البيان الرئاسي لمجلس الأمن... قراءتان

زهير سالم*

يشير الكثيرون إلى قلة الأهمية القانونية التي تتمتع بها البيانات الرئاسية لمجلس الأمن . فهذه البيانات على الرغم من تعبيرها غير المباشر عن موافقة الأعضاء الدائمين في المجلس ؛ إلا أنها لا تتمتع بأي صيغة من صيغ الإلزام القانوني . ولا تعدو كونها نوعا من البيانات الصحفية ، التي يُملأ بها فراغ المواقف الدولية ، ويُشغل بها الرأي العام بأن هناك من يشتغل على بعض القضايا الساخنة والملحة وذات الطبيعة الإنسانية والسياسية .

وقد اكتسب البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن بعض ( الأهمية ) عند بعضٍ، بينما استشعر منه بعضٌ آخر كثيرا من الخطورة بما صحبه أو سبقه من حراك سياسي ، ولقاءات متعددة بشأن القضية السورية على المستويين ؛ الإقليمي والدولي . لقاءات اشتركت فيها أطراف دولية وإقليمية لم يكن من شأنها أن تلتقي دائما فمن موسكو إلى قطر إلى الرياض ، ومن توقيع الاتفاق النووي الإيراني – الأمريكي ،  الذي شكل في بعض مضامينه عملية تهديد وترويض للإقليم العربي .

إلى الاتفاق التركي – الأمريكي ، وما يحويه من رسائل وتنبؤات ، من غير نسيان إقدام دول الناتو على سحب بعض بطاريات الباتريوت عن الحدود التركية - السورية ، في عملية ترويض أخرى للموقف التركي الداعم للثورة السورية . 

ولعل الأهم أو الأخطر في أمر هذا البيان هو التوجهات ( الجديدة ) أو (الغريبة ) التي اشتملت عليها لغته الضبابية المتعمدة ، وتعميماته المنبئة عن تهديد لتطلعات فريق على حساب فريق آخر . وكأن ديمستورا الذي يأس من محاولته الأولى التي كان عنوانها ( من تحت إلى فوق ) قد اخترع مصطلحا آخر في محاولة نسف ما توافق عليه المجتمع الدولي ، والمبعوثون السابقون في مصطلح جديد أطلق عليه لقب (أصحاب المصلحة ) . إذ لا شك أن القتلة والمجرمين الذين يقتلون الشعب السوري هم أصحاب مصلحة في قتله !!!!

وعلى الرغم من كل شيء فإن القارئ السياسي للبيان الرئاسي لمجلس الأمن يستطيع أن يقرأه قراءتين متوازيتن يتلمس في الأولى بعض ما فيه ، وفي الثانية بعض ما عليه ..

أما القراءة الأولى فتقوم على أساس اعتبار البيان ( وحدة واحدة لا تتجزأ) . وأن يتم تنفيذه بكافة مقدماته وبنوده بنفس الإصرار والعزيمة والحزم والإرادة الدولية ، لا أن يكون بعض ما ورد فيه من عبارات وردية بمثابة الغلاف السكري الذي يغلف مَرار حبات الكينا .

إن نص البيان الرئاسي على (وحدة الأرض السورية ) أمر إيجابي يستحق الإشادة . ويجب أن ترتبط به مواقف عملية ضد أي دعوات من دعوات التقسيم مهما كان مصدرها ، وكانت ذرائعها ، وكان العنوان الذي تختبئ وراءه . وهذا يقتضي الضرب المبكر على أيدي أصحاب هذه المشروعات ، وليس تقويتهم لتوظيفهم الوقتي ، في زعم البعض ، كما حصل في السكوت عن مشروعات المتطرفين ، ثم حمل الشعب السوري كله إثم تطرفهم .

وإنه لأمر إيجابي أيضا أن ينص البيان على أن (الحل السياسي ) هو المخرج الوحيد للحالة السورية . الحل السياسي الذي يصنعه سياسيون ولن يصنعه قتلة ومحترفو إجرام . كل المواطنين السوريين الواعين يريدون بصدق حلا سياسيا للخروج من بوطنهم من محنته ولبناء مجتمعهم ودولتهم . بشار الأسد وحده هو الذي لا يريد هذا . وهذه هي الحقيقة الثابتة التي صرح منذ 2011 (أنه ذاهب إلى معركة كسر الإرادات ) . الحقيقة التي يعرفها ويتجاهلها الكثيرون .

وإنه لأمر إيجابي أيضا أن يكون شرطا مسبقا من شروط ما يسعى إليه مجلس الأمن أو بان كيمون أو مبعوثه ديمستورا ؛أن يتوقف قبل أي مفاوضات ( الاستخدام العشوائي للأسلحة في المناطق المأهولة بالسكان ،بما يشمل القصف بالقذائف والبراميل المتفجرة ) . وإن كنا نتمنى أن يكون النص أكثر وضوحا فينسب الجريمة إلى صاحبها ، ويطلق الحظر على استخدام سلاح الطيران ضد المدنيين وإعلان الأمان العام على الأرض السورية ..

إيجابي وجميل أيضا أن يشتمل البيان الرئاسي لمجلس الأمن على المطالبة ( بالوقف الفوري للاحتجاز التعسفي ، والتعذيب ، والاختطاف ، والاختفاء القسري وبالإفراج الفوري عن المحتجزين ) . وكم كنا نتوقع أن يشدد البيان على ضرورة الكشف عن مصير المفقودين من سوريين ولبنانين وغيرهم على مدى أربعين عاما ..

والأجمل من ذلك تشديد البيان الرئاسي ( على أن يتسم تنفيذ هذه المطالبات وفقا لأحكام القانون الدولي ذات الصلة من أهمية تهيئة بيئة مواتية لاستهلال مفاوضات سياسية موضوعية )

فهل يتعهد مجلس الأمن أو الأمين العام للأمم المتحدة ، أو السيد ديمستورا أن يكون تحقيق هذه المطالب هو العتبة الأساسية لأي مفاوضات مقترحة قادمة ؟! وأنهم لن يدعوا إلى أي لقاء ما لم تخيم على سورية أجواء الأمن والأمان ، وما لم يخرج من سجونهم كل المعذبين والمنتهكين والمعذبات والمنتهكات ...؟! مادام البيان الرئاسي لمجلس الأمن قد نص بفقرة خاصة على دور النساء في المفاوضات القادمة متغافلا عن أن المرأة السورية التي تقارب التفكير السياسي مهددة تحت طائلة عقوبات الأسد بأقدس ما تملكه امرأة في هذه الحياة ...

قلنا في مقدمة هذا الموقف إن للبيان قراءتين متوازتين ، وكانت تلك بعض معالم النقاط الإيجابية ( الجزئية ) وأخطر ما في البيان تناثر إيجابياته الجزئية ، وضبابية محصلته الكلية ، إن لم نقل إن محصلته تسعى من موقع الغطرسة الدولية إلى قطع الطريق على الثورة السورية ، والتعاون مع بشار الأسد على كسر إرادة ثوارها ، ومصادرة حقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة وحقوق الإنسان .

إن هذه الحقيقة وحدها جديرة بنسف كل ما قدمناه من إيجابيات . بل إن هذه الإيجابيات عندما سيتم تجاوزها أو القفز عليها ستعني فيما تعني ما سبق أن أشرنا إليه أنه مجرد غلاف من الخداع اللفظي للإيقاع بالشعب السوري وبثورته المجيدة .

إن لغة البيان التي صيغت بدهاء سياسي بالغ في كل سياقاتها للتسوية بين الضحية والجلاد ، لا تبشر الشعب السوري بخير . بل تبعث في نفوس الملايين من الضحايا الشك والريبة . يتجنب البيان ذكر الطيران الحربي الذي يقتل كل يوم وسطيا مائة سوري ، مراعاة لجانب مجرم الحرب أو من يمثله . وحتى عندما يذكر القصف بالقذائف والبراميل المتفجرة يتغافل بالمداهنة السياسية عن ذكر مجرمها ، ودائما تبقى لغة التعميم المعتم هي سيدة الموقف ، ليرتسم في نهاية المطالعة للبيان مصيرا معتما ينتظر الشعب السوري ، إذا ما سار في طريق مجلس الأمن أو في طريق السيد ديمستورا ، الذي يريد أن يظهر دائما أنه يعمل ، وأنه صاحب حلول إبداعية ...

لا أحد من القوى السورية المجتمعية ، والسياسية ، والدينية ، والمذهبية مع التطرف ، لا مشروعا ولا منهجا ولا سلوكا ، ولا تنظيمات ، ولا رجالا ، ولا حاضرا ولا مستقبلا ..

ولكن حين يصر البيان الرئاسي على ذكر هذه التنظيمات باسمها وعنوانها ويعطف عليها دائرة مفتوحة ( ممن يرتبط بتنظيم القاعدة ) ، ثم يغفل أولا عن ذكر بشار الكيماوي باسمه أو بوصفه ، ويغفل ثانيا عن ذكر عصابات قاسم سليماني وحسن نصر الله المتدفقة إلى سورية من أفغانستان وأوزبكستان ، وإيران والعراق ولبنان ؛ لا بد أنه يثير المزيد من القلق بل يجعل كل سوري وفيّ لدماء الشهداء الذين دافعوا بدمائهم عن حرية شعبهم وكرامته ينظر شذرا إلى ما احتواه البيان من مخبوء مخيف ...

ثمة عبارتان خادشتان للعقل في البيان الرئاسي لمجلس الأمن : الأولى تكراره للتأكيد( على أن المسئولية الرئيسية عن حماية السكان تقع على عاتق السلطات السورية ) نقول خادشة للعقل لأنه بعد أن تحول الراعي إلى ذئب ضار ،لا يمكن للعقلاء أن يحملوه مثل هذه المسئولية ، إلا على سبيل الهزل لا الجد . إن المسئولية الرئيسية في حماية المدنيين ، بعد أن أمعن فيهم بشار الأسد ( السلطات السورية ) المتوحدة في شخصه ، قتلا واعتقالا وتعذيبا وحصارا وتشريدا إنما تقع ، بحسب القانون الدولي ، على عاتق مجلس الأمن نفسه والذي يريد بهذه العبارة أن يتهرب من مسئوليته الأساسية .

والعبارة الثانية الخادشة للعقل في البيان الرئاسي لمجلس الأمن قوله عن المرحلة الانتقالية ( مع كفالة استمرار المؤسسات الحكومية في الوقت نفسه ) إذ لا أحد من السوريين ضد استمرار عمل المؤسسات الصحية والتعليمية والخدمات العامة وغيرها من المؤسسات الخدمية ؛ ولكن الظل المقيت للعبارة في مخيلة كل السوريين عن أجهزة هذا الشيء الذي لا يقبلون أن يسموه دولتهم أو حكومتهم هو هذا الجهاز العسكري السلطوي الذي كانت أكبر حرب خاضها في تاريخه الطويل عليهم . وأكثر من قتل من أبنائهم . ثم هذا الجهاز الأمني ، بل هذه الأجهزة الأمنية المتكاثرة التي لم تترك قيمة دينية أو مدنية إلا وانتهكتها . ودائما ننادي يجب أن يوضع للغباء في الخطاب الدولي بعض الحدود ...

لقد كررنا مرارا أن عبارة ( كل الأطراف ) تشير إلى لغم حقيقي في البيان الرئاسي لمجلس الأمن ، كما في عقل السيد ديمستورا الذي ما انفك يطالعنا بإبداعته المتواطئة مع نظام القتل حتى النخاع ...

فحسب كل القرارات الدولية المسبقة هناك طرفان على الساحة السورية : نظام بشار الأسد ، أو بعبارة أدق بشار الأسد وشبيحته ، الذي وصفته كبرى دول العالم أنه فاقد للشرعية ، وأن عليه أن يرحل ، ثم هناك (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ) الذي خلف المجلس الوطني والذي نال اعترافا دوليا كاملا بأنه الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري . وكانت لعبة ديمستورا في مقترحه الجديد ومَن وراءه هو الانقلاب على هذا الائتلاف . ولذلك قرأنا في البيان عديدا من المرات (أطراف الصراع ) ، وليس طرفيّ الصراع ...

ولذلك أيضا لم يرد أي ذكر للائتلاف الوطني في البيان الرئاسي لمجلس الأمن ، ولم تذكر كذلك أي قوة حقيقية ممثلة للشعب السوري ، لا ثورية ، ولا سياسية ، بينما جاء التعبير بالأطراف خطوة على طريق التعميم المعتم ليتبعها إبداع لغوي آخر لديمستورا أو لمن صاغ البيان ( أصحاب المصلحة ) وهو اختراع خاص للتضييع وليس فقط للتمييع ..

نعم ومرة أخرى ومع ما نص عليه البيان من ضرورة مشاركة (النساء) في مفاوضات المحاور الأربعة ، نصدع في وجه ديمستورا ومن وراءه أن مفاوضات لا تحضرها عديد المغتصبات المنتهكات في سجون بشار الأسد لا قيمة لها ، وهؤلاء هن صاحبات المصلحة الحقيقية في الوطن وفي الثورة . وأن مفاوضات لا تتمثل فيها عشرات الألوف من الأرامل والثكالى لا معنى لها ، وهؤلاء هن صاحبات المصلحة الحقيقية في الوطن وفي الثورة . ونقول مثل ذلك عن الأيتام ، والمعاقين والمشردين ومن فقدوا أحبابهم وبيوتهم وأموالهم . بله حاملي السلاح من المدافعين عن حقوق وعن كرامة مواطنيهم .

إن لعبة ديمستورا بعد أن جمع حوله من جمع من الطامحين والمتطلعين أن يحاصر القوى الوطنية الحقيقية بالقول : إن لم تحضروا فسيحضر غيركم ، وسيقضى الأمر في سورية دونكم . وهنا يجب على أهل الحق أن يعتصموا بالحق . ولأن يقضى الأمر دوننا أحب إلينا أن نكون شركاء في الإثم ، أو شهداء زور ،أو مفرطين بأمانة استرعانا عليها الشهداء . 

الخير أردنا ونريد لوطننا ولمجتمعنا كل مجتمعنا . نريد الخير من أيسر الطرق وأقرب الطرق وأسلم الطرق ، ولكن هذا لا يعني أن نُخدع أو أن نخضع ، أو أن نفرط أو أن نضيع ...

أيها الأوفياء لدماء الشهداء اتحدوا ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية