في المسالخ البشرية : اللوم على الجزّار ، أم على الضحيّة !؟

عبد الله عيسى السلامة

 *) لو كانت الإجابة سهلة ، كالسؤال الوارد في العنوان .. لما احتاج الأمر، سوى كلمات بسيطة ، معدودة على أصابع البد الواحدة ! إذ يكفي أن يقال : إن الجزّار هو الملوم.. أو إن الضحيّة هي الملومة .. لتمكينها الجزّار من ذبحها .. أو كلا الطرفين ملومان ، كلّ من زاويته !

 *) كلاّ.. إن الإجابة أعقد من ذلك بكثير! لأنها تتضمّن أموراً عدّة ! ولأن فيها تداخلاً شديداً ، بين مسؤوليات الجزّار ، ومسؤوليات الضحيّة ، ومسؤوليات أناس آخرين ، لهم صلة مباشرة بالأمر !

 *) في القرآن الكريم ، نموذجان من الحشود البشرية : نموذج الناس الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوف ، حذر الموت ، فقال لهم الله : موتوا..! فبسبب هجرتهم ، خوفاً من الموت بالطاعون ، أماتهم الله ، ليكون في ذلك عبرة لهم ، ولغيرهم ممّن يفرّون من مجابهة عدوّهم ! لأن الآية وردت في سياق حديث عن القتال..! والنموذج الآخر، هو نموذج الذين خنعوا لإرادة الجزّارين ، فعبثوا بإراداتهم ، وأضلّوهم ، واستعبدوهم! فقال لهم الله : فيم كنتم !؟ قالوا : كنّا مستضعفين في الأرض ! قال : ألم تكن أرض الله واسعة ، فتهاجروا فيها..!؟ فبعدم هجرتهم ، وهم قادرون عليها ، استحقّوا العذاب! أمّا مَن لم يستطيعوا الهجرة ، من الضعاف والعجزة .. فمعذورون !

 *) إن الفرق بين النموذجين ، المذكورين آنفاً ، واضح جداً ! ومع ذلك ، كان مصيرهما كليهما ، العذاب ! وسبب عذاب كل منهما ، واضح ! فالألوف الذين يتركون بلادهم للطغاة الجزارين ، هرباً من الموت ، وهم قادرون على أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأهليهم ، وأملاكهم.. هؤلاء يستحقّون العذاب ، بسبب تقصيرهم ، في استعمال قوّتهم، التي منحهم الله إيّاها ، في مناجزة عدوّهم ، أو منازلته ! والآخرون : غير العجزة الضعاف ، وغير القادرين على المناجزة والمنازلة .. استحقّوا العذاب ، لتقصيرهم في استغلال الفرصة المتاحة أمامهم ، وهي الفرار من الظلم ، إلى مكان يأمنون فيه ، على حياتهم من الإزهاق ، وعلى كراماتهم من الإهانة !

 *) لو صبر القادرون على المنازلة ، في بلادهم .. ونازلوا عدوّهم ، بالقوّة المتاحة لهم ، التي تمكّنوا من إعدادها ، حسب طاقتهم .. وبالكيفية التي يرونها تحقّق أفضل مصلحة لوطنهم وشعبهم ، وبأقل الأضرار.. ثم خسروا في صراعهم معه.. لما استحقّوا اللوم، ولاستحقّ اللوم العدوّ ، وحده.. لعدوانه وظلمه وتجبّره! وربما يستحقّه أناس آخرون ، تسبّب ضعفهم وتخاذلهم ، في تمكين الجزّار من رقاب أبنائهم ! ولو هاجر الضعاف غير القادرين على الصراع ، إلى مكان آمن ، ولم يمكّنوا الجزارين ، من رقابهم ومصائرهم .. لما استحقّوا اللوم ، أو العذاب ! ولاقتصر اللوم على الجزارين ، وحدهم .. وربّما على آخرين ، من الذين فرّطوا في أمر الاستعداد ، فمكّنوا الجزار، من رقاب أبنائهم ، أو أحفادهم ! وهذا كله في علم الله ، وتقديره .. فهو ، وحده ، الذي يعلم نصيب كل فرد ، من التفريط ، أو التقصير، أو الإهمال .. بحقّ الأمّة وأجيالها .. الراهنة واللاحقة !

 *) في العصر الراهن ، تبلور معنى قديم ، في إطار جديد ، هو معنى القيادات الشعبية: السياسية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والنقابية ..! وهذه القيادات ، هي المنوط بها ، توجيه حركة الجماهير، وقيادتها، في صراعها، ضدّ الطغاة والجزارين ، في بلادها ! وهذه ، اليوم ، تحمل العبء الأكبر من المسؤولية ، عن ضعف إرادة الجماهير، وضعف حركتها ، وغفلتها عن مصالحها ، وعن كيفية مناجزة عدوّها ـ بالتظاهر، أو العصيان المدني ، أو سواهما ـ وعن تقصيرها في خوص الصراع ، الذي تحرّر به أنفسها وبلادها ، من ظلم الطغاة الجزارين ، وسطوتهم ، وبطشهم ! وكلما ارتفع شأن هذه القيادات ، في مجتمعاتها ، وازدادت ثقة الناس بها .. ازدادت مسؤوليتها عنهم ، وعن مصيرهم ، في معركة البقاء ، بينهم وبين عدوّهم الطاغية الجزّار، الذي يستعبدهم ، ويذلّهم ، وينهب قوتهم وثروات بلادهم !

 *) القادة الشعبيون ، الذين تضعهم أقدارهم ، في مواجهة الطغاة الجزارين ، في بلادهم ، مختلفون ، بالضرورة ، من حيث منازلهم في مجتمعاتهم ، ومن حيث قدراتهم ، العقلية والبدنية والمعنوية ! ويستطيع كل منهم ، أن يلتمس لنفسه الأعذار، لدى إخفاقه في مهمّة قيادة الجماهير ، وتوجيهها ! ومن أهمّ الأعذار : شراسة الجزّار في قمع معارضيه ـ الإشفاق على الجماهير من أن تفريهم سكاكين الجزّارين ـ عدم تجاوب الجماهير مع نداء القيادات .. خوفاً أو جهلاً ـ الظروف الدولية الداعمة للجزار، الذي يحقّق مصالح القوى الأجنبية ..! وهكذا .. الأعذار كثيرة ، ومسوّغات الضعف والعجز والإخفاق جاهزة ! والشعوب تذبح جهاراً نهاراً ، بشتّى أنواع السكاكين .. ولا تجد من يحرك لأجلها ساكناً ، حتى لو ذبح العشرات ، أو المئات ، أو الألوف .. من أبنائها ، وهم نيام ، في سجون الجزارين ! والله عزّ وجلّ ، يقول : بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره . ويقول : وكلّهم آتيهِ يومَ القيامة فَردا .