رحلة إلى اليمن

ليلى العثمان

تحرص على أن تكون كتابة الرحلات أدباً لا سرداً ليلى العثمان: أملك من الجرأة ما يكفي لأبوحنديم جرجورهفي كتابها الجديد ((أيام في اليمن)) (2004، إصدار خاص)، قدّمت الكاتبة الكويتية ليلى العثمان نصّاً أدبياً مختلفاً في صوغه المشهد الإنساني والحياتي والثقافي، تمثّل في سرد تفاصيل حيّة لمجتمع غنيّ بالحكايات والمناظر الطبيعية والعلاقات والحالات، إثر ثلاث زيارات (ثقافية وسياحية) متتالية قامت بها إلى اليمن وجعلتها تهيم ((عشقاً به)) وتكتب عنه ((كتابات، رغم إعجاب أهل اليمن والكويت بها، فإنها لم تُعبّر بعد عن عشقي الكبير، ولم تف هذا البلد الجميل وأهله الحقّ الذي يستحقونه))، كما جاء في المقدّمة.

يُمكن وصف الكتاب، الذي قدّمه عبد العزيز المقالح، ب((أدب الرحلات))، الذي يجمع الذاتيّ بالعام، ويصنع من الحدث الآنيّ شهداً مكتوباً بالقلم والحب والانفعال.

بالإضافة إلى النصّ النثري المتميّز بسلاسة السرد وغنى المشاعر وبساطة التصوير وعمق المعاينة، ومجموعة من الصُوَر الفوتوغرافية المُلتقطة في هذه الزيارات، هناك ثلاث قصائد وضعتها العثمان في فصل بعنوان ((عشق في صنعاء)).

ما الذي دفعك إلى كتابة نصّ أدبي ينتمي إلى أدب الرحلات؟? تعوّدت بعد كل سفر من أسفاري العربية تحديداً، التي أزور فيها بلداناً للمرّة الأولى، أن أكتب مقالات صحافية، من دون أن أفكّر يوماً بجمعها في كتاب. إلى أن زرت كردستان بعد الغزو، بدعوة أدبية من ((دار المدى)) لبّيتها وعشرة أدباء من العالم العربي.

أدهشني هذا البلد، فكتبتُ تفاصيل الرحلة في خمس مقالات نشرتها في (الصحيفة الكويتية اليومية) ((القبس)). لاحظ صديق لي أن لديّ نَفَساً طويلاً للكتابة عن الرحلات، وتساءل عن سبب عدم جمعي المقالات في كتاب. هكذا بدأتُ أفكّر بالمسألة جدّيا، فوضعتُ رؤوس أقلام، وبحثتُ عن طريقة للدخول إلى هذا العالم، وأدركتُ أن ذلك لن يكون مجرّد استعراض لرحلاتي أو جمع لما نشرته في الصحافة.

أردتُ أن أعطي فكرة عن الأسفار وفوائدها، وعن الرحّالة وخبرياتهم، واستشهدتُ ببعضهم، وأدخلتُ تفاصيل خاصة بي. أعتبرها سيرة.

لكل إنسان طقوسه في السفر: النيّة، تحضير الحقيبة، مشاكل المطارات، التعب، إلخ.

تفاصيل دقيقة جداً. كتبتً عن هذا كلّه، وعدتُ إلى ما نشرته في الصحافة في خلال خمسة وثلاثين عاماً، واستعدتُ المقالات وفرّقتُ بينها، فاخترتُ ما يستحق النشر في كتاب، بينما تركتُ ما لا يستحق فبقي عملاً صحافياً.

عشق المدن›إذاً، هل يُمكن القول إن ((أيام في اليمن)) نتاج رغبة شخصية في خوض تجربة كتابية مختلفة؟? لم أفكّر هكذا. لم أنوِ مُسبقاً كتابة هذا النوع. كما قلتُ لك، بدأتِ المسألة مجرّد نصوص صحافية كتبتُها فور العودة من الرحلة الأولى، نشرتها في صحيفتي ((القبس)) الكويتية و((الثورة)) اليمنية.

أحببتُ اليمن، فزرتها ثانيةً وكتبتُ ونشرتُ أيضاً. ثم زرتها ثالثةً ورابعةً وخامسةً. كثرت المقالات، وأحبّها كثيرون في اليمن، وأراد وزير الثقافة والسياحة اليمني خالد الرويشان جمع المقالات وإصدارها في كتاب. إنها سياحة ثقافية.

أحبّوني وأكرموني، فطبعتُ الكتاب على حسابي وأهديتُه لهم.

من هنا جاءت فكرة أن أكتب ((أدب رحلات)) في أجزاء عدّة:

الأول عن اليمن، والثاني سيرتي الذاتية المرتبطة بعلاقتي بلبنان (الكتاب جاهز)، إذ إن ((لبنان نصف القلب)) والكويت نصفي الأول.

حبي وعلاقتي بلبنان قوية وأرغبُ كثيراً في الكتابة عنه. في كتابك الجديد هذا تتحدّثين عن بيروت،تقولين: ((كانت أجمل المدن بالنسبة إليّ. عانقت طفولتي وصباي. لكنها تشوّهت بالحرب ثم بنوها من جديد. تبدو الآن عروسة من الدرجة الأولى، لكنني انفصلت عنها بالروح)) (ص 65).? لم أترك بيروت أبداً حين اشتعلت الحرب. زرتها مراراً والتقطتُ صوراً. فكما أني لم أغادر وطني في خلال الغزو العراقي هكذا فعلت مع بيروت. وذلك اقتناعاً مني بأن البلد في صحته أعطاني كل شيء فلماذا أتركه في الوجع والحرب؟ حين خرجتُ للمرة الأخيرة من بيروت كنتُ حزينة.

انفصالي عنها حدث منذ سنتين بسبب مشكلة عائلية خاصّة.

أتألّم عندما أذهب إلى لبنان. لكن هذا ليس خصاماً وزعلاً بل ألماً لأني أذهب إلى بيروت ولا أرى أحفادي.

إن طبيعة لبنان لا تُعوّض. مع هذا، فإن الطبيعة في اليمن جميلة جداً وعوّضتني قليلاً عن طبيعة لبنان.

الله يُبعد النفط› شعرتُ أثناء قراءتي الكتاب أن النص ليس فقط أدب رحلات بل مزيج من سيرة ذاتية وحوار عربي عربي.

? أحرصُ دائماً على أن يكون الكتاب أدبياً أكثر منه سرديّاً.

حين أكتب عن رحلاتي أدخل في التفاصيل. وهذا نوع من التلوين والجذب للقارىء. أحب أن يكون الكتاب ممتعاً. فيه أشياء مرتبطة بي، هذا صحيح.

فأنا لا أتحدّث عن أشياء أو حالات أو تفاصيل كي أصنع منها شكلاً ما للكتابة، بل أتوقّف عند أمور مرتبطة بي وجدتها في اليمن.

يسافر أناس كثيرون إلى اليمن. هناك أدباء قالوا لي إن كل من جاء إلى اليمن كتب أنها بلاد الفقر والقات. لم أركّز على هذه الناحية، إذ إني دخلتُ عمق الإنسان والطبيعة، فجاءت الكتابة بهذا الشكل.

ثم إني عشت طفولتي في مناخ شبيه بهذه الأجواء اليمنية البسيطة والعفوية. لهذا، أشعر في اليمن أني أتحرّر من كل عقدي التي سببها النفط. قلتُ لهم مرة:

أتمنى أن يُبعد الله عنكم النفط، لأنه يدمّر الإنسان ويُفقدكم هذه العفوية والبساطة.

أما عن الحوار العربي العربي الذي سألتني عنه، فأقول لك إن الكويت انقطعت عن دول عربية أخرى بعد الغزو. حين ذهبتُ إلى اليمن، فوجئت بحبّ الناس للكويت. أذكرُ وأنا طفلة أن يمنيين وإيرانيين وعراقيين جاءوا الكويت.

واليمن بلدٌ يعتزّ بالكويت ويحبّها. اليمن بحاجة إلى أيدٍ عربية للبناء. لدينا أثرياء في الخليج، بدل التبرّع لبناء العديد من المساجد وشراء الأسلحة، وبدل الذهاب دائماً إلى أوروبا، أرى أنه من باب أولى أن نتقارب مع بلد عربي ونساهم في بنائه. هذه كانت مقصودة مني بهدف السعي إلى أن نلئم بعض الشروخ في الكويت واليمن.

سمّوني ((بوابة اليمن إلى الكويت))، والعكس. أعتقد أني نجحت في هذا، إذ بعد كتابة هذه المقالات حدث أكثر من تبادل ثقافي:

أسبوع ثقافي كويتي في اليمن. وفد سياحي كويتي إلى اليمن. وفود ثقافية متنوّعة.هذا نوع من المسؤولية القومية تجاه أي بلد عربي خاصة اليمن، لأن علاقتي به قوية ومتينة.› أوردتِ تفاصيل خاصة بأناس التقيت بهم في اليمن. إلى أي مدى تعتقدين أن مثل هذه التفاصيل، التي ربما تكون حميمية بالنسبة إلى أصحابها، يمكن أن تنوجد في نصّ أدبي؟? ربما تُعتبر العلاقات الناشئة بين الأدباء في رحلة ما أموراً خاصّة وأشياء حميمة.لكني، حين كتبتُ سألتُ أصدقاء لي: هل يُغضبكم تطرّقي إلى أمور خاصّة وتفاصيل معيّنة، أو إذا نشرتُ صوراً ما؟ فكان أن رحّب الجميع بهذا.

ثم إن هذه التفاصيل الحميمة وردت ضمن السياق ولم تأتِ من خارجه. أنا امرأة أملك من الجرأة ما يكفيني لأبوح. وهذا البوح يُعطي معنىً آخر للصدق في الكتابة.لا أجد غضاضة في الكتابة عن أشياء حدثت في السفر.أكتب عن أشخاص التقيتهم وكانوا قريبين من نفسي وساهموا في أن أحب بلادهم، سواء في اليمن أو في غيرها. أجد نوعاً من الحرية في الكتابة، وربما تكون زائدة. حتى خصوصياتي أبوح بها.› مع هذا، فقليلة هي السلبيات التي تكتبين عنها.? المدن كما الرجال، وأنا أعشق مدينةً كما أعشقُ رجلاً. حين تعشق رجلاً ستتغاضى حتماً عن المساوئ ولا تُبرز إلاّ الجماليات. لا يعني أني بالغت. أناسٌ كثيرون في اليمن لم يروا ما رأيته ولم يحبّوا ما أحببته. ؤكّد أن المدن تُعشَق كما يُعشَق الرجال.حين تدخل دينةً تصبح جزءاً من المكان والإنسان. لم أشعر بأي ازعاج أو نفور من الناس أو من البلد. هذا هو السبب. ربما يستغرب أحدهم لماذا أكتب بهذا الشكل.اليمنيون أذكياء يعرفون من هو الصادق ومن هو المُنافق. يحبّون من هو صادق. ومن يعتبرك صديقا،يفتح لك قلبه وجوارحه وبيته.اليمن بعيدٌ لا أحد يفكر بالسياحة فيه. إنه يُعشَق فعلاً، لهذا لم أسلم من التأويلات. قال البعض إني تزوّجت هنا وأذهب إلى زوجي، والبعض الآخر قال إني أحبّ شخصاً. قلتُ لهم إني أحب وطني....