كفانا ذلا... أيتها الأمة العزيزة

ونحن في السنة الثانية لحرب الإبادة على غزة الأبية الحرة الصامدة، نشعر ببطء الأيام والليالي، وتثاقل الآلام والأوجاع على غزة، على الرغم من تسارع الزمن وتقارب الأيام على غيرها، ولعل سر تباطئ الأيام على غزة، ما تحمله في طياتها من الجراج التي لا تحتمل، والقتل الذي لا يوصف، والدمار الذي لا يقدر، والهوان الذي لا يطاق، وأصبحت غزة تتلظى تحت نيران المحتل الغاشم، الذي كشر عن أنيابه، وأراق ماء الإنسانية من وجهه، وأصبح يتصرف كالمجنون في التعامل معها والتفاعل مع ركامها، ولأنه لا يطول المجاهدين بات وكأنه يحارب الركام والدمار، ويطلق قذائفه وأسلحته التي تكبده الملايين من الدولارات، على الحجارة المفتتة التي يسند بعضها بعضا، والبيوت المدمرة التي تشهد بشموخ رجالها، والطرقات الموحشة التي لا تكاد تجد فيها إلا الموت، لقد أصبح العدو الغاشم كالمجنون فعلا، لأنه يحارب الموت ويظن أن به حياة، ويرتعد جنوده خوفا من الركام ويظنونه مفخخا، ويرهبون الدمار الذي يرونه متنمرا، بل والتراب الذي ربما يرونه مسلحا.

هكذا فعلت غزة بأعدائها، ولعبت بعقول المتربصين بها من المحتلين الغاصبين، والظالمين والمتكبرين، من بني صهيون ومن معهم، ولعل من أهم أسرار جنون العدو المحتل الغاشم، أن غزة لم تبخل بدماء أبنائها الأبطال، ورجالها البواسل، فضلا عن المال والعتاد، وكل أعراض هذه الحياة، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع زفت عشرات الآلاف من الشهداء الأبرار، والمجاهدين الأخيار، والرجال الأطهار، إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، وهي مع كل ما أصابها صامدة صابرة ثابتة على العهد، مؤكدة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

هذا بخصوص غزة وأهلها، أما غير غزة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهم مبتلون بها، ممتحنون بما يفعله الأعداء فيها، موقوفون أمام الله عز وجل بخصوصها، مسئولون عما يقدمون لها، وكأن القرآن يقرعهم بآياته القارعة، ويصخهم بالآيات الصاخة ويزلزلهم بقوله تعالى: ( وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ  بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ) الصافات 24 ـ 26 .

ولقد وقعت الأمة على اتساع رقعتها، وكثرة عتادها وعدتها، ووجود الآلاف من علمائها، في استسلامها المهين، ونسيت أنها مخاطبة بقول الله تعالى في مثل هذه الظروف بقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقد ذكر القاضي أبي يعلى في كتابه الأحكام السلطانية في معنى قوله :( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ) أربعة أو جه هي : شبانا وشيوخا قاله الحسن وعكرمة، وأغنياء وفقراء قاله أبو صالح، وركبانا ومشاة ، قاله أبو عمر، وذا عيال وغير ذي عيال قاله الفراء .

وسر هذا النفير العام أن جزءا من بلاد المسلمين، دهمته يد العدو، بل جزءا مهما أسرى إليه نبينا الأمين، وفتحه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وحرره بعد ذلك القائد صلاح الدين، واتفقت كلمة المجتهدين من فقهاء المسلمين، على أنه يتعين على أهل الناحية التي دهمها العدو أن يخفوا لنجدتها، وأن يطيروا لتحريرها، فإن عجزوا، امتدت المسئولية إلى الناحية التي تليها، فإن عجزوا أيضا امتدت المسئولية لمن بعدهم، حتى تشمل جميع المسلمين شرقا وغربا، على اختلاف ألوانهم، وتباين لغاتهم، وتباعد أماكنهم.

ولعمري.. نحن لا نريد أن تتسع رقعة الحرب، ولا نريدها حربا شاملة يدخل فيها سائر المسلمين، وإن كان ذلك سائغا، لكننا لا نريده، ولا نتمنى لقاء العدو ونسال الله العافية، لأن أبطال المقاومة وحدهم أرغموا أنوف أعدائهم، وأذاقوهم من مرارة الكأس التي شربوا منه، وأطاروا النوم والراحة من عيون أعدائهم، وذلك قوله تعالى ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون )، ولذا ظلوا صامدين إلى يومنا هذا مع ضعف عتادهم، وقلة أسلحتهم، وبات واضحا أنه يكفي لدحر العدو، وإيقافه عن الجرائم والمجازر التي يرتكبها، أن تقف الأمة العربية والإسلامية جميعا ضد الكيان المحتل الغاصب، وأن توفر للمقاومة ما تحتاجه من عتاد وسلاح، وأن نحرص نحن أبناء الأمة جميعا على المقاطعة الاقتصادية لكل منتجات العدو، ومقاطعة منتجات من يقف معه أيضا، وأن تسخو أيدينا بما نطيق من أموالنا ومتاعنا، حتى ندفع عن الناس هناك مر الجوع ومرارة العطش وذل العري، وعناء الحرمان، ولنسكت في صدورهم صراخ الأطفال واليتامى والأرامل وسائر المدنيين، وإذا كان الإسلام يجعل من بذل النفوس طريقا لتحرير الأرض الإسلامية التي احتلها العدو، فإن الأموال التي يحتاجها المجاهدون يجب أن تبذل من باب أولى، لأن أموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم واحدة لم تعدلها، ورحم الله إمام الحرمين الجويني حين قال: ( فإذا وجب تعريض المهج للهلاك والردى، ومصادمة العدى، وجب من باب أولى بذل المال، ومن أبدى فيه تمردا فقد ظلم واعتدى ... فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات " السيوف " فالأموال في هذا المقام من المستحقرات).

أيعقل أن يموت أطفال غزة، ونساؤها، جوعا وعطشا، والأمة الإسلامية التي بلغت آلاف الملايين من البشر، لا تستطيع أن توفر لهم رغيف الخبز، وشربة الماء، أيعقل أن يقف العالم الغربي والأمريكي في ظهر الكيان الغاصب، يزيد في قوته، ويقوي من عزيمته، ولا يرضى لمواطني هذا الكيان، جوعا ولا ألما، ولا يرضى لمقاتليه ذلا ولا أسرا، والعالم العربي والإسلامي في المقابل يرضى لأبنائه الذل والهوان، والعار والشنار، يسمع صراخ الأطفال ولا يتحرك، وتقرع سمعه أنات الثكالى ولا يجيب، ويرى زفرات اليتامى والأسرى ولا يلتفت، أيعقل أن نصل إلى هذا الذل وهذا الهوان، أيعقل أيتها الأمة العزيزة ، وربكم هو العزيز وقد جاء في الوحي المتلو إلى يوم القيامة ( فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) البقرة 209، وكتابكم عزيز ويؤكد الله ذلك بقوله ( وإنه لكتاب عزيز ) فصلت 42، ثم يجمع الله العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين جميعا بقوله ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) المنافقون 8، أيعقل أيتها الأمة العزيزة، أيعقل كل هذا ونحن المؤمنون...ألا نخشى على أنفسنا سنة الاستبدال حينما نكون أذلة أمام أعدائنا الكافرين، أذلة أمام إخواننا المؤمنين، إننا نخشى إذا لم نعمل على إعادة عزتنا مع الكافرين، أن يصيبنا ما أخبرنا الله به من سنة الاستبدال بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، وقو قوله عز شأنه: ( ... فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة ) وقد جعل الله عز وجل الجهاد، وألا نخاف في الله لومة لائم، فضلا من الله عز وجل، يعطيه الله عز وجل لمن يشاء، ولذا يختم الله الآية بقوله ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) المائدة 54 .

وسوم: العدد 1126