رحلة عربي من برلين إلى برلين

رحلة عربي من برلين إلى برلين

رسائل البُشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا

يصدر قريباً عن المركز العربي للأدب الجغرافي ـ «ارتياد الآفاق» الذي يرعاه الشاعر محمد أحمد السويدي أمين عام المجمع الثقافي في أبو ظبي، ويشرف عليه الشاعر نوري الجراح كتاب يمثل يوميات لأول رحلة وضعها عربي بين ألمانيا وسويسرا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

وهنا مقتطفات من المقدمة التي كتبها الجراح:هذا هو أقدم كتاب دونه عربي عن سياحته في ألمانيا وسويسرا، وجمع بين دفتيه يوميات وانطباعات عن رحلة قام بها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر حسن توفيق العدل (1862- 1904) أديب وتربوي من مصر، من مواليد الإسكندرية لأب عمل في القضاء، وكان رئيس محكمة بدمياط. درس العدل في الأزهر وأجيز بالتدريس والرواية على أربعة من كبار العلماء وكان ما يزال دون سن العشرين. تلقى العلوم الكونية: الجغرافية، الرياضة، التاريخ، في مدرسة ليلية قاهرية، وتعلم الفرنسية مع صديقه الشيخ محمد شريف سليم. التحق بدار العلوم 1883 وتخرج منها عام 1887، وكان ينظم الشعر. تاريخياً يعتبر العدل أول من درس علم أصول التدريس البيداغوجيا في ألمانيا، ففي سبتمبر 1887م وعلى إثر اختياره من قبل «نظارة المعارف» في القاهرة لتدريس العربية للطلاب الأجانب في برلين، ركب الباخرة من الإسكندرية متجهاً إلى ألمانيا، وانتهى به المطاف في 20 سبتمبر من العام نفسه في برلين قادماً من فيينا، وكان في استقباله مدير المدرسة الشرقية، الذي عين له مترجماً يرافقه في الأسابيع الأولى من أقامته البرلينية، إلى أن يبدأ في تعلم اللغة الألمانية.

قضى العدل في برلين خمس سنوات مدرساً للعربية، وطالباً في علم البيداغوجيا، وكان من بين طلابه خلال سنوات إقامته مستشرقون ومهتمون بالثقافة العربية لمع أكثرهم في ميادين الدبلوماسية والاستشراق والتجارة. بعد عودته إلى القاهرة وضع في علم التربية عدداً من الكتب منها:كتاب «البيداغوجيا» بشقيه العلمي والنظري،1891، 1892، كتاب «الحركات الرياضية» 1895، كتاب «مرشد العائلات إلى تربية البنين والبنات» وهو كتاب في التربية الجسمية منذ الحمل إلى سن البلوغ 1897، وكتب أخرى. في أكتوبر من سنة 1903 وصل إلى إنكلترا لتدريس اللغة العربية في جامعة كامبردج بطلب من الحكومة المصرية، فقضى هناك سبعة أشهر، صرفها في التدريس والبحث، وفي 31 من شهر مايو (أيار) سنة 1904 وبينما هو في قاعة الدرس أصيب بعارض صحي أودى بحياته تحت أنظار طلابه. وقد شكلت وفاته خسارة فادحة لحركة العلم في مصر، ورثاه كبار أدباء عصره، ومشى في جنازته الآلاف، وبينهم المفكر الإسلامي محمد عبده.

بعد وفاته اعتُمدت مؤلفاته في علم أصول التربية والتأريخ النقدي في مناهج «دار العلوم» حتى سنة1945 .

خلال إقامته البرلينية استقبله إمبراطور ألمانيا فيلهلم الأول بزيه المصري التقليدي بعدما اشتهر اسمه كمعلم للعربية، وعلى إثر قصيدة نظمها في مدح الإمبراطور الألماني، فألقى القصيدة في حضرته باللغتين العربية والألمانية، وقام القيصر فقلده وساماً ملكياً. وهناك إشارة إلى أن القصيدة نشرت في الصحافة الألمانية.

أما نص رحلته من برلين وإليها وسياحته في المدن الألمانية والسويسرية فهي سياحة بدأها من برلين صباح يوم 16 أغسطس سنة 1889 وانتهت بعودته إلى العاصمة الألمانية يوم 15 سبتمبر من العام نفسه، فاستمرت شهراً كاملاً طاف خلاله عشرات المدن ومئات القرى ما بين ألمانيا وسويسرا. وكتب عن طبيعتها وناسها ومصانعها وعلومها ومدارسها. وقد نبَّه الرحالة المصري أحمد عطية الله الذي سيزور برلين في فترة ما بين الحربين العالميتين، إلى أن العدل قام بسياحته التي نحن بصددها بعلم «نظارة المعارف» وبتشجيع منها. انطلق العدل في رحلته من برلين صباح يوم 18 ذي الحجة سنة 1306 هجرية الموافق 16 أغسطس سنة 1889 متجهاً إلى مدينة هنوفر، وغادرها إلى مدينة مندن وهي بلدة قديمة في ولاية فستفالن إحدى ولايات البروسيا يومها، ومنها إلى مدينة كلونيا، وبون وكونجس فنتر، ومدينة فيسبادن، مدينة مينس التي عاش فيها رائد الطباعة غوتنبرغ، وهيدل برج وكانت إحدى مدن غراندوقية بادن بألمانيا، ثم منها إلى مدينة استراسبورغ عاصمة ولاية الالزاس وقسم لورين الألماني المتنازع عليهما مع فرنسا، ثم عبر إلى الأراضي السويسرية فبلغ مدينة بازل، ومدينة برن، وصولاً إلى مدينتي لوتسرن وتسيوريخ، وتجول في مدينة منيك عاصمة مملكة بفاريا، ومدينة نرنبرج. وفي طريق عودته بلغ مدينة لايبسك، ومدينة دريزدن عاصمة مملكة سكسونيا. ورجع من سياحته بعد شهر قضاه في شوارع المدن وأحضان الطبيعة الخلابة، فوصل إلى برلين يوم 20 محرم سنة 1307 هجرية الموافق 15 سبتمبر 1889 ميلادية.

لم يكن رحالتنا أول من دون يوميات وانطباعات عن ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر، فقد سبقه رحالة واحد على الأقل هو اللبناني سليم بسترس الذي زار ألمانيا قادماً من بيروت عبر الأستانة سنة 1855، وعاصره محمد أمين فكري الذي زارها في سنة 1889 وهي السنة نفسها التي دون فيها العدل سياحته، ولحقت بهؤلاء مجموعة من الأدباء والشعراء والباحثين العرب الذين زاروا أوروبا وعرجوا على ألمانيا،فدونوا انطباعات شكلت جزءاً من مجمل انطباعاتهم عن الحياة الأوروبية. ونجد أن العدل يتميز عن هؤلاء أولاً: في أن سياحته انحصرت بألمانيا وبالجزء الألماني من سويسرا، وبأنه قام برحلته خلال إقامة طويلة نسبياً في برلين أجاد خلالها اللغة الألمانية، وقرأ في التاريخ الألماني، وعبر مراراً في كتاباته عن إعجابه بالشخصية الألمانية وبشخصية الأمير بسمارك على نحو خاص، واطلع بصورة عامة على أدب هذه اللغة، وإن كان شاغله الأساسي هو علم أصول التربية، فقد اعتبر العدل وجوده في ألمانيا فرصة لا تعوض لتحقيق هذه الغاية العلمية، إلى جانب مهمته الأصلية التي اختير لها; تدريس اللغة العربية لطلاب المدرسة الشرقية في برلين.

الميزة الثانية التي تنفرد بها رحلة العدل بين أخواتها من الرحلات العربية أنه تاريخياً الأسبق إلى تدوين سياحته بين ألمانيا وسويسرا في كتاب مستقل.

وهناك ميزة ثالثة هي اشتراكه مع رفاعة رافع الطهطاوي في تكوينهما الأزهري، بينما تحدَّر الرحالة الآخرون، بمن فيهم المصريون، من مرجعية ثقافية مختلفة.

لم تكن الرحلة من الشرق العربي إلى ألمانيا في القرن التاسع عشر رائجة عندما قام صاحب هذه اليوميات برحلته، فقد كانت أنظار الرحالة والمسافرين العرب مشدودة يوم ذاك إلى فرنسا وبريطانيا. كانت كل من باريس ولندن العاصمتين الأكثر إغراء للنخب المثقفة الشرقية المتطلعة إلى تحصيل العلم في أوروبا والعمل على إحداث تغيير وإصلاحات في نظم المجتمع والدولة، ولاحقاً، المناداة بالاستقلال عن دولة الخلافة ممثلة بالباب العالي بالنسبة إلى العرب الذين رزحوا تحت نير الحكم التركي أكثر من أربعة قرون. ولعل ما قيض لفرنسا، منذ حملة نابليون على مصر في 1798، وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى، من استقطاب لاهتمام الشرقيين، بفعل الدور الاستعماري الذي لعبته في الشرق العربي وفي الشمال الإفريقي، وما حققته منافستها وشريكتها بريطانيا بفعل نصيبها من السيطرة الاستعمارية في الشرق لم يكن في مستطاع ألمانيا القلقة المتطلعة خلال القرن التاسع عشر إلى إنجاز وحدتها. فلم يكن هناك مجال يمكِّن ألمانيا من مجاراة الدولتين الأوروبيتين المسيطرتين خارج حدودهما الجغرافية. كان الانشغال الألماني منصباً على جغرافيتها التي تغيرت حدودها، مراراً، خلال القرون الوسطى وحتى العصور الحديثة، وبالتالي فإن عينها كانت، باستمرار، على محيطها الحيوي الذي يمتد شرقاً عبر النمسا إلى البلقان وغرباً نحو بلجيكا والإلزاس واللورين التي نازعت عليها فرنسا، ولم يشغل الشرق ألمانيا أبعد من التحالف غير المقدس مع تركيا واليابان، في حين عني العلماء والمستشرقون الألمان بدرس حضارات الشرق بصورة مركزة طرحت آثاراً فكرية مهمة وقدمت معارف لا يمكن العبور عنها.

كانت الرحلة العربية إلى أوروبا تعني، أساساً، الرحلة إلى باريس، وبدرجة أقل لندن، وهو ما يفسر ذلك الحضور الطاغي لهاتين العاصمتين في نصوص الرحلة المكتوبة بالعربية. والحال أن النخب العربية المثقفة وجدت نفسها منجرة الى التشاكل مع الثقافتين الفرنسية والإنكليزية، ولعبت البعثات العلمية التي قامت من مصر إلى أوروبا، بدءاً من النصف الأول من القرن التاسع عشر، دوراً مؤثراً في انتشار التعليم بهاتين اللغتين في الشرق، وفي ولادة نخبة ليبرالية عربية أخذت تتطلع إلى استلهام تجربة البرجوازية الغربية في تغيير وجه المجتمع، وقد اختلطت لديها خطتان: الإصلاح، والتحديث، ودار النقاش واحتدم من حول هاتين الخطتين بدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بين طيف آخذ في التشكل من الأفكار والرجال والتجارب والمحاولات المنقسمة من حول تجربة مصر محمد علي، وتجربة الجمعيات العثمانية في دولة الخلافة، وجرى ذلك في محيط عربي شهد فورة البحث والسؤال من حول هوية العرب وحاضرهم ومستقبلهم.

لندن: (الشرق الأوسط)