إشعال النار في الأجساد أم في الضمائر المتغافلة؟

رأي القدس

أقدم ضابط في سلاح الجو الأمريكي على إشعال النار في جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وسجل واحداً من أفعال الاحتجاج القصوى ضد حرب الإبادة التي تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي تنويع فظائعها منذ أكثر من 140 يوماً. وتعمد الضابط إقامة الصلة المباشرة مع جرائم الحرب الإسرائيلية حين صرخ وهو يوقد النار: «فلسطين حرة» كما وثّق في بث مباشر عبر هاتفه فحوى ما يعيشه من تأزم الضمير حين قال: «لن أكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعية».

واضح من جانب آخر أن هذا الضابط شاء تمرير رسالة تحمل مستوى أقصى من الاحتجاج، تتوجه إلى النطاق الأوسع من متابعي منصة التواصل الاجتماعي Twitch، التي سارعت إلى حذف مقطع الفيديو المسجل معتبرة أنه خالف قواعد النشر فيها، وأغفلت حقيقة أنها أغلقت ذلك الحساب لسبب آخر هو أنه كان يحمل العلم الفلسطيني.

وليس أقل وضوحاً في المقابل أن الرجل ضابط عامل في الخدمة الفعلية لسلاح الجو الأمريكي، وتشديده على عدم التواطؤ «بعد الآن» يوحي بأن قيادات السلاح قد ساقته بالفعل إلى مشاركة في حرب الإبادة يمكن أن تدخل عملياً في باب التواطؤ الأمريكي مع جرائم الحرب الإسرائيلية. وهذا قد يفسر الكثير من مظاهر التكتم التي فرضتها أجهزة الأمن الأمريكية على الواقعة، بحيث يمكن الافتراض بأن حذف الفيديو، وعدم الإفصاح عن هوية الرجل تحت ستار نقله إلى المستشفى للعلاج، وإغلاق حسابه نهائياً، إنما تبرهن على خلفيات أشد حرجاً لا تقتصر على دولة الاحتلال وحدها.

 

ولعل مشاهد إضرام النار في الأجساد البشرية احتجاجاً على حرب الولايات المتحدة في فيتنام هي الأقرب من حيث جوهر الفعل ومقاصده إلى ما اختاره الضابط الأمريكي من ذروة استثنائية في التعبير عن رفض حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضد قطاع غزة. ولهذا لم يكن مستغرباً أن متظاهراً أمريكياً بدوره، سبق أن تعرّض جسده لحروق شديدة خلال تجمع احتجاجي أمام القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا، مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ولن يُستغرب بالتالي أن تتكرر الظاهرة ويتسع نطاقها، مع اشتداد التوحش الإسرائيلي ضد الأطفال على نحو خاص، حتى داخل ما تبقى من مصحات وملاجئ.

وإذا لم تتكرر مشاهد مماثلة من حرق الأجساد في عواصم أوروبية مثل لندن وباريس وروما وبرلين، مساندة بدورها لحرب الإبادة الإسرائيلية، فلعل السبب الأول يعود إلى أن الولايات المتحدة ليست اليوم متواطئة مع الفظائع الإسرائيلية فقط، بل باتت منعزلة تماماً في موقع الشريك المباشر الذي يزود دولة الاحتلال بالأسلحة الفتاكة مثلما يستخدم حق النقض في مجلس الأمن الدولي لتعطيل مشاريع القرارات الهادفة إلى وقف إطلاق النار.

ولا عجب من جانب آخر أن تغطيات وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى لاحتراق جسد الضابط الأمريكي أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن لم تحظ بتغطية الحدود الدنيا التي تناسب واقعة فارقة واستثنائية، يتوجب أن تفتح العيون على اتساعها وتشعل النار في الضمائر المتغافلة قبل الأجساد.