الغرب والفساد والمحاصرة

-1-

الغرب والفساد

شكلت أوروبا وأمريكا ملاجئ آمنة للأموال المنهوبة من قِبَل الفاسدين في بلدان العالم الثالث، كما شكلت ملاجئ آمنة للفاسدين الذين يهربون من بلادهم لهذا السبب أو ذاك.

تفاقمت هذه الظاهرة مع تفاقم نهب الثروات المالية في مرحلة العولمة، ولا سيما خلال الثلاثين عاماً الماضية. فالفساد المالي المهاجر إلى الغرب أصبح بالمليارات بعد التضخم المالي النقدي الرقمي، فكم من فاسد كبير وصولاً للرؤساء والملوك أودع مليارات في بنوك الغرب تعد بالعشرات، سواء أكان ذلك في البنوك، أم في العقارات أم في الأسهم؟ فالثروات المالية التي أصبحت تصب في الغرب من دول العالم الثالث لا حصر لها؛ لأنها في أغلبها تدخل في حسابات سرية، ومن خلال شركات "وهمية"، أو عبر عقارات بعضها قصور لم تعلن أسماء الذين اشتروها من قِبَل فاسدي العالم الثالث.

من هنا يخطئ من يعتبر أن الفساد ظاهرة عالمية، بالرغم من وجوده في كل البلدان، ولا سيما في العالم الثالث، إلاّ أنه في حقيقته سياسة أوروبية أمريكية لتشجيعه إلى أقصى مدى، حتى وصل إلى كل تلك الأرقام الفلكية، وحتى أصبح كبار الفاسدين وعائلاتهم يحوزون على جوازات سفر غربية أو على إقامات دائمة.

فهذا البلاء الذي أصبح من أسباب إفقار بلدان العالم الثالث ما كان له أن يبلغ ما بلغه من فساد لولا تلك الحماية لأموال الفاسدين، كما للفاسدين وعائلاتهم كذلك.

تصوروا ماذا كان سيحدث للفساد لو كانت سياسة الدول الغربية تمنع "هجرة" الأموال المنهوبة إليها، وراحت تدقق بمصادر الأموال المحوّلة التي تبدأ بالملايين وعشرات الملايين لتصل إلى مئات الملايين فالمليارات فعشرات المليارات؟ الجواب: سيهبط النهب المالي إلى العُشر إن لم يهبط إلى 1 في المئة أو واحد في الألف. ثم أين سيكون المفر للفاسدين لو منعوا من الإقامة والجنسية هم وعائلاتهم؟

إن رأس الفساد العالمي هو دول الغرب نفسها، هو النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي العالمي. بل يمكن القول إن قطع هذا الشريان سوف يؤدي إلى أزمة مالية عالمية أخطر من التضخم المالي، والكساد الإنتاجي، أو قل دونها أزمتا 1929 أو 2008، أو أي أزمة ضربت في النظام الرأسمالي وأدت إلى الحرب. ولعل الظاهرة المشهودة التي تحمل المغزى المشار إليه هو منع استرداد دولة لبعض ما نُهب وهُرّب من ثرواتها. فما يدخل جيوب الغرب لا يخرج منها، أما استثناء هذه القاعدة فسيكون فتاتاً، وثمة المثال التونسي بعد سقوط زين العابدين بن علي.

لهذا من الضروري شنّ نضال عالمي، بأن تتشكّل محكمة دولية يسندها قانون يجرّم هجرة الأموال المنهوبة إلى الغرب، تماماً كما القوانين الدولية التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. ولكن الأهم من ذلك فهو التشهير السياسي ضد السياسة الغربية التي هي وراء تشجيع الفساد العالمي والفاسدين العالميين.

-2-

الغرب والمحاصرة

تدل التجربة العالمية منذ الثورة البلشفية في روسيا وتشكّل الاتحاد السوفييتي على أن ما من دولة تجرأت على التمرد على الهيمنة الغربية إلاّ وراحت تذوق الأمرين في مواجهة الحصار الاقتصادي والسياسي، والمعززيّن بالتهديد العسكري، الأمر الذي كان يؤدي إلى اختناق اقتصادي وصعوبات معيشية شديدة جداً، وذلك من أجل تحريض الشعب في الداخل للتذمر والثورة، أو لهجرة قطاعات واسعة منه.

فكان على دولة الثورة، أو دولة الاستقلال ورفض التبعية للإمبريالية والصهيونية، أو للغرب عموماً، أن تصمد ولا ترضخ للاستسلام أمام الضغوطات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والمؤثرة على معيشة الناس وحياتهم. وكان هذا الصراع ضمن هذه المعادلة يمتد لسنوات، وربما لعشرات السنين، كما حدث مثلاً مع مصر وسوريا والعراق وفيتنام وكوبا وكوريا والصين والهند.

وبهذا كان القانون الذي يفرضه النظام العالمي الإمبريالي الغربي وحلفاؤه، هو الخيار: إما التبعية والخضوع، بما يحملانه من ظلم وإفقار وتخلف (مثال الدول التابعة في العالم الثالث)، وإما الصمود والثورة والسيادة والاستقلال بما يحمله ذلك من حصار خارجي وضيق اقتصادي وصعوبات حياتية، وتذمر (جزئي أو واسع) داخلياً، فضلاً عن هجرات (محدودة أو جماعية) لمن يضيقون ذرعاً من الصعوبات، أو لمن لا يهمهم قَيَم الثورة ومصلحة الشعب والسيادة والاستقلال والاعتماد على الذات، رفضاً للتبعية المذلة المهينة.

أ‌- مع متابعة المئة عام الماضية لا نجد حالة دولة واحدة استسلمت تحت ضغوط الحصار والتجويع، وإنما كانت العزة والكرامة والحفاظ على السيادة يدفعان إلى الصمود مهما طال الحصار واشتد الوضع الاقتصادي سوءاً. والأمثلة كثيرة في بلادنا العربية وفي العالم الثالث.

ب- كان الغرب يلجأ إلى الحرب والانقلابات العسكرية لحسم الصراع كما حدث في ضرب عدد من بلدان حركة عدم الانحياز، وإذا حدث تغيير من دون اللجوء إلى الحرب فكان يتم من خلال فساد في رأس الدولة، مثلاً من خلال "الوراثة" أو الاغتيال.

ج- في السنوات العشر الأخيرة أو أكثر قليلاً أخذت سيطرة الغرب العالمية تتداعى، ولم تعد قدرته على التدخل العسكري قائمة كما في السابق، ولهذا برزت ظاهرة تشجيع الحروب الأهلية وإشاعة الفوضى الداخلية، ضمن سياسة شمشونية "عليّ وعلى أعدائي يا رب".

د‌- في المعركة الداخلية بسبب استفحال الأزمة الاقتصادية أخذت الآلة الإعلامية الغربية في الداخل المستهدف والمأزوم تروّج لشعار "بدنا نعيش"، و"بدنا نخلص"، وتُشيطن قيم التحرّر والمقاومة والوحدة والعدالة وكرامة الأمة وسيادة الدولة، وذلك لإعلاء قيم الفرد الذي همه نفسه فقط، وخلاصَه الذاتي فقط، أما قضايا الوطن الكبرى فلم تعد ذات شأن بالنسبة إليه. وبهذا تشن حرب نفسية من أجل استعادة الهيمنة واستتباع البلاد للخارج، وبأيدي بعض النخب كالتي ضاعت فكرياً وفقدت الثوابت، أو كالتي أصبحت مرتزقة.

هذه النخب أصبحت اليوم متنمرة وعالية الصوت. كانت في السابق موجودة أيضاً، ولكنها كانت خافتة الصوت أمام صوت الشباب والشعب المناضل ضد الاستعمار والعدوان الصهيوني، والطامح للتحرر والوحدة والكرامة وعزة الأمة ونهضتها.

ومن هنا ثمة معركة كبرى يجب أن تُفتح لإعلاء شأن الثوابت والقِيَم الوطنية والقومية والدينية والثورية العليا، مقابل الانحطاط الفكري والسياسي الذي يجعل المصلحة الضيقة للفرد فوق قِيَم المجتمع والوطن والأمة، تحت ضغوط "بدنا نعيش"، و"بدنا نخلص".

على أن التجربة العالمية في الصمود ضد الحصار والصعوبات الاقتصادية والتجويع تؤكد على ضرورة تلافي نقاط ضعف داخلية، وقد استغلت كثيراً على طريقة "حق يراد به باطل"، وتتمثل في عدم مراعاة القيادات والكوادر، أو النظام، ما يقتضيه الصمود من تقشف ومشاركة الشعب في الضائقة التي يعيشها، فضلاً عن المحاربة الحازمة لكل فساد، ولكل جور، ولكل محاباة.

وسوم: العدد 924