عيد.. وأيّ عيد

عبد الله الطنطاوي

كان أهل مصر يلقّبون حاكمهم الفاطمي، بالحاكم بأمر الله، وعندما بدت انحرافاته للناس، أضفوا لقباً جديداً عليه، هو: الحاكم بأمره، فقد اعتبروا الحاكم الذي يحكم بأمره، وليس بأمر الله، وحسب شريعته، سبّة وعاراً، أما نحن العبيد الفقراء القليلين، فقد أصبحنا نرى الحكام الذين يحكمون بأمرهم، وحسب أهويتهم وأمزجتهم، أقل سوءاً من الحاكمين بأمر غيرهم.. بأمر أمريكا، وتوابعها، وذيولها، فحكم هؤلاء، شرّ مطلق.. 

وقد مضى آخر الحاكمين بأمرهم، والشعوب العربية تتطلع إلى من يحكم باسمها حقيقة لا ادعاء، تمهيداً للحكم بما أنزل الله، لعل هؤلاء يوقفون حالات الانهيار التي تتسارع..

كنا نبكي على فلسطين المحتلة، وعلى القدس والمسجد الأقصى، والجولان المحتل منذ ستة وثلاثين عاماً، وقد بنى العنكبوت بيوته فيه، للهدوء العجيب الغريب فيه، وها نحن اليوم نستقبل هذا العيد، وقد احتل العدو بلداً عربياً كبيراً، احتلّ العراق، والحبل على الجرّار، ما دام الحاكمون هم هم، بعداً عن الشعوب، وافتئاتاً عليها وعلى مصالحها الحقيقية، وتفريطاً بأرضها، وإزهاقاً لأرواح أبنائها، وإذلالاً لكراماتهم..

فالسجون ما تزال غاصة بالمعتقلين منذ أربعين سنة في سورية مثلاً.. والمعتقلون الذين فقدوا كل شيء، ونسوا كل شيء ما عدا سلاسل السجان، وسياط التعذيب، وقضبان الحديد، وجدران الزنازين، وأسوار السجون العاليات، وما يقدّم إليهم من فتات لا تسمن ولكنها تغني من بعض جوع اعتادوا عليه..

نسوا الأهل والوطن والحياة كلها، نسوا الزمان والمكان، وتساوى عندهم الليل والنهار، كما تساوت عندهم السجون والجلادون.

كان العدوّ يبني أفرانه الذرية، ويستقدم مئات المهندسين من أنحاء العالم، من أجل امتلاك القنابل النووية، وكان أكثر حكامنا يبنون السجون والمعتقلات للشعب، والقصور والمزارع وألوان الاتجار بالمخدرات والممنوعات لهم ولأولادهم وأصهارهم، وزبانيتهم، ويستقدمون خبراء التعذيب، وخبراء الثورات والثورات المضادة، ويستوردون أدوات التعذيب من أوربا الشرقية التي ذبحت شعوبها وأحرارها عشرات السنين، ثم بادت، وهلك حكامها أبالسة البشر.

والآن.. يتوسل بعض حكامنا لهيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، بأن تنزع إسرائيل أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها، بعد أن فشلوا في تحقيق شعارهم الذي رفعوه ردحاً طويلاً من الزمن: (التوازن الاستراتيجي) أجل.. فشلوا، وحق لهم أن يفشلوا في هذا، وينجحوا في سواه، وهو الأهمّ عندهم، وهو أن ينهبوا ثروات البلاد التي كانت من أغنى الدول العربية، ثم آل شعبها إلى الجوع، والتشرد، والتسوّل في كل مكان من بلاد العرب، وأوربا وأمريكا.. يعملون كما يعمل العبيد، لأنهم لا يملكون ما يثبت جنسيتهم، فليس لديهم وثيقة تثبت جنسيتهم، ولجان حقوق الإنسان في الوطن العربي، وفي العالم، يطالبون النظام بإعطاء مواطنيه الوثائق التي هي من أبسط حقوق المواطنة، و (أركان) النظام يضحكون من تلك الطلبات ومن أصحابها، لأنهم بانتهاك كرامة المواطن السوري، وبإذلاله، وإفقاره، وتشريده، يحققون التوازن الاستراتيجي مع العدو..

وفلسطين المحتلة.. ما حال فلسطين؟ وما حال شعب الجبارين.. الشعب الأسطورة الذي صمد وما يزال يصمد وحده في الميدان، ويتصدّى للغزاة، كما يتصدّى للعملاء، وهم أشدّ وطأة من دبابات العدو وطائراته وجنوده المرتزقة الذين جيء بهم من أزقة أوربا وروسيا، وليس لديهم أي قيمة يحترمونها.

يتصدّى أهلنا وأبناؤنا المقاومون المجاهدون الصابرون بصدورهم العارية إلا من الإيمان، لآلة الحرب الأمريكية الصهيونية، وينزلون بالعدو الكثير من الخسائر البشرية، والاقتصادية، التي ما خسروا عشر أعشارها في سائر الحروب (التحريرية) التحريكية التي (خاضوها). صمود أسطوري، وصبر أسطوري على أنواع البلاء، من فقر، وجوع، ومرض، ودمار شمل كل شيء إلا الإيمان، والكرامة، وشموخ الرجال والنساء، وتضحيات فاقت كلّ تصوّر.

والشعب العراقي الباسل ينحو في مقاومته للاحتلال نحواً جهادياً بطولياً يبشرنا بميلاد جديد للشعب العراقي الذي طالما عانى وما يزال يعاني من ألوان القهر، والفقر، والمرض، ولكنه ما يزال معافى في كرامته، وشموخه، وإيمانه، كسائر الشعوب العربية.

مآس، وكوارث ودماء، وأشلاء, وسجون، ومعتقلات، وأرامل، وأيتام، وقهر وفقر، واستبداد، كل هذه تجثم على الصدور الحرّة الأبيّة، وتحاول أن تحني الظهور والهامات، ولكن.. هيهات هيهات..

هكذا نستقبل العيد، وننشد مع شاعر العرب، أبي الطيب:

عيد، بأية حال عدت يا عيـد    بما مضى، أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة، فالبيـداء دونهمو    فليت دونـك بيداً دونها بيـد

ونقول:

يا حسرة على العباد.

عبد الله الطنطاوي