ولى عصر الانبهار

عبد الله الطنطاوي

وجاء عصر الانهيار

في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، كان كثير من مثقفي هذه الأمة، من الذين سافروا إلى أوربا للدراسة وسواها، مبهورين بما شاهدوه في أوربا أو أمريكا، من مظاهر التقدم العلمي والصناعي والعمراني. وعندما عادوا إلى أوطانهم، كانوا رسل تبشير بتلك الحضارة الباهرة، ينسون أنفسهم وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، وهـم يتحدثـون عـن أضواء الحضارة الغربية في انبهار كان يبهر بعض السامعين من أصحاب مركبات النقص، فيقوم هؤلاء بدور المبشر المنذر. المبشر بما سمع مما رأى وشاهد، داعياً إلى الاحتذاء بالغرب، والاهتداء بالمنارات الشامخة هناك، تلك التي تجعل المآذن (البلدية) قزمة  قميئة إلى جانبها، ومنذرين بالويل والثبور، وعظائم الأمور، إذا أبقينا على تلك المآذن في القلوب والعقول.. إذا لم نستبدل بها تلك المنارات الغربية المتلألئة، بكل ما فيها من قيم وعادات وسلوكيات ربما لا تنسجم مع قيمنا العربية والإسلامية، ولامع عاداتنا وتقاليدنا.

وكانت الحركات الهدامة، من جملة تلك المستوردات التي جاءنا بها أولئك  المبهورون، وكانت الدعوة إلى فصل الدين عن قوانين الدولة، بل عن الحياة جملة وتفصيلا، منارة التقدم، والدواء الناجع للقضاء على التخلف الذي ورثنا إياه هذا الدين الإسلامي، وقال قائلهم: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" والذي لله، هذه الصلاة، وذاك الصيام والحج وألوان العبادات الأخرى، وما لقيصر، هو هذه الحياة بما فيها من سلطان ودستور وقوانين وسياسة واقتصاد وأدبيات، وكل ما يمت إلى الحياة بصلة.. سمحوا للناس بالصلاة والصيام، ومنعوهم من إدخال الدين أو تدخله في أي شأن من شؤون الحياة.. كالسياسة، والاقتصاد، والتعليم وسواهما..

وكان التآمر على الدين وقيمه ومبادئه وأخلاقياته،، وكان ضياع فلسطين، وكان التمزيق للأرض والدولة الواحدة، وكانت الدويلات الإقليمية، وكانت الانقلابات العسكرية، ونشطت الدعوات الهدامة، وحكمت الأحزاب المشبوهة، وكانت الهزائم المتتالية على مدى الوطن العربي الكبير، وكانت المشاحنات والحروب بين الأشقاء.. كان كل ذلك نتيجة طبيعية لتلك الدعوات والحركات والأحزاب المرتبطة بالخارج، كما هي نتيجة طبيعية لعزل الدين عن الحياة، ولإبعاد (الأصوليين) عن الدولة، ولانبهار (النخب) المثقفة والحاكمة، بالحضارة الغربية، وما صاحبها من تبعية ودعم غربي: أوربي وأمريكي، للمنبهرين التابعين الذين كانوا حجر عثرة في طريق التنمية والتقدم، والذين كانوا من الساعين لتأكيد حضارة الاستهلاك من المنتوجات الغربية.

ولكن الشعوب العربية والإسلامية، برغم جهلها وفقرها وتخلفها، استعصت على تلك الدعوات المشبوهة، واستمسكت بدينها، وقيمها، وأخلاقها، وكانت أصالتها درعاً تكسرت عليها حراب المستغربين، ولكن هؤلاء، وبحكم تبعيتهم للغرب، ثقافة، وارتباطاً، ومن أجل الحفاظ على مناصبهم ومسؤولياتهم الكبيرة التي تصل إلى المسؤولية الأولى في الحكم، وبحكم دعم الغرب للأنظمة والحكام الموالين لهم... وبعدما أحسوا بانتشار الصحوة الإسلامية، وعودة المثقفين والشبان والطلاب إلى إسلامهم، وأن صناديق الاقتراع في صالح الشباب المسلم- ما كان من هؤلاء (النخب) الحاكمة إلا أن تترامى على أقدام الحاكمين في البيت البيضاوي، وإذا لزم الأمر، وجاءت التعليمات بتقبيل العتبات (المقدسة) في تل أبيب، فهم مستعدون لتقبيلها ومعانقة حاكميها، والائتمار بأوامرهم، وتنفيذ مخططاتهم في حماسة يحسدون عليها، مهما تعارضت تلك المخططات مع مبادئ الإسلام، وتطلعات الشعوب في السيادة الحقيقية، والاستقلال الحقيقي، ومهما تضاربت مع مصالح الجماهير.. إنهم مستعدون للتنازل عن الأرض والعرض والدين وسائر القيم التي يذود الذائدون عنها، لقاء تعهد (السادة) في واشنطن وتل أبيب بالمحافظة على المصالح الشخصية لأولئك، وبالدفاع عن كراسيهم التي احتلوها قهراً وغدراً وبمساعدات خارجية معروفة..

والغريب في الأمر، أن هؤلاء الحاكمين بأمر غيرهم من (السادة) كانوا –آنذاك- يفعلون فعلاتهم في السر ومن وراء الكواليس، ولكنهم الآن، لا يخجلون من المباهاة بها وعرضها في وسائل إعلامهم، دون أن يعرق لهم وجه، أو يحمرَّ خد، أو تتحرك شعرة في شارب أو رأس، بعد أن تبلدت الأحاسيس، وبعد أن استخفوا أقوامهم فأطاعوهم وطبّلوا لهم وزمّروا لهم..

منذئذ، ما عاد الحاكمون يأبهون لشعوبهم التي قمعوها وأذلوها، وأهانوها، وجردوها من كل سلاح، ظناً منهم، أن حصونهم  (الأمريكية والصهيونية)سوف تمنعهم من غضب الله، ومن غضبات الشعوب المقهورة.

ولهذا كثرت التنازلات المذلة، وتسابق المتسابقون منهم نحو تقديم المطلوب وغير المطلوب منهم، إرضاء (للسادة) في عملية انهيار لا يساويها إلا انهيار الأنظمة الماركسية في المنظومة الاشتراكية التي صارت كرتونية بسوء حكامها. وتبعيتهم، وأنانياتهم، وانعزالهم عن شعوبهم التي كانت عدوة حقيقية لهم، كما كانوا هم أعداء حقيقيين لها، فداستهم شعوبهم بأحذيتهم، ورجمتهم بها.. انهيار أمام من حاولوا إيهامنا بأنهم صقور، وليسوا بالحمائم ولا الصقور، إلا أمام الديدان التي تتسلق، منتفخة على شعوبها، ذليلة خسيسة أمام تلك الزرازير والغربان.

إذا كان غيرنا قد شهد عصر انبهار المستغربين فيما مضى من الزمان، فإننا نشهد عصر انهيار الأنظمة والحكام في الحاضر وفيما يستقبل من الزمان، ليس تالياً على الغيب، بل رؤيا ضمير ورؤية عين.. "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".

عبد الله الطنطاوي