في سوريا

في سوريا

جميل السلحوت

[email protected]

شكلت حرب 5حزيران 1967وما تبعها من وقوع الضفة الغربية وقطاع غزة، والجولان السورية، وسيناء المصرية تحت الاحتلال الاسرائيلي ضربة قاصمة للأمة العربية جميعها، لكنها شكلت نكبة شخصية لأبناء جيلي، أنا المولود في 5 حزيران 1949،فهل شاء القدر أن يكون بلوغي الثامنة عشرة من عمري شاهدا على هزيمة أمتي، واحتلال وطني، ووقوع مدينتي القدس الشريف-جنة السماوات والأرض- تحت الاحتلال انعطافا حادا في حياتي وحياة أبناء جيلي؟ كنت على مقاعد الثانوية العامة-التوجيهي- في المدرسة العمرية داخل أسوار القدس القديمة عندما اندلعت الحرب، بشن غارات جوية اسرائيلية على قواعد سلاح الجو المصري فدمرت الطائرات وهي رابضة على أرض المطارات، بقي علينا مادتان هما الفلسفة والتاريخ العربي لم نجتز امتحانيهما لنحصل على الثانوية العامة، فتحطمت أحلامنا بالالتحاق بالتعليم الجامعي، وأصبحنا كورقة في مهب الريح، فالوطن تحت الاحتلال، والشعب مشتت، وذلّ الهزيمة يطاردنا بشكل شخصي، لم نستوعب الهزيمة، فالاعلام العربي وعدنا بنصر محتوم، لم يكن الاحتلال الجديد واردا في حسابات أحد سواء على مستوى الحكومات أو الأحزاب أو الأفراد.

لم تكن في الأراضي المحتلة جامعات، والخروج من الأراضي المحتلة باتجاه واحد، خروج بلا عودة، وهذا وضع لا خيار فيه، فالصمود على ثرى الوطن لا بديل له، والمستقبل على كفّ عفريت.

حلم تكميل الدراسة الجامعية أصبح كابوسا يطاردني، لكنه كابوس جميل، يحلق فيه المرء في دنيا الخيال والطموحات التي لا تنتهي، وصدمة الهزيمة وفقدان الحرية تحاصر الوجدان، فالوطن يئن من ثقل الاحتلال والشعب في متاهة، والحياة أصبحت تدور في تيه يصعب التنبؤ بمخارجه.

مضى العام الأول ولا بوادر لإنهاء الاحتلال، والانسان ينوء بثقل المسؤولية، لأقع في 19-3-1969 في أيدي المحتلين معتقلا...وأعاني ثلاثة عشر شهرا وراء القضبان، ذقت فيها من الهوان ما لا يوصف، ولأتحرر في 20-4-1970 ولأخضع بعدها للاقامة الجبرية لمدة ستة شهور، لكن طموحي في تكميل تعليمي الجامعي لم يغب عن خاطري يوما.

ولتعذر الخروج للدراسة لم أجد أمامي سوى الانتساب لجامعة بيروت العربية، كي أدرس اللغة العربية التي أعشقها....أعشق بلاغتها وآدابها، وأهيم في صفحات مؤلفات نسج مبدعوها كلماتهم بهذه اللغة التي حظاها رب العزة بأن أنزل كتابه-القرآن- بها، ففي سجن الدامون على قمة جبل الكرمل الذي يحتضن حيفا، طالعت الكتب المتوفرة جميعها، لم تكن بتلك الكثرة أو التنوع الذي يريده المرء، لكن "القَطْعَة ولا القطيعة" على رأي والدتي.

في الطريق الى الجامعة:

أعطاني المحتلون تصريحا يبدأ قبل بدء الامتحانات بيومين، وينتهي بعدها بيومين، ويجب التقيد بذلك، ومن يتأخر يوما عن العودة، فانه سيفقد حقه في العودة الى بيته، والى حضن أسرته، وعليه أن يعيش لاجئا مشتتا ما تبقى له من عمر، أو ما تبقى للاحتلال من عمر أيضا.

غادرت القدس في اليوم المحدد من شهر حزيران 1971، وكم كانت فرحتي كبيرة عندما اجتزت نهر الأردن الى الضفة الشرقية، فقد خفق قلبي لرؤية العلم الأردني يرفرف أمام نقطة العبور الأردنية، صفقت للعلم واحتضنت ساريته وقبّلتها، لعل قبلتي تصل الى العلم الذي يرفرف عاليا،واستقليت سيارة الى عمان، ومن هناك الى أحد مكاتب التاكسيات التي تعمل على خط عمان-دمشق بيروت.

وفي نقطة الحدود السورية على مدخل مدينة درعا الحدودية، وبينما كان السائق يختم جوازات السفر، التقيت بدويا قرب الحمامات، كان رثّ الثياب، يضع طرفي قمبازه في حزامه، ويثبت طرفي كوفيته البيضاء المتسخة بعقاله، ويحمل شوالا فيه مئات الساعات من طراز "سايكو" ويزعم أنها مهربة من السعودية وبدون جمارك، فاخترت ساعة منها...صفراء اللون...ثمنها في الأسواق في حينه حوالي 40 دينارا، واشتريتها منه بخمسة دنانير، وأعطيته ساعتي"الجوفيال" التي كانت على يدي، ولم أعلم الا متأخرا وفي اليوم التالي أن الساعة مزيفة، وغير قابلة للاستعمال أو التصليح، وهي تباع للأطفال بعشرة قروش.

في دمشق:

والعاصمة السورية دمشق غنية عن التعريف، فهي عاصمة الدولة الأموية، ومسجدها الأمويّ أشهر من أن يعرف.

تركت حقيبتي في الكراج الموحد، وسرت باتجاه سوق الحميدية التاريخي لأشتري ملابس للاستعمال الشخصي، فأدهشني أن هذا السوق يشبه سوق العطارين في مدينتي القدس، والملابس في دمشق أنيقة ورخيصة جدا، فهي صناعة محلية، كان الدينار الأردني في حينها يساوي 16 ليرة سورية، سرت في السوق لأجد نفسي في نهايته عند مدخل الجامع الأمويّ، فدخلت المسجد العظيم، وفيه كانت قبة صغيرة معلق فيها صور للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهناك بطاقات تحمل رسما لكلا المسجدين، يبيعهما شيخ معمم للمصلين وللزائرين، ورأيته يحمل صورة لقبة الصخرة ويشرح لعدد من المصلين الخليجيين بأنها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فتطفلت وقلت له هذه قبة الصخرة وهي مسجد قائم في باحات الأقصى، وأشرت الى صورة المسجد الأقصى، فقال لي:"كلامك غير صحيح يا ولد" فرددت عليه مؤكدا صحة معلوماتي، وأنني من القدس الشريف، فقال لي هذه المرّة:"عيب عليك أن تكذب يا ولد، فكيف تكون من القدس المحتلة وتتواجد هنا؟"

ولم أستطع أن أقنع ذلك الشيخ بالمعلومة الصحيحة.

نظرت الى يساري فرأيت قبر المجاهد صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس الشريف من احتلال الفرنجة في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، فجثوت على ركبتي عند شاهد القبر، وقرأت الفاتحة بخشوع على روحه الطاهرة، وبثثت له همومي وهموم القدس، وقلت له باكيا: لقد أضاعوا من بعدك القدس التي حررتها من الفرنجة يا صلاح الدين، ويا حسرة التاريخ لو يعلمون أيّ مدينة أضاعوا؟ والمسجد الأقصى يئن من الاحتلال يا صلاح الدين، فتخيلت صلاح الدين شاهرا سيفه على سور القدس ويهتف: لبيك يا قدس...قبلت الثرى الذي يحوي رفات المجاهد العظيم وعدت حزينا خائبا لأتمم رحلتي، لكنني عقدت العزم على زيارة ضريح هذا الرجل العظيم لأقرأ الفاتحة عن روحه الطاهرة كلما مررت بدمشق.

نهر بردى:

لم تصدق عيناي أن السيل الذي يخترق دمشق هو نهر بردى، هذا النهر الذي التصق بذاكرتي عندما كنت فتى غِرّا وحفظت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي قالها في أعقاب معركة ميسلون التي قادها الشهيد يوسف العظم عام 1927 ضد الغزاة الفرنسيين الذين احتلوا سوريا ولبنان تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو سيئة الذكر، والتي تقاسم فيها المستعمرون الانجليز والفرنسيون العالم العربي، والتي مطلعها:

سلام من صبا بردى أرق***ودمع لا يكفكف يا دمشق

وبي مما رمتك به الليالي***جراحات لها في القلب عمق

وقد تخيلت وقتها نهر بردى بأنه نهر عظيم تمخره السفن، وأن نسيم الصبا المنبعث من هذا النهر يشفي الصدور العليلة، فهل حبي لدمشق ولسوريا وشعبها هو ما قاد خيالي الى هذه المعلومة الخاطئة؟ وفي الواقع فانني لا أجد جوابا لسؤالي....لكن رؤيتي لبردى سيلا بسيطا خيّب آمالي، وأحزنني أن البعض يرمي القمامة فيه، مما يشوه الصورة الجميلة التي تحفظها ذاكرتي للنهر، الذي طالما ما منيت النفس بأن أرتوي من مياهه التي تخيلتها عذبة تشفي العليل، وعندما عدت الى دمشق بعد سنوات، شعرت بالسعادة عندما رأيت الجزء المكشوف من النهر قد تم سقفه، مع أنني تمنيت لو أننا نحافظ على نظافة مواردنا المائية، ومفاتن بلداننا الطبيعية....ورغم ذلك فان نهر بردى لا يزال يفتنني ويغذي ذاكرتي، وليرحم الله أمير الشعراء، وليرحم القائد يوسف العظم وشهداء الأمة جميعهم.

المقهى الأدبي:

وذات يوم في سنوات لاحقة التقيت الأديب الفلسطيني المعروف يحيى يخلف، وكان رئيسا لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، فزودني ببطاقة شرف لحضور عرض الافتتاح لمسرحية"لكع بن لكع" التي كتبها الأديب اميل حبيبي، والحضور كان نخبة من المثقفين السوريين، بينهم الروائي السوري الشهير حنا مينا، عرفته منذ اللحظة الأولى، فصوره تتصدر غلاف رواياته الصادرة عن دار الآداب في بيروت، والتقيت بعدد من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين، منهم محمود شاهين ابن قريتي الذي يكبرني بعامين، والذي لم يكمل تعليمه الاعدادي، وهو قاص وروائي صدرت له عدة روايات ومجموعات قصصية، منها"موتي وقط لوسي" التي صدرت عن وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله، وهو فنان تشكيلي رسم مئات اللوحات، كما أنه يجيد العزف على "الشَّبّابة والناي" وهو الخال غير الشقيق للأديب المعروف محمود شقير...لم يعرفني محمود شاهين ولم أعرفه عندما التقينا صدفة، فقام الأديب يحيى يخلف بتعريفنا على بعضنا البعض....جلست ومحمود شاهين عى مقهى الأدباء والفنانين القريب من بيته الخشبي المكون من غرفة صغيرة واحدة، وهناك عرفني على عدد من نجوم الفن في سوريا، منهم ياسين بقوش، ذلك الرجل الوسيم واللماح على عكس من نراه في الأدوار التي يمثلها في المسلسلات التلفزيونية.

ومسرحية"لكع بن لكع" التي أخرجها مخرج من عائلة الأتاسي منعت من العرض بعد افتتاحها لأنها تسخر من "الجعجعة" القومية الفارغة.

الماء والخضراء والوجه الحسن:

واللافت في دمشق جمال نسائها، ووسامة رجالها، ففي فلسطين عندما يمتحدون جمال فتاة فانهم يصفونها بجميلة"كأنها شامية"...ويتميز الدمشقيون بحب الورود والأشجار دائمة الاخضرار، حتى أن البيت المزروعة شجرة أمامه يزداد سعره بعشرات آلاف الليرات السورية، واللافت أن الكثير من مقاهي دمشق تشبه الحدائق والمتنزهات، فالطاولات تنتشر تحت الأشجار وتتخللها قنوات مائية صغيرة تبعث الراحة في النفوس....فترى الزبائن يحتسون القهوة والشاي ويدخنون الأجيلة والسعادة بادية على وجوههم، والمطاعم الراقية أيضا تبحث عن فسحة أمامها لتكون لها حدائقها المزروعة بالورود والأشجار.

معلومة جديدة:

ومما أثار اعجابي هو رؤيتي للعلم الفلسطيني يرفرف بجانب العلم السوري المرفوع على المؤسسات الرسمية، فأكبرت للأشقاء السوريين عملهم هذا، خصوصا وأنهم يعتبرون فلسطين"اللواء الجنوبي المحتل" ولم أعلم الا متأخرا أن العلم المرفوع هو علم الوحدة العربية، وأن العلم الفلسطيني هو علم الوحدة العربية الذي عُرف في العصر العباسي، ومعروف أن حزب البعث الحاكم في سوريا يرفع شعار الوحدة العربية"وحدة...حرية...اشتراكية" و "أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة".