الأمر مبكرة، بينما بقي الأمويون يحتاجون إلى تبرير الخلاف مع علي إلى نهاية أمرهم، فسمى المؤرخون، وخاصة أن أكثرهم من الروافض، أو ممن تأثر بهم، سموا هذا شتماً لعلي على المنابر، واخترعوا ألفاظاً من الشتائم والقاذورات، واتهموا بها بني أمية، وقد أوردها الطبري عن رجلين من أسوأ إسناد في التاريخ، وهما أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي، وهشام بن محمد الكلبي الكذاب، وتناقلها المؤرخون وزادوا وأنقصوا فيها، وبرؤوا منها عمر بن عبد العزيز الذي رأى أن الأمر انتهى إلى عمر بن عبد العزيز فأبطله.

وإن الروايات تعددت، وتكاثرت حول وقعة الحرة، وما حصل فيها، وما تلاها، وهذا ما دعا ابن كثير أن يرفض كثيراً من الروايات، فقال عن بعض الذين رفضوا بيعة الثائرين في المدينة، وما حصل فيها فقال: «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ:

مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعُوا لَهُ وِسَادَةً.

فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ مُفَارِقَ الجماعة، فإنه يموت موتة جَاهِلِيَّةً» ([184]).

وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ.

وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ.

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أكرمه وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.

وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ، ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بن قيس الفهري فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فما الَّذِي يُجْبِرُهُمْ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ، فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ.

وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شمت بهم، واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً، وأثراً شِعْرَ ابْنِ الزِّبَعْرَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ»([185]).

إذن لم يفرح يزيد بما حدث، كما يدّعي الروافض، واعتبره مصيبة له، فصرخ: «واقوماه»، وأرسل إليهم ما يجبر خواطرهم، ويخفف عنهم.

وعندما حاصر الثائرون بني أمية في المدينة، وأرادوا مقاتلتهم، فراسلوه: «وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِهَانَةِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَإِلَّا اسْتُؤْصِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَبَعَثُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَرِيد»([186]).

وهنا استشاط يزيد غضباً، فزعماء الثائرين هم من كانوا عنده، وأخذوا عطاياه، ولما رجعوا إلى المدينة ثاروا عليه، وهذا ما يشير إليه قول ابن الجوزي: «ثمَّ إِن يزِيد عزل عَن الْمَدِينَة عَمْرو بن سعيد، وولاها الْوَلِيد بن عتبَة، ثمَّ عَزله، وَولى عُثْمَان بن مُحَمَّد، فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة فأخرجوه، فَوجه يزِيد مُسلم بن عقبَة، وَأمره أَن يتَّخذ الْمَدِينَة طَرِيقًا، فَإِن هم تَرَكُوهُ مضى إِلَى ابْن الزبير فقاتله، فَإِن منعُوهُ دُخُولهَا ناجزهم الْقِتَال، فمنعوه فَكَانَت الْحرَّة»([187]).

ويروي ابن كثير طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، فينقل عن المدائني «قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ حِمْصَ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْأُرْدُنِّ حُبَيْشَ بْنَ دُلْجَةَ الْقَيْنِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ وَشَرِيكَ الْكِنَانِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ قِنَّسْرِينَ طَرِيفَ بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنَّما يسميه السَّلف مسرف بن عقبة.

فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ - وَكَانَ النُّعْمَانُ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ لِأُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ - فَقَالَ يَزِيدُ: لَا! لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا هَذَا الغشمة، واللَّه لأقتلنهم بَعْدَ إِحْسَانِي إِلَيْهِمْ، وَعَفْوِي عَنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مرة.

فقال النعمان: يا أمير المؤمنين، أنشدك اللَّه فِي عَشِيرَتِكَ، وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r.

وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا ظهرت عليهم، فأبح المدينة ثلاثاً، ثم اكفف عن الناس، وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([188]).

وبعد ذلك أرسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة المري، يقول ابن كثير ؒ: «وَسَارَ مُسْلِمٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا اجْتَهَدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِصَارِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، أو تعطونا مَوْثِقًا أَنْ لَا تَدُلُّوا عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّامِيِّينَ، وَلَا تُمَالِئُوهُمْ عَلَيْنَا، فَأَعْطَوْهُمُ الْعُهُودَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ تَلَقَّاهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، فَجَعَلَ مُسْلِمٌ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُخْبِرُهُ أَحَدٌ، فَانْحَصَرَ لِذَلِكَ، وَجَاءَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ النَّصْرَ، فَانْزِلْ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، فَإِذَا خَرَجُوا إِلَيْكَ كَانَتِ الشَّمْسُ فِي أَقْفِيَتِكُمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِذْ خالفوا الإمام، وخرجوا عن الطَّاعَةِ.

فَشَكَرَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ إِلَّا الْمُحَارَبَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثلاثة قَالَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا، فَقَدْ مَضَتْ، فماذا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟ فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.

فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ، يَعْنِي ابْنَ الزبير، فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟ ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ»([189]).

فنرى كيف أن جيش يزيد يحاول قدر استطاعته الابتعاد عن القتال، والثائرون مصرون على هذا القتال، ويؤكدون فساد يزيد، ووجوب حربه، والخروج من طاعته.

ويتحدث أبو العباس القرطبي [صاحب شرح صحيح مسلم، وليس القرطبي المفسّر]: «وعبد اللَّه بن مطيع كان أميرًا على المدينة عند قيام ابن الزبير على يزيد بن معاوية في جماعة من أبناء المهاجرين والأنصار، وبقية من مشيختهم، وجمع من الصحابة، وعلى يديه كانت وقعة الحرَّة في الجيش الذي وَجَّه به يزيد بن معاوية لحربهم، فهزموا أهل المدينة، وقتلوهم، واستباحوها ثلاثة أيام، وقُتِل فيها عدة من بقية الصَّحابة من أبناء المهاجرين والأنصار، وعطلت الصلاة، والأذان في مسجد النبي r تلك الأيام، قاله القاضي عياض، وقال غيره من أهل التاريخ: إن الذي وجهه يزيد بن معاوية إلى المدينة، وكانت على يديه وقعة الحرَّة هو مسلم بن عقبة المرّي، واللَّه أعلم»([190])، فنلاحظ أن رواية القرطبي فيها كثير من الأغاليط، حيث ذكر ثورة ابن الزبير رضي الله عنه، وثورة أهل المدينة، وجعل في الثورتين عدداً من الصحابة في كل واحدة، وعدداَ كبيراً من أولاد الصحابة، ورأينا كيف أن الصحابة وأكثر أولادهم اعتزلوا هذه الفتنة، وخصوصاً أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن التحليلات التي تقارب الحقيقة – على ما أرى – ما ذكره الإمام ابن حجر: «وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ «أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ لِيَزِيدَ: قَدْ وَطَّأْتُ لَكَ الْبِلَادَ، وَمَهَّدْتُ لَكَ النَّاسَ، وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ، فَوَجِّهْ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُهُ، وَعَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ، قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ دَعَاهُ، فَوَجَّهَهُ فَأَبَاحَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُمْ أَعْبُدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ أَظْهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخِلَافَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَّهَ يَزِيدُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فِي جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثمَّ يسير إِلَى ابن الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، وَبِهَا بَقَايَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخه بِسَنَد صَحِيح عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً/ ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها﴾»، يَعْنِي إِدْخَالَ بَنِي حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ، قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَوْلُهُ: «حَشَمَهُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَة، قَالَ ابن التِّينِ: الْحَشَمَةُ الْعَصَبَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا خَدَمُهُ، وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يزِيد بن مُعَاوِيَة، جمع ابن عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، قَوْلُهُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ «بِقَدْرِ غدرته»، وَزَاد فِي رِوَايَة صَخْر يُقَال: «هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»، أَيْ: عَلَامَةُ غَدْرَتِهِ، وَالْمُرَادُ بذلك شهرته، وأن يفتضح بذلك على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ، أَوِ الْمَأْمُورِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي بَابِ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قُبَيْلَ بَدْءِ الْخَلْقِ، قَوْلُهُ: «عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، أَيْ: عَلَى شَرْطِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ أَمِيرًا، فَقَدْ أَعْطَاهُ الطَّاعَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعَطِيَّةَ، فَكَانَ شَبِيهَ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً، وَأَخَذَ ثَمَنَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا تَبَايَعَتْ تَصَافَقَتْ بِالْأَكُفِّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا تَحَالَفُوا، فَسَمَّوْا مُعَاهَدَةَ الْوُلَاةِ وَالْتَّمَاسُكَ فِيهِ بِالْأَيْدِي بَيْعَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ وَصَخْرٍ: «عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ»، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رَفَعَهُ: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا غَدْرَ أَعْظَمُ» فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ الْمَذْكُورِ: «وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ، ثُمَّ يَنْكُثُ بَيْعَتَهُ»، قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «نَصَبَ لَهُ يُقَاتِلُهُ»، قَوْلُهُ: «خَلَعَهُ»، فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «خَلَعَ يَزِيدَ»، وَزَادَ: «أَوْ خَفَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ: «فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يَسْعَى فِي هَذَا الْأَمْرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، قَوْلُهُ: «إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، أَيِ: الْقَاطِعَةُ، وَهِيَ فَيْعَلٌ مِنْ فَصَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «فَيَكُونُ الْفَيْصَلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ فَيَكُونُ: «صَيْلَمًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَالصَّيْلَمُ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ: الْقَطِيعَةُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ طَاعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وان طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الْآيَة، إن ابن عمر قَالَ: «ما وجدت فِي نَفْسِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ»، زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ حَمْزَةُ: فَقُلْنَا لَهُ: وَمن ترى الفئة الباغية؟ قَالَ: «ابن الزُّبَيْرِ بَغَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ» يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ، «فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَكَثَ عَهْدَهُمْ»([191]).

وذكر النووي قصة الحرة باختصار شديد عجيب، فقال: «حَرَّةَ الْمَدِينَةِ كَانَ قِتَالٌ وَنَهْبٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هُنَاكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ»([192]).

وقال محمد بن أحمد التميمي: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ نَافِع قَالَ: حَدثنَا الخزامي قَالَ: سَعِيدٌ، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْملك، عَن أَبِيه، عَن الخزامي، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَمْ بَلَغَ الْقَتْلُ يَوْمَ الْحَرَّةِ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَالأَنْصَارِ، وَمُهَاجِرَةِ الْعَرَب، ووجوه النَّاس: فسبعمائة، وَسَائِرُ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلافٍ، وَأُصِيبَ بِهَا نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ بِالْقَتْلِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ قُدُومُ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِّتِينَ، فَانْتَهَبُوا الْمَدِينَةَ ثَلاثًا، حَتَّى رَأَوْا هِلالَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ أَمْسَكُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يُبْقُوا أَحَدًا بِهِ طَوْقٌ.

وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الطَّلْحِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ الْحرَّة ثَمَانُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بَدْرِيٌّ.

وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ عَنْ وَهْبِ بْنِ نَافِعٍ عَنِ الْحِزَامِيِّ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ وَقَفَ فَاسْتَرْجَعَ، فَقَالُوا: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْحَرَّةِ خِيَارُ أُمَّتِي بَعْدَ أَصْحَابِي».

قَالَ الْوَاقِدِيّ عَن خَالِد بن إلْيَاس: عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ يَهُودَ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ، وَلَمْ يُغَيَّرْ، أَنَّهَا تَكُونُ هَهُنَا مَقْتَلَةُ قَوْمٍ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، حَتَّى يَأْتُوا الرَّحْمَنَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيقفون بَين يَدَيْهِ، وَيَقُولُونَ قتلنَا فِيك»([193]).

ذكرت هذه الروايات لا لأثبتها، فهي تحمل في طياتها نقضها، وفسادها، ولكن ليعلم القارئ الكريم، أني اطلعت عليها ولم أهملها، وقد رجعت إلى تاريخ الطبري، فوجدت أن هذه الروايات مبنية على لوط بن يحيى عنده، وعلى الواقدي في هذه الكتب، وهما أقدم من ذكر هذه الروايات، ولذلك نقف أمام هذه الروايات بالشك والريب، فلا يمكن لنا أن ننكر مأساة الحرة، ومأساة نتائجها، ولكن التفاصيل الواردة، وتضخيم الأرقام هذا في النفس منه الشيء الكثير، وخصوصاً الحديث الوارد فيه يقول البيهقي: إنه مرسل، وكذلك نقل هذا ابن عساكر وابن كثير بعد إيراده، والدفاع عن إرسال الحديث، فلا يمكن الاعتماد على روايات مرسلة في إثبات حوادث تاريخية توغر القلوب، وتجرح الأفئدة، وبُنيت عليها عقائد فاسدة عند كثيرين، ولا تعتمد على مصدر موثوق، وما كتبه الإمام ابن حجر ؒ فيه الكثير من فهم جيد للتاريخ، ووقائعه، حتى أنه ذكر قول ابن عمر اعتباره ثورة ابن الزبير ثورة الفئة الباغية، وهذا يخالف كل ما أعرفه عن العلماء الذين يعتبرون ابن الزبير رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، والباقين بغاة، خلافاً لرأي الصحابي المعاصر عبد اللَّه بن عمر ب.

ومع كل ما في هذه الروايات من نقد، واختلال نجد أن من رووها أبقوا فيها شيئاً من الإنصاف، ففي اختيار ابن كثير للرواية التي ذكر فيها طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، يذكر أيضاً قَولَ النُّعْمَان بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ ...ثم نصيحته ليزيد: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله فِي عَشِيرَتِكَ وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، ... وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([194]).

ويذكر ابن كثير في روايته ما فعل مسرف [مسلم] بن عقبة في أهل المدينة، حيث وقف عليهم بعد مضي الثلاثة أيام، فقال: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ: مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا فَقَدْ مضت، فماذا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟

فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.

فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ- يَعْنِي ابْنَ الزبير- .

فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟

ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ، وَقَدْ كَانُوا اتَّخِذُوا خَنْدَقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ابن عُقْبَةَ، وَجَعَلُوا جَيْشَهُمْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ عَلَى كُلِّ ربع أمير، وجعلوا أجمل الْأَرْبَاعِ الرُّبُعَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَبَنُونَ لَهُ سَبْعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ مروان وهو مجندل فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ فَكَمْ مِنْ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكَ تُطِيلُ عِنْدَهَا الْقِيَامَ وَالسُّجُودَ»([195]).

ومن عجائب هذه الرواية مع ما فيها من ثغرات، حيث تتابع أن مسلم بن عقبة هذا نقل معه ثلجاً من دمشق؟! ليشوب به الخمرة التي يشربها في المدينة، وما أدري في أي إناء، أو ثلاجة وضعها فيها لتبقى معه أياماً طويلة، ولا يذوب ثلجها، لأنه شرب خمراً بعد انتهاء المعركة، وقد أخذ الطريق معه إلى المدينة أياماً عدة، والمعركة لم تبدأ يوم وصل المدينة، بل أمهلهم ثلاثة أيام، ثم حدثت المعركة، ثم شاب خمره بهذا الثلج الذي حمله معه من دمشق، وثغرة أخرى غريبة أن علياً زين العابدين كان مع مروان بن الحكم الذي يودّه ويحبه([196])، وهذه المعركة بينها وبين معركة كربلاء سنتان، والروايات التي اعتمدها عدد من المحدثين أن عمر علي بن الحسين في كربلاء كان ثلاثاً وعشرين سنة، ورجح هذا ابن كثير وغيره، ثم يقولون إنه لم يقتل في كربلاء لأنه كان صغيراً، وما أدري ماذا يقصدون بأنه كان صغيراً، مع أنهم يقولون إن أكثر جنودها من أبناء الصحابة، وعلي هذا ابن الحسين بن علي، والحسين ليس من الصحابة الكبار، بل من صغارهم، ومثله في السن عبد الله بن حنظلة، والنعمان بن بشير، فقد كان عمره وعمر الحسين وابن حنظلة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقل من ثماني سنوات، وأكبرهم عبد اللَّه بن الزبير الذي هو أول مولود للمهاجرين في المدينة، فأين الصحابة الكثيرون الذين قتلوا في هذه الوقعة، وقد كان أكثر المحاربين في تلك الأيام صغار السن، خصوصاً إذا تذكرنا إرجاف المنافقين بإمارة أسامة بن زيد الذي كان قريباً من الثامنة عشرة في غزو الروم، وفي الصحابيين الصغيرين رافع بن خديج، وسمرة بن جندب، يقول ابن كثير: «وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ [غزوة أحد] سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَافِعًا رَامٍ؟

فَأَجَازَهُ.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا!

فَأَجَازَهُ»([197]).

ثم يقولون تُرك زين العابدين لصغره، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهذه من عجائب الروايات التي قد تكون سبباً في غياب حقائق تاريخية، وظهور مغالاة مقابلها.

وأختم النقول بقول التميمي ؒ: «فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا آخَرَ يَقُولُ فِيهِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قُدْوَةٌ لأَنَّهُ خَتَنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَاتِبُهُ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ بَايَعَ لابْنِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ سَعِيدٌ الْكِتَابَ قَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ، مَا مُعَاوِيَةُ بِقُدْوَةٍ فِي هَذَا، وَكفى بِمُعَاوِيَة ابْنه وَمَا أَحْدَثَ فِي الإِسْلامِ ،قَتَلَةُ أَهْلِ الْحَرَّةِ، وأباح الْمَدِينَةَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَا أُبَايِعُهُ وَاللَّهِ» ([198])، وهذه الرواية فيها آفات منها أن أحد رواتها داود بن يحيى، وهو صاحب أحاديث موضوعة، فهو وضاع غير ثقة، مع أنه يرويها عن رجل لم يسمّه، وإنما قال: «عن أبي محمد شيخ من أهل المدينة» أي هو مجهول، فمثل هذا الإسناد لا تقوم به رواية.

قال الحافظ ابن حجر ؒ: «وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر، دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا، فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة، فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد، وعابه، ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه، فبلغ يزيد، فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال، ودخلوا المدينة خوفاً على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء»([199]).

نتائج المأساة:

وعلى كل حال نقول:

1- إن مأساة الحرة كانت كبيرة، وأكبر منها مأساة قتل الحسين رضي الله عنه، وأكبر منها مأساة قتل علي رضي الله عنه، وأكبر من ذلك كله مأساة قتل عثمان رضي الله عنه، ولذلك كان رأي ابن عمر رضي الله عنه إن صحت الرواية – أن وقعة الحرة كانت انتقاماً للتقاعس عن نصرة عثمان رضي الله عنه، بعدم الدفاع عنه، وبعدم أخذ الثأر له، «قال المدائني عن عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ التَّمِيمِيِّ قَالَا: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ صَاحَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِعُثْمَانَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»([200]).

2- وكان لوقعة الحرة نتائج سيئة على أهل المدينة، ونكتة سوداء في تاريخ يزيد بن معاوية، وتاريخ الذين أثاروه، وثاروا عليه، وتاريخ الذين ما زالوا يحملون في قلوبهم كثيراً من النظرات السوداء نحو التاريخ الإسلامي، وقد زرع هذه النظرات كثير من المؤرخين القدامى، الذين كانوا إما من الروافض، أو من أعداء الإسلام الذين بدؤوا بتنفيذ مآربهم منذ اغتيال الصحابي العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أتبعوه بالتضحية بالصحابي العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن بعد ذلك انتقلوا من فكرة قتل ولي أمر المسلمين إلى اغتيال الخط الإسلامي، والفكر الإسلامي، والعقيدة الإسلامية، فظهرت بأسلوب أفكار، وتنظيمات، وإعداد لإضلال الأمة، متبعين كل طريق ناعم، وخفيف، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

ولذلك نجد بيننا كثيرين ممن يدعون أنهم مثقفون، أو علماء يتنقّصون الصحابة، أو بعضهم، ويعتبرون التاريخ الإسلامي تاريخ طغيان، وظلم، واستبداد.

3- ولما انتهت المعركة، وذهب الخبر [البشارة كما يدّعون] إلى يزيد بانتهائها: «لَمْ يخرج أحد مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ... وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زنباع إلى يزيد بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ:

«وا قوماه».

 ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ:

تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَمَا الَّذِي يَجْبرُهُمْ؟

قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَة.

فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ»([201]).

والجملة الأخيرة في هذه الرواية من الإمام ابن كثير :، فهو الذي نقل الخبر، وعلّق عليه.

4- وإن الخروج بالسيف على سلطان – عادلاً، أو جائراً، أو فاسقاً، ولا أقول كافراً، أو ملحداً، أو محارباً للإسلام والمسلمين، فذاك له حكم آخر- لا يأتي بخير، مع التنبه إلى أننا نتكلم عن السلطان المسلم، لا عن سلطان ملحد، يأمر بالكفر، ويمنع الإسلام، أو سلطان لا يقيم للإسلام وزناً، ولا يقبل فيه حكماً: لا قولاً ولا عملاً، وإنما همه الحرب على الإسلام، ولكنه الإحن التي تدخل في القلوب تجعل من الحاكم المسلم كافراً مشركاً، أو فاسقاً فاجراً لتؤلب عليه الناس، لتضيع الأمة باسم حرب الظلم.

5- إذا غضب سلطان – كائناً من كان، مسلماً أو غير مسلم – انتقم انتقاماً قد لا يكون فيه رحمة أو شفقة، لأنه يريد تثبيت أركان الدولة (حكمه)، وكل الحكام في التاريخ يعاملون بهذه الطريقة أنهم استطاعوا قمع الخارجين، وأصحاب الفتنة، إلا في تاريخ المسلمين، يعبرون الأمر أمر طغيان واستبداد، لا أمر إدارة للدولة، وقوة بأسٍ لسلطانها، وينسبون هذا الظلم والبطش بسبب اعتماد هؤلاء الحكام على الإسلام، وأما غيرهم من الحكام، فهذا يدل على صلاح الحاكم، وقوة سلطته، وإحكام إدارته، وعظمة شخصيته التي حافظت على قوة السلطة، وأمن البلاد.

6- الذين خرجوا على السلطان في هذه الفترة ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة ضيقة، وإن كان ظاهرها كبيراً واسعاً، وهي إقامة حكم اللَّه، وإنفاذ أحكامه، ونحن نقول هي زاوية ضيقة؛ لأنهم لا يحسبون لأرواح العامة، وأموالهم، وأعراضهم أي حساب، ويتعلقون بنصوص وردت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤولونها إلى محاربة السلطان، واستبدال الحاكم بغض النظر عن دينه، وشدته في الحفاظ على بيضة الدين، وينطلقون بالتشنيع، والتفظيع، وإثارة العامة، كما رأينا قبل وقعة الحرة، كيف أنهم وصفوا يزيد بشرب الخمر، واللهو، والسماع، وإهمال هذا الدين، وأن هؤلاء الذين تأسست أوائلهم في عهد عمر رضي الله عنه فقتلوه، وزادت قوتهم، واستفحل شرهم، وانتظم أمرهم، فاستطاعوا تفكيك المجتمع ضد عثمان، فقتلوه رضي الله عنه، ثم في عهد عليّ كيف نخروا في جيشه، وكيف استطاعوا أن يوقعوا بينه وبين عدد من الصحابة، وفي عهد معاوية رضخوا قليلاً، وتظاهروا بالزوال، وبقوا ينخرون في جسد الدولة سراً بنشر الأكاذيب والخرافات حول الإمام، ومواصفات الإمام، وفي عهد يزيد انقلبوا أسوداً، واستطاعوا تجييش الأمة في مناطقها المتعددة باسم إعادة الشورى، وإزالة الكسروية والهرقلية، ونحن هنا لسنا في معرض الدفاع عن يزيد، أو اتهامه، فقد ذهب إلى ربه، وسينال جزاء أعماله، إلا أننا لاحظنا من خلال مناقشة محمد بن الحنفية ؒ للثائرين كيف كان ينكر عليهم هذه المحاولات، حتى عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لما سمع ببيعة يزيد: «إن كان خيراً رضينا، وإن كان بلاء صبرنا»([202]).

ولو أن هؤلاء الثائرين رحمهم اللَّه، توجهوا إلى الدعوة إلى الخير، وإلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكان أولى لهم، ولكن ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولاً.

7- عندما يغضب السلطان، لا يعرف إلا تثبيت حكمه (كرسيه)، ولذلك لا يأبه لقرابة، أو صحبة، أو رحم، بل ينطلق في بطشه حتى النهاية، قال المدائني: «وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من النَّاسَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ، فَأَرْسَلَتْ سُعْدَى بِنْتُ عَوْفٍ المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له:

أَنَا بِنْتُ عَمِّكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ لَا يتعرضوا لإبلنا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْدَؤُوا إلا بأخذ إبلها أولاً.

وجاءته امرأة فقالت: أَنَا مَوْلَاتُكَ، وَابْنِي فِي الْأُسَارَى.

فَقَالَ: عَجِّلُوهُ لها.

فضربت عنقه.

وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألا يقتل حَتَّى تَتَكَلَّمِي فِي ابْنِكِ؟»([203]).

وهذه رواية المدائني بلا إسناد، وهو معروف أنه كان يرسل كلامه غير مسند، وضعفه المحدثون، ولكن يرون أنه في التاريخ صدوق، وأظن أن مثل هذه الرواية تحتاج إلى من يساعد المدائني فيها حتى تقف على قدميها، ونعتبرها مقبولة صحيحة.

8- قدّر مؤرخون عدد القتلى في مأساة الحرة سبعمائة من وجوه الناس، من أولاد المهاجرين والأنصار، ومن غير المعروفين أحراراً وعبيداً، وإن وردت بعض الروايات التي تذكر آلاف القتلى، ومئات الشهداء من الصحابة والتابعين، وقام المؤرخ العظيم خليفة بن خياط بذكر من استشهد في الحرة، فعدد قتلى كل عشيرة من العشائر في المدينة، ومن جيش يزيد، وبعد أن ذكر أعدادهم واحداً واحداً، ختم الأسماء بنتيجة التعداد فقال: «فَجَمِيع من أُصِيب من الْأَنْصَار مائَة رجل وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا، وَجَمِيع من أُصِيب من قُرَيْش وَالْأَنْصَار ثَلَاث مائَة رجل وَسِتَّة رجال، قَالَ أَبُو الْحسن كانت وقْعَة الْحرَّة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ([204]).

9- مأساة الحرة هذه وقعت في أواخر عهد الصحابة، والأمراء والقواد الذين قادوها مع كل ما يظهر من بعضهم صلف وشناعة، فقد كان عندهم شيء من الدين الذي يضبط، ويقيّد بعض تصرفاتهم، حتى في أحلك ساعات المأساة، فلما جيء بعلي بن الحسين (زين العابدين) إلى مسلم بن عقبة:

قَالَ لَهُ مسلم بن عقبة: قم إلى هاهنا فاجلس، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ.

وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُونِي عنك.

ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا؟

فقال: إِي وَاللَّهِ.

فَأَمَرَ بِدَابَّتِهِ فَأُسْرِجَتْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيْهَا حَتَّى رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّمًا»([205]).

هذه بعض صفات من قاموا بمأساة الحرة، فكيف بالحكام من بعدهم، أو في عصرنا، مع ضعف الوازع الديني، أو فقده عند كثير منهم، أو فقد الدين نفسه، فليتق اللَّه من يريد إقامة حكم اللَّه، وليتق اللَّه من يريد إظهار المعروف، وإماتة المنكر، فمن كان آمراً بالمعروف، فليكن أمره بمعروف، ومن كان ناهياً عن منكر، فليكن نهيه بغير منكر.

د-حركة التوابين:

كان سليمان بن صرد رضي الله عنه «ممّن كاتب الحسين، ثم تخلّف عنه، ثم قدم هو والمسيب بن نجبة في آخرين، فخرجوا في الطلب بدمه وهم أربعة آلاف، فالتقاهم عبيد اللَّه بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان، فقتل سليمان ومن معه»([206]).

وهذا العدد الذي ذكره الحافظ، وهو أربعة آلاف، هو ما تبقى من الجنود الذين تجمعوا لأخذ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنه، فقد ذكر الواقدي «لما خرج الناس إلى النخيلة، كانوا قليلاً، فلم تعجب سليمان قلتُّهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادى حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة، فكانوا قريباً من عشرين ألفاً، أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد، فلما عزم على المسير بهم، لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف»([207]).

وهي مع ذلك من رواية الواقدي، وهو متهم، وقد كان خروج هؤلاء ثأراً للحسين بن علي، كما زعموا، وليس طمعاً في إزالة الدولة أو الحكم، وإن كان هذا الأمر في معايير عصرنا يعتبره الكثيرون ثورة على الدولة، لأنهم كانوا يفكرون بالانتقام من قتلة الحسين فقط، ولذلك قال رجل منهم هو عبد اللَّه بن سعد: «إِنَّمَا خَرَجْنَا نَطْلُبُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، وَقَتَلَتِهِ كُلِّهِمْ بِالْكُوفَةِ؛ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَشْرَافُ الْقَبَائِلِ، فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَ بِرَأْيٍ، وَمَا نَلْقَى إِنْ سِرْنَا إِلَى الشَّامِ إِلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَنَا أَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَعَبَّأَ الْجُنُودَ وَقَالَ: لَا أَمَانَ لَهُ عِنْدِي دُونَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ فَأَمْضِي فِيهِ حُكْمِي، فَسِيرُوا إِلَيْهِ»([208]).

وهذه الرواية التي اختارها الإمام الذهبي، بينما أورد الطبري رواية الرافضي أبي مخنف لوط بن يحيى، وفيها: «فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، وعنده رؤوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأياً، إن يكن صواباً فاللَّه وفّق، وإن يكن ليس بصواب، فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحاً، خطأ كَانَ أم صواباً، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأنى نذهب هاهنا، وندع الأقتال، والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وإن ما ذكر لكما ذكر، واللَّه مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا هاهنا بالمصر»([209]).

وعلى هذا تكون حركة التوابين حركة اجتهادية للانتقام من قتلة الحسين، فهي جريمة كبرى، لا يحتملها الناس، ومع أنها ليست خروجاً على الحاكم، أو طلباً لتغيير الخليفة، فأهله لم ينادوا بهذا، ولم يحملوا شعاراً سياسياً لتغيير الحاكم، أو الخروج عليه، بل هي سقوط في فتنة الإصلاح، وإعادة الحق، والانتقام من القاتل الظالم، فقبع هؤلاء في مناطق العراق، المناطق التي فيها قتلة الحسين، ومخذّلوه، فهؤلاء التوابون حاولوا الأخذ بثأره من قاتليه، وماتوا رحمهم اللَّه دون هذا الأمر.

ويلاحظ أنهم لم يحققوا طلبتهم، لأن الأمير الذي يطلبون هو الذي قتلهم، والخليفة الذي نصب هذا الأمير، هو الخليفة الذي أمرهم بقتالهم، وبالتالي مات خلق كثير من جراء هذه الفتنة، ولم يحقق أصحابها أهدافهم، وأرى أن السبب في هذه الفتن أن الإنسان عندما يجتهد دون النظر في السياسة العامة للأمة، ومصلحة الدولة، وهو يعلم أن هذا النظام القائم هو الذي حافظ على إقامة الدين، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، عندما يكون الإنسان في هذه النظرة المحدودة، يجعل الثأر لإنسان واحد، أهم من دولة تقوم بأمر الدين، وبذلك يكون وقع في براثن من أقاموا هذه الدعوات والدعايات للنيل من قوة الإسلام، وقوة دولته، ولم تكن هذه الدولة إلا التي تقوم بأمر الإسلام الذي يدعي هذا المجتهد في الثأر لدم إنسان مهما علا أمره، ولا يهمه أمر هذه الأمة، ولا أمر مستقبلها، والأولى كان اللجوء إلى طريقة لإقامة الحق غير هذه الطريقة التي قد تُلحِق بالذي يثأر له أنفساً كثيرة.

والاجتهاد في مثل هذه الأمور خطير جداً، خصوصاً إذا صدر عن أمر بعيد عن الفقه والسياسة الشرعية، واعتماده على بعض الشعارات التي يرددها أعداء هذه الأمة لينالوا منها، فتكون نتائجه سلبية قد تودي بالأمة، أو بفريق كبير منها إلى مآس، ومواجع لا حدّ لها.

هـ- فتنة المختار بن عبيد الثقفي:

على رأي ما ورد في الآثار عن أسماء بنت أبي بكر ل أن المختار هو المقصود بالحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر تخاطب به الحجاج بن يوسف: «أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([210]).

قال الإمام ابن عبد البر: «ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة، ولا رواية، وأخباره أخبار غير مرضية، حكاها عنه ثقات مثل: سويد بْن غفلة، والشعبي، وغيرهما، وذلك مذ طلب الإمارة إِلَى أن قتله مصعب بْن الزُّبَيْر بالكوفة سنة سبع وسبعين، وَكَانَ قبل ذلك معدوداً فِي أهل الفضل والخير، يرائي بذلك كله، ويكتم الفسق، فظهر منه مَا كَانَ يضمر، والله أعلم، إلى أن فاق ابْن الزُّبَيْر وطلب الإمارة، وَكَانَ المختار يتزين بطلب دم الحسين رضوان اللَّه عَلَيْهِ، إلا أنه كَانَ بينه وبين الشعبي مَا يوجب ألا يقبل قول بعضهم فِي بعض.

والمختار معدود في أهل الفضل والدين إلى أن طلب الإمارة، وادعى أنه رَسُول مُحَمَّد ابْن الحنفية في طلب دم الحسين» ([211]).

وقال الصلاح الصفدي: «ويقال: كان أول أمره خارجيًّا، ثم صار زيديًّا، ثم صار رافضيًّا»([212])، وقال الحافظ ابن حجر: «وقتل المختارُ محمدَ بنَ عمار بن ياسر ظلماً، لأنه سأله أن يحدّث عن أبيه بحديث كذب، فلم يفعل فقتله... قد شهد عليه بدعوى النبوة، والكذب الصّريح جماعة من أهل البيت... وكان المختار قد خرج يطلب بثأر الحسين، فاجتمع عليه بشر كثير من الشيعة بالكوفة، فغلب عليها، وتطلّب قتلة الحسين فقتلهم ... فلذلك أحبّ المختارَ كثيرٌ من المسلمين، فإنه أبلى في ذلك بلاء حسناً، قال: وكان يرسل المال إلى ابن عمر... وكان أول أمر المختار أن ابن الزبير أرسله إلى الكوفة ليؤكد له أمر بيعته، وولى عبد اللَّه بن مطيع إمرة الكوفة، فأظهر المختار أنّ ابن الزبير دعا في السرّ للطّلب بدم الحسين، ثم أراد تأكيد أمره، فادّعى أنّ محمّد بن الحنفية هو المهديّ الّذي سيخرج في آخر الزمان، وأنه أمره أن يدعو الناس إلى بيعته، وزوّر على لسانه كتاباً، فدخل في طاعته جمع جمّ، فتقوّى بهم، وتتبّع قتلة الحسين، فقتلهم، فقوي أمره بمن يحبّ أهل البيت... ثم قوى مصعب بن الزبير أمير البصرة عن أخيه عبد اللَّه بن الزّبير على المختار بكثير من أهل الكوفة، ممّن كان دخل في طاعة المختار، ورجع عنه لما تبيّن له من تخليطه وأكاذيبه... فلما التقى المختار ومصعب خذل المختار أولئك الذين كانوا معه، فحوصر المختار في القصر إلى أن قتل هو ومن معه»([213]).

وقد ذكر الذهبي عن الصحابي أبي الطفيل عامر بن واثلة أنه حمل راية المختار لما ظهر في العراق([214])، حيث كانت بدايته مقبولة في الثأر لدم الحسين.

وبعد انكشاف حقيقة المختار بدأت دولته بالزوال، وكأنها لم تكن قد ظهرت، «وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أنَّ الوحي يأتيه على يد جبريل.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القبابي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ، قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا على دمه فقتله، فأنا من القاتل بريء).

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عنقه، فذكرت حديثاً حدثناه عمرو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وجه»([215]).

وتقدم حَديث مسلم: «أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا» فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ»([216]).

قال الإمام ابن كثير: «وقد ذكر الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عبيد، وكان يظهر التشيع، ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، وكان ما أدري هل كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا؟ وَكَانَ قَدْ وُضع له كرسي يعظم، ويحف به الرجال، وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، ولا شك أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ منه، بعد ما انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بعضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129]» ([217]).

دروس من المأساة:

- إلباس الطامعين في الحكم بعض المظاهر الخادعة لعوام المسلمين، فينادون بشعارات تتناسب مع عواطف هؤلاء العوام، كدعوة الانتقام للحسين رضي الله عنه، أو الانتقام لآل البيت [وهذه الخرافة ما زالت إلى اليوم عالقة عند كثيرين، وهي أيضاً ما زالت حجة للسذّج من دارس التاريخ(كما يدّعون) والمثقفين العلماء!]، وحقيقة مطالبهم هي الحصول على الحكم، ولذلك نرى أن الصحابي الجليل أبا الطفيل رضي الله عنه لما اكتشف زيف دعوة المختار، تركها وانخذل عنها.

- إزهاق أرواح أفراد الأمة طمعاً بالحكم من قبل الطامعين والمغامرين.

- دعوات الثائرين تعتمد على مشاعر العوام، والغوغاء، لاستغلال اندفاعهم في القتال معهم.

- بطش الحكام بالمناوئين، والمخالفين مهما كان عددهم، أو نوعهم.

- دعوة المختار كانت ثورة على الثورة، فهي ثورة على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قبل أن تكون ثورة على بني أمية، إلا أنها اتكأت في خداعها للجماهير على الانتصار لآل البيت ضد الأمويين، ثم انقلبت على الزبيريين، وهذه الثورة أكبر دليل على مدى تغلغل الدعايات السبئية الرافضية بين أصحاب هذه الثورات.

و- عبد الله بن الزبير:

عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من صغار الصحابة، فهو أول مولود للمهاجرين في المدينة، «ولد عام الهجرة، وحفظ عن النبيّ رضي الله عنه وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث ...  وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم(؟!)... وبويع بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري عن ابن عباس أنه وصف ابن الزّبير فقال: عفيف الإسلام، قارئ القرآن، أبوه حواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمّه بنت الصديق، وجدّته صفية عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد.

... كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود... وشهد فتح إفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان... وشهد الدار، وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة... ثم اعتزل ابن الزبير حروب علي ومعاوية، ثم بايع لمعاوية»([218]).

وعندما طلب معاوية رضي الله عنه أن تؤخذ البيعة لابنه يزيد، أُخبر أن عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن الزبير، خرجوا من المدينة عائذين بالكعبة من بيعة يزيد بن معاوية، قال: فلما قدم معاوية مكة، تلقاه عبد اللَّه بن الزبير بالتنعيم، فضاحكه معاوية، وسأله عن الأموال، ولم يعرض بشيء من الأمر الذي بلغه، ثم لقي عبد اللَّه بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فتفاوضا معه في أمر يزيد، ثم دعا معاوية ابن الزبير.

فقال له: هذا صنيعك، أنت استزللت هذين الرجلين، وسننت هذا الأمر، وإنما أنت ثعلب رواغ، لا تخرج من جحر إلا دخلت في آخر.

فقال ابن الزبير:

ليس بي شقاق، ولكن أكره أن أبايع رجلين، أيكما أطيع بعد أن أعطيكما العهود والمواثيق؟ فإن كنت مللت الإمارة فبايع ليزيد، فنحن نبايعه معك...([219]).

وبعد وفاة معاوية رضي الله عنه، أخذت البيعة له في كل الأمصار: «لما أَبْطَأَ عبد اللَّه بن الزبير عَن بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وتخلف، وخشي مِنْهُم، لحق بمَكَّة؛ ليمتنع بِالْحرم، وَجمع موَالِيه، وَجعل يظْهر عيب يزِيد بن مُعَاوِيَة، ويشتمه، وَيذكر شربه الْخمر، وَغير ذَلِك، ويجتمع النَّاس إِلَيْهِ، فَيقوم فيهم بَين الْأَيَّام، فيذكر مساوئ بني أُميَّة، فيطنب فِي ذَلِك»([220]).

وهذا النص يرويه ابْن جريج قَالَ: سَمِعت غير وَاحِد مِمَّن حضر ابْن الزبير...، فليس فيها شهود عيان بأسمائهم، وإنما هي عن أشخاص مغمورين، مجهولين، من خلال واحد معروف، وابن جريج قال عنه ابن حبان: «من فقهاء أهل مكة، وقرائهم ممن جمع، وصنف، وحفظ، وذاكر، مات سنة خمسين ومائة، وكان يدلس»([221]).

فهو من المدلسين، ولو كان ثقة بذاته، إلا أن التدليس في مثل هذه الأخبار أمر مشبوه، فهو هنا أبهم من روى عنهم، مع أنه قال عنهم إنهم شهود حاضرون لما حدث، فلماذا أبهمهم، وهذا يشكك بالرواية، لأنه مشهور بالتدليس.

بينما رواية خليفة بن خياط ليس فيها هذا التدليس، يقول خليفة: «قَالَ ابْن جريج: قَالَ ابْن أَبِي مليكَة: فاعتزل ابْن الزبير فِي نَاحيَة دَار الندوة فِي تِلْكَ النَّاحِيَة، فَجعل يَقُول: يَا رب، يَا رب، لَو علمت أَن هَذَا كَائِن، يَا رب، يَا رب قد رقت حشْوَة الْكَعْبَة، وَضعف بناؤها، حَتَّى إِن الطير لتقع عَلَيْهَا، فتتناثر حجارتها»([222])، ويتابع خليفة برواية القصة التي رواها صاحب تاريخ مكة، ولكن ليس من رواية ابن جريج، وإنما من رواية المدائني، وفيها: «وَحَدَّثَنَا أَبُو الْحسن، عَن بَقِيَّة بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه قَالَ:

لما بلغ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة أَن أهل مَكَّة أَرَادوا ابْن الزبير عَلَى الْبيعَة، فَأبى، أرسل النُّعْمَان بْن بشير الْأنْصَارِيّ، وَهَمَّام بْن قبيصَة النميري إِلَى ابْن الزبير، يدعوانه إِلَى الْبيعَة ليزِيد، عَلَى أَن يَجْعَل لَهُ ولَايَة الْحجاز، وَمَا شَاءَ، وَمَا أحب لأهل بَيته من الْولَايَة.

فَقدما عَلَى ابْن الزبير، فعرضا عَلَيْهِ مَا أَمرهمَا بِهِ يَزِيد، فَقَالَ ابْن الزبير:

أتأمراني ببيعة رجل يشرب الْخمر، ويدع الصَّلَاة، وَيتبع الصَّيْد؟

فَقَالَ همام: أَنْت أولى بِمَا قلت مِنْهُ.

فلكمه رجل من قُرَيْش.

فَرَجَعَا إِلَى يَزِيد.

فَغَضب، فَحلف لَا يقبل بيعَته، إِلَّا وَفِي يَده جَامِعَة»([223]).

فهنا نجد أن بعض الصحابة الذين ذهبوا إلى ابن الزبير رضي الله عنه يطالبونه بالبيعة، ولم يقبلوا منه قوله في شرب يزيد الخمر، وغيرها.

ويرى ابن عمرو ب رأياً يخالف رأي ابن الزبير ب، يقول خليفة: «إِسْمَاعِيلُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: نَا حَمَّاد بْن سَلمَة، عَن يعلى بْن عَطاء عَن عَمه قَالَ كنت مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو حِين بَعثه يَزِيد بْن مُعَاوِيَة إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزبير قَالَ:

فَسمِعت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو يَقُول لِابْنِ الزبير:

تعلم أَنِّي وجدت فِي الْكتاب أَنَّك ستعَني، وتعَنى، وتدعى الْخَلِيفَة، وَلست بخليفة، وَإِنِّي أجد الْخَلِيفَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة»([224]).

وإن يزيد بن معاوية حاول - فيما يبدو – تكرار الرسل لابن الزبير ب كي يبايعه، ويجنّب الأمة من ويلات الحرب، فيروي خليفة بن خياط: «عَن عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان قَالَ:

بعث يَزِيد ابْن عضاه الْأَشْعَرِيّ إِلَى ابْن الزبير يَدعُوهُ لبيعته، وَمَعَهُ جَامِعَة [مجموعة] من فضَّة وبرنس خَز.

فَقدم عَلَى ابْن الزبير وَهُوَ جَالس بِالْأَبْطح، وَمَعَهُ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّهِ بْن زُهَيْر بْن أَبِي أُميَّة المَخْزُومِي، وعَلى مَكَّة يَوْمئِذٍ الْحَارِث بْن خَالِد بْن الْعَاصِ بْن هِشَام بْن الْمُغيرَة، فَكَلمهُ ابْن عضاه، وَابْن الزبير ينكت فِي الأَرْض.

فَقَالَ لَهُ أَيُّوب: يَا أَبَا بَكْر، أَلا أَرَاك غَرضا للْقَوْم.

فَرفع ابْن الزبير رَأسه، فَقَالَ: قُلْتُمْ حلف أَلا يقبل بيعتي حَتَّى يُؤْتى بِي فِي جَامِعَة، لَا أبر اللَّه قسمه، وتمثل ابْن الزبير:

وَلَا أَلين لغير الْحق أسأله

حَتَّى يلين لضرس الماضغ الْحجر

ثمَّ قَالَ: وَاللَّه لَا أبايع يَزِيد، وَلَا أَدخل لَهُ فِي طَاعَة»([225]).

«ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ، بَايَعَ النَّاسَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ»([226]).

ويؤيد هذه الرواية ما رواه خليفة بن خياط بقوله: «وفيهَا [سنة 64هـ] مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بحوّارين من بِلَاد حمص، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لَيْلَة الْبَدْر فِي شهر ربيع الأول...، واستُخلف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فَأقر عُمَّال أَبِيه، وَلم يولّ أحداً، وَلم يزل مَرِيضاً حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَيُقَال عشْرين سنة، وَصلى عَلَيْهِ الْوَلِيد بْن عتبَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَت ولَايَته نَحواً من شهر وَنصف، وَيُقَال مَاتَ مُعَاوِيَة بعد أَبِيه يَزِيد بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة»([227]).

وهنا يقوم ابن الزبير بالدعاء لنفسه بعد علمه بموت يزيد بن معاوية، وموت ابنه معاوية بن يزيد، وهذا يؤكد أن ابن الزبير ب وإن رفض بيعة يزيد، إلا أنه لم يدعُ البيعة لنفسه؛ لأنه يرى أن الأمر يجب أن يكون أمر الخلافة شورى، لا أن يَعهد خليفة لمن بعده ولداً له كان أو غيره، قال خليفة بن خياط ؒ: «وَإِنَّمَا كَانَ ابْن الزبير يَدْعُو قبل ذَلِكَ إِلَى أَن تكون شُورَى بَين الْأمة، فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثَة أشهر من وَفَاة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، دَعَا إِلَى بيعَة نَفسه، فبويع لَهُ بالخلافة لتسْع خلون من رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ» ([228]).

والملاحظ هنا أن ابن الزبير ب كان ينادي بالشورى لاختيار الخليفة، وعندما شغر كرسي الخلافة بموت يزيد لم يقم بالشورى لاختيار الخليفة، وإنما دعا البيعة لنفسه، وهذا يدل على أن أمر الشورى كان يُنادي بها في الأحوال المستقرة، ولما اضطربت الأحوال، وشغر مكان الخلافة (على رأيه)، لم يجد بداً من ملئها حتى لا تقع الفتنة والفوضى، وقد تكون مثل هذه الحالة سبب قول بعض الدارسين من قدامى ومحدثين بسيادة المتغلب، ولكن القدامى كان عندهم شرط إقامة الدين، واتباع الشريعة، وإلا فلا يجوز اتباعه، على عكس رأي كثير من المحدَثين الذين قالوا بجواز اتباع المتغلِّب دون أي شرط إلا شرط القوة، وهذا لم يقلْه أحد من القدامى.

ونلاحظ أن يزيد توفي في شهر ربيع الأول، وبعده بشهر ونصف مات ابنه معاوية، وأن ابن الزبير دعا لنفسه بالخلافة بعد أن فرغ كرسي الخلافة بموت خليفتين، ولم يبايع لأحد بعدهما بحوالي شهر أو أكثر، ولم يكن هناك خليفة للمسلمين في أي مصر من الأمصار الإسلامية، أي كانت بيعة مروان بعد بيعة ابن الزبير في الحجاز بأكثر من أربعة أشهر، وهذا ما سبّب خلافاً عند بعض العلماء القدامى اعتبارهم ابن الزبير الخليفة، ومروان هو الباغي الخارج عليها.

ومن المعلوم أن معاوية بن يزيد لم يعهد بالخلافة لأحد بعده، بل تقول الرواية: «وَلِمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ:

أَلَا توصي؟

فقال: لا أتزوّد مرارتها إلى إخوتي، وَأَتْرُكُ حَلَاوَتَهَا لِبَنِي أُمَيَّةَ....

قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَالِدٌ إِخْوَةٌ، وَكَانُوا مِنْ صَالِحِي الْقَوْمِ... وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ.

فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ، كَمَا تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ.

ثُمَّ نَزَلَ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى»([229]).

وإن بعض بني أمية أراد مبايعة ابن الزبير، ولكن شعروا بالخطأ في هذا الرأي، يقول ابن كثير ب: «وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مَا انْتَظَمَ مِنَ البيعة لابن الزبير، وما استوثق لَهُ مِنَ الْمُلْكِ، عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لمبايعته، وَلِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ حَتَّى بلغ أذرعات، فلقيه ابن زِيَادٍ مُقْبِلًا مِنَ الْعِرَاقِ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَجَّنَ رَأْيَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ زِيَادٍ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ، وَخَلْقٌ، فَقَالُوا لِمَرْوَانَ: أَنْتَ كَبِيرُ قريش..»([230]).

وبذلك عاد مروان ودعا لنفسه، واجتمعت الأمة عليه خلا الحجاز، ثم أتبع ابن الزبير رضي الله عنه العراق بالحجاز، بينما كانت بيعة مروان بن الحكم في منتصف ذي القعدة سنة أربع وستين([231]).

وهذا التداخل في البيعة والحكم أدى إلى فتن عدة، ومعارك كبيرة، فوقت في راهط موقعة بين من بايعوا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه بقيادة الضحاك بن قيس، وبين من بايعوا مروان بن الحكم، وبقي القتال أكثر من عشرين يوماً «وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام، ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلاً... وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها»([232]).

وهذه الرواية لم أجدها عند الطبري، وهي من رواية الكلبي، وهو غير ثقة.

وبعد وفاة مروان بن الحكم استُخلف عبد الملك بن مروان، ودعا ابن الزبير رضي الله عنه محمد بن علي بن أبي طالب لبيعته، فأبى، وحبسه في عدة من أصحابه، ومنهم عامر بن واثلة رضي الله عنه، ولم يخرجوا حتى أخرجهم المختار بن أبي عبيد([233]).

ولما سئل ابن عمر ب لماذا لم يبايع ابن الزبير، فاستنكر هذا السؤال، واعتبر الأمر من القاذورات التي يجب الابتعاد عنها([234]).

وعلق ابن عمر على عمل ابن الزبير ب فقال: «إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَةٍ يَعْرِفُونَهَا، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَظُلْمَةٌ، فَأَخَذَ بَعْضُنَا يَمِينًا، وَبَعْضُنَا شِمَالًا، فَأَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكْنَا ذَلِكَ، حَتَّى تَجَلَّى عَنَّا ذَلِكَ، حَتَّى أَبْصَرَنَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ، فَعَرَفْنَاهُ، فَأَخَذْنَا فِيهِ، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ فِتْيَانٌ يَتَقَاتَلُونَ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ، وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَلَّا يَكُونَ لِي مَا يَقْتُلُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ»([235]).

ورفض الإمام سعيد بن المسيب بيعة ابن الزبير، فجلده جابر الأسود ستين سوطاً([236]).

وقد ذكر أبو نعيم قَالَ:

«كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَكَثَ شُرَيْحٌ لَا يُخْبِرُ، وَلَا يُسْتَخْبَرُ»([237])، وذكر ابن كثير الرواية بأطول، فقال شريح بعد النص السابق: «لما كانت الفتنة، لم أسأل عنها، فقال رجل: لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي، وقد رواه شقيق بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبَرْتُ، ولا أُخبرت، ولا ظلمت مسلماً، ولا معاهداً ديناراً، ولا درهماً»([238]).

ولما ولي الحجاج العراقين حاصر ابن الزبير في أول ذي القعدة سنة ثنتين وسبعين للهجرة، وبقي الحصار حتى جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين للهجرة، أي بقيت الحرب ما ينوف على ستة أشهر([239]).

وقبل هذا الحصار، قامت معارك كثيرة في العراق، حيث كان أميرها مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد اللَّه، ولما قُتل مصعب، ووُضع رأسه أمام عبد الملك بن مروان بكى، وقال: «وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ، حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ، وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ، وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ، هُوَ وَابْنَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ»([240]).

وعبد الملك هذا طلب من عامله الحجاج اتّباع ما يفعل ابن عمر في الحج، فقد روى الإمام البخاري من طريق مَالِك، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: «كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ: أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه، وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: «الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ»، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: «صَدَقَ»([241]).

فالحجاج هذا الذي يتبع ابن عمر في مناسك الحج بأمر عبد الملك بن مروان، هو الذي حارب ابن الزبير رضي الله عنه أيضاً بأمر عبد الملك بن مروان، فنصب خمسة مجانيق على مكة، وحاصر أهلها، وطالبهم بطاعة أمير المؤمنين عبد الملك، وقتل في ذلك خلقاً كثيراً في هذه الحرب، حيث حاصرهم، وحبس عنهم المؤن، والماء، فاعتمدوا على شرب ماء زمزم، ويعتبر حملته على الكعبة، وقصفها طاعة لأمير المؤمنين، وبقي ابن الزبير رضي الله عنه يقاتل، فقُتل كثير من أتباعه، حتى خذله الناس، وتركوه وحيداً، ورفض الصلح الذي عُرض عليه([242]).

قال الإمام ابن كثير: «وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ، وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا»([243]).

وقد جاء الحجاجَ المددُ من أهل الشام، فجعل الحجاج أهل كل مدينة يواجهون باباً من أبواب الكعبة، وهو يجاهدهم، «ثُمَّ يَصِيحُ: أَبَا صَفْوَانَ! وَيْلُ أُمِّهِ فَتْحًا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ:

لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ!

فَيَقُولُ أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إِي وَاللَّهِ وَأَلْفُ»([244]).

و«كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ ديني، ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ»([245]).

وسارت المعارك بين عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه والحجاج، وأحسّ ابن الزبير بأن الموت قادم لا بد منه، فذهب ليودع أمه قبل المضي إلى نهاية الطريق التي اختارها راضياً، وكان مما قالته له أمه العظيمة أسماء بنت أبي بكر ل: قال الزبير بن بكار: «دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى مِنْ خُذْلانِهِمْ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، خَذَلَنِي النَّاسُ، حَتَّى وَلَدِي وَأَهْلِي، فَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلا الْيَسِيرُ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّفْعِ أَكْثَرَ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا أَرَدْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ يَا بُنَيَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَإِلَيْهِ تَدْعُو، فَامْضِ لَهُ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مَنْ أَصْحَابِكَ، وَلا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَتَلَعَّبُ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا، فَبِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ قُلْتَ: كُنْتُ عَلَى حَقٍّ، فَلَمَّا وَهَنَ أَصْحَابِي ضَعُفَتْ نِيَّتِي، فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الأَحْرَارِ، وَلا أَهْلِ الدِّينِ، كَمْ خُلُودُكَ يَا بُنَيَّ فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ.

فَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي وَعَزْمِي، وَالَّذِي هَمَمْتُ بِهِ دَاعِيًا إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَمَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَوْتُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرَمُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِنِي قُوَّةً وَبَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا أَنْ لا يَشْتَدَّ جَزَعُكِ عَلَيَّ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ، وَلا مُعَاهِدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي سُوءٌ فَرَضِيتُهُ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدِي آثَرَ مِنْ رِضَا رِبِّي، اللَّهُمَّ لا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، أَنْتَ أَعْلَمُ بِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي.

فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي عَنْكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ، فَفِي نَفْسِي حَرَجٌ حَتَّى أَنْظُرَ إِلامَ يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا يَا أُمَّهْ، فَلا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلِي وَبَعْدِي، فَقَالَتْ: لا أَدْعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ، فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ.

ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَاكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهمَّ إِنِّي سَلَّمْتُ فِيهِ لأَمْرِكَ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثَبْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ الصَّابِرِينَ.»([246]).

وهذه الرواية من رواية الواقدي، وفيها انقطاع، واختارها علماء السير، وقبلوا بها([247])، ونرى كيف أن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه خذله الناس، وتركوه، حتى أهله وولده، وخرجوا إلى عبد الملك بن مروان، وهذا الأمر يذكرنا بمعاوية رضي الله عنه لما استعرض أسماء من يمكن ترشيحهم للخلافة، ثم نظر فيهم جميعاً، وأحسّ أنهم لا يستطيعون حمل عبء أحمال الخلافة باجتهاده، وأثبتت حوادث التاريخ صحة فراسته فيهم، وقوله عن ابن الزبير أنه إن صار خليفة سينفض عنه أتباعه، بل في الحقيقة انفض عنه أهله، وولده، كما قال في كلامه لأمه أسماء رضي الله عنهم جميعاً.

ولما استشهد عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، واستولى الحجاج على مكة، وخطب في أهلها، وأنه جاء لينصر الخلافة، ويقتل من يلحد في الحرم([248]).

وهكذا طويت صفحة من صفحات الفتن والحروب في القرن الهجري الأول، وذهب ضحيتها عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه إلى ربه راضياً مرضياً، بما أقدم عليه، وقام به، وتوصل إليه، ويمكن استخلاص الرؤية لهذه الحركة:

-   لم تكن حركة ابن الزبير ثورة على الأمويين بالمعنى الحقيقي؛ لأنه أخذ البيعة لنفسه بعد وفاة معاوية بن يزيد، ولم يتعين خليفة مدة من الزمن، وبويع بالخلافة قبل مروان بن الحكم بأشهر قليلة [ولكن لم تجتمع على بيعته الأمة، كما اجتمعت على من سبقه، ومن جاء بعده]، وهذا ما دعا كثيراً من المؤرخين اعتباره هو الخليفة الشرعي، وليس الخليفة الأموي مروان.

-   عند الصراع على الحكم يضيع كثير من الأخلاقيات، فينسى الصديق صديقه، والقريب قريبه، وهذا ما أحسّ به عبد الملك بن مروان عندما وُضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير، وبكى.

-   وفي سبيل تثبيت دعائم الحكم لا يلوي المتصارعة إلا على تثبيت (العرش) تحتهم، مهما كلفهم ذلك من نفوس وحيوات، وهذا ما أحسّ به مروان بن الحكم الذي كان مشغولاً قبل الحكم بأقضية عمر بن الخطاب، يتتبعها كما ذكر ذلك الإمام أحمد بن حنبل([249])، ولكنه بعد ذلك قال: «وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ، وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء، وهذا الشأن، وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرة عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: كَانَ مروان إذا ذكر الإسلام قال:

بنعمة ربى لا بما قدمت يدي

ولا بتراثي إِنَّنِي كُنْتُ خَاطِئَا»([250])

-   ومثله ولده عبد الملك الذي وصفه ابن كثير أنه كان يجالس الفقهاء، والعلماء، والعبّاد، والصلحاء، وروى الحديث عن عدة، منهم جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبوه، وغيرهم كثير، وأنه كان قبل الخلافة من فقهاء المدينة، وملازماً للمسجد، ومن التالين للقرآن([251]).

ويروي ابن كثير بعد ذلك كلاماً لعبد الملك أنه لا يأكل في خلافته المال بغير حق، وأنه ليس بالخليفة المستضعف، ولا المداهن، وأنه يتحمل رأي الناس مهما كان، ولكن لا يرفعوا سيفاً، أو ينظموا جيوشاً، أو يدعون إلى شق جماعة الأمة([252]).

إذن هؤلاء الحكام مهما احتملوا الناس، ومهما حلموا عليهم، فإنهم لا يتحملون الوثوب على المنبر (الكرسي)، ويضرب عبد الملك مثلاً بابن عمه عمرو بن سعيد كيف قتله بكل بساطة وجسارة.

-   في الصراع على السلطة يحس الحاكم بأنه هو مصلحة الأمة، ولا يقبل بتهديد مصالح الأمة، ولذلك يلجأ إلى القضاء على خصومه؛ ليحافظ على مصلحة الأمة.

-   والحاكم، عادلاً كان أم ظالماً، لا يقبل بالفوضى والحروب والغوغائية، ولو كان من القائمين من الصلحاء، والعلماء، إذ لو ترك الأمر على رأيهم يرون معالجة سريعة، وحاسمة لانقلبت دعوات الإصلاح إلى فساد وهرج وقتل، لأن هذه الدعوات ستجعل الشعب أحزاباً وفئات متناحرة، ومتصارعة، ولذلك يعجل الحكام بالقضاء على أصحاب هذه الحركات، ورؤسائها، مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية، أو ألقابهم العلمية.

-   الناس الذين يساندون هؤلاء الثائرين لهم صبر محدود، وجَلَد ينتهي، ولذلك يتخيلون قائدهم إن لم يحمل بشائر النصر، يسلمونه إلى عدوهم وعدوه، وهذا ما حصل مع عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه، حيث خذله الناس، حتى أهله، وولده، كما قال لأمه أسماء ل، وكما روت كتب التاريخ أن الذين انفضوا عنه فاق العشرة آلاف رجل([253])، منهم ابناه حمزة وخبيب، وإن الذين يحاولون القيام بحركات الإصلاح، ويطلبون من الشعب مساندتهم، سيكون مصير ثورتهم الفشل – غالباً – لأن الناس يقيسون الأمور بأحوالها الحاضرة، لا بعواقبها الدنيوية، والأخروية، فعندما كان ابن الزبير منتصراً أيدوه، وعندما قويت شوكة خصومه تخلوا عنه، وانتقلوا إلى الكفة الأقوى، وهكذا الناس في كل زمان ومكان، بقدر ما ينصرون القائد، وفجأة يخذلونه، خصوصاً إذا كان الأمر لا تتضح فيه الفروق بين القائم والثائر، فكلهم مسلمون، لا يعرفون إلا الإسلام نظاماً وحكماً وشريعة، وكلهم صالحون، وهذا الذي لم يدركه الناس في زماننا، حيث لا يميزون بين الفرق القائمة بالأمر، أو الثائرة لإثبات أمر جديد، ويكتفي القواد بالشعارات دون النظر في أحوال هؤلاء القائمين يريدون إقامة حكم جديد، وأظهر مثال واضح حول هذا الأمر في الماضي أن عبد الله بن الزبير ب انتهى أمره في عهد عبد الملك، وابن الزبير صحابي ابن صحابي وصحابية، أما عبد الملك، فكان مشهوراً بالعلم والفقه، فهو من فقهاء المدينة وعلمائها، من أضراب سعيد بن المسيب ؒ وأصحابه، ولذلك لا يشعر الناس بالحرج من ظهور أحد المتخاصمين، فكلاهما عدل بذاته، وليس مطعوناً بدين.

ز- حركة عبد الرحمن بن الأشعث:

في سنة إحدى وثمانين أجمع ابن الأشعث المسير إلى العراق، وأخذ ينال من الحجاج، وينادي بخلعه، ولم يخلع عبد الملك بن مروان، لكراهية وتباغض بينهما([254])، ولذلك خاطب العراقيين قائلاً كما أورد ابن كثير: «ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق، وقال لهم: إِنَّ الحجاج قد ألحَّ عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم، أما أنا فلست مطيعه، ولا أنقض رأياً رأيته بالأمس... وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رتبيل، فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا... قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لابن مروان، فخلعوهما، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الملحدين، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ بَايَعَهُمْ... وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: ليس الحجاج بشيء، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالشُّيُوخِ، وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ»([255]).

والملاحظ في هذا النص كيف أن ابن الأشعث في سبيل حركته صالح رتبيل على إسقاط الجزية عنه للأبد: «وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا»([256]).

ولكن الحجاج قام على الفور بمصالحة رتبيل للتخلي عن ابن الأشعث: «فَصَالح [الحجاج] رتبيل، وخلى بَينه وَبَين ابْن الْأَشْعَث، فأوثقه وعدة من أهل بَيته فِي الْحَدِيد، وَأَقْبل يُرِيد الْحجَّاج، وَقد قرن بِهِ رجل يكنى أَبَا العَنز، فَلَمَّا صَار بالرخج طرح نَفسه من فَوق الْقصر، فماتا جَمِيعًا، وَحمل رَأس ابْن الْأَشْعَث إِلَى الْحجَّاج»([257]).

وكانت أول وقعة بينهما هي تستر، آخر سنة إحدى وثمانين، ثم جاءت الوقعة الثانية بالزاوية أول سنة اثنتين وثمانين، وكذلك كانت الوقعة الثالثة بظهر المربد في السنة نفسها، وجاءت الوقعة الرابعة بدير الجماجم، وفيها كانت الهزيمة في جمادى هذه السنة، وجاءت الوقعة الخامسة في شعبان من السنة نفسها([258]).

وفي معركة الزاوية حض ابن الأشعث جيشه، وذكر قوتهم وفعالهم، وخاض في أهل الشام ذماً، ثم حملوا فخرقوا الصفوف، واقتتل الفريقان، وبعد أيام ثلاثة أمر الحجاج عبد الرحمن بن مسلم أن يأخذ على المسناة حتى يأتي البصرة، فثاروا والتقوا على الجسر، وقُتل عبد الرحمن بن عوسجة صاحب ميمنة ابن الأشعث، وغيرهم، وقُتل في هذه المعركة عقبة بن عبد الغافر في جماعة من القراء، وقتل عبد اللَّه بن عامر في نحو ثلاثمائة، وقُتل مئتان من الموالي، وانهزم الناس حتى دخلوا البصرة، فقتلوا، ثم قتل أربعمائة أو أكثر([259]).

وقد خرج مع ابن الأشعث علماء كثيرون، وأذكر هنا الأسماء التي أوردها خليفة بن خياط([260]):

مُسلم بْن يسَار مزني.

عقبَة بْن عَبْد الغافر العوذي قتل فِي المعركة.

عقبَة بْن وساج البرْسَانِي قتل فِي المعركة.

عبد اللَّه بْن غَالب الْجَهْضَمِي قتل فِي المعركة.

النضْر بْن أنس بْن مَالك.

أَبُو الجوزاء، قتل فِي المعركة.

عمْرَان بْن عِصَام الضبعِي، قتل صبراً.

سيار بْن سَلامَة أَبُو الْمنْهَال الريَاحي.

مَالك بْن دِينَار.

مرَّة بْن دباب الههرادي.

أَبُو نجيد الْجَهْضَمِي.

أَبُو شيخ الْهنائِي.

الْحسن بْن أَبِي الْحسن (البصري) أخرج كرهاً لم يقتل.

وَمن أهل الْكُوفَة: سعيد بْن جُبَير.

عامر الشّعبِيّ.

عبد اللَّه بْن شَدَّاد بْن الْهَاد، فُقد لَيْلَة دجيل.

عبد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى، فُقد لَيْلَة دجيل.

أَبُو عُبَيْدَة بْن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُود.

المعرور بْن سُوَيْد.

مُحَمّد بْن سعد بْن مَالك، قُتل صبراً.

طَلْحَة بْن مصرف الأيامي.

زبيد بْن الْحَارِث الأيامي.

عَطَاء بْن السَّائِب، مولى ثَقِيف.

أَبُو البخْترِي الطَّائِي، قتل فِي المعركة.

طفيل بْن عَامر بن وائلة رضي الله عنه قتل في المعركة.

مَيْمُون بْن أَبِي شبيب، قتل فِي الجماجم.

كميل بْن زِيَاد النَّخعِيّ.

ويذكر خليفة بن خياط عن المدائني أعداد القتلى في هذه المعارك فيقول: «قَالَ أَبُو الْحسن: قَالَ عوَانَة: قتل الْحجَّاج بمسكن خَمْسَة آلَاف أَسِير، أَو أَرْبَعَة آلَاف»([261]).

وهذه أقوال بعض هؤلاء العلماء الأعلام في هذه الحروب التي خاضوها مع ولاة بني أمية:

وروى ابن سعد في حديثه عن سعيد بن جبير، وهو من أشهر من قتل من جراء هذه الحروب: «كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ: يَوْمَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ فِي الْحُكْمِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنَ الدِّينِ، وَتَجَبُّرِهِمْ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ، وَاسْتِذْلَالِهِمُ الْمُسْلِمِينَ»([262]).

وقصة سعيد بن جبير ؒ انتشرت، واشتهرت، خصوصاً إذا علمنا أن الحجاج كان يقتل الذين يمسك بهم من هؤلاء، ولكنه يحاججهم قبل الإعدام، ومحاججته لسعيد بن جبير من أشهر ما انتشر في كتب التاريخ والأدب، وليس هذا الكلام دفاعاً عن الحجاج، فالتاريخ يشهد بكثرة ظلمه للعباد، ونشره للخوف والذعر في ولايته، ولكن هذا الحوار الذي جرى بين الحجاج وبين ابن جبير يوحي بخطأ ابن جبير، أكثر مما يوحي بخطأ الحجاج، فتقول الرواية: «أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى نَفَقَاتِ الْجُنْدِ حِينَ بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك، فَلَمَّا خَلَعَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ خَلَعَهُ مَعَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَلَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابِهِ، هَرَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ هَرَبَ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَحُجُّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَجَأَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ وَلِيَهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، فَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى سَعِيدٍ بِالْهَرَبِ مِنْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ مما أَفِرُّ، وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَدَرِهِ؟ وَتَوَلَّى عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ بَدَلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَجَعَلَ يَبْعَثُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أصحاب ابن الأشعث من الْعِرَاقِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي الْقُيُودِ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ خالد بن عبد اللَّه الْقَسْرِيُّ، فَعَيَّنَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ مَكَّةَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدَ بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق ابن حبيب، ويقال إن الحجاج أرسل إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ أَنَّ بِمَكَّةَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ، فَبَعَثَ خَالِدٌ بِهَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَفَا عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبَعَثَ بِأُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا طَلْقٌ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، وأما مجاهد فحبس، فما زال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد بن جبير، فلما أوقف بَيْنَ يَدَيِ الْحَجَّاجِ

قَالَ لَهُ: يَا سَعِيدُ، أَلَمْ أُشْرِكْكَ فِي أَمَانَتِي! أَلَمْ أَسْتَعْمِلْكَ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ، أَلَمْ أَفْعَلْ؟

كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: نَعَمْ.

حَتَّى ظَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَيُخْلِي سَبِيلَهُ.

حتى قال له: فما حملك على الخروج عَلَيَّ، وَخَلَعْتَ بَيْعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ أَخَذَ مِنِّي الْبَيْعَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيَّ.

فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ غضباً شديداً، وانتفخ حتى سقط طرف رِدَائِهِ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَقَالَ لَهُ:

وَيْحَكَ، أَلَمْ أَقْدَمْ مَكَّةَ فَقَتَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَخَذْتُ بَيْعَةَ أَهْلِهَا، وَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَجَدَّدْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَيْعَةَ، فَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لَهُ ثَانِيَةً؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: فَتَنْكُثُ بَيْعَتَيْنِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَفِي بِوَاحِدَةٍ لِلْحَائِكِ ابْنِ الْحَائِكِ؟

يَا حَرَسِيُّ اضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: فَضُرِبَتْ عنقه، فبدر رأسه عليه لاطئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له:

أما أعطيتك مائة ألف؟ أما فعلت، أما فعلت»([263]).

ولا أدري كيف يرى العلماء وخصوصاً المحدثين أن رجلاً يتحجج ببيعته للإمام المتأخر، وأنه لا يحق له نقضها، وهو نقض بيعتين اثنتين بايعهما قبل هذه البيعة المتأخرة؟

وكما قلت ليس الحجاج إلا أحد الظلمة في كثير من أحواله، وشهد على ذلك أئمة كبار، كأنس بن مالك رضي الله عنه، ومحمد بن سيرين ؒ، ولكن الخصومة والمشكلة هنا ليست مع الحجاج، وإنما مع الدولة التي يقودها عبد الملك بن مروان، ولم يطالبه الحجاج بالبيعة لنفسه، ولم يكن يدافع عن إمارته وولايته، وإنما كان يقوم بأمر الخليفة في دمشق، ولن يكون أمره أفضل من أمر الصحابي العظيم ابن الزبير رضي الله عنه، ولذلك أرى أن يُعاد النظر في كثير من هذه الأحداث من منظور دولة الخلافة التي كانت قائمة بأمر الدين، ورافعة راية الجهاد، وفتح الله على يديها بلاداً كثيرة واسعة، وانتشر نور الإسلام في عهدها على الأرض مشرقها وغربها.

وقال إن العلماء الذين في جيش ابن الأشعث كانوا كثيرين، وكانوا يُسمّون بالقراء: «فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ -: أَيُّهَا النَّاس لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بأقبح مِنْكُمْ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ»([264]).

 وَأما التابعي الجليل الإمام الشعبي، يقول للجنود مشجعاً لهم: «قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ، وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ»([265]).

«وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَاتِلُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَدُنْيَاكُمْ»([266]).

وعدد من الأعلام الذين رفضوا الخوض في هذه الفتنة، فقد قام المهلب بن أبي صفرة بنصح ابن الأشعث، وتحذيره من عاقبة نكثه لبيعة الخليفة الأموي، ولم يسمع له ابن الأشعث، قال الإمام ابن كثير ؒ: «وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، انظر إلى نفسك، فَلَا تُهْلِكْهَا، وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَسْفِكْهَا، وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا تُفَرِّقْهَا، وَالْبَيْعَةِ، فَلَا تَنْكُثْهَا، فَإِنْ قُلْتَ أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي، فاللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا للَّه فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ»([267]).

ولما تم الأمر لبني أمية، وسقطت حركة ابن الأشعث، بدأ الحجاج بحواراته مع الخارجين مع ابن الأشعث، فبدأ هؤلاء الأعلام بالاعتراف في العمل الخاطئ: «وَكَانَ الشَّعْبِيُّ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ الْقُرَّاءِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَشَهِدَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَكَانَ فِيمَنْ أَفْلَتَ، فَاخْتَفَى زَمَانًا، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يُكَلِّمَ فِيهِ الْحَجَّاجَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ:

إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجْتَرِئُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَحَيَّنْ جُلُوسَهُ لِلْعَامَّةِ، ثُمَّ ادْخُلْ عَلَيْهِ حَتَّى تَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَتَكَلَّمَ بِعُذْرِكَ، وَأَقِرَّ بِذَنْبِكَ، وَاسْتَشْهِدْنِي عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، أَشْهَدْ لَكَ، قَالَ: فَفَعَلَ الشَّعْبِيُّ، فَلَمْ يَشْعُرِ الْحَجَّاجُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.

قَالَ لَهُ: الشَّعْبِيُّ؟

قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: أَلَمْ أَقْدَمِ الْبَلَدَ، وَعَطَاؤُكَ كَذَا وَكَذَا، فَزَدْتُكَ فِي عَطَائِكَ، وَلَا يُزَادُ مِثْلُكَ؟

قَالَ: بَلَى، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: أَلَمْ آمُرْ أَنْ تَؤُمَّ قَوْمَكَ، وَلَا يَؤُمُّ مِثْلُكَ؟

قَالَ: بَلَى، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: أَلَمْ أُعَرِّفْكَ عَلَى قَوْمِكَ، وَلَا يُعَرَّفُ مِثْلُكَ؟

قَالَ: بَلَى، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: أَلَمْ أُوفِدْكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُوفَدُ مِثْلُكَ؟

قَالَ: بَلَى، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: فَمَا أَخْرَجَكَ مَعَ عَدُوِّ الرَّحْمَنِ؟

قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، خَبَطَتْنَا فِتْنَةٌ، فَمَا كُنَّا فِيهَا بِأَبْرَارٍ أَتْقِيَاءَ، وَلَا فُجَّارٍ أَقْوِيَاءَ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ أُعْلِمُهُ نَدَامَتِي عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي، وَمَعْرَفَتِي بِالْحَقِّ الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ الْأَمِيرَ، وَيَأْخُذَ لِي مِنْهُ أَمَانًا، فَلَمْ يَفْعَلْ.

فَالْتَفَتَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَزِيدَ:

فَقَالَ: أَكَذَلِكَ يَا يَزِيدُ؟

قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِكِتَابِهِ.

قَالَ: الشُّغْلُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْأَمِيرُ.

فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَوَّلًا انْصَرِفْ.

فَانْصَرَفَ الشَّعْبِيُّ إِلَى مَنْزِلِهِ آمِنًا»([268]).

ورواية خليفة بن خياط مختصرة جداً، وفيها « عَن مَالك بْن دِينَار قَالَ:

خرج مَعَ ابْن الْأَشْعَث خَمْسمِائَة من الْقُرَّاء، كلهم يرَوْنَ الْقِتَال، وَقتل طفيل بْن عَامر بن واثلة.

قَالَ الْأَصْمَعِي: وَحَدَّثَنِي عُثْمَان الشحام، قَالَ:

لما أَتَى الْحجَّاج بالشعبي عاتبه.

فَقَالَ الشّعبِيّ: أجدب بِنَا الجناب، وأحزن بِنَا الْمنزل، واستحلسنا الْخَوْف، وخبطتنا فتْنَة لم نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء، وَلَا فجرة أقوياء.

فَقَالَ لَهُ: لله أَبوك»([269]).

فعفا عنه، وأطلقه.

وأما الحسن البصري، فله أمر آخر، لأن الحجاج كان يريد قتله، فيذكر ابن كثير: «وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَنِ مِرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ، عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ مُكْرَهًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ نِقْمَةٌ، فَلَا تُقَابَلُ نِقْمَةُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، وَالسَّكِينَةِ، وَالتَّضَرُّعِ»([270]).

وقال أَيُّوب السختياني: «مَا صرع مَعَ ابْن الْأَشْعَث أحد إِلَّا رغب لَهُ عَن مصرعه، وَلَا نجا مِنْهُم أحد إِلَّا حمد اللَّه الَّذِي سلمه»([271]).

وينقل خليفة بن خياط كلاماً لزبيد بن الحارث اليامي فيقول: «وَحدثت عَن مُحَمَّد بْن طَلْحَة قَالَ رَآنِي زبيد مَعَ الْعَلَاء بْن عَبْد الْكَرِيم، وَنحن نضحك، فَقَالَ: لَو شهِدت الجماجم مَا ضحِكت، ولوددت أَن يَدي، أَو قَالَ: يَمِيني قطعت من الْعَضُد، وَأَنِّي لم أكن شهِدت»([272]).

وكلام الإمام ابن كثير في تعليقه على أحداث ابن الأشعث كلام فيه من الفقه، والرأي الحصيف، لما حدث في هذه الفتنة، واشتراك القراء فيها، يقول: «وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّما هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الَّذِي دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ، فَيَعْزِلُونَهُ، وَهُوَ مِنْ صليبة قُرَيْشٍ، وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هذه زلة، وفلتة، نشأ بسببها شر كبير، هلك فيه خلق كثير، فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»([273]).

ح- قتيبة بن مسلم:

قتيبة بن مسلم ؒ من القواد العظام الذين قادوا الفتح الإسلامي في عهد بني أمية رحمهم اللَّه، قال ابن كثير ؒ: «وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ رَبِيعَةَ أَبُو حَفْصٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ وذوي الحروف، وَالْفُتُوحَاتِ السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا لِلَّهِ U، وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ، وَالْمُدُنِ الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ تَعَبَهُ وَجِهَادَهُ»([274]).

ولكن قتيبة بن مسلم لما مات الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، أحس بشيء من الضعف في الدولة، فبدأ يفكر بأمر قد يستطيعه في إعادة البناء لهذه الدولة، ولكن من معه لم يرض بهذه الخطوات التي أرادها ابن قتيبة، يقول الإمام الذهبي ؒ: «وَلَمَّا مَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ نَزَعَ الطَّاعَةَ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ.

وَكَانَ قُتَيْبَةُ قَدْ عَزَلَ وَكِيعَ بْنَ حَسَّانِ بْنِ قَيْسٍ الْغُدَانِيَّ عَنْ رِيَاسَةِ تَمِيمٍ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ، وَسَعَى فِي تَأْلِيبِ الْجُنْدِ، ثُمَّ وَثَبَ عَلَى قُتَيْبَةَ فِي أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَتَلُوهُ فِي ذي الحجة سنة ست وتسعين([275])، وله ثمان وأربعون سنة»([276]).

ويذكر الإمام ابن كثير كيفية محاولة قتيبة ؒ في التمرد على الخلافة، ولماذا لم يتبعه جنوده، بل وثبوا عليه وقتلوه ؒ: «وَذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ الْجُنْدَ وَالْجُيُوشَ، وَعَزَمَ عَلَى خلع سليمان بن عبد الملك من الخلافة، وَتَركِ طَاعَتِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ هِمَّتَهُ، وَفُتُوحَهُ، وَعَدْلَهُ فِيهِمْ، وَدَفْعَهُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَقَالَتِهِ، فَشَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِمْ، وَذَمِّهِمْ، قَبِيلَةً قَبِيلَةً، وَطَائِفَةً طَائِفَةً، فَغَضِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَنَفَرُوا عَنْهُ، وَتَفَرَّقُوا، وَعَمِلُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، ثُمَّ نَاهَضَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ»([277]).

ويعتبر الإمام ابن كثير ؒ هذا الأمر الذي أراده قتيبة ؒ زلة، وكبيرة وقع فيها، مع ذكره لقيمة قتيبة ؒ، فيقول: «وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَفَعَلَ فَعْلَةً رَغِمَ فِيهَا أَنْفُهُ، وَخَلَعَ الطاعة، فبادرت المنية إليه، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لَكِنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَدْ يُكَفِّرُ اللَّه به سيئاته، ويضاعف به حسناته، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ، وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُ مَا كَانَ يُكَابِدُهُ مِنْ مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ»([278]).

وطويت صفحة قتيبة بن مسلم الباهلي ؒ بعد جهاد طويل، وفتوحات رائعة، وانتشار للإسلام في الأصقاع البعيدة عن دار الخلافة، ولكنها طويت بمأساة، كانت نهاية هذه المأساة مصرع هذا البطل العنيد، والقائد الصنديد، الذي دوّخ ملوك قواد الترك والصغد، وفتح الأقطار والأمصار، ونشر التوحيد، والعدل بين العباد.

ولكن الزلة التي زلها قتيبة بن مسلم كما ذكر الحافظ ابن كثير، كانت في منطقة بعيدة عن مركز الخلافة، وفي نطاق محدود، وأكثر جنده أنكروا عليه خروجه، ولم يتبعوه أو يطيعوه، فقُتل ؒ، وماتت هذه الحركة في مهدها، دون أثر لها في التاريخ العربي الإسلامي.

ط- يزيد بن المهلب

وفي سنة إحدى ومئة في العصر الأموي المجيد «خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَخَلَعَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَقِتَالٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا بَسَطَ الْعَدْلَ فِي أَهْلِهَا، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ»([279]).

وقد خرج يزيد، ومعه جند كثير نَحْوٌ من مائة ألف، وعشرين ألفاً، وقد بَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَلَى كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى أن لا يطأ الْجُنُودُ بِلَادَهُمْ، وَعَلَى محاربة سِيرَةُ الْفَاسِقِ الْحَجَّاجِ، فَمَنْ بَايَعَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ خَالَفَ قوتل.

ولَمَّا تَوَاجَهَتْ الجيوش تَبَارَزَ الناس قليلاً، ولم ينشب الحرب شديداً حتى فر أهل العراق من المعارك سَرِيعًا([280]).

وبقي يزيد بن المهلب يحارب، وثبت معه عِصَابَة مِنْ أَصْحَابِهِ، ثمَّ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يتسللون منه، حتى بقي في شرذمة قَلِيلَةٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَسِيرُ قُدُمًا لَا يمر بخيل إلا هزمهم، وأهل الشام يتجاوزون عنه يميناً وشمالاً، وقد قتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد غضباً وحنقاً وغيظاً، وقَصَدَ نَحْوَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ، فَلَمَّا وَاجَهَهُ حَمَلَتْ عَلَيْهِ خُيُولُ الشَّامِ فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا مَعَهُ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَقَتَلُوا السَّمَيْدَعَ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَالَّذِي قَتَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَحْلُ بْنُ عَيَّاشٍ، فَقُتِلَ إِلَى جَانِبِ يَزِيدَ بن المهلب، وجاءوا برأس يزيد إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَهُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيطٍ إِلَى أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَحْوَذَ مَسْلَمَةُ عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْكُوفَةِ، وَبَعَثَ إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة، ولما انتهت هزيمة ابن الْمُهَلَّبِ إِلَى ابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ بِوَاسِطٍ، عَمَدَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَسِيرًا فِي يَدِهِ فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ ؒ وَابْنُهُ، وَمَالِكٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنَا مَسْمَعٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الْبَصْرَةَ وَمَعَهُ الْخَزَائِنُ مِنَ الْأَمْوَالِ»([281]).

وبعد ذلك انتقل آل المهلب فارين حَتَّى أَتَوْا جِبَالَ كَرْمَانَ «فَنَزَلُوهَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ جماعة ممن فلَّ من الجيش الذي كَانَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَقَدْ أَمَّرُوا عليهم المفضل بن المهلب، فأرسل مسلمة جيشاً عليهم هلال بن ماجور المحاربي فِي طَلَبِ آلِ الْمُهَلَّبِ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُدْرِكُ بْنُ ضَبٍّ الْكَلْبِيُّ، فَلَحِقَهُمْ بِجِبَالِ كَرْمَانَ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُفَضَّلِ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ لَحِقُوا الْمُفَضَّلَ، فَقَتَلُوهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَأَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِ الشَّامِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ، ثُمَّ أَرْسَلُوا بِالْأَثْقَالِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالذُّرِّيَّةِ، فَوَرَدَتْ عَلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمَعَهُمْ رأس المفضل، ورأس عبد الملك بن المهلب، فبعث مسلمة بالرؤوس، وتسعة من الصبيان الْحِسَانِ إِلَى أَخِيهِ يَزِيدَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ أولئك، ونصبت رؤوسهم بِدِمَشْقَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا إِلَى حَلَبَ فَنُصِبَتْ بِهَا، وَحَلَفَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَيَبِيعَنَّ ذَرَارِيَّ آلِ الْمُهَلَّبِ، فَاشْتَرَاهُمْ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِبْرَارًا لِقَسَمِهِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَسْلَمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ شَيْئًا»([282]).

وقد اختتمت فتنة آل المهلب ببيعتهم عبيدة، ولولا أن قيض اللَّه لهم أخذ الأمراء ليدفع عنهم ذل العبودية، فاشتراهم إبراراً لقسم مسلمة، وإلا لعاشوا عبيداً أذلاء، بعد ان كانوا قادة مجاهدين في سبيل اللَّه، وقد سبق ذكر قول أبيهم المهلب ناصحاً عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بألا يقوم على الخليفة، ووقع أولاده فيما حذر هو عنه، فكان من أمرهم ما كان.

وإن هذه الفتنة مات فيها خلق كثير دون تحقيق أي هدف من أهدافها، فهي لم تأمر بمعروف، ولم تنه عن منكر، وقد رأينا أن معاوية بن يزيد بن المهلب عندما جاء خبر مقتل أبيه، كيف قتل عدداً من الأفاضل الكبار منهم عدي بن أرطاة، وابنه محمد بن عدي، ومالك، وعبد الملك ابني سمع، والقاسم بن مسلم، وعبد اللَّه بن عمر النصري، وغيرهم([283])، قتلهم انتقاماً لأبيه، ولم يكن لهم ذنب إلا أنهم أسرى عنده.

ومن الملفت للنظر أيضاً أن الحاكم القائم ينتقم من خصومه مهما كان وضعهم، أو مقامهم، وقد يكون انتقامه تتناسب مع مقامه كأمير، أو حاكم، فهذا مسلمة بن عبد الملك الذي قضى الشطر الكبير من حياته مجاهداً في سبيل اللَّه يقسم يميناً ببيع ذراري آل المهلب في سوق النخاسة، فهو بعد قتل آبائهم قرر إذلال الأبناء.

وقد يقول قائل أين مكان العلماء من فتنة ابن المهلب، هل كانوا لها من المؤيدين، أم كانوا يخالفونها؟.

وهذا مثال من هؤلاء العلماء، وهو الحسن البصري ؒ فقد «كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْكَفِّ، وَتَرْكِ الدُّخُولِ فِي الْفِتْنَةِ، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النهى، وذلك لما وقع من القتال الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَمَا قتل بسبب ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ الْعَدِيدَةِ، وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ الناس، ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَأَمَرَهُمْ بالجد والجهاد، والنفر إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ الْمُرَائِيَ- وَلَمْ يُسَمِّهِ- يُثَبِّطُ الناس، أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُفَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ، وَلَأَفْعَلَنَّ، وَتَوَعَّدَ الْحَسَنَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَسَنَ قَوْلُهُ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ يُكْرِمَنِي اللَّهُ بِهَوَانِهِ، فَسَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى زَالَتْ دَوْلَتُهُمْ»([284]).

وبذلك مضت دولة آل المهلب بعجرها، وبجرها، وسلّم اللَّه العلماء منها، وقد مات بسببها خلق كثير، ولا ندري إلى متى ستبقى اللوثة السبئية تستنزف الدولة الأموية منذ بدايتها، وتشغلها كثيراً عما كانت أعدتن نفسها له من جهاد وفتوح، وفعلاً مع كل ما يصيبها من هذه الفتن، لم ينسَ خلفاء بني أمية الجهاد والفتح.

ي- زيد بن علي بن الحسين

زيد بن علي بن الحسين ؒ، كان من أفاضل العلماء، وأبعد الناس عن الانحراف، والسوء، وهو الذي أطلق على الفئة التي خرجت على الدين باسم الدين والإمامة، فسمّاهم الرافضة، لأنهم رفضوا الحق الذي أخبرهم به، وهو أن أبا بكر وعمر ب وزيرا النبي صلى الله عليه وسلم، وليسا خارجين عنه، وعن دين الإسلام.

وجاء إلى زيد بن علي أناس كثيرون يريدونه إعادة الحق – حسب اجتهادهم – إلى نصابه، والدولة إلى الشورى، فبايعه على إمامته:  «خَمْسَة عشر ألف رجل من أهل الْكُوفَة، وَخرج بهم على والي الْعرَاق، وَهُوَ يُوسُف بن عمر الثقفي عَامل هِشَام بن عبد الْملك على الْعِرَاقِيّين، فَلَمَّا اسْتمرّ الْقِتَال بَينه وَبَين يُوسُف بن عمر الثقفي، قَالُوا لَهُ: إنا ننصرك على أعدائك بعد أَن تخبرنا بِرَأْيِك فِي أبي بكر وَعمر اللَّذين ظلما جدك علي بْن أبي طَالب، فَقَالَ زيد: إِنِّي لَا أَقُول فيهمَا إِلَّا خيراً، وَمَا سَمِعت أبي يَقُول فيهمَا إلا خيراً، وإنما خرجت على بني أمية الَّذين قَاتلُوا جدي الْحُسَيْن، وأغاروا على الْمَدِينَة يَوْم الْحرَّة، ثمَّ رموا بَيْتاً للَّه بِحجر المنجنيق وَالنَّار، ففارقوه عِنْد ذَلِك، حَتَّى قَالَ لَهُم: رفضتموني، وَمن يَوْمئِذٍ سموا رافضة، وَثَبت مَعَه نصر بن حريمة العنسي، وَمُعَاوِيَة بن إسحاق بن يزِيد بن حَارِثَة فِي مِقْدَار مائتي رجل، وقاتلوا جند يُوسُف بن عمر الثقفي، حَتَّى قتلوا عَن آخِرهم، وَقتل زيد، ثمَّ نبش من قَبره، وصلب، ثمَّ أحرق بعد ذَلِك»([285]).

ومن الروايات التي أوردها مصعب بن الزبير عن سبب خروج زيد بن علي: «ويقال إن زيد بن علي كان قائماً على باب هشام في خصومة عبد اللَّه بن حسين في الصدقة ؛ فورد كتاب يوسف بن عمر في زيد، وداوود ابني علي، ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وأيوب بن سلمة، فحبس زيداً، وبعث إلى أولئك؛ فقدم بهم، ثم حملهم إلى يوسف بن عمر غير أيوب بن سلمة؛ فإنه أطلقه لأنه من أخواله؛ فقدم زيد على هشام، فبعث به إلى يوسف بن عمر بالكوفة؛ فاستحلفه ما عند لخالد من مال، وخلى سبيله؛ وخرج زيد حتى إذا كان بالقادسية، لحقته الشيعة؛ فسألوه الرجوع معهم والخروج؛ ففعل؛ فتفرقوا عنه إلا نفراً، فنسبوا إلى الزيدية؛ ونسب من تفرق عنه إلى الرافضة، يزعمون أنهم سألوه عن أبي بكر وعمر؛ فتولاهما؛ فرفضته الرافضة؛ وثبت معه قوم؛ فسموا بالزيدية؛ فقتل زيد وانهزموا أصحابه»([286]).

وهذا الجيش الذي حارب مع زيد بن علي تجعله بعض الروايات أربعين ألفاً حين بايعوه([287])، ولكن من بداية القتال كان معه مئتان وثمانية عشر رجلاً([288])، «فَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: هُمْ فِي المسجد محصورون، وكتب الحكم إلى يوسف يُعْلِمُهُ بِخُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِرِّيَّةً إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَكِبَتِ الْجُيُوشُ مَعَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا فِي طائفة كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثُمَّ أَتَى الْكُنَاسَةَ فَحَمَلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَهَزَمَهُمْ([289])، ثُمَّ اجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَوْقَ تَلٍّ، وَزَيْدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَوْ قَصَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ لقتله، ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ يُنَادُونَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالْعِزِّ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا عِزٍّ وَلَا دُنْيَا، ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوُا انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي اقْتَتَلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ بِشَرِّ حَالٍ، وَأَمْسَوْا فَعَبَّأَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ جَيْشَهُ جِدًّا، ثُمَّ أَصْبَحُوا فالتقوا مع زيد، فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي خَيْلِهِ، وَرَجِلِهِ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى الساه، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ رُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتَهُ الْيُسْرَى، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَرَجَعَ وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رجعوا إلا لأجل المساء وَاللَّيْلِ، وَأُدْخِلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ فِي سِكَّةِ الْبَرِيدِ، وَجِيءَ بِطَبِيبٍ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ جَبْهَتِهِ، فَمَا عَدَا أَنِ انْتَزَعَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ»([290]).

ودفن زيد، وعمي قبره، «وَجَاءَ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ قَدْ شَهِدَ دَفْنَهُ، فَدَلَّ عَلَى قَبْرِهِ، فَأُخِذَ مِنْ قَبْرِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِصلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِالْكُنَاسَةِ، وَمَعَهُ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ، وَيُقَالُ إِنَّ زَيْدًا مَكَثَ مَصْلُوبًا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُحْرِقَ، فاللَّه أَعْلَمُ»([291]).

وكلمة الإمام ابن كثير :: ويقال: إن زيداً... يدل على عدم اطمئنانه لهذه الرواية، فصاغها بصيغة التضعيف «يقال».

وهكذا طويت صفحة زيد بن علي ؒ بعد مأساة قتل فيها عدد من رؤوس الناس، وكان رأيه أن الظلم عند الحاكم كافٍ للدعوة إلى إصلاحه بالتغيير، ونقض البيعة، ولذلك عندما جاءه الشيعة الدين كانوا يبحثون عن أي شخصية يستغلونها لنقض الحكم الأموي، لا لإثبات الحكم الشرعي المطلوب، فسألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر ب، فتولاهما، ولم ينكر إمامتهما، بل دافع عنهما، أحسوا أنه لا يستفاد منه في إثبات، وإيجاد ما يريدون من نقض كامل لحكم بني أمية، فتركوه، وانفضوا عنه، مع أنه كان يرفع راية التمرد على بني أمية، قال الإمام ابن كثير ؒ: «فَلَمَّا عَلِمَتِ الشِّيعَةُ ذَلِكَ، اجْتَمَعُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالُوا لَهُ: مَا قَوْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أحداً من أهل بيتي تبرأ مِنْهُمَا، وَأَنَا لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، قَالُوا: فَلِمَ تَطْلُبُ إِذًا بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْنَا بِهِ، وَدَفَعُونَا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، قَدْ وَلُوا فَعَدَلُوا، وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالُوا: فَلِمَ تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ إِذًا؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّاسَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنِّي أَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ، وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ، فَإِنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ وَلِي، وَإِنْ تَأْبَوْا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بوكيل، فرفضوه، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَنَقَضُوا بَيْعَتَهُ، وَتَرَكُوهُ، فَلِهَذَا سُمُّوا الرَّافِضَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ»([292]).

وهذه الرواية تنقض رواية عبد القاهر الجرجاني التي سبقتها، فهذه تبين أن اجتهاد الإمام زيد كان لنصرة الإسلام، والعودة به – على حسب رأيه – إلى وجهه الصحيح.

وأما من عاصره من وجوه الناس، وأهل البيت، فقد خالفوه، ونصحه الكثير منهم بترك هذا الأمر، إلا أنه أصر على موقفه، وقد أورد الطبري أن سلمة بن كهيل لما سمع بخروجه استأذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحقه فأحسن.

ثم تكلم زيد فأحسن.

فقال له سلمة: اجعل لي الأمان.

فقال: سبحان اللَّه! مثلك يسأل مثلي الأمان!

وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه.

ثم قَالَ: لك الأمان.

فقال: نشدتك باللَّه، كم بايعك؟

قَالَ: أربعون ألفاً.

قَالَ: فكم بايع جدك؟

قَالَ: ثمانون ألفاً.

قَالَ: فكم حصل معه؟

قال: ثلاثمائة.

قَالَ: نشدتك اللَّه، أنت خير أم جدك؟

قَالَ: بل جدي.

قَالَ: أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟

قَالَ: بل القرن الذي خرج فيهم جدي.

قَالَ: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدك!

قَالَ: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم.

قَالَ: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟

قَالَ: لم؟

قَالَ: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث، فلا أملك نفسي.

قَالَ: قد أذنت لك.

فخرج إلى اليمامة »([293]).

وخرج سلمة بن كهيل فاراً من المكان الذي ستحدث فيه الفتنة، خشي أن يقع فيها، لأنه لن يصبر على محنة زيد بن علي.

وقد نصح زيداً بن علي أيضاً أهل البيت بترك هذا الأمر، وهذه بعض نصائحهم:

يروي الطبري نصيحة محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فيقول: «فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قَالَ:

فقال له محمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكرك اللَّه يا زيد لما لحقت بأهلك، ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه، فإنهم لا يفون لك، فلم يقبل منه ذلك، ورجع»([294]).

وكذلك كتب إليه، وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ إِلَى زَيْدٍ « أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ، خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ، تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ يَأْسًا مِنْهُمْ، وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ، فَلَمْ يُصْغِ زَيْدٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ»([295]).

ويروي ابن الأثير نصيحة داود بن علي بن عبد اللَّه بن العباس «فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ يَغُرُّونَكَ مِنْ نَفْسِكَ، أَلَيْسَ قَدْ خَذَلُوا مَنْ كَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنْكَ، جَدَّكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى قُتِلَ؟ وَالْحَسَنَ مِنْ بَعْدِهِ بَايَعُوهُ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ، فَانْتَزَعُوا رِدَاءَهُ وَجَرَحُوهُ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ أَخْرَجُوا جَدَّكَ الْحُسَيْنَ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَخَذَلُوهُ، وَأَسْلَمُوهُ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلُوهُ؟ فَلَا تَرْجِعْ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ تَظْهَرَ أَنْتَ، وَيَزْعُمَ أَنَّهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ.

فَقَالَ زَيْدٌ لِدَاوُدَ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يُقَاتِلُهُ مُعَاوِيَةُ بِدَهَائِهِ، وَنَكْرَائِهِ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَإِنَّ الْحُسَيْنَ قَاتَلَهُ يَزِيدُ، وَالْأَمْرُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ.

فَقَالَ دَاوُدُ: إِنِّي خَائِفٌ إِنْ رَجَعْتَ مَعَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ.

وَمَضَى دَاوُدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ زَيْدٌ إِلَى الْكُوفَةِ»([296]).

وهكذا سار زيد ؒ إلى حتفه، وهو يرى باجتهاده أنه سيزيل الظلم، والفساد، وراح ضحية هذا الأمر مئات الناس، وتركه الذين أخرجوه، وطلبوا منه الخروج.

وحركته هذه أدت إلى ولادة طائفتين جديدتين من الطوائف المنسوبة إلى الإسلام: الزيدية، والرافضة.

وقائل يقول:

إن الطائفتين كانتا موجودتين فعلاً في صفوف المسلمين، وحركة زيد لم تقدم، ولم تؤخر في الأمر شيئاً، وقد يكون هذا الكلام فيه من الصحة شيء كثير، إلا أن المجتمع الإسلامي آنذاك كان كله أمة واحدة، والأفكار المتضاربة فيه بين أفراده، ولم يكن فئات، أو جماعات منفصلة بعضها عن بعض، فهناك المسلمون: عامتهم، وعلماؤهم، فيهم من يفضّل أبابكر على جميع المسلمين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيهم من يفضل علياً، ويضعه مكان أبي بكر، ولا يقدح، أو ينال من أبي بكر، بل يرى أنه من أعظم الصحابة، وأنه الخليفة الأول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعندما خرجت الخوارج، وهو أول خروج مسلّح معلن على خليفة المسلمين، وبدؤوا بتكفير الصحابة، وتوجيه معاني بعض آيات القرآن الكريم على غير وجهها، وبدأ ظهور أمارات الرفض [وسمي تشيعاً خطأ، وانحرافاً] عند بعض الأفراد، وبدأت ساحات التكفير تتسع، ويزداد الخرق سعة، وبدأت الجماعات السرية التي تريد إفناء الإسلام تشتد، وتنمو منذ ابن سبأ لما ألّب المسلمين على عثمان رضي الله عنه، وبدأت جماعته تنخر في عظام الأمة الإسلامية بشكل ناعم خفيف خفي، مما اضطر الخلفاء، والأمراء إلى البطش بهؤلاء المارقين، والخارجين، وازداد اتساع التكفير، فكلما قامت فئة مارقة، ازدادت الفجوة بين الخليفة وبعض المحكومين، ولذلك عندما قام زيد ؒ حاول الروافض أن يؤصّلوا أفكارهم، ومعتقداتهم بتكفير أفاضل الصحابة، وبالتالي يكون تكفير مَن بعد الصحابة أسهل تناولاً.

وهكذا نلحظ أن كل حركة على الخلافة يتبعها صدع في جسد هذه الأمة، و شرخ في هيكلها، وتصدّع بين أبنائها، ويزداد انتشار فكرة التكفير، والتضليل بين المتفرقين يميناً، وشمالاً، فإنا للَّه، وإنا إليه راجعون.

([91]) مجموع الفتاوى (35/ 54- 55).

([92]) مجموع الفتاوى (7/ 481- 482).

([93]) مجموع الفتاوى (7/ 479- 480).

([94]) الكامل في اللغة والأدب (3/ 162).

([95]) فتح الباري لابن حجر (7/ 404).

([96]) البداية والنهاية (8/ 237).

([97]) البداية والنهاية (8/ 237).

([98]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 255).

([99]) (15/ 39)

([100]) المعجم الكبير للطبراني (5/ 80).

([101]) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 39).

([102]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 255). مع ملاحظة أن يزيد عندما مات كان خارج دمشق في منطقة حمص، وفيها صلى عليه ابنه معاوية، وقالوا إنه استخلفه.

([103]) تاريخ دمشق لابن عساكر (57/ 259).

([104]) فتوح البلدان (ص: 226).

([105]) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء (ص: 25).

([106]) غياث الأمم في التياث الظلم (ص: 134).

([107]) صحيح مسلم، حديث (1825).

([108]) صحيح ابن حبان (10/ 404)، وصحح إسناده الأرناؤوط محقق ابن حبان.

([109]) صحيح البخاري (3662) ومسلم (2384).

([110]) فتح الباري لابن حجر (7/ 26).

([111]) الأخبار الطوال، أبو حنيفة الدينوري (ص: 211).

([112]) صحيح البخاري حديث (3700).

([113]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 289).

([114]) فتح الباري لابن حجر (7/ 67).

([115]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 329).

([116]) الطبقات الكبرى (6/ 217، 220).

([117]) البداية والنهاية (8/ 50).

([118]) البداية والنهاية (8/ 54).

([119]) البداية والنهاية (8/ 50).

([120]) البداية والنهاية (8/ 53).

([121]) البداية والنهاية (8/ 50).

([122]) الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 219)، البداية والنهاية (8/ 53).

([123]) مستدرك الحاكم (3/ 533).

([124]) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 446).

([125]) يتحرن به يتمسك به، قال الزمخشري: حرن بالمكان فلا يبرح، أساس البلاغة (185).

([126]) تاريخ دمشق (12/ 215).

([127]) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 263).

([128]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (3/ 532)، وقال في الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 33): «وروى الرّويانيّ والطّبرانيّ والحاكم...»

([129]) البداية والنهاية (8/ 53).

([130]) الطبقات الكبرى (6/ 220)، وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (7/ 236): «ذكر العلماءُ، وابن سعد أن عائشةَ لَما بلغها حديثُ حُجْر وأصحابِه، كتبَتْ إلى معاوية مع عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أو أرسلت إليه، فقَدِمَ وقد قُتِلوا، فقال له: يا أمير المؤمنين، أين عنك حِلْمُ أبي سفيان؟ فقال: غَيبَةُ مثلك عني من قومي -أَو من حُلَماء قومي- وحمَّلَني ابنُ سميَّةَ فاحتمَلْتُ، وقد حكاه الطبري، أعني الأصل والزيادة».

([131]) منطقة قرب دمشق، يقال لها اليوم: عدرا.

([132]) الوافي بالوفيات (11/ 247). وانظرها في البداية والنهاية (8/ 55)، والحديث الوارد في هذه الرواية ضعيف كما قال ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 55).

([133]) البداية والنهاية (8/ 55)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (12/ 229).

([134]) البداية والنهاية (8/ 55).

([135]) البداية والنهاية (8/ 53)، وهي في الطبري (5/ 257) من رواية الكلبي، وهو ليس بثقة بل متهم في روايات التاريخ.

([136]) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 467)، البداية والنهاية (8/ 149).

([137]) البداية والنهاية (8/ 150).

([138]) المعجم الكبير للطبراني (19/ 356)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 198): «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ»، فالرواية ليست بالقوية، بل هي للضعف أقرب.

([139]) تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/ 341).

([140]) تاريخ الطبري (5/ 351)، ومرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي (8/ 10).

([141]) البداية والنهاية (8/ 151).

([142]) انظر: البداية والنهاية (8/ 161).

([143]) البداية والنهاية (8/ 161).

([144]) البداية والنهاية (8/ 156).

([145]) انظر: البداية والنهاية (8/ 159). وتاريخ الطبري (5/ 375)، وهي من رواية أبي مخنف فيه، وقد حذفت كثيراً من الألفاظ التي لا تليق إلا بمثل أبي مخنف، وانظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم (2/ 55)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/ 326).

([146]) البداية والنهاية (8/ 158).

([147]) البداية والنهاية (8/ 160).

([148]) البداية والنهاية (8/ 304).

([149]) البداية والنهاية (8/ 160).

([150]) تاريخ الطبري (5/ 384).

([151]) تاريخ الطبري (5/ 387)،  البداية والنهاية (8/ 167).

([152]) البداية والنهاية (8/ 160).

([153]) البداية والنهاية (8/ 163)، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (8/ 16).

([154]) تاريخ الإسلام (5/ 6)، البداية والنهاية (8/ 163).

([155]) تاريخ الإسلام (5/ 9) البداية والنهاية (8/ 163).

([156]) البداية والنهاية (8/ 164).

([157]) تاريخ الطبري (5/ 386)، تجارب الأمم وتعاقب الهمم (2/ 59)، البداية والنهاية (8/ 166).

([158]) تاريخ الطبري (5/ 392)، البداية والنهاية (8/ 170).

([159]) تاريخ الطبري (5/ 411).

([160]) تاريخ الإسلام (5/ 13).

([161]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 71).

([162]) البداية والنهاية (8/ 156).

([163]) تاريخ الطبري (5/ 353)، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (6/ 298).

([164]) تاريخ الطبري، الأخبار الطوال (ص: 243).

([165]) تاريخ الطبري (5/ 391)، البداية والنهاية (8/ 170).

([166]) من سيدات التابعين، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَارِثَةَ، وَقَدْ رَوَى عنها الزُّهْرِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُما، وَرَوَتْ هي عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ عَالِمَةً، وَكَانَتْ هِيَ وَأَخَوَاتُهَا فِي حِجْرِ عَائِشَةَ، وَعِنْدَهَا. الطبقات الكبرى (8/ 480).

([167]) البداية والنهاية (3/ 328).

([168]) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 141).

([169]) سيرة ابن إسحاق (ص: 190)، دلائل النبوة للبيهقي (2/ 206).

([170]) سيرة ابن هشام (1/ 249).

([171]) عبد اللَّه بن حنظلة غسيل الملائكة، وأمه جميلة بنت عبد اللَّه، بن أبيّ، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وروى عنه قيس بن سعد، وهو أكبر منه، وغيره، قتل عبد اللَّه يوم الحرّة، وكان أمير الأنصار يومئذ، وذلك سنة ثلاث وستين في ذي الحجة، وكان مولد عبد اللَّه سنة أربع، وكان من خيار أهل المدينة، وفد إلى يزيد بن معاوية معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف، وأعطى بنيه كلّ واحد عشرة آلاف، فلما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل واللَّه لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، قال: فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة. الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 58).

([172]) البداية والنهاية (8/ 215).

([173]) البداية والنهاية (8/ 216).

([174]) عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي القرشي مديني، روى عنه الشعبي، وغيره، وروى مطيع بن الأسود [والد عبد اللَّه]: رأيت في المنام أنه أهدي إلي جراب تمر، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تلد امرأتك غلاماً، فولدت عبد اللَّه بن مطيع، فذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 153).

([175]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 237).

([176]) البداية والنهاية (8/ 217).

([177]) البداية والنهاية (8/ 218).

([178]) البخاري، برقم 2959، ومسلم، برقم 1861.

([179]) صحيح البخاري برقم، 6177، صحيح مسلم، برقم 1735.

([180]) مسند أحمد، (9/ 104)، برقم 5088.

([181]) الطبقات الكبرى، (7/ 67)، وتاريخ خليفة بن خياط (ص: 217)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 237).

([182]) البداية والنهاية (8/ 233).

([183]) البداية والنهاية (8/ 238).

([184]) حديث صحيح رواه أحمد في المسند (9/ 284)، رقم 5386.

([185]) البداية والنهاية (8/ 238).

([186]) البداية والنهاية (8/ 218).

([187]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 263).

([188]) البداية والنهاية (8/ 239).

([189]) البداية والنهاية، (8/ 219).

([190]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (12/ 106).

([191]) فتح الباري لابن حجر (13/ 71).

([192]) شرح النووي على مسلم (11/ 33).

([193]) المحن (ص: 184).

([194]) البداية والنهاية (8/ 239).

([195]) البداية والنهاية (8/ 219).

([196]) انظر: البداية والنهاية (8/ 220).

([197]) السيرة النبوية لابن كثير (3/ 30).

([198]) المحن (ص: 309).

([199]) فتح الباري لابن حجر (13/ 70).

([200]) البداية والنهاية (8/ 221).

([201]) البداية والنهاية (8/ 233).

([202]) محمد بن سعد، الطبقات الكبرى (4/ 182).

([203]) البداية والنهاية (8/ 220).

([204]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 250)

([205]) البداية والنهاية (8/ 220).

([206]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 144).

([207]) البداية والنهاية (8/ 251).

([208]) تاريخ الإسلام (2/ 602).

([209]) تاريخ الطبري (5/ 585).

([210]) صحيح مسلم، رقم 2545.

([211]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1465).

([212]) الشعور بالعور (ص 215).

([213]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 276).

([214]) سير أعلام النبلاء (3/ 469).

([215]) البداية والنهاية (8/ 320)، والحديث صحيح.

([216]) صحيح مسلم، رقم 2545.

([217]) البداية والنهاية (8/ 322).

([218]) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 79).

([219]) حلية الأولياء (1/ 331)، وانظر قريباً منه: تاريخ خليفة بن خياط (ص 214).

([220]) تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف للعمري (ص: 104).، وانظر: سمط النجوم العوالي (1/ 210).

([221]) مشاهير علماء الأمصار (ص: 230).

([222]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 252).

([223]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 252).

([224]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 218)، وإسناده لا بأس به، فإسماعيل ابن سنان وثقه أبو حاتم الرازي.

([225]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 251).

([226]) البداية والنهاية (8/ 242).

([227]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 255).

([228]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 258).

([229]) البداية والنهاية (8/ 237).

([230]) البداية والنهاية (8/ 241).

([231]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 259).

([232]) تاريخ الطبري (5/ 537).

([233]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 262)، والبداية والنهاية (9/ 38).

([234]) انظر: طبقات ابن سعد (4/ 171).

([235]) الطبقات الكبرى (4/ 171).

([236]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 265).

([237]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 133)، والبداية والنهاية (9/ 22).

([238]) البداية والنهاية (9/ 23).

([239]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 538).

([240]) البداية والنهاية (8/ 316).

([241]) صحيح البخاري، رقم الحديث 1660.

([242]) انظر: البداية والنهاية (8/ 329).

([243]) البداية والنهاية (8/ 330).

([244]) تاريخ الطبري (6/ 190).

([245]) البداية والنهاية (8/ 345)

([246]) الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار (ص: 117)،

([247]) قال ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (6/ 125): «قال علماء السير...»، وانظر: الطبقات الكبرى - متمم الصحابة - الطبقة الخامسة (2/ 97)، تاريخ الطبري (6/188)، وفيات الأعيان (3/ 73)، الكامل في التاريخ (3/ 402)، تاريخ دمشق لابن عساكر (28/ 227)، تجارب الأمم وتعاقب الهمم (2/ 245).

([248]) انظر: البداية والنهاية (8/ 332).

([249]) البداية والنهاية (8/ 258).

([250]) البداية والنهاية (8/ 258).

([251]) البداية والنهاية (9/ 62).

([252]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 273)، والبداية والنهاية (9/ 64)، وتاريخ دمشق (37/ 135).

([253]) انظر: البداية والنهاية (8/ 330).

([254]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 280).

([255]) البداية والنهاية (9/ 35).

([256]) البداية والنهاية (9/ 36).

([257]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 289)

([258]) انظر: تاريخ خليفة (ص: 285)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/ 232).

([259]) انظر: خليفة بن خياط (ص: 286).

([260]) انظر: خليفة بن خياط (ص: 286).

([261]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 287).

([262]) الطبقات الكبرى (6/ 265).

([263]) البداية والنهاية (9/ 96).

([264]) البداية والنهاية (9/ 49).

([265]) البداية والنهاية (9/ 40).

([266]) تاريخ الإسلام (6/ 11).

([267]) البداية والنهاية (9/ 36).

([268]) الطبقات الكبرى (6/ 249)، تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 398).

([269]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 287).

([270]) البداية والنهاية (9/ 155).

([271]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 287).

([272]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 287).

([273]) البداية والنهاية ط الفكر (9/ 54).

([274]) البداية والنهاية (9/ 167).

([275]) انظر: الشعور بالعور للصفدي (ص: 193).

([276]) تاريخ الإسلام (2/ 1157).

([277]) البداية والنهاية (9/ 167).

([278]) البداية والنهاية (9/ 168).

([279]) البداية والنهاية (9/ 219).

([280]) انظر: البداية والنهاية (9/ 219).

([281]) انظر: البداية والنهاية (9/ 221).

([282]) البداية والنهاية (9/ 221).

([283]) تاريخ خليفة بن خياط (ص: 89).

([284]) البداية والنهاية (9/ 220).

([285]) الفرق بين الفرق (ص: 25)، ولم أجدها في كتاب غيره.

([286]) نسب قريش (2/ 61).

([287]) انظر: تاريخ الطبري (4/ 197).

([288]) انظر: البداية والنهاية (9/ 330).

([289]) انظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 71).

([290]) البداية والنهاية (9/ 330).

([291]) البداية والنهاية (9/ 331).

([292]) البداية والنهاية (9/ 329).

([293]) تاريخ الطبري (7/ 168).

([294])  تاريخ الطبري، (7/ 171)، وانظر: مقاتل الطالبيين (ص: 38132). المواعظ والاعتبار (3/ 204)، الكامل في التاريخ (4/ 258).

([295]) تاريخ الطبري (7/ 169)، والكامل في التاريخ (4/ 261)، وانظر: تجارب الأمم وتعاقب الهمم (3/ 136)، وأنساب الأشراف للبلاذري (3/ 240)

([296]) الكامل في التاريخ (4/ 260).

وسوم: العدد 879