اغتيال سليماني: أزمة الموقف ، وخيارات الرد الإيراني

زهير سالم*

يواجه العقل السياسي للنظام الإيراني تحديا خطيرا وأزمة خانقة على صعيد استحقاقات الموقف السياسي في الداخل والخارج . ويتأرجح هذا العقل بين معطيين كلاهما خطير على مستقبل النظام والدولة في إيران المعطى الأول هو : الاسترسال مع خطاب " العنجهية " والتحدي الذي دأبت عليه الثورة الإيرانية منذ انطلاقها ، والذي ما يزال رغم تعفنه ، خبزا صالحا يقتات عليه أنصار الولي في الداخل والخارج ..

والخيار الثاني التصرف بمقتضى الظرف ، وعلى قدر الفراش ، وفي إطار من الحسابات الواقعية والعملية ، مع اتكاء أكبر على دين التقية ، الذي ما زال معينا لنظام الملالي على مدى عقود .

يقدر ملالي قم أنهم إذا استرسلوا في خطاب التصعيد وعملوا بمقتضياته فإنهم سيدخلون في حرب شاملة ومباشرة مع قوة لا قبل لهم بها ، رغم الادعاء . وسيقعون مباشرة في الفخ الذي نصبوه لغيرهم .

ومن هنا فما أسرع ما اختفت مثل تلك النداءات التي أطلقها المتحدثون الكثر باسم الولي الفقيه بعد الساعات الأولى للحدث .. ومنها ما نادى به حسن نصر الله : على قوى المقاومة أن تضرب في كل العالم . وقد تردد مثل هذا النداء على أكثر من لسان وفي أكثر من عاصمة وليس فقط في بغداد وطهران.

ثم تم اختصار هذا التصريح المدوي إلى مثل هذه الصورة كما جاءت على لسان قآني خليفة قاسم سليماني : إن أشلاء الأمريكيين سوف تملأ الأرجاء في الشرق الأوسط . وهذا التصريح على حماقته وشدته يخالف التصريح الأول في نقطتين : الأول في تحديد المستهدفين والثاني في تحديد ساحة المعركة . ومع ذلك يبقى هذا التصريح أحمر قانيا خاليا من الكياسة والدبلوماسية ، ولذا سرعان ما طوي ولم تتوقف عنده حاملات الأخبار.

خلال الساعات الماضية التي تفصلنا عن عملية الاغتيال بدأت حدة التصريحات تخف وتتراخى وتلتقط أنفاسها ، وتختلط تصريحات الثوريين منها بتصريحات الدبلوماسيين . الذين ظلوا يؤكدون أن الرد لن يكون آنيا ولا سريعا وأنه سيتصف بالحكمة وأنه لن يترك الثأر ولكن .. ويكون وراء ولكن كلام كثير ..

وفي هذا تكمن في الحقيقة أزمة الموقف الإيراني الرسمي . أزمة المصداقية التي أعطبت مفعول الخطاب الإيراني وفضحت تخاذله وتواطؤه وطائفيته منذ عقود .

وأمام خياري الانبطاح أو الانفضاح ، يعيش القادة الإيرانيون أزمتهم الحقيقية . هل يسترسلون مع خطاب العنجهية الكاذبة فيذهبون إلى مصارعهم ويكون انفضاحهم ، أو ينكفئون إلى الشعارات كما تعودوا أن يتهددوا بوعود الموت وينثروها نحو اليمين والشمال ، ثم يلوذون بالتسويف كما جرت العادة بعد بلعهم لكل سكين .

وإزاء الأزمة التي تعيشها إيران اليوم بين الذهاب في معركة التحدي إلى نهايتها بالوفاء بوعود الثأر والانتقام وبين العودة إلى خيارات التقية يبدو أن خيار " التبريد " هو الخيار الذي يلجأ إليه الساسة الإيرانيون منذ الأمس . ويقوم هذا الخيار على أكثر من معطى :

الأول هو توزع الأدوار ..

بحيث يحافظ رجال الدبلوماسة "الرئاسة والخارجية "بشيء من وقارهم الدبلوماسي ؛ بينما يتولى القادة الآخرون ولاسيما من الساحات العراقية واللبنانية واليمنية عملية التصعيد . حيث لا رباط على البلاط.

الثاني - لتأكيد على خيار الثأر والانتقام بلغة أكثر انضباطا وأكثر توازنا وذلك بالحديث عن الخيارات الأخرى على التوازي ، وتحميل الأمريكي مسئولية ما جرى أو ما سيجري . والتلفع بالقانون الدولي وحقوق الإنسان .

والثالث – التمسك بمكانة إيران ومكاسبها واستعدادها للدفاع عن مصالحها . وذلك كمحاولة لإثبات الذات ومحاولة التعويض عن الخسارة.

ثم يتساءل المراقبون والمتابعون : ما هي خيارات إيران الاستراتيجية العملية إذا ما قررت الذهاب إلى أي نوع من المواجهة ولو المحدودة؟ تملك إيران عمليا ثلاثة أسلحة استراتيجية يمكن أن ترد من خلالها على الضربة الأمريكية ولكن لكل سلاح من هذه الأسلحة مقيداته ومعوقاته: السلاح الأول : هو منظومة الصواريخ الباليستية التي تملكها طهران . وهي منظومة أكثر تطورا وأبعد مدى ولكن الإيرانيين يعلمون أن استخدام هذه الصواريخ ضد الأهداف الأمريكية المباشرة حول العالم قد ينعكس عليهم بما لا يحبون . فهل ستستخدم إيران هذه الصواريخ ضد بعض المصالح الأمريكية ، وضد بعض من تعتبرهم حلفاء الولايات المتحدة ..ربما هذا الاحتمال الأقرب والأقل كلفة كما يقولون ، ناقلة نفط تحمل نفطا للأمريكيين مثلا !!..

ثم السلاح الاستراتيجي الثاني الذي تمتلكه إيران ..

هو التحكم في المضائق ومعابر النفط ومنها مضيق هرمز حيث يمر خُمس نفط العالم . ومضيق باب المندب حيث تصل ذراع الحوثي الذي يعمل بأمر طهران ..

وتعلم القيادة الإيرانية أن كل ما يمكن أن تقوم به في هذا الميدان قد يشكل مجرد إعاقات وقتية يعمل عليها الإعلام الإيراني وحلفاؤه طويلا كنوع من امتصاص النقمة عند الجماهير ..ولكنها لن تصل في العرف السياسي إلى حجم من اُلإثارة قد تدفع الولايات المتحدة إلى ردة فعل !!

السلاح الثالث الذي يمكن أن تلجأ إليه طهران هو : الأذرع الميليشاوية الطائفية الضاربة في المنطقة ..

هذه الأذرع التي تم تأسيسها على عين الولايات المتحدة ، وبموافقتها ولخدمتها في مشروع قتل المسلمين وإذلالهم وكسر إرادتهم وتهجيرهم ..والتي كان خطأ قاسم سليماني الأكبر محاولة توظيف بعضها في مواجهة الولايات المتحدة في عملية عدوان حزب الله العراقي على السفارة الأمريكية في بغداد ..فهل ستعيد إيران الوقوع في الخطأ القاتل نفسه ، وهل ستخسر كل عصيها بدفع الولايات المتحدة إلى تصنيفها كميليشيات إرهابية ؟!

المتأمل لكل ما يقال عنه دولة إيرانية يعلم أنها دولة في قفص الولايات المتحدة . وأن الولايات المتحدة لن تسمح لأي دولة في العالم أن تمتلك سلاحا ترد عليها به .

هذه ليست دعوة للحرب ولا تسعيرا لها ، وإنما محاولة لندرك أن الانتقام الوحيد الذي قد تسمح به الولايات المتحدة هو قتل وتهجير المزيد من السوريين والعراقيين واليمنيين . وهي المهمة الأولى التي تأسس المشروع الصفوي عليها .. فماذا نحن فاعلون؟

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية