الندوي وأدب السياحة

سعيد الأعظمي الندوي

سماحة العلامة السيد

أبي الحسن علي الحسن الندوي

ونماذج من أسلوبه الدعوي المتميز في أدب السياحة*

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

سعيد الأعظمي الندوي

في مستهل العام الحادي والخمسين وتسعمائة وألف الميلادي، الموافق عام سبعين وثلاث مئة وألف الهجري، قام سماحة العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي بجولة دعوية وسياحة علمية أدبية لبلدان الشرق العربي، وفي مقدمتها مصر القاهرة، بلد الكنانة، ومقر الفراعنة، مصر ذات النيل الأزرق، والأهرام الشامخة، مصر ذات الأزهر العتيق، وقبل اللغة العربية وآدابها، وموئل الأدباء والكتاب والمؤلفين، ومركز الإشعاع الديني بمراكزها الدينية وعلمائها البارعين في العلوم الإسلامية، وقادتها المخلصين، وزعمائها البارزين، وحكامها العادلين.

لقد وفق العلامة الندوي إلى زيارة مصر التي كانت قد سبقت إليها معرفته كداعية مخلص، ومفكر إسلامي كبير، وكاتب باللغة العربية قدير، فقد كان كتابه الجليل الشهير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ظهر، نزل في المكتبات والأسواق، ونال إعجاباً كبيراً من قرائه العلماء والدعاة والأدباء والشباب، فصادف ذلك رحلته إلى مصر، وكان الناس متطلعين إلى لقاء هذا المؤلف العظيم الذي سد فراغاً كبيراً بمؤلفه في مكتبة الفكر الإسلامي والدعوة، والعلماء والأدباء، وانفسح المجال للتبادل الفكري والثقافي، وسنحت فرص اللقاءات والزيارات والبحث والنقاش، والتعارف والاطلاع، في مصلحة الدعوة والفكر الإسلامي الخالص، لأن رحلة الشيخ هذه كانت في سبيل الله والدعوة للاستجمام وطلب الراحة أو الاطلاع على الآثار التاريخية والجغرافية، والتمتع بجمال الطبيعة، والتنشق من الأجواء اللطيفة، وقضاء الوقت في نزهة سياحية أو متعة نفسية.

وهكذا تميزت سياحته لبلدان الشرق العربي والعواصم العربية بطابع دعوي وفكري، ولون توجيهي تربوي، يتطلع فيها صاحبها نحو التعرف على الأعمال الدينية والحركات الفكرية، والتطورات العقلية التي يعيشها الشعب المسلم في مجالات الحياة المختلفة بتأثير الحضارات المادية الغربية والعقل الأوروبي، الذي كان يقود الحياة الاجتماعية في هذه البلدان والأقطار إلى أمد طويل، وكانت مخلفاته باقية في المجتمع المسلم، ولم يكن أهله قد تحرروا من آثاره بالكلية في أنماط حياتهم ونشاطاتهم، وحتى في طرق تفكيرهم، إن السائح العبقري الجليل أدرك بذكائه وفي ضوء مشاهداته أن أمة الإسلام في هذه الديار تعيش مرحلة الانتقال من عهد الاستعمار والاستعباد إلى عهد الاستقلال والانفتاح، فهي بأمس حاجة لأن تعاد إليها ثقتها الكاملة بالإسلام وإلى نفسها من جديد، وتنقى أفكارها من شوائب الحضارة الغربية وإغراءاتها المادية التي لا تزال ملتصقة بغضون نفسها، وتسبب لها إثارة شبهات حول صلاحية الإسلام في عصر التقدم العلمي والتطور الحضاري.

كان العلامة الندوي قد أعد العدة قبل أن يبدأ رحلته هذه، إذ كان قد درس أوضاع العالم الإسلامي واطلع على جميع ما يجري فيه من ظروف سياسية وحضارية وقد شاهد بعين قلبه كل ما وجد فيه من اتجاهات دينية وميول فكرية ومن إبداعات في الأساليب الدعوية، ومن حركات قوية نابغة من الفكر الإيماني الخالص في سبيل الدعوة والفكر الأصيل، وما جد من تطرفات فكرية تدعو إلى تطوير الشريعة الإسلامية وصوغها في قوالب الحاجات المادية والظروف الحضارية، إنه كان قد عرف نفسية الشعب الإسلامي العربي وواقعيته في مجال العلم والدين والحضارة، كما أنه كان وطيد الصلة بالمراكز العلمية والدينية في العالم الإسلامي، ويعرف مدى تأثيرها في نفوس الشعب وعلاقتها به، وكان كثير القراءة للمؤلفات والكتب والمجلات التي تصدر من العالم العربي ومكتبات القاهرة، ودور نشرها بأقلام أهل العلم والأدب والدعوة والإصلاح، ممن كانوا يتزعمون البلاد دينياً وعلمياً وأدبياً وفكرياً، فلما وفقه الله تعالى لزيارة الشرق العربي ومصر الكنانة وجد نفسه مطمئنة لأداء المسؤولية التي توخاها في هذه الرحلة، وهي إبلاغ دعوته النقية الصافية إلى طبقة العلماء والأدباء والدعاة وأصحاب الفكر، والإشارة إلى مواضع الضعف ومكامن الداء في النفس والفكر، فكان صريحاً في حواره وآرائه ونقاشه، مبيناً الطريق الواضح النير لتصحيح الأفكار، والخروج من زوايا الغموض إلى ساحة الوضوح والاقتناع، فكان عمله أقرب إلى غربلة فكرية مصحوبة بالبراهين التاريخية والدلائل العلمية.

خرج المفكر الإسلامي الكبير العلامة الندوي لسياحة الشرق العربي وزيارة عواصمه الكبيرة، وبدأ رحلته من جدة إلى السويس على متن سفينة أوندا الإيطالية برفقة عدد من تلاميذه وأصدقائه، وكان سائق الشوق يحدوه إلى زيارة هذا البلد العربي والنزول بأرضه والاطلاع على معالمه ومراكزه ولقاء رجاله وأبنائه، وكان يبث أشواقه وآماله، إلى أصحاب الامتيازات والمسؤوليات وقادة الفكر، ويحقق أمنيته التي طالما راودته لزيارة هذا البلد العريق في العلم والأدب والدين، إنه تحدث عن هدف هذه السياحة والغرض الذي أراده من خلال هذه الرحلة المهمة في مقدمة (مذكرات سائح في الشرق العربي) يقول: "خرج مؤلف هذا الكتاب (مذكرات سائح في الشرق العربي) في رحلة إلى عواصم الشرق العربي، ليدرس وضع هذه الأقطار الديني والعلمي والاجتماعي، ويتعرف برجالاتها وقادة الفكر فيها، ويتذاكر معهم في الشؤون الدينية والعلمية والقضايا الإسلامية، والمناهج الإسلامية، والمشاريع التعليمية، ويعرّفهم ببلاده شبه القارة الهندية... ويستفيد مما جدّ في العالم العربي، من آراء ونظريات، ونشأ من حركات ودعوات، ونبغ من رجال وشخصيات، وقام من مدارس فكرية ومؤسسات، وظهر من أساليب وثار من مشاكل، وقد أراد الله أن ينشأ قبل أن يزور هذا البلد نشأة علمية دينية أدبية.. يتذوق الشعر والأدب، والتاريخ والاجتماع، والحضارة وفلسفة الحياة، وقد مارس الحياة العلمية، وعمل في حقل الإصلاح والدعوة، وباشر مهنة التعليم، وعالج الكتابة والتأليف، وعرف الأساليب الأدبية، والمدارس الفكرية والاتجاهات المتعارضة في مصر والشام، فزار هذه البلاد على بصيرة وبينة من الأمر وبعد أن لم يكن ينقصه إلا اللقاء"(1).

أول كلمة:

وهذه أول كلمة ارتجلها في اجتماع ضم أعضاء البعثة التركية إلى الأزهر وطلبة سوريا وفلسطين، فكانت كلمة فياضة بليغة تعبر عن مدى فكره الإسلامي النير في عصر العلم والحضارة جاء فيها:

(إن الإسلام رسالة خالدة ليس فيها قديم وجديد، إنما القديم والجديد في الحضارات والأدب وغيرها، وكل جماعة تدمج نفسها وشخصيتها في هذه الرسالة وتربط حياتها بها يكتب لها الخلود والبقاء، وتخرج من سلطان الأزمنة والأمكنة الخاضعة لناموس التغير والانقلاب، وتنتصر على القوى المادية، وعلى جميع المعارضات والمنافسات، وكان هذا سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم وسر عظمتهم، فقد قدّروا قواهم ومواهبهم تقديراً صحيحاً، ووزنوها وزناً دقيقاً، فرأوا أنهم لا يستطيعون أن يجاروا الفرس والرومان في مدنيتهم وماديتهم وقوتهم الحربية، فأدمجوا أنفسهم في هذه الرسالة الخالدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، والتي قضى الله بظهورها وانتصارها وذيوعها في العالم، وأخلصوا لها، وربطوا حياتهم ومستقبلهم بها، بحيث أصبحوا والإسلام شيئاً واحداً، لا يعيش إلا بهم، ولا يعيشون إلا به، فلما كان ذلك وامتحن الله قلوبهم للتقوى استحقوا النصر من الله، وقضى الله بظهورهم وغلبتهم وتمكينهم في الأرض، وكذلك إذا أخلصتم يا طلبة الأزهر لرسالة الإسلام وأدمجتم أنفسكم فيها، وربطتم حياتكم ومستقبلكم بالقيام بها والدعوة لها، وقامت هذه الرسالة بكم وقمتم بها لانتصرتم وخضع لكم الزمان وأطاعكم).

وأثناء وجوده في مصر قابل الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، وكانت معه جماعة من كبار الأساتذة والعلماء الأزهريين، ورجال الوزارة من بينهم الشيخ عبد اللطيف دراز مدير الأزهر ولما علم شيخ الأزهر صلة سماحته بندوة العلماء رحب به ترحيباً كبيراً، وانفتح معه في الحديث، وسأله عن الوضع التعليمي الديني في الهند، فتحدث سماحته عن المدارس الدينية الإسلامية في الهند، وما تمثله من دور في تخريج علماء متشبعين بالهمة العالية وروح المقاومة والجهاد والتطوع والاحتساب، وتحدث عن ندوة العلماء، وشرح له الفكرة العالية والأهداف السامية التي قامت عليها، وذكر له ما قامت به من إنجازات، وما تركته من آثار ونتائج موفقة في مجال التعليم والتربية، والدعوة والإصلاح والتأليف والتدوين، وتمثيل فكرة الإسلام النقية الواضحة.

رأي العلامة الندوي عن الأدب المكشوف:

ودار الحديث في دار الأرقم(3) مركز شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حول الأدب الخليع والصحافة الماجنة، وذلك مع الأستاذ حسين يوسف رئيس شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يكتب في موضوعات إسلامية بقلم قوي مؤمن وإيمان صادق، وإنكار صارخ على الإلحاد والإباحية والمجون، فتكلم معه سماحة العلامة الندوي بصراحة، وبيّن له ما لهذه الصحافة الخليعة من دور سيئ في إفساد الشباب المسلم وإقصائه عن الأخلاق والقيم المثلى وقال له فيما قال:

(لابد من تكوين جبهة قوية ومعسكر ضد هذا الأدب المكشوف وهذه الخلاعة والاستهتار، وإنه لا يخلو من فائدة).

وقد رافق الأستاذ حسين يوسف رأي سماحته، وتحدث عما كان له من تأثير إيجابي للإنكار على الصحف والمجلات الخليعة وتهديدها، وذكر أمثلة لذلك.

ثم لما سأله سماحة العلامة الندوي، وقال: كيف يوجّه الأدب التوجيه الديني!

قال: (الأدب يتجه إلى الدين بوجود حركة دينية وحياة إسلامية، فإن الأدباء والمؤلفين ينتجون ما يروج في السوق وما يقبل عليه الناس، فإذا كان في الناس إقبال على الدين، أنتجوا ما ينال إعجابهم وتقديرهم).

محاضراته القيمة حول رسالة المسلمين في العهد الحاضر:

وفي جمعية الشبان المسلمين ألقى سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي محاضرة قيمة نوجزها فيما يلي(3):

إن الحياة الإنسانية تشتمل على ناحيتين: الناحية الطبيعية: وهي التي تفرض على كل إنسان أن يأكل ويشرب ويتكسب ويحصّل القوت، وإذا مرض فيتعالج إلى غير ذلك من طبائع الحياة الإنسانية، والناحية الثانية: هي الناحية الإيمانية وهو تلقي الإنسان الأحكام من خالقه والعمل بها، فيعرف ماذا يحل أكله وماذا يحرم، ومن أين يكسب، وما هي الطريق المشروعة للكسب وتحصيل القوت وجمع الأموال، وما هي الطرق المحظورة، وما غاية هذه الحياة، وما مصير هذا العالم، وماذا يرضي الله وماذا يسخطه، والأنبياء عليهم السلام لم يُبعثوا لبيان الناحية الأولى فهي ناحية فطرية يهتدي إليها الإنسان بسائق فطرته، (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً) الآية ولم يبعثوا ليزيدوا في نشاطها، ويحثوا على زيادة العناية بها، فإن العالم لم يزل يعاني طغيان هذه الناحية وثورتها على الناحية الإيمانية، وطالما تضخمت هذه الناحية وكبرت على حساب الناحية الإيمانية، وإنما بعثوا لينصفوا لها من الناحية المادية الطاغية ويوجدوا التوازن الصحيح بين الناحيتين، وإذا أردتم أن تعرفوا رسالة المسلمين فارجعوا إلى العصر الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتلمسوها، وستجدون أن الغاية الأولى لهم كانت كافية في نشر الإسلام، والدعوة إليه، وحينئذ يجب أن تعلموا أن هذه الغاية هي رسالة المسلمين في كل عصر.

وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر في دعائه للمسلمين وشفاعته لهم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تُعبد) فذكر الغرض الحقيقي الذي بعث له المسلمون.

ولقد كان لسماحته خلال هذه السياحة العلمية والدينية أحاديث ومحاضرات كثيرة كلها تدور حول الدعوة والفكر الإسلامي ألقيت بأسلوب دعوي متميز.

والتقى الشيخ أبو الحسن الندوي بأعلام آخرين نذكر منهم الأستاذ أحمد الشرباصي، والأستاذ عبد العزيز كامل، والدكتور محمد يوسف موسى، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والشيخ حسنين محمد مخلوف – مفتي الديار المصرية - والشيخ محمد الشربيني رئيس جبهة علماء الأزهر، والشيخ محمد عبد اللطيف دراز مدير المعاهد الدينية بالأزهر، والدكتور أحمد فهمي، والأستاذ مصطفى مؤمن، والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، والأستاذ عبد المنعم خلاف، والشيخ السعيد الشرباصي، والشيخ علي رفاعي، والشيخ أحمد ماضي أبو العزائم، والشيخ محمد صادق المجدي، والأستاذ لقمان الهندي شيخ رواق الهنود.

أما المحاضرات والأحاديث المهمة التي ألقاها سماحته فنذكر منها ما يأتي:

محاضرة عن الدكتور محمد إقبال في دار العلوم، حديث إلى الطلبة الأتراك. دور الشباب في توجيه البلاد الإسلامية، وحديث مهم جداً مع سماحة المفتي السيد أمين الحسيني رحمه الله، وحديث مع الأستاذ سيد قطب في منهاج الدعوة الإسلامية، وحديث مع الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت.

لقد كان سماحته في جميع هذه الأحاديث والمحاضرات واللقاءات والكلمات معتمداً على التعبير العربي الجميل، والكلام المؤثر القوي، وقد وفق إلى إنشاء مدرسة أدبية تخرج منها جيل من الأدباء والكتاب الإسلاميين ممن عرفوا بأسلوب دعوي مبدع، وتلك هي المدرسة الأدبية التي كان لمؤسسها سبق في توجيه الأدب إلى الدين والأخلاق الفاضلة، وإخضاع الأقلام للفكر الإسلامي النقي، وليست رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي نجتمع تحت مظلتها اليوم والتي تعقد في هذه العاصمة الإسلامية العريقة ندوة تكريم لصاحب هذه المدرسة الأدبية، إلا نفحة أدبية من نفحات هذا الرجل العظيم، وهو سماحة العلامة الكبير الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي حفظه الله تعالى، وأطال بقاءه لخدمة الإسلام بالقلم واللسان.

وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

              

* من كتاب: (الشيخ أبو الحسن الندوي: بحوث ودراسات)

* رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي.

(1) مذكرات سائح في الشرق العربي ص 48-58 ط2 مؤسسة الرسالة.

(2) مذكرات سائح في الشرق العربي ص 84-85 ط2 مؤسسة الرسالة.

(3) مذكرات سائح في الشرق العربي ص 127 ط2 مؤسسة الرسالة.