كلام بأحرف مهملة

زهير سالم*

زهير سالم*

[email protected]

الحرف المهمل هو الحرف غير المنقوط. والحرف المعجم هو الحرف المنقوط. نقول بالعين المهملة، وبالغين المعجمة. ونشأت الكتابة العربية والأحرف جميعا مهملة. وكانت القراءة تعتمد على القارئ اللبيب. وفي إهمال الحروف إبهام مقصود تخلصا من... واعتمادا على...

*  *  *

يعيش العاملون في الميدان العام ،حيث لا حرية لرأي،عند القارئ كما عند الرقيب محنة متعددة الأبعاد.  ضمير الكاتب الشخصي  بعد أول ، وضميره المهني  بعد ثان، و وتطلعاته ورؤاه العقلية  المنسجمة مع العصر الذي يعيش بعد ثالث، وانتماؤه إلى مجتمعه وأمته بعد رابع...بينما يتوسد إعلام (لا أرى لا أسمع لا أتكلم) أمواج الأهواء الرسمية تارة والشعبية الجماهيرية أخرى ليرسم وجه المحنة الأكثر بؤسا وكآبة، ويوجب للكاتب في معركة الكلمة المعماة أو المغماة أنواطا متعددة للشجاعة والذكاء والحكمة والحنكة.

 الكتابة بلغة محدودة في عالم بلا حدود تلك المزدوجة تنوء بكتاب وإعلاميين وصحفيين وأصحاب رؤى أو رسائل يحاولون التسلل إلى عقل قارئ بعيدا عن ران قلبه وإلى قلبه بعيدا عن حشو عقله المملوء ، في صورة مسلمات، بآلاف الأساطير.

في عالم بلا حدود ما يزال في عالمنا محدودا الحصول على المعلومة، و محدودا طرائق إعادة التصدير التي يجب أن تتم ممهورة بشهادة منشأ مصدقة من مائة رقيب. وما تزال معدومة شفافية في الواقع تعترف بالقانون الذي سبق إليه العلامة العربي ابن الهيثم أن مصدر النور الجسم المرئي وليس عين الرائي كما كان يظن الأقدمون أو حدسه وظنه وتخمينه وحسبانه، كما يعمل عليه في عالمنا المحدود باللامحدود، العاملون.

   في زمننا الرديء أهله يبقى الحديث عن الوقائع والمستجدات، و تبقى معالجة الملفات الساخنة أو الحرجة أو السوداء أو الرمادية، محكومة بمئات التقاطعات، مسكونة بالخوف من احتمالات الفهم الظاهري المسطح أو الإشاري المرمز، أو التأويل الباطني المعمق.

 في حديث لرئيس جمهورية سبق لسانه في خطاب فقال (القاعدة في هذا الأمر)، ثم استدرك على نفسه جهارا فقال دعونا لا نذكر القاعدة فنقول الأرضية أو الأساس!!! ويا ويل خطيب الجمعة لو تجاوز الحد فحض المصلين على تغيير المنكر بقلوبهم مذكرا بالحديث الشريف أو ( بقلبه وذلك أضعف الإيمان ) لأن التفسير الباطني سيغلق على رجل الأمن كل نوافذ الفهم ليجزم أن الرجل يدعو إلى ( قلبه) بانقلاب فيحاكمه على هذه القاعدة عفوا وعذرا أقصد على هذه الأرضية أو هذا الأساس.

محنة تفرض على الكاتب صاحب الضمير الوطني أو المهني أو العلمي أن يتعلم المرور بين النقاط أو أن يجيد الكتابة بدون نقاط، ليضمن لفكرته أن تمر دون أن تصطدم بسلطة متسلط أو ببلادة بليد أو تأويل متعسف.

 ومن هنا تكمن براعة الكاتب الممتحن بزمانه أو بأهل هذا الزمان على رأي أبي الطيب المتنبي في قدراته على التلوين والتضمين في لعبة حروف الخفض الرفع والنصب والجزم، عليك دائما أن تفتش في كتابته عن (إن). نعم من حقك أن تقول: (أن) كل كلام يكتب في عصور الظلم والتسلط والخطف والإرهاب فيه (إن).

 كثيراً ما تقرأ الحرج على شفتي مقدم برنامج تلفزيوني على شاشة فضائية، أو في عمود صحفي لكتاب أحرار استحدثوا لغة أقرب إلى لغة (كليلة ودمنة) في التعبير عما يريدون. هذه الكتابة الخاصة تستوجب قارئاً خاصاً يستنزف لغة الإيحاء والرمز بكل أبعادها. ما أكثر ما نجد الشكوى في لغة الصحفي  مصاغة بطريقة تلك المرأة التي دخلت على عمر رضي الله عنه، وقد عصمها الحياء من الجهر بالشكوى،  فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل. ففاتت عمر رضي الله عنه على كياسته فقال لها: جزاك الله على نشر المعروف خيراً.. ليلتقطها أحد الصحابة فيقول يا أمير المؤمنين إن المرأة تشكو.. في قصة مشهورة معروفة.

لغة الشكوى هذه تتسلل في أسطر الكثير من الكتاب أحرفا مهملة بدون نقاط أو في برامج إعلاميين تتحدث شفاههم بغير كلمات على لغة من قال:

أشارت بطرف  العين خيفة أهلها

إشـارة محـزون  ولـم تتـكلمِ

فأيقنت أن الطرف قد قال: مرحباً

وأهلاً وسهـلاً  بالحبيـب المتيم

ستبقى جدلية العلاقة بين المتسلطين والمتكلمين ماضية إلى يوم القيامة لأن أعظم الجهاد جهاد كلمة، و سيبقى شهيد الكلمة  سيد الشهداء بعد حمزة بن عبد المطلب. والنصيحة للمتسلط أن يتغابى ليحافظ على بقية رواء. والنصيحة للمتنطع أن يقبل ببقرة بني إسرائيل بغير أشكال ولا ألوان، لأن الحقائق إذا اضطرت تجردت فإذا تجردت أفحمت وأقحمت وأخزت وأبدت...

 وتبقى الرسالة رموزا تكتب على نهج آيات التنزيل ( ذكرى لأولي الألباب ) .

 ومع هذا وذاك تظل رسالة الكاتب بئرا  معطلة. ذلك أن هدف الكاتب التواصل مع جمهور عريض غير قادر بكل طبقاته أن يقرأ غير المكتوب من الكلمات. مهمة الكاتب تجلية الحقائق وتبسيطها للارتقاء بالوعي، وتكوين رأي عام سليم قويم.يستعصي على الاستدراج والتضليل.

              

(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية