في لامبال

سامح عودة/ فلسطين

[email protected]

لامبال تلك  المدينة الفرنسية الوادعة.. تقع في  الشمال، قريبة من البحر، صغيرة بعدد سكانها، جميلة بطبيعتها، فيها يتكئ الفجر على جناح غيمة، ويسكن المطر سماءها، ويستمر الهطول على مدار الفصول، فيها المطر له رونقه الفريد، لا مكان للقحط أن يسكنها، فيها طبيعة خضراء تأسرك بين تدرج ألوانها كأنها لوحة " سريالية " تتداخل فيها الألوان، ثلاثية الأبعاد ربما أو في كل زاوية من زواياها تجد للإبداع مكاناً .

في لامبال ..

 أناس طيبون أكثر من الطيبة  نفسها، أرواحهم نقية أكثر من النقاء نفسه، يعملون بلا تردد مثابرون يربطون الليل بالنهار حتى تكون مدينتهم مزاراً عالمياً، إنه الإنسان الذي ولد في أحضان طبيعة عذراء يسكنها السحر، يؤمنون بأن الوقت مهم..!! وأن الساعة ذات الستين دقيقة يجب ألا تضيع  هباءً لذلك فهم أسنان في ماكنة الإنجاز التي لا تتوقف عن العمل.

هم .. كما عرفتهم أنيقون بأرواحهم عذبة أخلاقهم لا يدخل اليأس قلوبهم، لهذا فمدينتهم الوادعة تكبر في عيونهم يوماً بعد يوم، يعتزون بثقافتهم وتضامنهم مع البسطاء أمثالهم، لقد رأيت العلم الفلسطيني في عدة زوايا من المدينة فزاد إعجابي بهم ، وأدركتُ أن فلسطين ليست وحيدة في درب التحرر الطويل .

في لامبال ..

للصباح رائحة خاصة  فالنقاء والبهاء والمطر والشمس وإن بدت خجولة لا تغيب عن جدران المدينة، فنجان القهوة الفرنسي يأخذانك على بساط الريح نحو المدى الفسيح لتعود بالذاكرة إلى بدايات عصر النهضة، تستعرض فيلماً حيوياً يمثل قصة الإنسان المبدع الذي تمرد على الظلم، فأتى بحضارة أذهلت البشر .

للصباح  " اوركسترا " خاصة فيها عازفون محترفون، أينما تنقلت تجد مقطوعةً موسيقية متزنة، ولا تشعرُ بالغربة هناك، لأن الصباح الذي يولد من رحم الليل البارد لن يكون إلا صباحاً نقياً بامتياز .

في لامبال ..

ثقافة فريدة وانفتاح على ثقافات الأرض، فيها العلم أساس، والبسطاء هناك لا يملون من القراءة والمتابعة، ولا يحددون عمراً للثقافة فكبار السن والشباب والشابات ينهلون من الثقافة قدر المستطاع، ولا يضيعون وقتهم هباءً، ثقافتهم تذهلك، إن ناقشك أحدهم أقنعك، وإن تكلمت أصغى إليك -خاصة إن كنت صاحب قضية- فالثقافة في نظرهم لا تعني أن تكون متعصباً لفكر، فهم يؤمنون بحرية الفكر ولا أحد يفرض عليهم ثقافته .

في المدينة مكتبة تتزاحم فيها الثقافات والترجمات وفيها موظفون لا ينامون الليل، يحاولون توفير ما تيسر من مؤلفات وترجمات، رأيت فيها كتبا عن القضية الفلسطينية وترجمات لمحمود درويش، وادوارد سعيد الأمر الذي زاد إعجابي بهم .  

في لامبال ...

تسكنُ الأصالة عمرانها .. فبيوتها العتيقة منذ قرون تأسرك وأنت تمعن النظر في الأكواخ ذات الحجارة البركانية، لم يهدموها  جددوها حتى تلامس فيها الماضي العريق والحداثة المبتغاة، حجارتها البركانية تتعدد ألوانها،  وأشكالها تسير على النسق نفسه، فإن تجولت بينها لا تجد بيتاً شاذاً.

البناءون وإن تمرسوا في البناء لا يميلون إلى بناء الجديد على أنقاض القديم، مهارتهم وظفوها في تحديث القديم، أينما ذهبت في المدينة ترى إبداعا خلاّقا، فيها المؤسسات العامة شامخات والمدارس تتعدد اختصاصاتها إن دخلتها أدركت أنها وجدت للتعليم ليس إلا . 

في لامبال ..

أرض خضراء على امتداد البصر، مساحات شاسعة الامتداد مزروعةً لم يقسمها الزمن إلى قطع صغيرة، فالأرض هناك ليست لمن يملكها إنما لمن يزرعها ويحافظ عليها، لذلك فهي منتجة تدر الخير على العاملين فيها، لا شقاء للفلاح في زراعتها فهو استطاع وبحنكة تامة أن يوظّفَ تكنولوجيا العصر لتكون مساعداً له في زراعة الخير وجنيه، أينما ذهبت لن تجد أرضاً بورا ولا تجد من يلوثها، هناك كل شيء مرتبط بالأرض لذلك فإن هذا المشهد يغرقك بالتفاصيل عندما تعلم أن الإنسان والحيوان يأكلان مما تنتج الأرض.

في لامبال ..

خيولٌ من زمان غابر، ضخمة عالية القامة، تأسرك إن تجولت في إسطبلاتها، لها وطن هناك في حضن الطبيعة، إن أمعنت فيها النظر تسرَ، وإن حاولت الاقتراب منها ترى جفون الليل في عيونها، أليفة نقية العرق، حافظ عليها " اللامباليون " لتكون شاهداً على عظمتهم، للخيول في تلك المدينة المسكونة بأرواح الملائكة حكايا .. وحكايات، فأينما تجولت في شوارع المدينة المرصوفة بحجارة " الجرانت" ستجد أكثر من شاهد يدلك على أن في البلدة تاريخا من الفروسية غيرَ معهود، فيها رؤوس الخيل تماثيل أمام البلدية، والإعلانات تملأ الجدران ..

للخيل ذات السلالة النقية منظر خاص، لأن العظمة والجمال والقوة تتجلى فيها، تربت تلك الخيلُ على أخلاق الفرسان، حقاً إنهم الفرنسيون أصحاب الرقة والنضارة يصقلون كل شيء برقتهم، ويمزجون إبداعاتهم برشة عطرٍ تتجلى في كل شيء .. حتى في تلك الإسطبلات المشيدة بلمسة مبدع، لن تعرف أنها مكان للخيول إلا إذا دلك عليها القريبون منها، لنظافتها وجمالها، ومعمارها الجميل .

في لامبال ..

تركتُ أشياءً كثيرة هناك، نعم .. ربما تعجزُ الحروف عن وصفها، أو قد لا تجد وصفاً يليق بها، هناك .. في تلك المدينة كل شيء أسير للمطر، كل شيء أسير للغيث، كل شيء أسير الهطول..

هناك .. تركت المطر النقي

 والطبيعة العذراء.. وذكريات في مقاهيها

 تركت فنجان قهوتي تحت المطر .. وتركت الناس الطيبين ..

تركت علماً فلسطينياً وكوفية، على أكتاف الشباب موضوعة، تركت هناك عطر الصديق .. والخل الوفي، تركتهم يصفقون للدولة الفلسطينية، ويرفعون علامات النصر، تركت خرائط فلسطين في كل مكان زرته، تركتُ في لامبال عطر الوطن الجريح، وقصص المعاناة وجرح شعبي الغائر ..

هناك في تلك المدينة الوادعة .. تركتُ الجرحَ مفتوحاً للريح وللملح.. تركته مفتوحاً أمام فصول الذاكرة التي تلبدت بالدمار.. وباختصار تركتُ بعضاً من وطني هناك ..

علم مرفوع في أعلى السارية كلما نظرت إليه دلك أن فجر الحرية قادم لا محالة ..!!