مؤامرة تمليش المجتمعات العربية ... التحدي ... والاستجابة

زهير سالم*

بعد أن انفضحت لعبة المستعمر في المراهنة على النخب المحلية المزيفة، التي استبدت بشعوب منطقتنا لمدة قرن من الزمان ، وأثبتت عدم قدرتها على التحكم بمصائر هذه الشعوب أكثر ، بل أبرهت أن حصادها على المدى الطويل كان على عكس ما قدّر المقدرون واشتهى المشتهون ، ومع انكشاف لعبة ما سمي ( بالجيوش الوطنية ) التي خلفها المستعمر في بلادنا، والتي لم تخض منذ الحرب العالمية الثانية أي معركة للدفاع عن الوطن والإنسان ، بل ظلت حامية لقوى الاستبداد والفساد ؛ سبقت الدول الكبرى إلى تجربة لعبة الميليشيات المسيطرة في كل من لبنان والعراق واستثمرت فيها بنجاح ..

ففي لبنان كانت تجربة ميليشيا حزب الله ، حيث استُنبت هذه الميليشيا على أعين الدول الكبرى ، فوضع لبنان ، بعد أن ظهر أمر المقاومة الفلسطينية فيه ، تحت وصاية ميليشيا حزب الله الطائفية على امل أنها أكثر جرأة وقدرة على خدمة المشروعين : الصهيوني والتغريبي في لبنان والمنطقة .

ولقد استكمل حزب الله على الساحة اللبنانية ما بدأه حافظ الأسد ( إخراج منظمة فتح ورئيسها ياسر عرفات من لبنان ) ، باحتكار كل العمل المقاوم، ومن ثم ليكون هذا الحزب بميليشياته المتقدمة بقوتها وتسليحها على الجيش اللبناني ، هو أداة الفعل السياسية الأولى ليس على مستوى لبنان وحده بل على مستوى سورية أيضا ..

إن القراءة المتمعنة لأحداث المنطقة على ضوء المواقف الدولية والإقليمية من القضية السورية تزودنا اليوم بالكثير من المعطيات الإضافية عن المهمة الوظيفية لحزب الله في لبنان والمنطقة .

ومن لبنان إلى العراق حيث وجدنا العديد من المنظمات أو الميليشيات الطائفية التي يقودها ( ملالي ) عراقيين على النمط اللبناني نفسه ، وبالعقلية الطائفية ، وبالأدوار الوظيفية نفسها ..

ومن لبنان والعراق إلى اليمن حيث أسندت لميليشيا الحوثي الدور الوظيفي نفسه ، ليدخل اليمن في حمام الدم الذي دخله العراق وسورية في محاولة للسيطرة على القرار بالطريقة نفسها ..

وفوق هذه الميليشيات التي بدأت تتكاثر في المجتمعات العربية على عين من المجتمع الدولي ، لا بد أن يذكر المرء وجود الميليشيا الإيرانية المركزية المؤسِسة والمغذية والراعية والضامنة لهذه الميليشيات جميعا : الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس والقائد قاسم سليماني ....

سيلحظ المراقب - أولا - أن هذه المنظمات جميعا تشكل شبكة ذات طبيعية أخطبوطية وأذرع ممتدة بصور متباينة بعضها معلن وبعضها خفي في ثنايا المجتمعات العربية والمسلمة بشكل خاص . وأن ما تم ويتم اكتشافه من حجم الأسلحة المخزنة في أقطار عربية مثل السعودية والبحرين والكويت ليشير بوضوح إلى حجم التهديد الذي تشكله هذه ( الميليشيات ) الظاهر منها والخفي على وجود هذه الأمة ...

وسيلحظ المراقب – ثانيا - أن جميع هذه المنظمات بأذرعها المختلفة ذات هوية طائفية واحدة . حتى في الدول العربية التي ليس لهذه الهوية فيها جيوب بشرية ، فإن محاولات اختراق هذه المجتمعات لا تتوقف كالذي تم اكتشافه في السودان وفي المغرب العربي ، والذي يمكن اكتشافه بسهولة في الدول التي لا تريد أن تعلن أو لا تريد أن تعرف.

إن كل ذلك بما يهدد مبدأ الولاء الوطني حيث يتكشف الواقع عن هشاشة هذا الولاء ، المدعى أمام الولاء المذهبي أو الطائفي . وبحيث يصبح الإقرار بهذا المبدأ هو ذريعة للحصول على المكاسب أو للتغلغل في بنية الدولة والمجتمع بهدف الفتك بهما ( سورية ونظام الأقلية الطائفية مثلا ) . فأي مواطن حر شريف ملتزم بمستقبل وطنه لا يريد أن يتعظ من بؤس ما جرى ويجري على السوريين خلال نصف قرن .

وثالثا – بداهة يدرك المراقب أن جميع هذه القوى ترفع شعارات رنانة متقاربة مثل ( الموت لأمريكا - الموت لإسرائيل ) وشعارات المقاومة والممانعة شعارات كان يرددها حتى أيام قريبة الإيراني في صلاة الجمعة في طهران ، والحزبللاوي في لبنان ، والحوثي في اليمن . وأن قيادات هذا الحراك المشبوه ما يزالون يحاولون الالتصاق بالقوة الحقيقية الممثلة للمقاومة مستغلين تعقيدات المشهد الدولي والإقليمي بأبعاده .

ورابعا – إن الملمح الأساس في سلوك هذه القوى هو ما ارتكبته وترتكبه من مجازر وبشاعات في سورية والعراق واليمن ، إن ما ارتكبته ميلشيات العراق الطائفية ، ثم ما ارتكبته هذه الميليشيات ونظيراتها في سورية يفوق في بشاعاته وقسوته كل ما سجله تاريخ البشرية عن أساليب التعذيب النازي أو الفاشي أو ذاك الذي كان يجري في محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود وكذا ضد رجال الفكر والعلم من المسيحيين ..

وخامسا – إن هذه المنظمات ، (المصنوعة بالتواطؤ ) ، لم يصنف أيا منها كمنظمة إرهابية تصنيفا جادا ، ولم يعمل أي فريق دولي على الحد من أنشطتها ، وتعقب خطواتها . وفي الوقت الذي ما يزال فيه حسن نصر الله وقاسم سليماني وعصابات أبي الفضل العباس مصرين على انتهاك القانون الدولي في سورية لممارسة القتل والتعذيب ؛ فإن فعلهم هذا لا يلقى إلا إدانات رمادية باهتة لذر الرماد بالعيون ...

وسادسا – ولكي يشعر المتواطئون مع هذه الميليشيات وعليها بأهميتها ودورها ، وليزدادوا حرصا عليها ، يتم تصنيع منظومات مقابلة ، تحت الاحتواء والسيطرة ، تظل تعطي الذرائع على محورين : الأول محور الإجلاب على هذه الأمة بتصرفات لا يقبلها شرع ولا عقل ولا قلب . والثاني محور شرذمة هذه الأمة وتفتيتها وضرب أبنائها بعضهم ببعض ، وتخويف بعضهم ببعض ..

سابعا – ندرك جليا اليوم وبعد تجارب العراق وسورية الساخنة أن العالم يراهن على إسناد أمر هذه الشعوب إلى مجموعة من الميليشيات تأتمر بأمره وتَخضع وتُخضع هذه المجتمعات لإرادته ...

فشلت تجربة الصحوات في العراق ، ليس لأن تنظيم القاعدة هزمها كما يقولون ، بل فشلت في الحقيقة لأن العراقيين الشرفاء يرفضون أن يكونوا مجرد أدوات ...

ولم تجد الولايات المتحدة في سورية ( معارضة معتدلة ) لأن السوريين من أهل البلد الصادقين يرفضون أن يكونوا أدوات للآخرين ..

بينما ما أسهل أن تجد الولايات المتحدة وغير الولايات المتحدة في خدمة مشروعها من الآخرين الكثيرين ..

وبعد ...

فإن نظرية تمليش المجتمعات سيكون لها أبعادها المدمرة على المستويات كافة : الدولية والإقليمية والوطنية . ونحن أولى الناس برفضها ومقاومتها والتصدي لها ...

ولكن ، وإذ تصبح هذه المؤامرة أمرا واقعا بفعل فاعلين ، فإن على دولنا وقادتنا وأولي الرأي والتدبير من بني قومنا أن يتعاملوا مع الأمر بما يستحق من جد ، فلا يفل الحديد إلا الحديد . ولن تكون الجيوش النظامية في أي مؤسسة عسكرية في العالم كفؤا لمتطوع جاء يشري الموت لنفسه دفاعا عن عقيدة يؤمن بها أو رأي يعتقده.

إنه لا يجوز أن تفزعنا تجربة التنظيمات المتطرفة بكل انعكاساتها السلبية المقيتة ، لا كقادة وحكام ، ولا كرجال فكر ورأي ، عن الوفاء للموقف، والاستجابة للتحدي بما يستحق ..بل ربما يكون في تشكيل الفصيل الشعبي المكافئ في كل وطن مدخلا حقيقيا لإيجاد البديل الذي يقطع الطريق على الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية